المسألة الأولى :
أنّا نعتقد أنّ لهذا العالم صانعا صنعه ومبتدعا ابتدعه
خلافا للفلاسفة والدّهرية (١) وغيرهم من الكفار الجهلة الأشرار. ونحن نستدل عليه تعالى بفعله ؛ لأن كلّ ما لا يدرك بالحواسّ فالطريق إلى معرفته حكمه (٢) أو فعله ، والحكم معلول العلل ، وهو تعالى ليس بعلة على ما نبينه ، فلم يبق إلا أن يكون الطريق فعله ، فنقول وبالله التوفيق :
الذي يدل على ذلك أن الأجسام كلّها قد اشتركت في كونها أجساما متحيّزة موجودة ، ثم افترقت في صورها ، فكان بعضها جبالا ، وبعضها سهولا وبعضها سماء ، وبعضها أرضا ، وبعضها ماء ، وبعضها هواء ، وبعضها نارا ، وبعضها أشجارا ، إلى غير ذلك مما يطول ذكره من الهيئات ، والصور المختلفات ، من أنواع الحيوانات ، وغيرها من المرئيات ؛ فلا يخلو اختلافها وافتراقها في صورها وهيئاتها أن يثبت لأمر أو لا لأمر. باطل أن يثبت ذلك لا لأمر ؛ لأنه لم يكن الماء بأن يكون ماء والهواء هواء أولى من أن لا يختلف أصلا ، وكذلك سائرها. فلم يبق إلا أن يثبت لأمر ، ثم ذلك الأمر لا يخلو (٣) أن يثبت لذواتها كما تقوله
__________________
(١) الدهرية : هم من أهل الغلو ، نفوا الربوبية ، وجحدوا الخالق العالم المدبر القادر ، وزعموا أن العالم لم يزل موجودا كذلك بنفسه لا بصانع ولم يزل الحيوان من النطفة ، والنطفة من الحيوان. كذلك ينكرون النبوة والبعث والحساب. انظر موسوعة الفرق والجماعات ص ٢٢٥. والملل والنحل للإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى ص ٦٢. أو هم القائلون : بقدم العالم. واختلفوا في المؤثر : فمنهم من نفاه مطلقا ، ومنهم من أثبته علة قديمة.
(٢) ينظر تعريف الحكم في الأساس الكبير ١ / ٢٤٦ ، وسأضرب له مثالا فقط فأقول : إذا لاحظت شيئا محكما فإن الإحكام حكم يدل على أن فاعل ذلك الشيء عالم ، ووجوده يدل على أنه قادر. وهكذا ..
(٣) في (ب) : لا يخلو إمّا.