بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٣
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

فلما طال بالغلامين المكث حتى صارا في السنة قال أحدهما لصاحبه يا أخي قد طال بنا مكثنا ويوشك أن تفنى أعمارنا وتبلى أبداننا فإذا جاء الشيخ فأعلمه مكاننا وتقرب إليه بمحمد صلى الله عليه واله لعله يوسع علينا في طعامنا ويزيدنا في شرابنا.

فلما جنهما الليل أقبل الشيخ إليهما بقرصين من شعير وكوز من ماء القراح فقال له الغلام الصغير يا شيخ أتعرف محمدا قال فكيف لا أعرف محمدا وهو نبيي قال أفتعرف جعفر بن أبي طالب قال وكيف لا أعرف جعفرا وقد أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء قال أفتعرف علي بن أبي طالب قال وكيف لا أعرف عليا وهو ابن عم نبيي وأخو نبيي قال له يا شيخ فنحن من عترة نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن من ولد مسلم بن عقيل بن أبي طالب بيدك أسارى نسألك من طيب الطعام فلا تطعمنا ومن بارد الشراب فلا تسقينا وقد ضيقت علينا سجننا فانكب الشيخ على أقدامهما يقبلهما ويقول نفسي لنفسكما الفداء ووجهي لوجهكما الوقاء يا عترة نبي الله المصطفى هذا باب السجن بين يديكما مفتوح فخذا أي طريق شئتما.

فلما جنهما الليل أتاهما بقرصين من شعير وكوز من ماء القراح ووقفهما على الطريق وقال لهما سيرا يا حبيبي الليل واكمنا النهار حتى يجعل الله عز وجل لكما من أمركما فرجا ومخرجا ففعل الغلامان ذلك.

فلما جنهما الليل انتهيا إلى عجوز على باب فقالا لها يا عجوز إنا غلامان صغيران غريبان حدثان غير خبيرين بالطريق وهذا الليل قد جننا أضيفينا سواد ليلتنا هذه فإذا أصبحنا لزمنا الطريق فقالت لهما فمن أنتما يا حبيبي فقد شممت الروائح كلها فما شممت رائحة هي أطيب من رائحتكما فقالا لها يا عجوز نحن من عترة نبيك محمد صلى الله عليه واله هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل قالت العجوز يا حبيبي إن لي ختنا فاسقا قد شهد الوقعة مع عبيد الله بن زياد أتخوف أن يصيبكما هاهنا فيقتلكما قالا سواد ليلتنا هذه فإذا أصبحنا لزمنا الطريق فقالت سآتيكما

١٠١

بطعام ثم أتتهما بطعام فأكلا وشربا.

فلما ولجا الفراش قال الصغير للكبير يا أخي إنا نرجو أن نكون قد أمنا ليلتنا هذه فتعال حتى أعانقك وتعانقني وأشم رائحتك وتشم رائحتي قبل أن يفرق الموت بيننا ففعل الغلامان ذلك واعتنقا وناما فلما كان في بعض الليل أقبل ختن العجوز الفاسق حتى قرع الباب قرعا خفيفا فقالت العجوز من هذا قال أنا فلان قالت ما الذي أطرقك هذه الساعة وليس هذا لك بوقت قال ويحك افتحي الباب قبل أن يطير عقلي وتنشق مرارتي في جوفي جهد البلاء قد نزل بي قالت ويحك ما الذي نزل بك قال هرب غلامان صغيران من عسكر عبيد الله بن زياد فنادى الأمير في معسكره من جاء برأس واحد منهما فله ألف درهم ومن جاء برأسهما فله ألفا درهم فقد أتعبت وتعبت ولم يصل في يدي شيء.

فقالت العجوز يا ختني احذر أن يكون محمد خصمك في القيامة قال لها ويحك إن الدنيا محرص عليها فقالت وما تصنع بالدنيا وليس معها آخرة قال إني لأراك تحامين عنهما كأن عندك من طلب الأمير شيء ـ [ شيئا ] فقومي فإن الأمير يدعوك قالت وما يصنع الأمير بي وإنما أنا عجوز في هذه البرية قال إنما لي الطلب افتحي لي الباب حتى أريح وأستريح فإذا أصبحت بكرت في أي الطريق آخذ في طلبهما ففتحت له الباب وأتته بطعام وشراب فأكل وشرب.

فلما كان في بعض الليل سمع غطيط الغلامين في جوف البيت فأقبل يهيج كما يهيج البعير الهائج ويخور كما يخور الثور ويلمس بكفه جدار البيت حتى وقعت يده على جنب الغلام الصغير فقال له من هذا قال أما أنا فصاحب المنزل فمن أنتما فأقبل الصغير يحرك الكبير ويقول قم يا حبيبي فقد والله وقعنا فيما كنا نحاذره.

قال لهما من أنتما قالا له يا شيخ إن نحن صدقناك فلنا الأمان قال نعم قالا أمان الله وأمان رسوله وذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه واله قال نعم قالا ومحمد بن عبد الله على ذلك من الشاهدين قال نعم قالا ( وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ )

١٠٢

وشهيد قال نعم قالا له يا شيخ فنحن من عترة نبيك محمد صلى الله عليه واله هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل فقال لهما من الموت هربتما وإلى الموت وقعتما الحمد لله الذي أظفرني بكما فقام إلى الغلامين فشد أكتافهما فبات الغلامان ليلتهما مكتفين.

فلما انفجر عمود الصبح دعا غلاما له أسود يقال له فليح فقال له خذ هذين الغلامين فانطلق بهما إلى شاطئ الفرات واضرب أعناقهما وائتني برءوسهما لأنطلق بهما إلى عبيد الله بن زياد وآخذ جائزة ألفي درهم فحمل الغلام السيف ومشى أمام الغلامين فما مضى إلا غير بعيد حتى قال أحد الغلامين يا أسود ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه واله قال إن مولاي قد أمرني بقتلكما فمن أنتما قالا له يا أسود نحن من عترة نبيك محمد صلى الله عليه واله هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل أضافتنا عجوزكم هذه ويريد مولاك قتلنا فانكب الأسود على أقدامهما يقبلهما ويقول نفسي لنفسكما الفداء ووجهي لوجهكما الوقاء يا عترة نبي الله المصطفى والله لا يكون محمد خصمي في القيامة ثم عدا فرمى بالسيف من يده ناحية وطرح نفسه في الفرات وعبر إلى الجانب الآخر فصاح به مولاه يا غلام عصيتني فقال يا مولاي إنما أطعتك ما دمت لا تعصي الله فإذا عصيت الله فأنا منك بريء في الدنيا والآخرة.

فدعا ابنه فقال يا بني إنما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك والدنيا محرص عليها فخذ هذين الغلامين إليك فانطلق بهما إلى شاطئ الفرات فاضرب أعناقهما وائتني برءوسهما لأنطلق بهما إلى عبيد الله بن زياد وآخذ جائزة ألفي درهم فأخذ الغلام السيف ومشى أمام الغلامين فما مضيا إلا غير بعيد حتى قال أحد الغلامين يا شاب ما أخوفني على شبابك هذا من نار جهنم فقال يا حبيبي فمن أنتما قالا من عترة نبيك محمد صلى الله عليه واله يريد والدك قتلنا فانكب الغلام على أقدامهما يقبلهما ويقول لهما مقالة الأسود ورمى بالسيف ناحية وطرح نفسه في الفرات وعبر فصاح به أبوه يا بني عصيتني قال لأن أطيع الله وأعصيك

١٠٣

أحب إلي من أن أعصي الله وأطيعك.

قال الشيخ لا يلي قتلكما أحد غيري وأخذ السيف ومشى أمامهما فلما صار إلى شاطئ الفرات سل السيف عن جفنه فلما نظر الغلامان إلى السيف مسلولا اغرورقت أعينهما وقالا له يا شيخ انطلق بنا إلى السوق واستمتع بأثماننا ولا ترد أن يكون محمد خصمك في القيامة غدا فقال لا ولكن أقتلكما وأذهب برءوسكما إلى عبيد الله بن زياد وآخذ جائزة ألفين فقالا له يا شيخ أما تحفظ قرابتنا من رسول الله فقال ما لكما من رسول الله قرابة قالا له يا شيخ فأت بنا إلى عبيد الله بن زياد حتى يحكم فينا بأمره قال ما إلى ذلك سبيل إلا التقرب إليه بدمكما قالا له يا شيخ أما ترحم صغر سننا قال ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئا.

قالا يا شيخ إن كان ولا بد فدعنا نصلي ركعات قال فصليا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة فصلى الغلامان أربع ركعات ثم رفعا طرفيهما إلى السماء فناديا يا حي يا حليم (١) يا أحكم الحاكمين احكم بيننا وبينه بالحق فقام إلى الأكبر فضرب عنقه وأخذ برأسه ووضعه في المخلاة وأقبل الغلام الصغير يتمرغ في دم أخيه وهو يقول حتى ألقى رسول الله وأنا مختضب بدم أخي فقال لا عليك سوف ألحقك بأخيك ثم قام إلى الغلام الصغير فضرب عنقه وأخذ رأسه ووضعه في المخلاة ورمى ببدنهما في الماء وهما يقطران دما ومر حتى أتى بهما عبيد الله بن زياد وهو قاعد على كرسي له وبيده قضيب خيزران فوضع الرأسين بين يديه.

فلما نظر إليهما قام ثم قعد ثم قام ثم قعد ثلاثا ثم قال الويل لك أين ظفرت بهما قال أضافتهما عجوز لنا قال فما عرفت لهما حق الضيافة قال لا قال فأي شيء قالا لك قال قالا يا شيخ اذهب بنا إلى السوق فبعنا فانتفع بأثماننا ولا ترد أن يكون محمد خصمك في القيامة قال فأي شيء قلت لهما قال

__________________

(١) في المصدر المطبوع « يا حكيم » وهكذا فيما يأتي.

١٠٤

قلت لا ولكن أقتلكما وأنطلق برءوسكما إلى عبيد الله بن زياد وآخذ جائزة ألفي درهم قال فأي شيء قالا لك قال قالا ائت بنا إلى عبيد الله بن زياد حتى يحكم فينا بأمره قال فأي شيء قلت قال قلت ليس إلى ذلك سبيل إلا التقرب إليه بدمكما قال أفلا جئتني بهما حيين فكنت أضعف لك الجائزة وأجعلها أربعة آلاف درهم قال ما رأيت إلى ذلك سبيلا إلا التقرب إليك بدمهما.

قال فأي شيء قالا لك أيضا قال قالا لي يا شيخ احفظ قرابتنا من رسول الله قال فأي شيء قلت لهما قال قلت لهما ما لكما من رسول الله قرابة قال ويلك فأي شيء قالا لك أيضا قال قالا يا شيخ ارحم صغر سننا قال فما رحمتهما قال قلت ما جعل الله لكما من الرحمة في قلبي شيئا قال ويلك فأي شيء قالا لك أيضا قال قالا دعنا نصلي ركعات فقلت فصليا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة فصلى الغلامان أربع ركعات قال فأي شيء قالا في آخر صلاتهما قال رفعا طرفيهما إلى السماء وقالا يا حي يا حليم يا أحكم الحاكمين احكم بيننا وبينه بالحق.

قال عبيد الله بن زياد فإن أحكم الحاكمين قد حكم بينكم من للفاسق قال فانتدب له رجل من أهل الشام فقال أنا له قال فانطلق به إلى الموضع الذي قتل فيه الغلامين فاضرب عنقه ولا تترك أن يختلط دمه بدمهما وعجل برأسه ففعل الرجل ذلك وجاء برأسه فنصبه على قناة فجعل الصبيان يرمونه بالنبل والحجارة وهم يقولون هذا قاتل ذرية رسول الله صلى الله عليه واله (١).

بيان : غطيط النائم والمخنوق نخيرهما.

أقول : روى في المناقب القديم هذه القصة مع تغيير قال أخبرنا سعد الأئمة سعيد بن محمد بن بكر الفقيمي عن محمد بن عبد الله السرختكي [ السرخكتي ] عن أحمد بن يعقوب عن طاهر بن محمد الحدادي عن محمد بن علي بن نعيم عن محمد بن الحسين بن علي

__________________

(١) راجع أمالي الصدوق المجلس ١٩ تحت الرقم : ٢.

١٠٥

عن محمد بن يحيى الذهلي قال : لما قتل الحسين بن علي عليه السلام بكربلاء هرب غلامان من عسكر عبيد الله بن زياد أحدهما يقال له إبراهيم والآخر يقال له محمد وكانا من ولد جعفر الطيار (١) فإذا هما بامرأة تستقي فنظرت إلى الغلامين وإلى حسنهما وجمالهما فقالت لهما من أنتما فقالا نحن من ولد جعفر الطيار في الجنة هربنا من عسكر عبيد الله بن زياد.

فقالت المرأة إن زوجي في عسكر عبيد الله بن زياد ولو لا أني أخشى أن يجيء الليلة وإلا ضيفتكما وأحسنت ضيافتكما فقالا لها أيتها المرأة انطلقي بنا فنرجو أن لا يأتينا زوجك الليلة فانطلقت المرأة والغلامان حتى انتهيا إلى منزلها فأتتهما بطعام فقالا ما لنا في الطعام من حاجة ائتنا بمصلى نقضي فوائتنا فصليا فانطلقا إلى مضجعهما فقال الأصغر للأكبر يا أخي ويا ابن أمي التزمني واستنشق من رائحتي فإني أظن أنها آخر ليلتي لا نصبح بعدها.

وساق الحديث نحوا مما مر إلى أن قال ثم هز السيف وضرب عنق الأكبر ورمى ببدنه الفرات فقال الأصغر سألتك بالله أن تتركني حتى أتمرغ بدم أخي ساعة قال وما ينفعك ذلك قال هكذا أحب فتمرغ بدم أخيه إبراهيم ساعة ثم قال له قم فلم يقم فوضع السيف على قفاه فضرب عنقه من قبل القفا ورمى ببدنه إلى الفرات فكان بدن الأول على وجه الفرات ساعة حتى قذف الثاني فأقبل بدن الأول راجعا يشق الماء شقا حتى التزم بدن أخيه ومضيا في الماء وسمع هذا الملعون صوتا من بينهما وهما في الماء رب تعلم وترى ما فعل بنا هذا الملعون فاستوف لنا حقنا منه يوم القيامة.

ثم قال فدعا عبيد الله بغلام له أسود يقال له نادر فقال له يا نادر دونك هذا الشيخ شد كتفيه فانطلق به الموضع الذي قتل الغلامين فيه فاضرب عنقه وسلبه لك ولك عشرة آلاف درهم وأنت حر لوجه الله فانطلق الغلام به إلى الموضع

__________________

(١) لو صح هذه القصة لكانا من أحفاد جعفر الطيار ، والا فجعفر الطيار قد استشهد في سنة ثمان يوم مؤتة وبينه وبين مقتل الحسين عليه‌السلام اثنتان وخمسون سنة.

١٠٦

الذي ضرب أعناقهما فيه فقال له يا نادر لا بد لك من قتلي قال فضرب عنقه فرمى بجيفته إلى الماء فلم يقبله الماء ورمى به إلى الشط وأمر عبيد الله بن زياد أن يحرق بالنار ففعل به ذلك وصار إلى عذاب الله.

٣٩

باب

الوقائع المتأخرة عن قتله صلوات الله عليه

إلى رجوع أهل البيت عليهم السلام إلى المدينة

وما ظهر من إعجازه صلوات الله عليه في تلك الأحوال

١ ـ قال السيد ابن طاوس رحمه الله في كتاب الملهوف على أهل الطفوف والشيخ ابن نما رحمه الله في مثير الأحزان واللفظ للسيد :

إن عمر بن سعد بعث برأس الحسين عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم وهو يوم عاشوراء مع خولي بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيد الله بن زياد وأمر برءوس الباقين من أصحابه وأهل بيته فنظفت وسرح بها مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج فأقبلوا بها حتى قدموا الكوفة وأقام بقية يومه واليوم الثاني إلى زوال الشمس ثم رحل بمن تخلف من عيال الحسين عليه السلام وحمل نساءه على أحلاس أقتاب بغير وطاء مكشفات الوجوه بين الأعداء وهن ودائع خير الأنبياء وساقوهن كما يساق سبي الترك والروم في أسر المصائب والهموم ولله در القائل :

يصلى على المبعوث من آل هاشم

ويغزى بنوه إن ذا لعجيب

قال ولما انفصل ابن سعد عن كربلاء خرج قوم من بني أسد فصلوا على تلك الجثث الطواهر المرملة بالدماء ودفنوها على ما هي الآن عليه (١).

__________________

(١) كتاب الملهوف ص ١٢٥ ـ ١٢٧.

١٠٧

وقال المفيد رحمه الله دفنوا الحسين صلوات الله عليه حيث قبره الآن ودفنوا ابنه علي بن الحسين الأصغر عند رجليه وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صرعوا حوله مما يلي رجلي الحسين عليه السلام وجمعوهم ودفنوهم جميعا معا ودفنوا العباس بن علي رضي الله عنه في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن (١).

وقال السيد رحمه الله وسار ابن سعد بالسبي المشار إليه فلما قاربوا الكوفة اجتمع أهلها للنظر إليهن قال فأشرفت امرأة من الكوفيات فقالت من أي الأسارى أنتن فقلن نحن أسارى آل محمد فنزلت من سطحها وجمعت ملاء وأزرا ومقانع (٢) فأعطتهن فتغطين قال وكان مع النساء علي بن الحسين عليه السلام قد نهكته العلة والحسن بن الحسن المثنى وكان قد واسى عمه وإمامه في الصبر على الرماح (٣) وإنما ارتث وقد أثخن بالجراح.

وكان معهم أيضا زيد وعمرو ولدا الحسن السبط عليه السلام فجعل أهل الكوفة ينوحون ويبكون فقال علي بن الحسين عليهما السلام أتنوحون وتبكون من أجلنا فمن قتلنا قال بشير بن خزيم الأسدي ونظرت إلى زينب بنت علي عليه السلام يومئذ ولم أر والله خفرة قط أنطق منها كأنما تفرع عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس ثم قالت الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار

__________________

(١) الإرشاد ص ٢٢٧.

(٢) ملاء جمع ملاءة وهي الريطة ذات لفقين ، وأزر جمع ازار وهو ثوب يلبس على الفخذين ومقانع جمع مقنع ـ بالكسر ـ ما تقنع به المرأة رأسها وتغطيه به.

(٣) في المصدر المطبوع : « فى الصبر على ضرب السيوف وطعن الرماح » ثم قال : وروى مصنف كتاب المصابيح أن الحسن بن الحسن المثنى قتل بين يدي عمه الحسين عليه‌السلام في ذلك اليوم سبعة عشر نفسا وأصابه ثمانية عشر جراحة ، فوقع فأخذ خاله أسماء بن خارجة فحمله الى الكوفة وداواه حتى برء.

١٠٨

أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر أتبكون فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنة إنما مثلكم كمثل التي ( نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ) ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطف وملق الإماء وغمز الأعداء أو كمرعى على دمنة أو كفضة على ملحودة (١) ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.

أتبكون وتنتحبون إي والله فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا فلقد ذهبتم بعارها وشنآنها (٢) ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا وأنى ترحضون قتل سليل خاتم الأنبياء وسيد شباب أهل الجنة وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم ومنار حجتكم ومدرة سنتكم ألا ساء ما تزرون وبعدا لكم وسحقا فلقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة وبؤتم ( بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ) وضربت عليكم الذلة والمسكنة.

ويلكم يا أهل الكوفة أي كبد لرسول الله فريتم وأي كريمة له أبرزتم وأي دم له سفكتم وأي حرمة له انتهكتم لقد جئتم بهم صلعاء عنقاء سوءاء فقماء وفي بعضها خرقاء شوهاء كطلاع الأرض وملاء [ ملء ] السماء أفعجبتم أن قطرت السماء دما ( وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى ) وأنتم لا تنصرون فلا يستخفنكم المهل فإنه لا تحفزه البدار ولا يخاف فوت الثأر وإن ربكم لبالمرصاد (٣).

قال فوالله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم في

__________________

(١) كذا في المصدر ص ١٣٠ ، ونقله المصنف ـ رحمه‌الله ـ بلفظه ثم شرحه فيما يأتي من بيان الغرائب بالتزيين ، ولكن الصحيح : « كقصة على ملحودة » والقصة هي الجصة بلغة أهل الحجاز ، كما في أكثر معاجم اللغة ـ القاموس ـ الصحاح ـ تاج العروس ـ النهاية وقال في الفائق ج ٢ ص ١٧٣ روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن تطيين القبور وتقصيصها أى تجصيصها ، فان القصة هي الجصة أقول : وسائر غرائب الحديث يأتي بيانه عن المصنف ـ رحمه‌الله ـ فلا نكررها.

(٢) وشنارها خ ل.

(٣) ومثله في كتاب الاحتجاج ص ٢٥٦ ، وزاد بعده أبياتا وسيأتي.

١٠٩

أفواههم ورأيت شيخا واقفا إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته وهو يقول بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول وشبابكم خير الشباب ونساؤكم خير النساء ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى.

وروى زيد بن موسى قال حدثني أبي عن جدي عليهم السلام قال : خطبت فاطمة الصغرى بعد أن ردت من كربلاء فقالت الحمد لله عدد الرمل والحصى وزنة العرش إلى الثرى أحمده وأؤمن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه واله وأن ولده ذبحوا بشط الفرات بغير ذحل ولا ترات.

اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود لوصيه علي بن أبي طالب المسلوب حقه المقتول من غير ذنب كما قتل ولده بالأمس في بيت من بيوت الله تعالى فيه معشر مسلمة بألسنتهم تعسا لرءوسهم ما دفعت عنه ضيما في حياته ولا عند مماته حتى قبضته إليك محمود النقيبة طيب العريكة معروف المناقب مشهور المذاهب لم يأخذه اللهم فيك لومة لائم ولا عذل عاذل هديته يا رب للإسلام صغيرا وحمدت مناقبه كبيرا ولم يزل ناصحا لك ولرسولك صلواتك عليه وآله حتى قبضته إليك زاهدا في الدنيا غير حريص عليها راغبا في الآخرة مجاهدا لك في سبيلك رضيته فاخترته وهديته ( إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ).

أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل المكر والغدر والخيلاء فإنا أهل بيت ابتلانا الله بكم وابتلاكم بنا فجعل بلاءنا حسنا وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا فنحن عيبة علمه ووعاء فهمه وحكمته وحجته في الأرض لبلاده ولعباده أكرمنا الله بكرامته وفضلنا بنبيه محمد صلى الله عليه واله على كثير ممن خلق تفضيلا بينا فكذبتمونا وكفرتمونا ورأيتم قتالنا حلالا وأموالنا نهبا كأنا أولاد ترك أو كابل كما قتلتم جدنا بالأمس وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم قرت بذلك عيونكم وفرحت قلوبكم افتراء منكم على الله ومكرا مكرتم ( وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) فلا

١١٠

تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا فإن ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة ـ ( فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ).

تبا لكم فانتظروا اللعنة والعذاب وكأن قد حل بكم وتواترت من السماء نقمات ( فَيُسْحِتَكُمْ ) بما كسبتم ـ ( وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ـ ( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ).

ويلكم أتدرون أية يد طاعنتنا منكم وأية نفس نزعت إلى قتالنا أم بأية رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا قست قلوبكم وغلظت أكبادكم وطبع على أفئدتكم وختم على سمعكم وبصركم وسول لكم الشيطان وأملى لكم وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.

تبا لكم يا أهل الكوفة أي ترات لرسول الله قبلكم وذحول له لديكم بما عندتم بأخيه علي بن أبي طالب عليه السلام جدي وبنيه عترة النبي الطاهرين الأخيار وافتخر بذلك مفتخر [ كم ] فقال :

نحن قتلنا عليا وبني علي (١)

بسيوف هندية ورماح

وسبينا نساءهم سبي ترك

ونطحناهم فأي نطاح

بفيك أيها القائل الكثكث ولك الأثلب افتخرت بقتل قوم زكاهم الله وطهرهم وأذهب عنهم الرجس فاكظم وأقع كما أقعى أبوك وإنما لكل امرئ ما قدمت يداه حسدتمونا ويلا لكم على ما فضلنا الله عليكم.

فما ذنبنا أن جاش دهرا بحورنا

وبحرك ساج لا يواري الدعامصا

( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ )

__________________

(١) كذا في النسخ ، ولا يستقيم الشعر وزنا.

١١١

قال فارتفعت الأصوات بالبكاء وقالوا حسبك يا ابنة الطيبين فقد أحرقت قلوبنا وأنضجت نحورنا وأضرمت أجوافنا فسكتت عليها وعلى أبيها وجدتها السلام.

أقول : ذكر في الإحتجاج هذه الخطبة بهذا الإسناد (١) ولنرجع إلى كلام السيد رحمه‌الله.

قال : وخطبت أم كلثوم بنت علي عليه السلام في ذلك اليوم من وراء كلتها رافعة صوتها بالبكاء فقالت يا أهل الكوفة سوأة لكم ما لكم خذلتم حسينا وقتلتموه وانتهبتم أمواله وورثتموه وسبيتم نساءه ونكبتموه فتبا لكم وسحقا.

ويلكم أتدرون أي دواه دهتكم وأي وزر على ظهوركم حملتم وأي دماء سفكتموها وأي كريمة أصبتموها وأي صبية سلبتموها وأي أموال انتهبتموها قتلتم خير رجالات بعد النبي ونزعت الرحمة من قلوبكم ألا حزب الله هم الفائزون وحزب الشيطان ( هُمُ الْخاسِرُونَ ) ثم قالت ـ

قتلتم أخي صبرا فويل لأمكم

ستجزون نارا حرها يتوقد

سفكتم دماء حرم الله سفكها

وحرمها القرآن ثم محمد

ألا فابشروا بالنار إنكم غدا

لفي سقر حقا يقينا تخلدوا

وإني لأبكي في حياتي على أخي

على خير من بعد النبي سيولد

بدمع غزير مستهل مكفكف

على الخد مني ذائبا ليس يجمد

قال فضج الناس بالبكاء والحنين والنوح ونشر النساء شعورهن ووضعن التراب على رءوسهن وخمشن وجوههن وضربن خدودهن ودعون بالويل والثبور وبكى الرجال فلم ير باكية وباك أكثر من ذلك اليوم.

ثم إن زين العابدين عليه السلام أومأ إلى الناس أن اسكتوا فسكتوا فقام قائما فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي وصلى عليه ثم قال أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم

__________________

(١) كتاب الملهوف ص ١٢٧ ـ ١٣٧ ، الاحتجاج ص ١٥٥ و ١٥٦.

١١٢

أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات أنا ابن من انتهك حريمه وسلب نعيمه وانتهب ماله وسبي عياله أنا ابن من قتل صبرا وكفى بذلك فخرا.

أيها الناس ناشدتكم بالله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه فتبا لما قدمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم بأية عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه واله إذ يقول لكم قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمتي؟

قال فارتفعت أصوات الناس من كل ناحية ويقول بعضهم لبعض هلكتم وما تعلمون فقال عليه السلام رحم الله امرأ قبل نصيحتي وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله وأهل بيته فإن لنا في رسول الله أسوة حسنة فقالوا بأجمعهم نحن كلنا يا ابن رسول الله سامعون مطيعون حافظون لذمامك غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك فمرنا بأمرك يرحمك الله فإنا حرب لحربك وسلم لسلمك لنأخذن يزيد ونبرأ ممن ظلمك وظلمنا فقال عليه السلام هيهات هيهات أيها الغدرة المكرة حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى آبائي من قبل كلا ورب الراقصات فإن الجرح لما يندمل قتل أبي صلوات الله عليه بالأمس وأهل بيته معه ولم ينسني ثكل رسول الله وثكل أبي وبني أبي ووجده بين لهاتي ومرارته بين حناجري وحلقي وغصصه يجري في فراش صدري ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا ثم قال :

لا غرو إن قتل الحسين وشيخه

قد كان خيرا من حسين وأكرما

فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالذي

أصيب حسين كان ذلك أعظما

قتيل بشط النهر روحي فداؤه

جزاء الذي أرداه نار جهنما

أقول روي في الإحتجاج هكذا قال حذيم بن بشير خرج زين العابدين عليه السلام إلى الناس وأومأ إليهم أن اسكتوا فسكتوا إلى آخر الخبر (١).

__________________

(١) الاحتجاج ص ١٥٧ وفيه : عن حذام بن ستير.

١١٣

قال السيد ثم قال عليه السلام رضينا منكم رأسا برأس فلا يوم لنا ولا علينا.

أقول رأيت في بعض الكتب المعتبرة روي مرسلا عن مسلم الجصاص قال : دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة فبينما أنا أجصص الأبواب وإذا أنا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة فأقبلت على خادم كان معنا فقلت ما لي أرى الكوفة تضج قال الساعة أتوا برأس خارجي خرج على يزيد فقلت من هذا الخارجي فقال : الحسين بن علي عليهما السلام قال فتركت الخادم حتى خرج ولطمت وجهي حتى خشيت على عيني أن يذهب وغسلت يدي من الجص وخرجت من ظهر القصر وأتيت إلى الكناس.

فبينما أنا واقف والناس يتوقعون وصول السبايا والرءوس إذ قد أقبلت نحو أربعين شقة تحمل على أربعين جملا فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة عليها السلام وإذا بعلي بن الحسين عليهما السلام على بعير بغير وطاء وأوداجه تشخب دما وهو مع ذلك يبكي ويقول

يا أمة السوء لا سقيا لربعكم

يا أمة لم تراع جدنا فينا

لو أننا ورسول الله يجمعنا

يوم القيامة ما كنتم تقولونا

تسيرونا على الأقتاب عارية

كأننا لم نشيد فيكم دينا

بني أمية ما هذا الوقوف على

تلك المصائب لا تلبون داعينا

تصفقون علينا كفكم فرحا

وأنتم في فجاج الأرض تسبونا

أ ليس جدي رسول الله ويلكم

أهدى البرية من سبل المضلينا

يا وقعة الطف قد أورثتني حزنا

والله يهتك أستار المسيئينا

قال صار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز فصاحت بهم أم كلثوم وقالت يا أهل الكوفة إن الصدقة علينا حرام وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم وترمي به إلى الأرض قال كل ذلك والناس يبكون على ما أصابهم.

١١٤

ثم إن أم كلثوم أطلعت رأسها من المحمل وقالت لهم صه يا أهل الكوفة تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء فبينما هي تخاطبهن إذا بضجة قد ارتفعت فإذا هم أتوا بالرءوس يقدمهم رأس الحسين عليه السلام وهو رأس زهري قمري أشبه الخلق برسول الله صلى الله عليه واله ولحيته كسواد السبج قد انتصل منها (١) الخضاب ووجهه دارة قمر طالع والرمح تلعب بها يمينا وشمالا فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدم المحمل حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها وأومأت إليه بخرقة [ بحرقة ] وجعلت تقول ـ

يا هلالا لما استتم كمالا

غاله خسفه فأبدا غروبا

ما توهمت يا شقيق فؤادي

كان هذا مقدرا مكتوبا

يا أخي فاطم الصغيرة كلمها

فقد كاد قلبها أن يذوبا

يا أخي قلبك الشفيق علينا

ما له قد قسى وصار صليبا

يا أخي لو ترى عليا لدى الأسر

مع اليتم لا يطيق وجوبا

كلما أوجعوه بالضرب ناداك

بذل يغيض دمعا سكوبا

يا أخي ضمه إليك وقربه

وسكن فؤاده المرعوبا

ما أذل اليتيم حين ينادي

بأبيه ولا يراه مجيبا

ثم قال السيد ثم إن ابن زياد جلس في القصر للناس وأذن إذنا عاما وجيء برأس الحسين عليه السلام فوضع بين يديه وأدخل نساء الحسين وصبيانه إليه فجلست زينب بنت علي عليه السلام متنكرة فسأل عنها فقيل هذه زينب بنت علي فأقبل عليها فقالت الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم فقالت إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا فقال ابن زياد كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك

__________________

(١) السبج معرب شبه وهو حجر أسود شديد السواد براق وله فوائد طبية ، وكثيرا ما يشبه به الأشياء سوادا كقول الحكيم الطوسي « شبى چون شبه روى شسته بقير » وبه سموا السبيج والسبيجة والسبجة للثوب الأسود وقد صحفت الكلمة تارة بالشيخ كما في الأصل وتارة بالشبح كما في الكمباني. واما النصل والانتصال : فهو خروج اللحية من الخضاب ومنه لحية ناصل.

١١٥

فقالت ما رأيت إلا جميلا هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة.

قال فغضب وكأنه هم بها فقال له عمرو بن حريث إنها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها فقال له ابن زياد لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك فقالت لعمري لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي فإن كان هذا شفاءك فقد اشتفيت فقال ابن زياد هذه سجاعة ولعمري لقد كان أبوك سجاعا شاعرا فقالت يا ابن زياد ما للمرأة والسجاعة (١).

وقال ابن نما وإن لي عن السجاعة لشغلا وإني لأعجب ممن يشتفي بقتل أئمته ويعلم أنهم منتقمون منه في آخرته.

وقال المفيد رحمه الله فوضع الرأس بين يديه ينظر إليه ويتبسم وبيده قضيب يضرب به ثناياه وكان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول الله صلى الله عليه واله وهو شيخ كبير فلما رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين فو الله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه واله عليهما ما لا أحصيه يقبلهما ثم انتحب باكيا فقال له ابن زياد أبكى الله عينيك أتبكي لفتح الله والله لو لا أنك شيخ كبير قد خرقت [ خرفت ] وذهب عقلك لضربت عنقك فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وصار إلى منزله (٢)

__________________

(١) الملهوف ص ١٤٢ و ١٤٣.

(٢) الإرشاد ص ٢٢٨ ، ولكن قد يقال ان زيد بن أرقم كان حينذاك أعمى : قد كف بصره بدعاء على أمير المؤمنين عليه‌السلام حين استشهده عن كلام رسول الله « من كنت مولاه فهذا على مولاه » فكتمه ، كما في شرح النهج ج ١ ص ٣٦٢ لابن أبي الحديد ، الا انه لم يثبت ، ولا نقله أرباب التراجم في ترجمته.

ولو صح لم يناف انكاره على ابن زياد بضرب القضيب على ثناياه عليه‌السلام ، لجواز أن يكون قد أنكر على ما سمعه ممن رأى ذلك نعم قال ابن عساكر في تاريخه ج ٤ ص ٣٤٠ أنه كان حاضر المجلس ويؤيد ابن زياد.

١١٦

وقال محمد بن أبي طالب ثم رفع زيد صوته يبكي وخرج وهو يقول ملك عبد حرا أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة حتى يقتل خياركم ويستعبد أشراركم رضيتم بالذل فبعدا لمن رضي (١).

وقال المفيد فأدخل عيال الحسين بن علي صلوات الله عليهما على ابن زياد فدخلت زينب أخت الحسين عليه السلام في جملتهم متنكرة وعليها أرذل ثيابها ومضت حتى جلست ناحية وحفت بها إماؤها فقال ابن زياد من هذه التي انحازت فجلست ناحية ومعها نساؤها فلم تجبه زينب فأعاد القول ثانية وثالثة يسأل عنها فقالت له بعض إمائها هذه : زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه واله فأقبل عليها ابن زياد وقال الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم فقالت زينب الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد صلى الله عليه واله وطهرنا من الرجس تطهيرا إنما يفتضح الفاسق إلى آخر ما مر (٢).

وقال السيد وابن نما ثم التفت ابن زياد إلى علي بن الحسين فقال من هذا فقيل علي بن الحسين فقال أليس قد قتل الله علي بن الحسين فقال علي قد كان لي أخ يسمى علي بن الحسين قتله الناس فقال بل الله قتله فقال علي ـ ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ) (٣) فقال ابن زياد ولك جرأة على جوابي اذهبوا به فاضربوا عنقه فسمعت عمته زينب فقالت يا ابن زياد إنك لم تبق منا أحدا فإن عزمت على قتله فاقتلني معه (٤).

وقال المفيد وابن نما فتعلقت به زينب عمته وقالت يا ابن زياد حسبك من دمائنا واعتنقته وقالت والله لا أفارقه فإن قتلته فاقتلني معه فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ثم قال عجبا للرحم والله إني لأظنها ودت أني قتلتها معه

__________________

(١) ومثله في الطبري ج ٦ ص ٢٦٢.

(٢) الإرشاد ص ٢٢٨.

(٣) الزمر : ٤٢.

(٤) الملهوف ص ١٤٤.

١١٧

دعوه فإني أراه لما به.

وقال السيد فقال علي لعمته اسكتي يا عمة حتى أكلمه ثم أقبل عليه السلام فقال : أبالقتل تهددني يا ابن زياد أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة.

ثم أمر ابن زياد بعلي بن الحسين عليه السلام وأهله فحملوا إلى دار إلى جنب المسجد الأعظم فقالت زينب بنت علي ـ لا يدخلن علينا عربية إلا أم ولد أو مملوكة فإنهن سبين وقد سبينا.

وقال ابن نما رويت أن أنس بن مالك قال شهدت عبيد الله بن زياد وهو ينكت بقضيب على أسنان الحسين ويقول إنه كان حسن الثغر فقلت أم والله لأسوأنك لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه واله يقبل موضع قضيبك من فيه.

وعن سعيد بن معاذ وعمرو بن سهل أنهما حضرا عبيد الله يضرب بقضيبه أنف الحسين وعينيه ويطعن في فمه فقال زيد بن أرقم ارفع قضيبك إني رأيت رسول الله واضعا شفتيه على موضع قضيبك ثم انتحب باكيا فقال له أبكى الله عينيك عدو الله لو لا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك فقال زيد لأحدثنك حديثا هو أغلظ عليك من هذا رأيت رسول الله صلى الله عليه واله أقعد حسنا على فخذه اليمنى وحسينا على فخذه اليسرى فوضع يده على يافوخ كل واحد منهما وقال اللهم إني أستودعك إياهما وصالح المؤمنين فكيف كان وديعتك لرسول الله صلى الله عليه واله.

وقال ولما اجتمع عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد ـ بعد قتل الحسين عليه السلام قال عبيد الله لعمر ائتني بالكتاب الذي كتبته إليك في معنى قتل الحسين عليه السلام ومناجزته فقال ضاع فقال لتجيئنني به أتراك معتذرا في عجائز قريش قال عمر والله لقد نصحتك في الحسين نصيحة لو استشارني بها أبي سعد كنت قد أديت حقه فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله صدق والله لوددت أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة وأن حسينا لم يقتل قال عمر بن سعد والله ما رجع أحد بشر مما رجعت أطعت عبيد الله وعصيت الله وقطعت الرحم.

١١٨

وقال السيد ثم أمر ابن زياد برأس الحسين عليه السلام فطيف به في سكك الكوفة ويحق لي أن أتمثل هاهنا بأبيات لبعض ذوي العقول يرثي بها قتيلا من آل الرسول صلى الله عليه واله فقال :

رأس ابن بنت محمد ووصيه

للناظرين على قناة يرفع

والمسلمون بمنظر وبمسمع

لا منكر منهم ولا متفجع

كحلت بمنظرك العيون عماية

وأصم رزؤك كل أذن تسمع

ما روضة إلا تمنت أنها

لك حفرة ولخط قبرك مضجع

أيقظت أجفانا وكنت لها كرى

وأنمت عينا لم يكن بك تهجع (١)

قال ثم إن ابن زياد صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال في بعض كلامه الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين وأشياعه وقتل الكذاب ابن الكذاب فما زاد على هذا الكلام شيئا حتى قام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي وكان من خيار الشيعة وزهادها وكانت عينه اليسرى ذهبت في يوم الجمل والأخرى في يوم صفين وكان يلازم المسجد الأعظم فيصلي فيه إلى الليل فقال يا ابن مرجانة إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك ومن استعملك وأبوه يا عدو الله أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بهذا الكلام على منابرالمؤمنين؟

قال : فغضب ابن زياد ثم قال من هذا المتكلم فقال أنا المتكلم يا عدو الله تقتل الذرية الطاهرة التي قد أذهب الله عنهم الرجس وتزعم أنك على دين الإسلام وا غوثاه أين أولاد المهاجرين والأنصار لا ينتقمون من طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمد رسول رب العالمين؟

قال فازداد غضب ابن زياد حتى انتفخت أوداجه وقال علي به فبادر إليه الجلاوزة من كل ناحية ليأخذوه فقامت الأشراف من الأزد من بني عمه فخلصوه من أيدي الجلاوزة وأخرجوه من باب المسجد وانطلقوا به إلى منزله فقال ابن زياد اذهبوا إلى هذا الأعمى أعمى الأزد أعمى الله قلبه كما أعمى عينه فأتوني به

__________________

(١) في المصدر ص ١٤٥ بين البيتين الأخيرين تقديم وتأخير.

١١٩

فانطلقوا فلما بلغ ذلك الأزد اجتمعوا واجتمعت معهم قبائل اليمن ليمنعوا صاحبهم.

قال وبلغ ذلك إلى ابن زياد فجمع قبائل مضر وضمهم إلى محمد بن الأشعث وأمرهم بقتال القوم قال فاقتتلوا قتالا شديدا حتى قتل بينهم جماعة من العرب قال ووصل أصحاب ابن زياد إلى دار عبد الله بن عفيف فكسروا الباب واقتحموا عليه فصاحت ابنته أتاك القوم من حيث تحذر فقال لا عليك ناوليني سيفي فناولته إياه فجعل يذب عن نفسه ويقول :

أنا ابن ذي الفضل عفيف الطاهر

عفيف شيخي وابن أم عامر

كم دارع من جمعكم وحاسر

وبطل جدلته مغادر

قال وجعلت ابنته تقول يا أبت ليتني كنت رجلا أخاصم بين يديك اليوم هؤلاء الفجرة قاتلي العترة البررة قال وجعل القوم يدورون عليه من كل جهة وهو يذب عن نفسه فلم يقدر عليه أحد وكلما جاءوا من جهة قالت يا أبه قد جاءوك من جهة كذا حتى تكاثروا عليه وأحاطوا به فقالت بنته وا ذلاه يحاط بأبي وليس له ناصر يستعين به فجعل يدير سيفه ويقول :

أقسم لو يفسح لي عن بصري

ضاق عليكم موردي ومصدري

قال فما زالوا به حتى أخذوه ثم حمل فأدخل على ابن زياد فلما رآه قال الحمد لله الذي أخزاك فقال له عبد الله بن عفيف يا عدو الله وبما ذا أخزاني الله

والله لو فرج لي عن بصري

ضاق عليك موردي ومصدري

فقال ابن زياد يا عدو الله ما تقول في عثمان بن عفان فقال يا عبد بني علاج يا ابن مرجانة وشتمه ما أنت وعثمان إن أساء أم أحسن وأصلح أم أفسد والله تعالى ولي خلقه يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل والحق ولكن سلني عن أبيك وعنك وعن يزيد وأبيه فقال ابن زياد والله لا سألتك عن شيء أو تذوق الموت فقال عبد الله بن عفيف ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أما إني قد كنت أسأل الله ربي أن يرزقني الشهادة قبل أن تلدك أمك وسألت الله أن يجعل ذلك على يدي ألعن

١٢٠