بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٣
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

والحجارة الخشنة فلم يزل يحكها حتى نغل لحمه (١) وتقطع وتغير وأنتن ، فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشا ، ورفضه خلق الله كلهم غير امرأتة وهي رحمة بنت افرائيم بن يوسف ين يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه على نبينا وعليهم ، وكانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه ، فلما رأت الثلاثة من أصحابه وهم يفن وبلدد وصافن (٢) ما ابتلاه الله تعالى به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه ، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه وهو في بلائه فبكتوه (٣) ولاموه وقالوا له : تب إلى الله عز وجل من الذنب الذي عوقبت به.

قالا : وحضره معهم فتى حديث السن وكان قد آمن به وصدقه فقال لهم : إنكم تكلمتم أيها الكهول وكنتم أحق بالكلام لاسنانكم ، ولكن قد تر كتم من القول أحسن من الذي قلتم ، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم ، ومن الامر أجمل من الذي أتيتم ، وقد كان لايوب عليه‌السلام عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم ، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم؟ وحرمة من انهتكتم؟ ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم؟ ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وخيرته وصفوته (٤) من أهل الارض يومكم هذا؟ ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله تعالى على أنه سخط شيئا من أمره منذ أتاه ما أتاه إلى يومكم هذا ، ولا على أنه نزع منه (٥) شيئا من الكرامة التى أكرمه بها ، ولا أن أيوب فعل غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا ، فإن كان البلاء هو الذي أزرى عندكم (٦) ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله تعالى يبتلي النبيين والشهداء والصالحين ، ثم ليس بلاؤه

__________________

(١) أى أفسد.

(٢) في المصدر : فلما رأى أصحابه له ثلاثة ما ابتلاه الله. قلت : تقدم أن اسمهم يفن ومالك وظافر.

(٣) أى عنفوه وقرعوه.

(٤) في المصدر : أن أيوب نبى الله وحبيبه وصفوته.

(٥) في المصدر : ولا علمتم انه نزع منه شيئا.

(٦) أزرى بالامر : تهاون. أزرى به وأزراه عابه ووضع من حقه ،. وفى المصدر : أزرى به عندكم.

٣٦١

لاولئك بدليل على سخطه عليهم ولا لهوانه لهم ، (١) ولكنها كرامة وخيرة لهم ، ولو كان أيوب ليس من الله تعالى بهذه المنزلة إلا أنه أخ آخيتموه على وجه الصحبة لكان لايجمل يالحليم أن يعذل (٢) أخاه عند البلاء ، ولا يعيره بالمصيبة ، ولايعيبه بمالا يعلم وهو مكروب حزين ، ولكنه يرحمه ويبكي معه ويتسغفر له ويحزن لحزنه ، ويدل على مراشد أمره ، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا ، فالله الله أيها الكهول وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ويكسر قلوبكم ، ألم تعلموا أن الله تعالى عبادا أسكتتهم خشيته من غير عي ولا بكم ، وإنهم لهم الفصحاء والبلغاء والاولياء النبلاء الالباء (٣) العالمون بالله وبآياته ، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم ، واقشعرت جلودهم ، وانكسرت قلوبهم وطاشت عقولهم (٤) إعظاما لله وإعزازا وإجلالا فإذا استفاقوا استبقوا إلى الله تعالى بالاعمال الزاكية يعدون أنفسهم مع الخاطئين والظالمين وإنهم لابرار ، ومع المقصرين المفرطين (٥) وإنهم لاكياس أقوياء ولكنهم لا يستكثرون لله الكثير ، ولا يرضون له بالقليل ، ولا يدلون عليه بالاعمال ، (٦) فهم مروعون خاشعون مستكينون. فقال أيوب عليه‌السلام : إن الله تعالى يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير ، (٧) فمتى تنبت في القلب يظهر الله تعالى على اللسان ، وليست تكون الحكمة من قبل السن والشيبة ولا طول التجربة ، وإذا جعل الله تعالى العبد حكيما في الصغر لم تسقط منزلته عند الحكماء وهم يرون من الله تعالى عليه نور الكرامة.

ثم أقبل أيوب عليه‌السلام على الثلاثة فقال : أتيتموني غضابا ، رهبتم قبل أن تسترهبوا ،

__________________

(١) في المصدر : ثم ان بلاءهم ليس دليلا على سخطه عليهم ولاهوانهم عليه.

(٢) عذله : لامه.

(٣) في المصدر : وانهم لهم الفصحاء النبلاء البلغاء الالباء.

(٤) أى ذهبت عقولهم.

(٥) في المصدر : وإنهم برآء ويعدون انفسهم مع المفرطين المقصرين.

(٦) أى لا يمنون ولا يفتخرون عليه بأعمالهم.

(٧) في المصدر : في قلب المؤمن الكبير والصغير.

٣٦٢

وبكيتم قبل أن تضربوا ، كيف بي (١) لو قلت لكم : تصدقوا عني بأموالكم لعل الله تعالى أن يخلصني؟ وقربوا عني قربانا لعل الله تعالى يتقبله ويرضى عني؟ وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم وظننتم أنكم قد عوفيتم بإحسانكم فهنا لك بغيتم وتعززتم ، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله تعالى بالعافية التي ألبسكم ، وقد كنت فيما خلا والرجال يوقرونني (٢) وأنا مسموع كلامي ، معروف حقي ، منتقم من خصمي ، (٣) فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم ، فإنكم كنتم أشد علي من مصيبتي. (٤)

ثم أعرض عنهم وأقبل على ربه تعالى مستغيثا به متضرعا إليه فقال : رب لاي شئ خلقتني؟ ليتني إذ كرهتني لم تخلقني ، ياليتني كنت حيضة ألقتني أمي ، وياليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني ، لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي فالموت كان أجمل إلي ، (٥) ألم أكن للغريب دارا؟ وللمسكين قرارا؟ ولليتيم وليا؟ وللارملة قيما؟ إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمن لك ، وإن أسأت فبيدك عقوبتي ، جعلتني للبلاء غرضا ، وللفتنة نصبا ، وقد وقع علي بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله ، فكيف يحمله ضعفي؟ إلهي تقطعت أصابعي فإني لارفع الاكلة من الطعام بيدي جميعا فما تبلغان فمي إلا على الجهد مني ، تساقطت لهواتي ولحم رأسي ، فما بين أذني من سداد حتى أن أحد هما يرى من الآخر ، وإن دماغي ليسيل من فمي ، تساقط شعر عيني ، فكأنما حرق بالنار وجهي ، وحد قتاي متدليتان على خدي ، وورم لساني حتى ملا فمي ، فما أدخل منه طعاما إلا غصني ، وورمت شفتاي حتى غطت العليا أنفي والسفلى ذقني ، وتقطعت أمعائي في بطني ، فإني لادخله الطعام فيخرج كما

__________________

(١) في المصدر : كيف بكم.

(٢) في المصدر : وقد كنتم فيما خلا الرجال توقروننى.

(٣) في المصدر : منتصف من خصمى.

(٤) في المصدر : فانتم اليوم أشد على من مصيبتى.

(٥) في المصدر : أجمل لى. يا الهى اه.

٣٦٣

دخل ما أحسه ولا ينفعني ، ذهبت قوه رجلي فكأنهما قربتا ماء لاأطيق حملهما ، ذهب المال فصرت أسأل بكفي فيطعمني من كنت أعوله اللقمة الواحدة فيمنها علي ويعيرني ، هلك أولادي (١) ولو بقي أحد منهم أعانني على بلائي ونفعني ، وقد ملني أهلي ، وعقني أرحامي ، وتنكرت معارفي ، ورغب عني صديقي ، وقطعني أصحابي ، وجحدت حقوقي ، ونسيت صنائعي ، أصرخ فلا يصرخونني ، وأعتذر فلا يعذرونني ، دعوت غلامي فلم يجبني ، وتضرعت لامتي فلم ترحمني ، وإن قضاءك هو الذي أذلني وأقمأني ، (٢) وإن سلطانك هو الذي أسقمني وانحل جسمي ، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي بمكان ينبغي (٣) للعبد أن يحاج عن نفسه لرجوت أن يعافيني عند ذلك ممابي ، ولكنه ألقاني وتعالى عني (٤) فهو يراني ولا أراه ، ويسمعني ولا أسمعه ، لا نظر إلي فرحمني ، ولا دنا مني ولا أدناني فأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي.

فلما قال ذلك أيوب عليه‌السلام وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب ثم نودي : يا أيوب إن الله عزوجل يقول لك : ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريبا فقم فأدل بعذرك ، (٥) وتكلم ببراءتك ، وخاصم عن نفسك ، واشدد إزارك ، وقم مقام جبار فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ، ولا ينبغي أن يخاصمني إلا من يجعل الزيار (٦) في فم الاسد ، والسحال في فم العنقاء ، واللجام في فم التنين ، (٧) ويكيل مكيالا من النور ، ويزن مثقالا من الريح ، ويصر صرة من الشمس ، ويرد أمس ، لقد منتك نفسك أمرا ما تبلغ بمثل قوتك ، ولو كنت إذ منتك ذلك ودعتك إليه تذكرت أي مرام

__________________

(١) في المصدر : الهى هلك أولادي.

(٢) في المصدر : أذلنى وادنانى وأهاننى وأقامنى.

(٣) في المصدر : ولو كان ينبغى للعبد.

(٤) في المصدر : وتخلى عنى.

(٥) أى احضره واحتج به.

(٦) في المصدر : الامن يجعل الزمام في فم الاسد. قلت : الزيأر : خشبتان يضغط بهما البيطار جحفلة الفرس أى شفتيه فيذل فيتمكن من بيطرته. والسحال : اللجام.

(٧) التنين كسكين : حية عظيمة.

٣٦٤

رام بك أردت أن تخاصمني بعيك؟ أو أردت أن تحاجني بخطابك؟ أم أردت أن تكابرني (١) بضعفك؟ أين أنت مني يوم خلقت الارض فوضعتها على أساسها؟ هل علمت بأي مقدرا قدرتها؟ أم كنت معي تمد بأطرافها؟ (٢) أم تعلم مابعد زواياها؟ أم على أي شئ وضعت أكنافها؟ أبطاعتك حمل الماء الارض؟ أم بحكمتك كانت الارض للماء غطاء أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء؟ لا بعلائق سببت ، ولا تحملها دعم من تحتها ، (٣) هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها؟ أو تسير نجومها؟ أو تختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ أين أنت مني يوم سجرت البحار ، وأنبعت الانهار؟ أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها؟ أم قدرتك فتحت الارحام حين بلغت مدتها؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب؟ ونصبت شوامخ الجبال؟ هل لك من ذراع تطيق حملها؟ أم هل تدري كم من مثقال فيها؟ (٤) أم أين الماء الذي أنزلت من السماء؟ هل تدري ام تلد أو أب يولده؟ أحكمتك أحصت القطر ، وقسمت الارزاق؟ أم قدرتك تثير السحاب وتجري الماء؟ هل تدري ما أصوات الرعود؟ أم من أي شئ لهب البرق؟ وهل رأيت عمق البحر؟ هل تدري مابعد الهواء؟ أم هل خزنت أرواح الاموات؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج؟ وأين خزانة البرد؟ أم أين جبال البرد؟ أم هل تدري أين خزانة الليل والنهار؟ وأين طريق النور؟ وبأي لغة تتكلم الاشجار؟ وأين خزانة الريح؟ وكيف تحبسه؟ ومن جعل العقول في أجواف الرجال؟ ومن شق الاسماع والابصار؟ ومن ذلت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته؟ وقسم أرزاق الدواب بحكمته؟ من قسم للاسد أرزاقها؟ وعرف الطير معائشها؟ وعطفها على أفراخها؟ من أعتق الوحش من الخدمة؟ و جعل مساكنها البرية؟ لا تستأنس بالاصوات ، ولا تهاب المسلطين! أم من حكمتك عطفت امهاتها عليها حتى أخرجت لها الطعام من بطونها ، وآثرتها بالعيش على نفوسها؟

__________________

(١) في المصدر : تكاثرنى.

(٢) في المصدر : تمر باطرافها.

(٣) في المصدر : لا معاليق تمسكها ولا تحملها دعائيم من تحتها. قلت : المعاليق جمع المعلاق : كل مايعلق به. والدعائم جمع الدعامة : عماد البيت. الخشب المنصوب للعريش.

(٤) في المصدر : كم مثقال مافيها.

٣٦٥

أم من حكمتك تبصر العقاب الصيد البعيد ، وأصبح في أماكن القتلى؟ (١)

فقال أيوب عليه‌السلام : قصرت عن هذا الامر الذي تعرض علي ، ليت الارض انشقت لي فذهبت فيها ولم أتكلم بشئ يسخط ربي اجتمع علي البلاء (٢) إلهي قد جعلتني لك مثل العدو ، وقد كنت تكرمني ، وتعرف نصحي ، وقد علمت أن كل الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك ، وأعظم من هذا لو شئت عملت ، لا يعجزك شئ ، ولايخفى عليك خافية ، ولا يغيب عنك غائبة ، من هذا الذي يظن أن يسر عنك سرا وأنت تعلم ما تخطر على القلوب؟ (٣) وإنما تكلمت لتعذرني ، وسكت حين سكت لترحمني ، كلمة زلت عن لساني فلن أعود ، وقد وضعت يدي على فمي ، وعضضت على لساني ، وألصقت بالتراب خدي ودمست فيه وجهي لصغاري ، وسكت كما أسكتتني خطيئتي ، فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشئ تكرهه مني.

فقال الله تعالى : يا أيوب نفذ فيك علمي ، وسبقت رحمتي غضبي ، إذا خطئت فقد غفرت لك (٤) ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية ، وتكون عبرة لاهل البلاء ، وعزا للصابرين ، (٥) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ، فيه شفاء ، وقرب عن صحابتك قربانا ، واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك. فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها فاغتسل فأذهب الله تعالى عنه كل ما كان به من البلاء ، ثم خرج فجلس وأقبلت امرأته فقامت تلتمسه في مضجعه فلم تجده ، فقامت مترددة كالواله (٦) ثم قالت : يا عبدالله هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان ههنا؟ فقال لها : فهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت : نعم ، ومالي لا أعرفه ، فتبسم وقال : أنا هو ، فعرفته بمضحكه

__________________

(١) قد أسقط المصنف من هنا قطعة يطول ذكرها فمن شاء فليراجع المصدر.

(٢) في المصدر : حين اجتمع على البلاء.

(٣) في المصدر زيادة وهى هذه وقد علمت منك في بلائى هذا مالم أكن أعلم ، وخفت أن يكون أمر أكثر مما كنت أخاف ، انما كنت أسمع بصوتك فاما الان فهو نظر العين.

(٤) في المصدر : فقد غفرت لك ماقلت ورحمتك ورددت.

(٥) في المصدر : وعزاء للصابرين ، فاركض اه.

(٦) في المصدر : فقامت متكدرة كالوالهة فمرت به فقالت : يا عبدالله.

٣٦٦

فاعتنقته. (١) وقال ابن عباس : فوالذي نفس عبدالله بيده مافارقته من عناقه حتى مر بهما كل مال لهماوولد (٢) فذلك قوله : « وأيوب إذا نادى ربه أني مسني الضر ».

واختلف العلماء في وقت ندائه ومدة بلائه والسبب الذي قال لاجله « مسني الضر » فعن أنس بن مالك (٣) قال : قال رسول الله (ص) : إن أيوب نبي الله لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه : والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين ، فقال له صاحبه : وما ذاك؟ قال : منذ ثمانية عشر سنة لم يرحمه الله (٤) عزوجل فيكشف ما به ، فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك ، فقال أيوب : ما أدري ما تقولان غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فاكفر عنهما ، كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق ، قال : وكان يخرج لحاجته ، فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ. فلما كان ذات يوم أبطأ عليها وأوحى إلى أيوب في مكانه : أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ، فاستبطأته فتلقته تنظر وأقبل عليها (٥) وقد أذهب الله عزوجل ما به من البلاء وهو أحسن ما كان ، فلما رأته قالت : هل رأيت نبي الله هذا المبتلى؟ قال : إني أنا هو ، وكان له أندران : أندر للقمح وأندر للشعير ، فبعث الله تعالى سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض ، وأفرغت الاخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض. ويروى أن الله تعالى أمطر عليه جرادا من ذهب فجعل يحثى منها في ثوبه ، (٦) فناداه ربه : ألم أغنك عما

__________________

(١) في المصدر : وكيف لا أعرفه؟ فتبسم وقال : ها أنا هو ، فعرفته لما ضحك فاعتنقته.

(٢) في المصدر : كل ما كان لهما من المال والولد.

(٣) أسقط المصنف اسناد الحديث للاختصار ، وهو هكذا : حدثنا الامام ابوالحسين محمد بن على بن سهل املاء في شهر ربيع الاول سنة ٣٨٤ ، اخبرنا ابوطالب عمر بن الربيع بن سليمان الخشاب بمصر ، أخبرنا يحيى بن أيوب العلاف ، أخبرنا سعيد بن أبى مريم ، أخبرنا نافع بن يزيد ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن أنس بن مالك.

(٤) في المصدر : وما أدراك؟ قال : منذ ثمانى عشرة سنة له في البلاء لم يرحمه الله.

(٥) في المصدر : فاستبطأته فذهبت لتنظر ما شأنه فأقبل عليها.

(٦) في المصدر : ولعل الصحيح : يحشى منها ثوبه أى يملاء. وفى المصدر : يحثو.

٣٦٧

أرى؟ قال : بلى يارب ولكن لاغنى بي (١) عن فضلك ورحمتك ، ومن يشبع من نعمك؟

وقال الحسن : مكث أيوب مطروحا على كناسة في مزبلة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا يختلف فيه الدواب ; وقال وهب : لم يكن بأيوب اكلة إنما يخرج منه مثل ثدي النساء ثم تتفقا ; (٢) قال الحسن : ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق ولا أحد يقربه غير رحمة صبرت معه تصدق (٣) وتأتيه بطعام وتحمد الله تعالى معه إذا حمد ، وأيوب على ذلك لا يفتر من ذكر الله والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه ، فصرخ عدو الله إبليس صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الارض جزعا من صبر أيوب ، فلما اجتمعوا إليه قالوا : ما أحزنك؟ قال : أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني على ماله وولده ، فلم أدع له مالا ولا ولدا فلم يزد بذلك إلا صبرا وثناء على الله تعالى ، ثم سلطت على جسده وتركته قرحة ملقاة على كناسة بني إسرائيل لا يقربه إلا امرأته فقد افتضحت بربي فاستغثت بكم لتعينوني عليه ، فقالوا له : أين مكرك؟ أين علمك الذي أهلكت به من مضى؟ قال : بطل ذلك كله في أمر أيوب فأشيروا علي ، قالوا : نشير عليك ، أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة من أين آتيته؟ قال : من قبل امرأته ، قالوا : فأته من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها وليس أحد يقربه غيرها ، قال : أصبتم ، فانطلق حتى أتى امرأته وهي تصدق ، فتمثل لها في صورة رجل فقال : أين بعلك ياأمة الله؟ قالت : هو ذلك يحك قروحه ويتردد الدواب في جسده ، فلما سمعها طمع أن يكون كلمة جزع فوسوس إليها فذكرها ما كانت فيه من النعيم والمال ، وذكرها جمال أيوب وشبابه وما هو فيه من الضر وأن ذلك لاينقطع عنهم أبدا.

قال الحسن : فصرخت فلما صرخت علم أن قد جزعت فأتاه بسخلة فقال : ليذبح هذا لي أيوب ولا يذكر عليه اسم الله عزوجل فإنه يبرء ، قال : فجاءت تصرخ : يا أيوب حتى متى يعذبك ربك؟ ألا يرحمك؟ أين المال؟ أين الماشية؟ أين الولد؟ أين الصديق

__________________

(١) في المصدر : لا غنى لى.

(٢) أى تشقق.

(٣) في المصدر : غير رحمة امرأته صبرت معه تخدمه وتأتيه بطعام.

٣٦٨

أين لونك الحسن قد تغير وصار مثل الرماد؟ أين جسمك الحسن الذى قد بلى وتردد فيه الدواب؟ اذبح هذه السخلة واسترح ، قال أيوب : « أتاك عدو الله فنفخ فيك وأجبته ، ويلك أرأيت ما كنا فيه من المال والولد والصحة؟ من أعطانيه؟ قالت : الله ، قال : فكم متعنا به؟ قالت : ثمانين سنة ، قال : فمذكم ابتلاني الله تعالى بهذا البلاء؟ قالت : منذ سبع سنين وأشهر ، قال : ويلك والله ما عدلت ولا أنصفت ربك ، إلا صبرت في البلاء الذي ابتلانا الله به ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة؟ والله لئن شفاني الله عزوجل لاجلدنك مائة جلدة حين أمرتني أن أذبح لغير الله ، طعامك وشرابك الذي أتيتني به علي حرام أن أذوق مما تأتيني بعد إذ قلت لي هذا ، فاعزبي عني (١) فلا أراك : فطردها فذهبت ، فلما نظر أيوب إلى امرأته قد طردها وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خر ساجدا فقال » : رب إني مسني الضر « ثم رد ذلك إلى ربه فقال » : وأنت أرحم الراحمين فقيل له : ارفع رأسك فقد استجيب لك ، اركض برجلك ، فركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها فلم يبق عليه من دائه شئ ظاهر إلى سقط ، (٢) فأذهب الله تعالى عنه كل ألم وكل سقم وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ماكان وأفضل ماكان ، (٣) ثم ضرب برجله فنبعت عين اخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج فقام صحيحا وكسى حلة ، قال : فجعل يلتقت فلا يرى شيئا مما كان له من أهل ومال إلا وقد أضعفه الله تعالى له فخرج حتى جلس على مكان مشرف

ثم إن امرأتك قالت : أرأيت إن كان طردني إلى من أكله؟ أدعه يموت جوعا و يضيع فتأكله السباع؟! لارجعن إليه ، فرجعت فلا كناسة ترى ولا تلك الحال التي كانت ، وإذا الامور تغيرت ، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي على أيوب ، (٤) قال : وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأله عنه ، فأرسل إليها أيوب فدعاها فقال : ما تريدين

__________________

(١) عزب : بعد وغاب وخفى.

(٢) في المصدر : الاسقط أثره وأذهب الله.

(٣) في المصدر : وأفضل مما مضى ،

(٤) في المصدر : وتبكى وأيوب ينظرها.

٣٦٩

يا أمة الله؟ فبكت وقالت : أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذا على الكناسة ، لا أدري أضاع أم ما فعل ، (١) قال لها أيوب : ما كان منك؟ فبكت فقالت : بعلي فهل رأيته؟ قال : وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت : وهل يخفى على أحد ربه؟ ثم جعلت تنظر إليه (٢) وهي تهابه ، ثم قالت : أما إنه كان أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحا ، قال : فإني أنا أيوب الذي أمرتني أن أذبح لابليس ، وإني أطعت الله تعالى وعصيت الشيطان ودعوت الله تعالى فرد علي ما ترين.

وقال كعب : كان أيوب في بلائه سبع سنين ; وقال وهب : لبث أيوب في ذلك البلاء ثلاث سنين لم يزد يوما واحدا ، فلما غلب أيوب إبليس ولم يستطع منه شيئا اعترض امرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس من مراكب الناس له عظم وبهاء وجمال ، فقال : أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى؟ قالت : نعم ، قال : فهل تعرفيني؟ قالت : لا ، قال : فأنا إله الارض ، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ، ولو سجد لي واحدة رددت عليه وعليك كل ماكان لكما من مال وولد فإنه عندي ، ثم أراها إياهم فيما ترى ببطن الوادي الذي لقيها فيه ; قال وهب : وقد سمعت أنه قال : لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسم عليه لعوفي مما به من البلاء ، والله أعلم ، وأراد عدو الله أن يأتيه من قبلها.

ورأيت في بعض الكتب أن إبليس لعنه الله قال لرحمة : وإن شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والاولاد وأعافي زوجك ، فرجعت إلى أيوب عليه الصلاة و السلام فأخبرته بما قال لها وما أرها ، قال : لقد أتاك عدو الله لنفتنك عن دينك ، ثم أقسم إن عافاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة ، وقال عند ذلك : « مسني الضر » في طمع إبليس في سجود رحمة له ودعائه إياها وإياي إلى الكفر ، قالوا : ثم إن الله تعالى رحم رحمة امرأة أيوب بصبرها معه على البلاء وخفف عنها ، وأراد أن يبر يمين أيوب فأمره أن يأخذ جماعة من الشجرة يبلغ مائة قضيب خفافا لطافا فيضربها بها ضربة واحدة ، كما قال

__________________

(١) في المصدر : أم ماذا فعل به؟

(٢) في المصدر : وهل يخفى على؟ انها جعلت تنظر اليه.

٣٧٠

الله تعالى : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث « وقال : كانت امرأة أيوب تكتسب له وتعمل للناس وتجيئه بقوته ، فلما طال عليها البلاء وسئمها الناس فلم يستعملها التمست له يوما من الايام ماتطعمه فما وجدت شيئا ، فجزت قرنا من رأسها فباعته برغيف فأتته به ، فقال لها : أين قرنك؟ فأخبرته فقال عند ذلك » : مسني الضر.

وقيل : إنما قال ذلك حين قصدت الدود قلبه ولسانه فخشي أن يبقى خاليا عن الذكر والفكر ; وقيل : إنما قال ذلك حين وقعت دودة من فخذه فرفعها وردها إلى موضعها فقال لها : قد جعلني الله طعامك ، فعضته عضة زاد ألمها على جميع ما قاسى من عض الديدان.

وقال عبدالله بن عبيد الله بن عمير : (١) كان لايوب (ع) أخوان فأتياه فقاما من بعيد لا يقدران الدنو منه من ريحه ، فقال أحدهما لصاحبه : لو كان الله تعالى علم في أيوب خيرا ما ابتلاه بمانرى ، قال : فلم يسمع أيوب شيئا كان أشد عليه من هذه الكلمة ، وما جزع من شئ أصابه جزعه من تلك الكلمة ، فعند ذلك قال : « مسني الضر » ثم قال : اللهم إنك تعلم (٢) أني لم أبت ليلة شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع ، فصدقني ، فصدق و هما يسمعان ، ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم أتخذ قميصي قط وأنا أعلم مكان عارفصد قني ، فصدق وهما يسمعان ، فخر ساجدا. وقيل : معناه : مسني الضر من شماتة الاعداء ، يدل عليه ما روي أنه قيل بعد ما عوفي : ما كان أشد عليك في بلائك؟ قال : شماتة الاعداء.

قوله تعالى : « فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة » اختلف العلماء في كيفية ذلك ، فقال : (٣) إنما أتى الله أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا ، فأما الذين هلكوا فإنهم لم يردوا عليه في الدنيا ، وإنما وعدالله تعالى أيوب أن يؤتيه إياهم في الآخرة. قال وهب : كان له سبع بنات وثلاثة بنين ; وقال آخرون : بل ردهم الله تعالى

__________________

(١) في المصدر : قال عبدالله بن عمر.

(٢) في المصدر : اللهم ان كنت تعلم.

(٣) في المصدر : فقال قوم اه.

٣٧١

إليه بأعيانهم وأعطاه مثلهم معهم ، وهو قول ابن مسعود وابن عباس وقتادة وكعب ، قال : أحياهم الله تعالى وآتاه مثلهم ، وهذا القول أشبه بظاهر الآية ، وذكر أن عمر أيوب (ع) كان ثلاثا وتسعين سنة ، (١) وأنه أوصى عند موته إلى ابنه حومل ، وأن الله تعالى بعث بعده ابنه بشر بن أيوب نبيا وسماه ذاالكفل ، وأمره بالدعاء إلى توحيده ، وإنه كان مقيما بالشام عمره حتى مات ، وكان مبلغ عمره خمسا وتسعين سنة ، وإن بشرا أوصى إلى ابنه عبدان ، وإن الله تعالى بعث بعده شعيبا نبيا. (٢)

بيان : البثنية بضم الباء وفتح الثاء : اسم موضع. والفدادين بالتخفيف : البقر التي تحرث ، والواحد الفدان بالتشديد. والاعصار ريح تثير الغبار ويرتفع إلى السماء كأنه عمود. وتنفح بالحاء المهملة : تشم. وأيها بالفتح والنصب أمر بالسكوت. والزؤان بالضم والكسر : حب يخالط البر. والكلم : الجرح. وجثم الانسان والطائر : لزم مكانه فلم يبرح ، أو وقع على صدره. وتداعت الحيطان للخراب أي تهادمت. قوله : « يناطح جدره » أي يقع بعضها على بعض ويضرب بعضها بعضا مأخوذ من نطح البهائم. والجندل : الحجارة : ورهل لحمه بالكسر : اضطرب واسترخى وانتفخ أوورم من غير داء. ونغل بالغين المعجمة المسكورة أي فسل. والتبكيت : التقريع والتعنيف : والسداد بالضم داء في الانف ، وبالكسر ما يسد به القارورة وغيرها ، وهو المراد هنا ، وأقمأه صغره وأذله. والزيار بالكسر : ما يزير به البيطار الدابة ، أي يلوي جحفلته. والسحال ككتاب : اللجام ، أو الحديدة التي منه تجعل في فم الدابة. ودمست الشئ : دفنته وخبأته. والاندر : البيدر ، أو كدس القمح.

اقول : إنما أوردت هذه القصة بطولها مع عدم اعتمادي عليها (٣) لكونها كالشرح والتفصيل لبعض ما أوردته بالاسانيد المعتبرة ، فما وافقها فهو المعتمد وماخالفها فلا يعول عليه. والله الموفق لكل خير. (٤)

__________________

(١) وفى المحبر : كان عمره مائتي سنة.

(٢) العرائس : ٩٦ ـ ١٠٣. م

(٣) لانها متضمنة لما فيه غرابة جدة.

(٤) وأورد المسعودى في كتابه اثابت الوصية الانبياء أو الاوصياء الذين كانوا بين يوسف *

٣٧٢

( باب ١١ )

* ( قصص شعيب ) *

الايات ، الاعراف « ٧ » وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربك فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم و لا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين * ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثر كم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين * وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين * قال الملا الذين. استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها

__________________

* وشعيب عليهما‌السلام ، وذكرهم اجمالا مما يناسب المقام ، قال : فلما قربت وفاة يوسف عليه‌السلام أوحى الله إليه : أن استودع نور الله وحكمته وجميع المواريث التى في يديك ببرز بن لاوى بن يعقوب ، فسلم التابوت والنور والحكمة وجميع المواريث اليه ، فقام ببرزبن لاوى بن يعقوب بامر الله عزوجل يدبره على سبيل آبائه ، فلما حضرته الوفاة أوحى الله اليه أن يستودع نور الله وحكمته ومافى يديه ابنه احرب ، فدعاه وأوصى اليه ، فقام أحرب بن ببرزبن لاوى بامر الله واتبعه المؤمنون ، وجرى على منهاج آبائه حتى إذا حضرته الوفاة أوحى الله اليه أن يجعل الوصية إلى ابنه ميتاح ، فأحضره وأوصى اليه وسلم مواريث الانبياء وما في يده اليه ، فقام ميتاح بأمر الله جل ذكره واتبعهم المؤمنون وهم الاقلون عددا في ذلك الزمان ، المستخفون من الجبار ، المتوقعون الفرج ، فلما حضرت ميتاح الوفاة فأوحى الله اليه أن يوصى إلى ابنه عاق ، فاحضره وأوصى إليه ، فقام عاق بأمر الله واتبعه المؤمنون على سبيل من تقدمه من آبائه. فلما حضرته الوفاة أوحى الله اليه أن يوصى إلى ابنه خيام ، فأحضره وأوصى اليه ، وقام خيام بامر الله إلى أن حضرته الوفاة فأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته ابنه مادوم ، فقام مادوم بن خيام بأمر الله عزوجل إلى أن حضرته الوفاة فأوحى الله اليه أن يوصى إلى شعيب فأحضره وأوصى اليه ، وكان شعيب من ولد نابت بن ابراهيم ، ولم يكن من ولد اسماعيل واسحاق عليهما‌السلام.

٣٧٣

وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين * وقال الملا الذين كفروا من قومه لئن اتبعتهم شعيبا إنكم إذا لخاسرون * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين * فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ٨٥ ـ ٩٣.

هود « ١١ » وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط * وياقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين * بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين * وما أنا عليكم بحفيظ * قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لانت الحليم الرشيد * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما اريد أن اخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه انيب * ويا قوم لايجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد * واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود * قالوا يا شعيب مانفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز * قال ياقوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط * ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب * ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما عبدت ثمود ٨٤ ـ ٩٥.

الحجر « ١٥ » وإن كان أصحاب الايكة لظالمين * فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين ٧٨ ـ ٧٩.

الشعراء « ٢٦ » كذب أصحاب الايكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب ألا تتقون *

٣٧٤

إني لكم رسول أمين * فاتقو الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم * ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين * واتقوا الذي خلقكم والجبلة الاولين * قالوا إنما أنت من المسحرين * وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين * فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين * قال ربي أعلم بما تعملون * فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم ١٧٦ ـ ١٩١.

القصص « ٢٨ » وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا علهيم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ٤٥.

العنكبوت « ٢٩ » وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الارض مفسدين * فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ٢٦ ـ ٢٧.

ق « ٥٠ » وأصحاب الايكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد ١٤.

تفسير : قال الطبرسي رحمه‌الله في قوله تعالى : « وإلى مدين » أي أهل مدين ، (١) أو هو اسم القبيلة ، قيل : إن مدين ابن إبراهيم الخليل فنسبت القبيلة إليه ، قال عطا : هو شعيب ابن توبة بن مدين بن إبراهيم ; وقال قتادة : هو شعيب بن نويب ، (٢) وقال ابن إسحاق : هو

__________________

(١) في المصدر : « والى مدين » اى وارسلنا إلى مدين اخاهم شعيبا. م

(٢) قد وقع الخلاف في نسبه بين المؤرخين ، قال اليعقوبى في تاريخه : هو شعيب بن نويب ابن عيابن مدين بن إبراهيم. وكذا قال البغدادى في المحبر الا ان فيه : يوبب بن عيفا ، وقال الطبرى : هو شعيب بن صيفون بن عنقابن ثابت بن مدين بن ابراهيم ، وقال : قال بعضهم : لم يكن شعيب من ولد ابراهيم ، وإنما هو من ولد بعض من كان آمن بابراهيم واتبعه على دينه وهاجر معه إلى الشام ، ولكنه ابن بنت لوط ، فجدة شعيب ابنة لوط. وقيل : ان اسم شعيب يترون انتهى. وقال الثعلبى في العرائس : وهو شعيب بن صفوان بن عيفا بن نابت بن مدين ، وهو يوافق ما قد عرفت آنفا عن المسعودى أن كان من ولد نابت بن ابراهيم ، وسيأتى قول صاحب الكامل في آخر الباب.

٣٧٥

شعيب بن ميكيل (١) بن يشجب بن مدين بن إبراهيم ، وام ميكيل بنت لوط ، وكان يقال له خطيب الانبيا لحسن مراجعته قومه ، وهم أصحاب الايكة ; (٢) وقال قتادة : ارسل شعيب مرتين : إلى مدين مرة ، وإلى أصحاب الايكة مرة « فأوفوا الكيل والميزان » أي أدوا حقوق الناس على التمام في المعاملات « ولا تبخسوا الناس أشياءهم » أي لا تنقصوهم حقوقهم « ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها » أي لا تعملوا في الارض بالمعاصي واستحلال المحارم بعد أن أصلحها الله بالامر والنهي وبعثة الانبياء ; وقيل : لا تفسدوا بأن لا تؤمنوا فيهلك الله الحرث والنسل « ولا تقعدوا » فيه أقوال : أحدها أنهم كانوا يقعدون على طريق من قصد شعيبا للايمان به فيخوفونه بالقتل. وثانيها : أنهم كانوا يقطعون الطريق فنهاهم عنه. وثالثها : أن المراد : لا تقعدوا بكل طريق من طرق الدين فتطلبون له العوج بإيراد الشبهة « وتصدون عن سبيل الله » أي تمنعون عن دين الله « من آمن به » أي من أراد الايمان « وتبغونها » أي السبيل « عوجا » بأن تقولوا : هو باطل « فكثركم » أي كثر عددكم ، قال ابن عباس : وذلك أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت حتى كثر أولادها ; وقيل : جعلكم أغنياء بعد أن كنتم فقراء « عاقبة المفسدين » أي فكروا في عواقب أمر عاد وثمود وقوم لوط « أو لتعودن في ملتنا » لانه كان عندهم أنه كان قبل ذلك على دينهم ، فلذلك أطلقوا لفظ العود ، وقد كان يخفي دينه فيهم ، ويحتمل أنهم أرادوا به قومه فأدخلوه معهم في الخطاب أو يراد بالعود الابتداء مجازا « قال » أي شعيب « أو لو كنا كارهين » أي أيعبدوننا في مثلكم ولو كنا كارهين للدخول فيها؟ « قد افترينا » أي إن عدنا في ملتكم بأن نحل ما تحلونه ونحرم ما تحرمونه وننسبه إلى الله تعالى بعد إذ نجانا الله منها بأن أقام الدليل وأوضح الحق لنا فقد اختلقنا على الله كذبا فيما دعوناكم إليه.

« وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا » فيه وجوه : أحدها : أن المراد بالملة الشريعة لا ما يرجع إلى الاعتقاد في الله سبحانه وصفاته ، وفي شريعتهم أشياء يجوز أن

__________________

(١) في الطبرى : ميكائيل. وفى العرائس : شعيب ابن ميكائيل بن يشجر ، وقال : اسمه بالسريانية : يترون ، وامه ميكيل ابنة لوط.

(٢) الايكة الغيضة ، وهى غيضة شجر قرب مدين ، وقيل : هو الشجر الملتف.

٣٧٦

يتعبدالله بها ، فكأنه قال : ليس لنا أن نعود في ملتكم إلا أن يشاء الله أن يتعبدنا بها وينسخ مانحن فيه من الشريعة.

وثانيها : أنه علق ما لا يكون بما علم أنه لا يكون على وجه التبعيد كما قال : « ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ». (١)

وثالثها : إلا أن يشاء الله أن يمكنكم من إكراهنا ، ويخلي بينكم وبينه فنعود إلى إظهارها مكرهين.

ورابعها : أن تعود الهاء إلى القرية ، أي سنخرج من قريتكم ولا نعود فيها إلا أن يشاء الله بما ينجزه لنا من الوعد في الاظهار عليكم والظفر بكم فنعود فيها.

وخامسها : أن يكون المعنى : إلا أن يشاء الله أن يرد كم إلى الحق فنكون جميعا على ملة واحدة ، لانه لما قال حاكيا عنهم : « أولتعودن في ملتنا » كان معناه : أو لنكونن على ملة واحدة ، فحسن أن يقول من بعد : إلا أن يشاء الله أن يجمعكم معنا على ملة واحدة « على الله توكلنا » في الانتصار منكم وفي كل أمورنا « ربنا افتح » سؤال نم شعيب ورغبة منه إلى الله تعالى في أن يحكم بينه وبين قومه بالحق على سبيل الانقطاع إليه ، وإن كان من المعلوم أن الله سيفعله لا محالة ; وقيل : أي اكشف بيننا وبين قومنا وبين أننا على حق وهذه استعجال منه للنصر « وأنت خير الفاتحين » أى الحاكمين والفاصلين « إذا لخاسرون » أى يمنزلة من ذهب رأس ماله ; وقيل : مغبونون ; وقيل : هالكون « جاثمين » أي ميتين ملقين على وجوههم « كأن لم يغنوا فيها » أي كأن لم يقيموا بها قط ، لان المهلك يصير كأن لم يكن « فتولى عنهم » أي أعرض عنهم لما رأى إقبال العذاب عليهم إعراض الآيس منهم « فكيف آسى » أي أحزن « على قوم كافرين » حل العذاب بهم مع استحقاقهم له. (٢)

« إني أراكم بخير » أي برخص السعر والحصب ; وقيل : أراد بالخير المال وزينة الدنيا فحذرهم الغلاء وزيادة السعر وزوال النعمة ; أو المعنى : أراكم في كثرة الاموال وسعة الرزق فلا حاجة لكم إلى نقصان الكيل والوزن « يوم محيط » أي يوم القيامة يحيط عذابه

__________________

(١) الاعراف : ٤٠.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٤٤٧ ـ ٤٥٠. م

٣٧٧

بجميع الكفار « بقيت الله خيرلكم » أي ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إتمام الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف ، وشرط الايمان لانهم إن كانوا مؤمنين بالله عرفوا صحة هذا القول ; وقيل : معناه : إبقاء الله النعيم عليكم خير لكم مما يحصل من النفع بالتطفيف ; وقيل : طاعة الله ; (١) وقيل : رزق الله « وما أنا عليكم بحفيظ » أي وما أنا بحافظ نعم الله عليكم إن أراد أن يزيلها عنكم ، أو ما أنا بحافظ لاعمالكم إن علي إلا البلاغ « أصلوتك تأمرك » إنما قالوا ذلك لان شعيبا كان كثير الصلاة ، وكان يقول إذا صلى : إن الصلاة رادعة عن الشر ، ناهية عن الفحشاء والمنكر ، فقالوا : أصلاتك التي تزعم أنها تأمر بالخير وتنهى عن الشر أمرتك بهذا؟! عن ابن عباس وقيل : معناه : أدينك يأمرك بترك دين السلف؟ كني عن الدين بالصلاة لانها من أجل امورالدين وإنما قالوا ذلك على وجه الاستهزاء. (٢)

« أو أن نفعل » قال البيضاوي عطف على « ما » أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا ، وهو جواب النهي عن التطفيف والامر بالايفاء ; وقيل : كان ينهاهم عن تقطيع الدراهم والدنانير فأرادوا به ذلك « على بينة من ربي » إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنبوة « ورزقني » إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال ، وجواب الشرط محذوف ، تقديره : فهل يسع لي مع هذا الانعام أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه « وما أريد أن أخالفكم » أي وما اريد أن آتي ما أنهاكم عنه لاستبد به. فلو كان صوابا لآثرته ولم أعرض عنه فضلا أن أنها كم عنه ، يقال : خالفت زيدا إلى كذا : إذا قصدته وهو مول عنه ، وخالفته عنه إذا كان الامر بالعكس « إن أريد » أي ما أريد إلا أن اصلحكم بأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر مادمت أستطيع الاصلاح ، فلو وجدت الاصلاح فيما أنتم عليه لما نهيتكم « وما توفيقي » لاصابة الحق والرشاد إلا بهدايته ومعونته. (٣)

__________________

(١) وأضاف السيد الرضى على هذه الوجوه وجها آخر ، قال : وقد قيل : بقية الله أى عفو الله عنكم ورحمته لكم بعد استحقاقكم العذاب ، كما يقول العرب المتحاربون بعضهم لبعض اذا استحر فيهم القتل واعضلهم الخطب : البقية البقية أى نسألكم البقية علينا ، والبقية ههنا والابقاء بمعنى واحد.

(٢) مجمع البيان ٥ : ١٨٧ ـ ١٨٨. م

(٣) انوار التنزيل ١ : ٢٢٤. م

٣٧٨

« وإليه أنيب » قال الطبرسي : أي إليه أرجع في المعاد ، أو إليه أرجع بعملي ونيتي إي أعمالي كلها لوجه الله « لا يجر منكم شقاقي » أي لا يكسبنكم خلافي ومعاداتي « أن يصيبكم » من عذاب العاجلة « وما قوم لوط منكم ببعيد » أي هم قريب منكم في الزمان ، أو دارهم قريبة من داركم فجيب أن تتعظوا بهم « استغفروا » أي اطلبوا المغفرة من الله ثم توصلوا إليها بالتوبة ، أو استغفروا للماضي واعزموا في المستقبل ، أو استغفروا ثم دوموا على التوبة ، أو استغفروا علانية وأضمروا الندامة في القلب « ودود » أي محب لهم ، مريد لمنافعهم ، أو متودد إليهم بكثرة إنعامه علهيم « ما نفقه » أي ما نفهم عنك معنى كثير من كلامك ، أو لا نقبل كثيرا منه ولا نعمل به « ضعيفا » أي ضعيف البدن أو ضعيف البصر أو مهينا ، وقيل : كان عليه‌السلام أعمى.

واختلف في أن النبي هل يجوز أن يكون أعمى؟ فقيل : لا يجوز لان ذلك ينفر ; وقيل : يجوز إن لا يكون فيه تنفير ويكون بمنزلة سائر العلل والامراض.

« ولولا رهطك لرجمناك » أي ولو لاحرمة عشيرتك لقتلناك بالحجارة ; وقيل : معناه : لشتمناك وسببناك « وما أنت علينا بعزيز » أي لم ندع قتلك لعزتك علينا ولكن لاجل قومك « ظهريا » أي اتخذتم الله وراء ظهوركم ، يعني نسيتموه ، (١) وقيل : الهاء عائدة إلى ما جاء به شعيب « على مكانتكم » أي على حالتكم هذه ، وهذا تهديد في صورة الامر « إني عامل » على ما أمرني ربي ; وقيل : إني عامل على ما أنا عليه من الانذار « وارتقبوا » أي انتظروا ما وعدكم ربكم من العذاب ، إني معكم منتظر لذلك ، أو انتظروا مواعيد الشيطان وأنا أنتظر مواعيد الرحمن.

وروي عن الرضا عليه‌السلام أنه قال : ما أحسن الصبر وانتظار الفرج! أما سمعت قول العبد الصالح : وارتقبوا إني معكم رقيب.

« الصيحة » صاح بهم جبرئيل صيحة فماتوا ، قال البلخي : يجوز أن تكون الصيحة صيحة على الحقيقة كما روي ، ويجوز أن يكون ضربا من العذاب تقول العرب : صاح الزمان

__________________

(١) قال السيد : المراد انكم جعلتم امر الله سبحانه وراء ظهوركم ، وهذا معروف في لسان العرب أن يقول الرجل منهم لمن أغفل قضاء حاجته : جعلت حاجتى وراه ظهرك.

٣٧٩

بهم : إذا هلكوا « ألا بعدا » أي بعدوا من رحمة الله بعدا ; وقيل : أي هلاكا لهم كما هلكت ثمود. (١)

« أصحاب الايكة » هم أهل الشجر الذين ارسل إليهم شعيب ، وارسل إلى أهل مدين فاهلكوا بالصيحة ، وأما أصحاب الايكة فاهلكوا بالظله التي احترقوا بنارها ، وكانوا أصحاب غياض فعاقبهم الله بالحر سبعة أيام ، ثم أنشأ سحابة فاستظلوا بها يلتمسون الروح فيها ، فلما اجتمعوا تحتها أرسل منها صاعقة فاحترقوا جميعا « فانتقمنا منهم » أي من قوم شعيب وقوم لوط « وإنهما لبإمام مبين » أى إن مدينتي قوم لوط وأصحاب الايكة بطريق يؤم ويتبع ويهتدى به ، أو إن حديث مدينتهما لمكتوب في اللوح المحفوظ. (٢)

« من المخسرين » أي من الناقصين للكيل والوزن « بالقسطاس المستقيم » أي بالميزان السوي ، والجبلة : الخليفة « كسفا » أي قطعا ، والظلة : السحابة التي أظلتهم. (٣)

« وما كنت ثاويا » أي مقيما في قوم شعيب فتقرأ على أهل مكة خبرهم ، ولكنا أرسلنا وأنزلنا عليك هذه الاخبار ، ولو لا ذلك لما علمتها ; أو أنك لم تشاهد قصص الانبياء ولا تليت عليك ولكنا أوحيناها إليك فيدل ذلك على صحة نبوتك. (٤)

١ ـ ع : الطالقاني ، عن عمر بن يوسف بن سليمان ، عن القاسم بن إبراهيم الرقي عن محمد بن أحمد بن مهدي الرقي ، عن عبدالرزاق ، عن عمر ، عن الزهري ، عن أنس قال : قال رسول الله (ص) : بكى شعيب عليه‌السلام من حب الله عزوجل حتى عمي ، فرد الله عزو جل عليه بصره ، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره ، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره ، فلما كانت الرابعة أوحى الله إليه : ياشعيب إلى متى يكون هذا؟ أبدا منك؟ إن يكن هذا خوفا من النار فقد آجرتك ، (٥) وإن يكن شوقا إلى الجنة فقد أبحتك ; فقال :

__________________

(١) مجمع البيان ٥ : ١٨٧ ـ ١٨٩. م

(٢) مجمع البيان ٦ : ٣٤٣. م

(٣) مجمع البيان ٧ : ٢٠٢. وهو نقل بالمعنى اصل العبارة هكذا : « بالقسطاس المستقيم » اى بالعدل الذى لا حيف فيه يعنى زنوا وزنا بجمع الايفاء والاستيفاء انتهى. م

(٤) مجمع البيان ٧ : ٢٥٧. م

(٥) أى انفذتك.

٣٨٠