تصرّفهم كتصرّف الضّرير والمعتوه. وأما الاستدلالية فبأن يجوّزوا أنّ ما دلّ الدليل على نفيه فهو ثابت بدليل آخر لا يعلمونه ولا طريق لهم إلى العلم به ، ومتى جوّزوا ذلك لم يصح منهم أن يعلموا إثبات علّة لمعلول ، ولا ضدّ لمضادّ ولا فعل لفاعل ، إلى غير ذلك من الجهالات ، وإنما قلنا : بأن كلما أدى إلى ذلك وجب نفيه ؛ لأنه متى لم يجز في العلوم الضرورية والاستدلالية أن تكون جهالات محضة ـ لم يجز إثبات ما دلّ على ذلك ووجب نفيه ؛ فثبت بذلك الموضع الأول وهو في الدلالة على أنه تعالى لا ثاني له في القدم.
وأما الموضع الثاني : وهو في الدلالة على أنه تعالى لا ثاني له يشاركه في الإلهية ؛ فالذي يدل على أنّه لا ثاني له يشاركه في القدم يدلّ أيضا على أنّه لا ثاني له في الإلهية ، ويدل على ذلك أيضا أنه لو كان معه إله ثان لوجب أن يكون قادرا على جميع أجناس المقدورات ، عالما بجميع المعلومات ، غنيا عن كل شيء من المقبّحات والمحسّنات ، وذلك لا يجوز. وإنما قلنا : بأنه لو كان معه إله ثان لوجب أن يكون قادرا عالما غنيّا على الحد الذي ذكرناه ؛ لأن الإله من تحقّ له العبادة ، ولا تحقّ له العبادة إلا بأن يكون على هذه الأوصاف ، وإنما قلنا : بأنّ الإله من تحقّ له العبادة ، بدليل أنّه لا يجوز أن يثبت ذلك بأحد اللفظين وينفى بالآخر ، فلا يصح أن يقال : هو إله ولا تحقّ له العبادة ، أو تحقّ له العبادة وليس بإله ، بل يعدّ من قال ذلك مناقضا ، وعلى هذا لمّا اعتقد الكفّار من أهل اللغة أنّ الأصنام تحقّ لها العبادة وصفوها بأنّها آلهة ، واعتقادهم هذا وإن كان فاسدا فإنه لا يمنع من صحّة التّسمية ؛ لأنهم أهل اللغة ، وقد وضعوا هذا الاسم لما تحقّ له العبادة. فوضعهم الاسم صحيح (١) ، ولا عبرة باعتقادهم ؛
__________________
(١) ينظر مختار الصحاح ص ٢٣. ولسان العرب ١٣ / ٤٦٧. والتاج ١٩ / ٧.