توضيح المراد - ج ١

السيد هاشم الحسيني الطهراني

توضيح المراد - ج ١

المؤلف:

السيد هاشم الحسيني الطهراني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
المطبعة: المصطفوي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

فالحكماء الى ان الوجود بشراشره حتى افعال الحيوانات مقتضى ذاته تعالى ولازم هويته على الترتيب العلى والمعلولى حسب علمه العنائى الازلى من دون قصد الى فعله وغرض له ، وكل ما يحدث يقع طبقا لعلمه الازلى تبعا لعلله المنتهية إليه تعالى على الترتيب ، فهو واجب تبعا لعلته التامة وكذا علته حتى تنتهى العلل إليه تعالى ، فلا معنى للاخلال بالواجب عندهم لان ما تمت علته واجب لا يمكن تخلفه والا فممتنع ، واما الشرور والقبائح الواقعة فى الكائنات فهى اعدام عندهم لا تعلق لها بسلسلة الوجود المنتهية إليه تعالى على ما مر تفصيله فى المسألة السابعة من الفصل الاول من المقصد الاول ، فلا معنى للقبيح عندهم أيضا فى فعله تعالى ، فلا معنى لحسن فعل عندهم او قبحه بمعنى تعلق المدح والذم نظرا الى النظام الكلى ، بل كل موجود واجب لا محالة تكوينا بذلك النظر ، نعم انهم يصفون افعال العباد بالحسن والقبح العقليين بحسب مصالحهم ومفاسدهم بمعنى ان العقلاء يذمون ويمدحون من لا يسلك سبيل مصلحته فى افعاله ومن يسلكه فيها نظرا الى نظام الاجتماع لا الى النظام الكلى.

واما الاشاعرة فهم قائلون بان العالم بجميع اركانه واجسامه وما يشتمل عليه من انواع المتكونات وجميع الافعال والاقوال والاعتقادات وجميع ما فى الدنيا والآخرة حادثة مخلوقة لله تعالى بالقصد بغير واسطة من العلل الفاعلية ولا غرض يعلل به ، بل عادته تجرى على ان يخلق شيئا عقيب شيء آخر ، لكن فى الواقع فرق بينهم وبين الحكماء فى نفى الغرض يأتى بيانه اجمالا فى المسألة الرابعة إن شاء الله تعالى ، ويقولون انما يجب ما يجب من كل شيء بإرادته وقدرته وعادته ، ولا شيء يقبح منه كائنا ما كان ، ولو فعل كما هو فاعل على عقيدتهم الباطلة السخيفة كل ظلم وقبيح وشر وفاحشة فهو حسن لان القبيح ما ينهاه هو عنه ، ولا آمر ولا ناهى يحكم عليه تعالى ، ولا معنى لنهيه تعالى عن فعل نفسه ، وبعضهم بعد الاعتراض عليه بان هذا يستلزم بطلان ارسال الرسل وانزال الكتب والوعد والوعيد والثواب والعقاب التجأ الى القول بالكسب فرارا من شناعة المذهب على ما يأتى تفصيله فى المسألة السادسة.

واما العدلية من الامامية والمعتزلة والزيدية فهم قائلون باستناد الاشياء الى

٥٤١

العلل الفاعلية المنتهية إليه تعالى وفاقا للحكماء ، ويثبتون الاغراض لافعاله تعالى خلافا لهم ، والواجب من فعله تعالى عندهم ما تمت علته بالداعى بعد امكانه فى نفسه كما اشار إليه الشارح ، والمراد بالداعى هو العلم بالمصلحة فى الفعل ، والمصلحة كون الفعل بحيث يلائم النظام المطلوب ، والقبيح عنه تعالى ما ليس فيه المصلحة ، فلا يتصور فى فعله تعالى الا الواجب والقبيح ، ثم ان الاثر المترتب على الفعل الّذي فيه مصلحة يسمى غاية وغرضا ، وببيان آخر ان الداعى هو الاثر المطلوب المترتب على الفعل الّذي يصلح سببا لذلك الاثر باعتبار علم الفاعل بانه يترتب على ذلك الفعل ويسمى ذلك الاثر بالغاية والغرض باعتبار موجوديته فى الخارج ، ويقال : ان فى هذا الفعل الّذي هو سبب لذلك الاثر مصلحة له ، ويأتى زيادة إيضاح لذلك فى المسألة الرابعة إن شاء الله تعالى ، والقبيح عنه تعالى ما ليس فيه مصلحة ان يكون سببا للاثر المطلوب ، هذا ، وظاهر عبارة بعضهم قياس افعاله تعالى بافعال العباد من حيث الحسن والقبح يحكم بالقبح فى فعله قبحا يحكم به فى افعال العباد ، وذلك خلاف التحقيق فلا يعقل فى فعله تعالى الا الواجب والقبيح ، واما الثلاثة الاخر من اقسام الحسن فليست الا لمن عليه حاكم شرعا كان او عقلا ، واما جمع المصنف بين الحسن والواجب فى التكليف فى المسألة الحادية عشرة فلانه باعتبار انه تكليف حسن وباعتبار انه يصلح ان يكون سببا لما اراد من خلق العباد واجب ، وسيأتي الكلام فيه.

وحاصل كلامهم ان الفعل لا يصدر منه تعالى الا بعلل غائية تسمى بالاغراض ، وهى المنافع العائدة الى الخلق ، ولا يفعل ما لا نفع لهم فيه او ما فيه ضرر عليهم ، والعذاب بهم يوم القيامة او فى الدنيا وان كان من فعله تعالى الا انه تابع لسوء اختيارهم بحسب وعيده كما ان الثواب تابع لحسن اختيارهم بحسب وعده ، وليس ذلك ظلما منه تعالى بل الناس انفسهم يظلمون ، وسموا هذا النمط عدلا منه تعالى ، فاشتهروا بالعدلية ، وافردوا له فصلا بحثوا فيه عن افعاله تعالى واغراضها وتصحيح ما يتراءى فى بدء النظر قبيحا ، وان كان الامامية مخالفين للمعتزلة فى كثير من هذه المباحث كما هم

٥٤٢

مخالفون لهم فى كثير من مباحث الاصول الاربعة الاخر.

والحاصل ان النزاع فى هذه المسألة فى المبادى لا فى النتيجة فان الحكيم يقول : انه تعالى لا يفعل القبيح اذ لا قبيح فى الوجود ، والاشعرى يقول. لا يفعل القبيح اذ لا قبيح عليه تعالى ، والعدلى يقول : لا يفعل القبيح لانه غنى حكيم.

قول الشارح : لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب ـ القبح والوجوب عليه تعالى فى افعاله نظير التنزيه والتوصيف فى صفاته تعالى ، فان العقل كما يحكم بان بعض الصفات ممتنع عليه وبعضها يجب اتصافه تعالى به ، كذلك يحكم بان بعض الافعال يمتنع صدوره عنه وبعضها يجب صدوره عنه حسب ادراكه ، ولا حكم للعقل فيما لا ادراك له فى الصفات وفى الافعال ، وهذا بناء على ما ثبت من ان العقل يدرك حسن الاشياء وقبحها ولو فى الجملة ، نعم ليس للعقل ان يقيس فعله تعالى بفعل العبد ويحكم عليهما بحكم واحد كما مر الاشارة إليه ، بل له اذا ادرك جهات فعله مع لحاظ مقام الربوبية ان يحكم بوجوبه للزومه لربوبيته او امتناعه لمنافاته لها كما ينظر فى الصفات ويحكم هكذا نظرا الى وجوب وجوده ، مع ان العقل قاصر فى الاكثر فلا بد له من الامداد من اصحاب الوحى عليهم‌السلام ، وليس المراد بهما تحريم الفعل وايجابه عليه تعالى لانهما لا يحصلان الا بالامر والنهى ولا آمر عليه ولا ناهى ، فلا وجه لتشنيعات وقعت فى كلمات بعض على القائلين بذلك.

قول الشارح : واسندوا القبائح إليه تعالى الخ ـ قد مضى ان النزاع فى المبنى فان الاشاعرة لا يقولون بقبح شيء ولا حسن شيء فى نفسه حتى يكون القبيح عندهم متميزا عن الحسن بحكم العقل فيسند إليه او لا يسند ، وان ابطل ذلك فى المسألة السابقة.

قول الشارح : والدليل على ما اختاره المعتزلة الخ ـ صورة هذا الدليل ان الله تعالى قادر عالم غنى حكيم وكل من هو كذلك بالوجوب يستحيل منه صدور القبيح والاخلال بالواجب الّذي هو أيضا قبيح لان القادر انما يفعل للداعى وداعيه الى فعل القبيح اما لجهله او حاجته او سفاهته ، والكل ممتنع عليه تعالى.

٥٤٣

قول الشارح : وأيضا لو جاز منه فعل القبيح الخ ـ هذه الزامات للاشاعرة على مذهبهم ذكر الشارح هنا بعضها ، وهى لزوم ارتفاع الوثوق بما اخبر من الوعد والوعيد وغيرهما لجواز الكذب عليه ، واظهار المعجزة على يد الكاذب المضل المفضى الى الشك وعدم الاعتماد فيما يأتى من المعجزات وغيرها لجوازه على الله تعالى عند عقولهم ، وتكذيبه تعالى فيما نزه نفسه فى كتابه عن القبائح لجواز القبيح عليه ، وتكذيبه فيما وصف به نفسه بالعدل والحكمة لان جواز ارتكاب القبيح ينافى ذلك ، وغير هذه مما ذكره الشارح رحمه‌الله فى نهج الحق.

المسألة الثالثة

( فى انه تعالى قادر على القبيح )

قول الشارح : احتج بان وقوعه منه الخ ـ قد افرط النظام من شيوخ الاعتزال فى نفى القبيح عنه تعالى ، وخالف اصحابه بل جميع الموحدين بل صريح القرآن ، وذهب الى عدم قدرته تعالى على فعل القبيح ، واحتج بانه تعالى لو وقع منه القبيح لكان جاهلا او محتاجا والتالى باطل ، والجواب ان هذا الدليل حق ، لكنه لا يثبت ما ادعيت لان عدم الوقوع لا يستلزم عدم القدرة عليه لان هذا الامتناع بالنظر الى حكمة الفاعل وعلمه وغناه الكاملة المانعة عن حصول الداعى الى فعل القبيح لا بالنظر الى قدرته ، وهذا الرجل لم يفرق بين الامتناع الوقوعى والامتناع الصدورى على ما بين فى اواخر المسألة الاولى من الفصل الثانى.

المسألة الرابعة

( فى انه تعالى يفعل لغرض )

قول المصنف : ونفى الغرض الخ ـ هذا المبحث طويل الذيل كثير الجدال

٥٤٤

فى كتب الاقوام ، لكنى سالك سبيل الاختصار ، ذاكر ما يفيد الناظر فى الكلمات ، قائل : اعلم انه لا شبهة للعقلاء الموحدين فى قضايا : هى ان كل موجود ممكن بما هو ذلك الموجود فى حد ذاته له اثر يترتب عليه بشهادة الفطرة والعقل والآيات والاخبار ويقال له السبب وله المسبب باعتبار ترتبه عليه وان ذلك السبب يصلح لذلك المسبب ، وان الله تعالى خلق ما خلق بهذه الصفة وخلى سبيل السبب لظهور الاثر منه وله ان يمنع عن ظهوره لانه المعطى وحده سواء قلنا ان ذلك بابطال السبب ونقله عن حدود ذاته او ابقائه بحاله ، وان ذلك كله غير عازب عن علمه ولا خارج عن ارادته ، وانه تعالى كامل كل الكمال وله كمال كل كامل بالملك الحقيقى للغنى الذاتى له والفقر الذاتى لغيره ، وانه تعالى لا ينقض مقتضى ارادته ، فاذا اراد شيئا عن سبب يصلح لذلك الشيء فلك ان تسميه غاية او غرضا او فائدة او اثرا او مخلوقا لله بالواسطة او ما شئت فسمه سواء كان ذلك الشيء نفعا وكمالا لسببه او لغيره او لهما او مع ثالث او غير ذلك بعد ان ثبت انه تعالى غنى لا يستكمل بغيره بل الكل من الاسباب والآثار والكمال وذى الكمال ملك له تعالى بالحقيقة ، فنا فى الغرض كالاشعرى ان اراد نفى هذا المعنى فهو من الشعور بمعزل ، ومثبته كالمعتزلى ان اراد بالغرض معناه الّذي عند العرف من ان الفاعل يفعل فعلا لتحصيل شيء لم يكن حاصلا له فهو كالاشعرى ، وان اراد به المعنى الّذي بيناه فهو فى النمط الاوسط ، والحكماء يثبتون المعنى الاول ويسمونه الغاية وينفون المعنى الثانى بعنوان الغرض.

قول الشارح : والدليل على مذهب المعتزلة الخ ـ دليل المثبت قياس من الشكل الاول ، ودليل المخالف قياس من الشكل صغرياهما هما كالمتعارضين ، واخذ احد القياسين وترك الآخر يرجع الى ما اريد بالغرض من المعنى.

المسألة الخامسة

( فى انه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصى )

قول المصنف : وإرادة القبيح قبيحة الخ ـ تقدير كلامه : وإرادة القبيح

٥٤٥

من افعال العباد قبيحة ، وكذا ترك إرادة الحسن منها قبيح ، وكذا الامر بما لا يريده من افعالهم قبيح ، والنهى عما يريده منها أيضا قبيح.

اعلم ان الناس اختلفوا فى تعلق ارادته تعالى وقدرته بافعال العباد ، فان ثبت انها تقع بإرادته لا بإرادتهم وبقدرته لا بقدرتهم كان الفعل فعله لا فعلهم ، ويأتى تفصيله فى المسألة السادسة ، وذلك مقالة الجبرية ، فانهم قالوا : ان القبيح الواقع من العبد انما هو واقع بقدرته تعالى وارادته وان كان ينهاه عنه ، والحسن المتروك من العبد انما ترك لعدم ارادته تعالى له وعدم اعمال قدرته عليه وان كان يأمره به ، وكذا كلامهم فى الحسن الواقع والقبيح المتروك ، والمصنف اراد ابطال ذلك بقبح ارادته لقبيح افعالهم وقبح النهى عما اراده منهم ، وقبح ترك ارادته لحسنها وقبح الامر بما لم يرده منهم ، وذلك لان ارادته تعالى تكوينا غير متعلقة بافعالهم من دون ارادتهم ، وانما ترك المصنف ذكر القدرة مع ان الاشاعرة جعلوا كلا منهما مسألة برأسها فى تأليفاتهم وعنونوا البحث فيهما بقولهم : انه لا يخرج شيء من العدم الى الوجود الا بقدرة الله تعالى ، وانه تعالى مريد لجميع الكائنات لان تعلق الإرادة او عدمه يستلزم تعلق القدرة او عدمه ولانه رحمه‌الله يذكرها ضمنا فى المسألة السادسة ، وقد ذكرها فى المسألة الثالثة والعشرين من الفصل الخامس من المقصد الثانى ، وحاصل المسألة ان افعال العباد هل هى واقعة بقدرتهم وارادتهم كما عليه المعتزلة او بقدرته وارادته تعالى كما عليه الاشاعرة.

قول الشارح : ان الله تعالى يريد الطاعات الخ ـ اى يريد الطاعات ويكره المعاصى من العباد كلهم بالارادة والكراهة التشريعيتين سواء وقعت بإرادة العباد أم لم تقع بعدم ارادتهم ، لا كل ما وقع فى الوجود من الطاعات والمعاصى وغيرها مراد له تعالى كما قالت به الاشاعرة.

ان قلت : لو كان الله تعالى يريد الطاعات ولم تقع لزم تخلف المراد عن ارادته ، ولو كان تعالى لم يرد المعاصى ووقعت لكان فى ملكه ما لا يشاء ، وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والائمة عليهم‌السلام : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، قلت : لا امتناع

٥٤٦

فى تخلف المراد عن الإرادة التشريعية لان ارادته هذه هى امره تعالى وتخلف المأمور به عن الامر ممكن ، وكذا الكلام فى كراهته التشريعية لانها نهيه تعالى ووقوع المنهى عنه مع النهى ممكن.

ان قلت : الا تعلق لارادته التكوينية بافعال العباد ولا دخل لها فيها؟ قلت : نعم ، انه تعالى ليس شيء فى الوجود خارجا عن تعلق ارادته ، لكن ارادته لفعل العبد طاعة كان او معصية لا تكون الا باسباب منها إرادة العبد ، والعبد مخلى فى مقام ارادته لا ملجأ ولا ممنوع ، وبيان ذلك ان الانسان مركب من طينتين وعجين من حيثيتين وسنخين إحداهما طيبة تقتضى الحسنات والخيرات والاخرى خبيثة تقتضى الشرور والقبائح والسيئات ، ويشهد بذلك الوجدان والنقل الصحيح الكثير والبرهان ، وذلك مذكور فى محاله كالبحار باب الطينة والميثاق وغيره ، ثم أيد الله تعالى الطيبة بالعقول والأنبياء والملائكة والخبيثة بالشهوة وابليس وجنوده ، ولسوء التعليم والتربية والمعاشرة من الآباء والامهات وابناء الزمان وحسنها مدخل كثير فيهما لان الله تعالى جعل لكل شيء اثرا لا يتخلف عنه مع تخلية سبيله ، وحيث ان الانسان مخمر منهما ولا ينفكان عن ذاته ما دام فى هذه الحياة الدنيا فى اى من الاحوال كان ولا يفتران عن الاقتضاء ويكون ما يقتضي إحداهما ضد ما يقتضيه الاخرى فدائما مردد بينهما ، يستطيع من دون الجاء ومنع على جرى مقتضى كل منهما ، وان كان بعض الآحاد يصل فى بعض الافعال حسنة او سيئة الى حد يصير له عادة ويشق تركه عليه ، ومع ذلك لا يصل الى حد الالجاء والمنع ابدا ، فان الانسان كيف كان لا يمكن ان يلجا الى الشرور ومقتضى الخيرات حي فى نفسه والى الخيرات ومقتضى الشرور حي فى نفسه ، فحينئذ له الاختيار بالذات لان له الامتناع عن مقتضى كل منهما بالاخرى ، والاختيار هو كون الذات القادرة بحيث تجرى على ما فى حيطة قدرته تركا وفعلا بالسوية ، واما الإرادة فقد مر فى المسألة الخامسة والعشرين من الفصل الخامس من المقصد الثانى انها التفات واقبال من النفس نحو الفعل ليرتكبه يحصل عقيب الشوق ، فالاختيار ليس باختيارى للزوم التسلسل ، واما الإرادة فاختيارية بمعنى ان النفس تقبل نحو الفعل بالاختيار

٥٤٧

بعد الادبار عنه وتدبر عنه بعد الاقبال إليه ، وهذا الاقبال والادبار يمكنان له فى اى حد من حدود الفعل ان كان فعل النفس لا فعل البدن بحياله كسقوطه من السطح مثلا حين السقوط فلا يذم ولا يمدح على ما ليس تحت اختياره من اجزاء الفعل ، فقول من يقول : ان الإرادة ليست اختيارية فغير مسموع بعد وضوح الامر.

ثم بعد ما بينا من حقيقة الاختيار والإرادة ظهران لا حاجة الى الالتجاء الى القول بتغاير الطلب والإرادة على ما يرى فى بعض كتب اصول الفقه للتخلص عن لزوم الجبر مع ان المجبرة من الاشعرية قائلون بتغايرهما خلافا لغيرهم لان الإرادة اختيارية سواء قلنا بتغايرهما او اتحادهما ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الحق فى ذلك فى المسألة الحادية عشرة.

واما القول بالشقاوة الذاتية والسعادة الذاتية بمعنى ان بعض الآحاد من الآدميين شقى بذاته وبعضها سعيد بذاته ولا يمكنه التخلف عما يقتضيه ذاته فحديث شعرى لم يقم عليه برهان وان ذهب إليه بعض من لا كثير حظ له من المباحث الحكمية من العلماء المشهورين فى كتابه فى الاصول تبعا لمن خالفه فى المذهب من الجبرية اذ عرف انه من الامامية ، بل العقل والنقل متطابقان على خلافه ، نعم ان كل احد مخمر من الطينتين بذاته على ما مر بيانه آنفا.

وحديث ان الناس معادن كمعادن الذهب والفضة مع انه من المتشابهات ويجب ارجاعه الى المحكمات رواه ابو هريرة ، على ان تمامها : خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الاسلام اذا فقهوا يدل بظاهره على خلاف ذلك لان اشتراط التفقه ( سواء قلنا انه التفقه العقلى او الشرعى ) فى الخيرية يظهر منه ان الخيرية والسعادة من التفقه لا من الذات وان الشرية والشقاوة من عدمه لا منها ، وحديث ان الشقى من شقى فى بطن أمه والسعيد من سعد فى بطن أمه وان كان صحيحا لكنه متشابه ، وان من استشهد به لذلك لم يكن متدبرا فى الآيات والتفاسير الواردة فى السعادة والشقاوة ولا فى احاديث فسر فيها ائمتنا صلوات الله عليهم هذا الكلام المروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا فى احاديث اخرى وردت فى معناهما والطالب يراجع الوافى والبحار وغيرهما ، وسيأتي

٥٤٨

إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح للمطلب فى المباحث الآتية.

قول الشارح : والدليل على ما ذهب الخ ـ استدل المعتزلة على ما ادعوه بوجوه :

الاول ان إرادة القبيح وكذا ترك إرادة الحسن كفعله وتركه قبيحة والقبيح لا يكون منه تعالى لانه تعالى قادر وعالم وغنى وحكيم ، وقد مر فى المسألة الثانية ان ارتكاب القبيح يستلزم انتفاء احد هذه الاوصاف.

الثانى لو كانت الطاعة المتروكة من العبد كافرا او مسلما مكروهة لله تعالى وكان تركها مستندا الى عدم ارادته لها لما امر بها ، وكذا لو كانت المعصية المفعولة من العبد كافرا او مسلما مرادة لله تعالى وكان فعلها مستندا الى ارادته لما نهى عنها لانه تعالى حكيم والحكيم لا يامر بما يكرهه ولا ينهى عما يريده.

الثالث ما اشار إليه الشارح بقوله : وكان الكافر مطيعا الخ ، وهو ان العبد لو كفر لارادة الله تعالى لكفره ولم يؤمن لكراهة الله لايمانه لكان مطيعا لان الطاعة هى الموافقة لارادة الامر وكراهة الناهي ، والتالى باطل قطعا.

الرابع لو كان الطاعات والمعاصى بإرادة الله لا بإرادة العبد وتركها لعدم إرادة الله لا لعدم إرادة العبد لما استحق العبد ثوابا ولا عقابا ، والتالى باطل.

الخامس لو كان افعال العباد بإرادة الله وتروكهم بعدم إرادة الله لوجب الرضاء بها لان ما اراده وكرهه هو المقضى بقضائه والرضاء بقضائه واجب ، والتالى باطل لعدم جواز الرضاء بكثير من الافعال والتروك.

السادس لو لم يكن الافعال والتروك باختيار العباد لكان تكليفهم بالفعل والترك تكليفا بما لا يطاق لان ما ليس فى اختيارهم خارج عن طاقتهم ، والتالى باطل.

السابع الآيات والاخبار التى تثبت الإرادة للعباد فى افعالهم بالمطابقة والالتزام وهى كثيرة.

الثامن الآيات والاخبار الناطقة بان الله تعالى لا يريد الكفر والعصيان من العباد ولا يرضى به.

٥٤٩

ثم ان للاشاعرة اعتراضات سخيفة على هذه الوجوه لا جدوى لذكرها والجواب عنها ، وسنذكر ما يغنى الطالب للحق عن النظر فيما اتى به الفريقان وشاجرا فيه إن شاء الله تعالى.

قول الشارح : على ما تقدم ـ فى المسألة الثانية.

قول الشارح : وكذا إرادة تركه ـ الاولى ان يقال : ترك ارادته كما هو عبارة المصنف لان الترك لا يستدعى الإرادة بل ترك الإرادة.

قول الشارح : الاولى قالوا الله تعالى فاعل الخ ـ هذا قياس من الشكل الاول ، صورته ان الله تعالى فاعل كل موجود من افعال العباد وغيرها وكل فاعل شيء يستند إرادة ذلك الشيء إليه فكل فعل من افعال العباد مستند الى ارادته تعالى ، والجواب الطعن فى الصغرى على ما يأتى فى المسألة السادسة.

قول الشارح : الثانية ان الله تعالى لو اراد الخ ـ هذا قياس استثنائى هو ان فعل العبد لو استند الى ارادته لزم ان يكون الله تعالى مغلوبا فى ارادته عند تزاحم الارادتين كما اذا اراد العبد فعل معصية وهو تعالى لم يردها منه او اراد تعالى منه فعل طاعة والعبد لم يردها ، والتالى باطل لانه تعالى لا يغلب فى ارادته بالبرهان والاجماع واما الملازمة فظاهرة ، والجواب انه لا تزاحم بين إرادة العبد وارادته تعالى التشريعية فان طاعة العبد مرادة له تعالى بامره ومعصيته غير مرادة له بنهيه ، فمخالفة العبد امره ونهيه ليست مغلوبية له فى ارادته تعالى لانه تعالى لا يطاع باكراه ولا يعصى بغلبة كما هو مضمون احاديث كثيرة ، نعم يقع التزاحم فيما لو اراد تعالى ايجاده والعبد اعدامه او العكس ، ويأتى الكلام فيه إن شاء الله فى ذيل قول المصنف فى المسألة السادسة : ومع الاجتماع يقع مراده تعالى.

وانى اظن ان الاشعرى اختلس هذا من كلام الرضا عليه‌السلام فى حديث طويل رواه الصدوق فى التوحيد فى الباب الثانى عن فتح بن يزيد الجرجانى : يا فتح ان الله ارادتين ومشيتين إرادة حتم وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء ، او ما رأيت انه نهى آدم وزوجته عن ان يأكلا من الشجرة وهو شاء ذلك ، ولو لم يشأ

٥٥٠

لم يأكلا ولو اكلا لغلبت مشيتهما مشية الله ، وامر ابراهيم بذبح ابنه اسماعيل وشاء ان لا يذبحه ، ولو لم يشأ ان لا يذبحه لغلبت مشية ابراهيم مشية الله عز وجل ، الحديث ، ولم يفهم الاشعرى كلامه عليه‌السلام.

وإيضاح المطلب ان ارادته التكوينية والتشريعية قد تتخالفان وقد تتوافقان وانه لا ملازمة بين ارادته تعالى لشيء من افعال العباد وبين امره به ، ولا ملازمة بين عدم ارادته لشيء منها وبين نهيه عنه ، بل قد يريد شيئا منها مع نهيه عنه وقد لا يريده مع امره به كما فى قصة آدم وابراهيم عليهما‌السلام ، ولكن ارادته لشيء من افعال العباد لا تكون الا بالاسباب التى منها إرادة العبد مع انه مخلى فى مقام ارادته لا ملجأ ولا ممنوع كما مر بيانه ، فان تمّ سائر الاسباب بإرادة الله تعالى وكان الفعل طاعة واختار العبد جانب الفعل فهو توفيق من الله عز وجل للطاعة بوجود سائر الاسباب فعلى العبد حمده تعالى ، وان اختار العبد جانب الترك فهو حرمان من قبل نفسه لان الله تعالى قد هيّأ اسباب الطاعة وهو تركها باختياره ولله عليه الحجة ، وان كان الفعل معصية واختار العبد جانب الفعل كان قد ضيع نعم الله حيث صرفها فى معصيته وكان لله عليه الحجة حيث خالف نهيه فان عذبه فبعد له وان عفا عنه فبكرمه كما فى قصة آدم عليه‌السلام ، وان اختار جانب الترك فذلك نوع من العصمة من الله تعالى اذ قوى عقله بنور العلم والايمان فغلب به على هواه ، وان لم يتم سائر الاسباب لم يرده الله فالعبد غير فاعل قهرا فان كان الفعل معصية كان ذلك نوعا آخر من العصمة من الله فله المنة عليه اذ من الممكن ان يرتكبها عند تمام الاسباب ، وان كان طاعة فذلك حرمان من الله تعالى به من دون مؤاخذة اذ هو معذور مع فقد اسباب الطاعة بل مأجور ان كان فى عزمه ان يفعلها كما فى قصة ابراهيم عليه‌السلام او لطف بالعبد اذ من الممكن ان يتركها لو تمت له الاسباب.

والشاهد من الحديث لما بينت ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والائمة الطاهرين صلوات الله عليهم كما فى الكافى باب المشية والإرادة وباب الجبر والقدر والامر بين الامرين وفى توحيد الصدوق باب المشية والإرادة باسانيد ، والمذكور هنا باحدها ، وهو ما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : قال الله عز وجل : يا ابن آدم بمشيتى كنت انت الّذي

٥٥١

تشاء لنفسك ما تشاء وبإرادتي كنت انت الّذي تريد لنفسك ما تريد وبفضل نعمتى عليك قويت على معصيتى وبعصمتى وعفوى وعافيتى ادّيت الى فرائضى ، فانا اولى باحسانك منك وانت اولى بذنبك منى ، فالخير منى أليك بما اوليت بداء والشر منى أليك بما جنيت جزاء ، وبسوء ظنك بى قنطت من رحمتى ، فلى الحمد والحجة عليك بالبيان ولى السبيل عليك بالعصيان ، ولك الجزاء الحسنى عندى بالاحسان ، لم ادع تحذيرك ولم آخذك عند غرتك ولم اكلفك فوق طاقتك ولم احملك من الامانة الا ما قدرت عليه ، رضيت منك لنفسى ما رضيت به لنفسك منى ، انتهى فلا جبر لان العبد مخلى فى مقام ارادته ، ولا تفويض لان الاسباب ليست بيده ، بل امر بين الامرين ، هذا ما استفدناه من مدرس اهل بيت الوحى صلوات الله عليهم موافقا للعقول السليمة المستقيمة ، وسيأتى باقى الكلام فى المسألة السادسة إن شاء الله تعالى.

قول الشارح : الثالثة قالوا كل ما علم الله تعالى الخ ـ بيان ذلك ان الله تعالى عالم ازلا مطلقا بكل ما يقع وما لا يقع جزئيا كان او كليا وانه تعالى اذا علم وقوع شيء وجب الوقوع واذا علم عدم وقوع شيء امتنع الوقوع والا لزمه الجهل تعالى عن ذلك ، ولا نزاع فى هاتين المقدمتين ، فاذا علم وقوع الكفر والعصيان من الكافر وجب منه واذا علم عدم وقوع الطاعة والايمان منه امتنع منه ، والمقدم حق والتالى لازمه ، فاذا كان الوقوعان واجبا وممتنعا استحال ان يريدهما العبد ويأتى بهما ، ولو لم يستحل لكان مريدا لما يمتنع وجوده وما وجب وجوده مع ان الإرادة لا تتعلق الا بالممكن المتساوى طرفاه ، فالعبد لا يتعلق ارادته بما يصدر منه طاعة كان او معصية وهذا ما فى الحديث التاسع من الباب الثانى فى توحيد الصدوق من كلام الرضا عليه‌السلام : الخلق الى ما علم منقادون وعلى ما سطر فى المكنون من كتابه ماضون ولا يعملون خلاف ما علم منهم ولا غيره يريدون ، والجواب ان قولكم : انه تعالى اذا علم وقوع شيء وجب واذا علم عدمه امتنع ان اردتم الوقوع وعدم الوقوع بنفس العلم فهو خرص وجهل ، وهذا معنى قول الشارح : والعلم تابع لا يؤثر ، وان اردتم الوقوع وعدم الوقوع بالاسباب وعدم الاسباب التى هى أيضا بيد الله تعالى مع تقدم علمه على الاسباب

٥٥٢

والمسببات فهو حق ، ولكنه لا يستلزم عدم تعلق إرادة العبد بفعله لانها من جملة اسباب فعله على ما مر بيانه ، وفى كلام الامام عليه‌السلام اشارة الى هذا حيث قال : ولا غيره يريدون ، اى لا يقع فعل منهم بإرادتهم الا طبقا لما علم تعالى فى الازل.

ان قلت : اذا كان إرادة العبد أيضا باسباب ليست بيده بل بيده تعالى والاسباب منتهية الى ارادته تعالى ففعل العبد وارادته مسخر مقهور تحت ارادته تعالى فالعبد ليس مخلى فى مقام ارادته الا فى ظاهر النظر ، قلت : ارادته مستندة الى ذاته المتصفة بالاختيار ذاتا كما مر بيانه ، وذاته مخلوقة لله تعالى بالاسباب ، لا ان ارادته تابعة للاسباب المنتهية الى إرادة الله تعالى منحازة عن ذاته ، وما يفعل او يفعل به فى دار الوجود فانما هو بذاته التى خلقها الله مختارة ، وتوابع ذاته من خير او شر ترجع الى ذاته ، وهذا هو سر الامر ، وينكشف يوم الفصل وما ادراك ما يوم الفصل.

ان قلت : ان الله كان يعلم عاقبة كل عبد ويعلم ان اكثر العباد يجرون على الضلالة ويكتسبون شقاوة الدار الآخرة باختيارهم ويخلدون فى العذاب ، فلم جعلهم مختارين حتى يحصل لهم هذه العاقبة ، قلت : ان الاكثرية ممنوعة اذ لا نعلم احوال العباد حين رحلتهم عن هذه الفانية ، ولا نعلم مقدار بقائها واحوال العباد فيما يأتى من الزمان الى يوم القيامة ، فلا يبعد ان يكون عدد السعداء فى الآخرة اكثر بمراتب عن عدد الاشقياء لا سيما نظرا الى فضله وكرمه وعميم رحمته تعالى ، وترك الخير الكثير للشر القليل قبيح ، وان الخير الّذي اعد الله تعالى لعباده فى الآخرة لا يصل إليهم الا باختيارهم ، قال الصادق عليه‌السلام على ما فى باب الاحتجاجات من البحار فى جواب من ساله : فاخبرنى عن الله عز وجل كيف لم يخلق الخلق كلهم مطيعين موحدين وكان على ذلك قادرا؟

قال عليه‌السلام : لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب لان الطاعة اذا ما كانت فعلهم ولم تكن جنة ولا نار ، ولكن خلق خلقه فامرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته واحتج عليهم برسله وقطع عذرهم بكتبه ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون ويستوجبون بطاعتهم له الثواب وبمعصيتهم اياه العقاب.

٥٥٣

قول الشارح : وقد مر تقرير ذلك ـ فى المسألة الرابعة عشرة من مبحث العلم فى الفصل الخامس من المقصد الثانى.

المسألة السادسة

( فى انا فاعلون )

قول الشارح : اختلف العقلاء هنا الخ ـ مذاهب الفرق فى هذه المسألة ستة :

المذهب الاول للمعتزلة باجمعهم وهو ان الله تعالى خلق العباد وجعل فيهم القدرة والاختيار على افعالهم وفوض إليهم امورهم من دون ان يكون لله تعالى فيها مشية وتعلق قدرة فهم مستقلون فى افعالهم حسناتها وسيئاتها ، وبطلان هذا المذهب ظاهر لانه يستلزم انكار عونه وامداده تعالى لعباده وانكار سلطنته تعالى على بعض ما فى مملكته مع اطباق السنة اصحاب الوحى صلوات الله عليهم على رد هذه المقالة السخيفة الشبيهة بمقالة الزنادقة والملاحدة ، قال الصادق عليه‌السلام : مساكين القدرية ارادوا ان يصفوا الله عز وجل بعدله فاخرجوه من قدرته وسلطانه ، والعجب من المصنف رحمه‌الله حيث لم يتعرض فى هذا الكتاب لابطاله ، ومن الشارح العلامة رحمه‌الله حيث قال فى نهج الحق : المطلب العاشر فى انا فاعلون ، اتفقت الامامية والمعتزلة على انا فاعلون وادعوا الضرورة فى ذلك الخ ، فأوهم بعبارته هذه ان مقالة الامامية القائلين بالامر بين الامرين والمعتزلة القائلين بالتفويض واحدة.

المذهب الثانى لجهم بن صفوان واتباعه وهم الجبرية الخالصة ، قد نقل انهم قالوا : ان الانسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وانما هو مجبور فى افعاله ، لا قدرة ولا إرادة ولا اختيار له ، وانما يخلق الله تعالى الافعال فيه على حد ما يخلق فى الجمادات مثلا ، ونسبة الافعال الى العبد مجازية ، وذكر فى كتب المقالات ان الرجل اشترك المعتزلة فى مقالات والصفاتية فى مقالات وانفرد بين المسلمين بمقالات وكان تلميذا

٥٥٤

لجعد بن درهم الّذي قتله خالد بن عبد الله القسرى سنة ١٢٤ على الزندقة والالحاد ، وقال الشهرستانى : جهم بن صفوان ظهرت بدعته بترمذ ، وقتله سلم بن احوز المازنى بمرو فى آخر ملك بنى امية ، اقول : العاقل لا يتكلم فى هذه المقالة.

المذهب الثالث لاكثر الجبرية وهو ان العبد متصف بقدرة وإرادة وفاعل لافعاله بمعنى الكاسب لها ، ولكن الله تعالى خالق لافعال العبد بقدرته تعالى وارادته ، وهؤلاء بعد اتفاقهم فى هذا القول ردا لجهم بن صفوان لان التفرقة بين افعال الجمادات وافعال الانسان ضرورية لا ينكرها العاقل افترقوا فقال بعضهم : لا تأثير لقدرة العبد وهو ملجا فى مقام قدرته وارادته ، والفعل واقع بقدرة الله تعالى وحدها ، وهو تعالى جرت عادته بخلق قدرة وإرادة فى العبد مقارنة للفعل الّذي يخلقه فيه ، والعبد محل لما يخلقه الله تعالى فيه من دون دخل وتأثير له فى شيء ، وسموا هذه المقارنة بالكسب ، وقالوا : العبد كاسب للفعل ، وهذا مذهب ضرار بن عمرو والحسين بن محمد النجار وحفص الفرد وابو الحسن الاشعرى واتباعه الى اليوم ، وغير خفى على العاقل ان هذا ليس غير ما ذهب إليه جهم بن صفوان ، لكن ذاك المسكين ابدى عقيدته لا فى ملأ العلماء ، وهؤلاء قالوا فى ملئهم فواجهوا انكارهم وتسخيفهم ، وزادوا على ما قال ان العبد فاعل وكاسب وله قدرة وإرادة والله تعالى خالق ، وهل يجد عاقل بين الخلق والفعل فرقا الا فى الحروف ، وقولهم : الخالق من اوجد الفعل والفاعل من قام به الفعل اختراع غير معقول كسائر اختراعاتهم لا يساعده اللغة ولا العرف ولا غيرهما ، وهل يجيز عاقل لنفسه : ان يقول : ان المقارنة التى ليست بيد العبد وليست الا امرا اعتباريا من مقولة الاضافة لا بإزائه شيء فى الخارج كسب له وفعل له ، وهل يتصور ان يكون قدرة وإرادة فى محل بدون تأثير اصلا وابدا ، وقال بعض آخر منهم وهو القاضى ابو بكر الباقلانى ومن تبعه : ان لقدرة العبد تأثيرا ، لكن فى عنوان الفعل من كونه صلاة أو زنا او شربا او اكلا ، لا فى ذات الفعل وحقيقته التى هى حركة صادرة من الجوارح فانها بقدرة الله تعالى وحدها فان للفعل حيثيتين ذاته وصفة هى عنوان الفعل ، والكسب هو وقوع صفة الفعل وعنوانه بقدرة العبد ، وهذا الرجل خرص فى قوله هذا لان

٥٥٥

عناوين الافعال امور اعتبارية ليست واقعة فى الخارج حتى تقع تحت القدرة الا تبعا لذات الفعل ، وقال بعض آخر منهم وهو ابو اسحاق الأسفراييني ومن تبعه : ان للعبد قدرة ، ولكن فعله يقع بالقدرتين اى قدرته وقدرة الله تعالى ، وهذا الكلام منه مجمل ، يمكن حمله على مذهب الفلاسفة او العرفاء وسيأتيان ، وان اراد به ان كلا من القدرتين تامة تكفى لصدور الفعل فلازم قوله اجتماع العلتين التامتين على معلول واحد وقد ابطل ذلك فى محله مع ان فيه شائبة شرك ، وان اراد به ان كلا منهما ناقصة تؤثران معا فقائله على حد الشرك خارج عن الملة لاسناد النقص الى قدرته تعالى ، وعبارته التى نقل الفخر الرازى عنه فى الاربعين : ان قدرة العبد تؤثر بمعين ، ويمكن توجيه هذا الى القول الحق ، وعلى كل فاللازم على القول باستناد فعل العبد الى الله تعالى راسا والعقيدة بان فعله ليس تحت قدرته وارادته بطلان الثواب والعقاب والوعد والوعيد والامر والنهى وبطلان توجيه المدح الى فاعل الحسنات والذم الى فاعل السيئات وتكليف ما لا يطاق وكونه تعالى ظالما بتعذيب العاصين وكاذبا فى اسناد الافعال فى كتابه الى العباد وارادتهم وكونه تعالى مثيبا للمطيعين ومادحا لهم ومكرما اياهم من غير استحقاق اصلا وعابثا فى ارسال الرسل والأنبياء وانزال الوحى والكتاب وغير ذلك مما هو مذكور فى نهج الحق وغيره.

المذهب الرابع للفلاسفة ، وظاهر كلام الجوينى من الاشاعرة المنقول فى الملل والنحل اختيار هذا المذهب ، وهو ان فعل العبد تابع لقدرته وارادته وهما تابعان للاسباب المنتهية الى الله تعالى ، فقدرته وارادته تعالى متعلقتان بفعل العبد بواسطة الاسباب ، وحيث ان من اصولهم ان المسبب يترتب على السبب التام قهرا من دون التخلف فان جعلوا ذات العبد المتصفة بالاختيار ذاتا فى سلسلة الاسباب انطبق مذهبهم على الحق المختار ، واما ان جعلوها فى عزلة عن السلسلة كما هو ظاهر كلامهم فلا ، ويكون مذهبهم جبر الانسان فى صورة الاختيار بان ينسب الفعل الى علته القريبة اى إرادة العبد ويقطع النظر عن الاسباب السابقة فيحكم بانه مختار ، او ينسب الى جميع سلسلة الاسباب المنتهية الى الإرادة الازلية فيحكم بانه مجبور.

٥٥٦

المذهب الخامس للعرفاء ومن اتبع سلوكهم فى هذا المسلك كالحكيم الشيرازى والحكيم السبزوارى وغيرهما رحمهم‌الله تعالى ، وهو ان الصادر من العبد فعل له وللحق تعالى ، لا بمعنى ان هنا فعلين او للفعل فاعلين ، بل الفاعل كالفعل واحد وهو الحق تعالى فى المظهر الانسانى مثلا ، والفرق بين هذا المذهب ومذهب الاشعرى ان الاشعرى يقول : ان الله تعالى يخلق الفعل فى العبد فهو تعالى خالق للفعل والعبد محل له من دون ان يكون له سلطان على فعله ، والعارف يقول : ان الله تعالى تجلى بنوره وتنزل وظهر بوجوده فى المظهر الانسانى ويفعل فعله ويستند الفعل الى الله عز وجل بما هو تعالى تجلى فى الانسان ، انظر ما قال المولى صدرا فى رسالته فى خلق الاعمال وما نقلت عن مفتاح الغيب والنصوص للقونوى فى المسألة الثالثة عشرة فى الفصل الثانى وغير ذلك من كلماتهم فى كتبهم فانى لا اطيل الكلام بذكرها.

فاقول : مبنى هذا المذهب هو القول بوحدة الوجود والحلول والاتحاد وانه ليس فى دار الوجود الا موجود واحد يتعين بالتعين الخلقى ويتجلى فى الصور والمظاهر الامكانية بعد تعينه بذاته نازلا عن المرتبة الاحدية الى منازل الاشياء المختلفة محدودا بحدودها على ما فصل فى زبرهم ، فاذا كان له التعين الخلقى فلا خلق بل هو بصور الخلق فصفات الخلق وافعاله صفاته وافعاله تعالى ، وقد مضى فى المسألة الثالثة عشرة فى الفصل الثانى بطلان هذا المبنى وان معيته تعالى مع الاشياء ودخوله فيها انما هو بلا كيفية ولا تحدد بالحدود الامكانية ولا تعين بالتعينات الخلقية ولا اتصاف بالصفات المختلفة ولا بتفاوت وتغير بالتغيرات اللازمة للاشياء ولا تعدد صور بتعدد الاسماء على ما هو مذهب ائمتنا صلوات الله عليهم اقرب الخلائق الى الحق واعرف العارفين بالرب تعالى عما يقول الواصفون علوا كبيرا ، فراجع.

المذهب السادس للائمة الطاهرين صلوات الله عليهم واتباعهم من العلماء المتقين اهل التسليم واليقين ، فاعلم ان الممكن محتاج الى الواجب بالذات فى وجوده وبقائه وشئونه وافعاله وكما ان وجوده ممكن كذلك افعاله ممكنة فلا استقلال له فى شيء ، فبيده تعالى ملكوت كل شيء وله الملك مطلقا وله القوة جميعا ، فهو خال بذاته عن الكل

٥٥٧

وواجد بمبدئه لكل ما له فى حدوده ، وهو تعالى لا حد له وما لا حد له لا يستند إليه ما يستند الى المحدود بما هو محدود لوجوب التحدد فى المستند إليه فى هذا الاستناد ، بل المستند الى الحق تعالى ايجاد المحدود وابقاؤه واعدامه وتنقيصه وتزييده واعطاؤه ومنعه وتخليته وغيرها من الافاضات والمنوع ، فالقوى بقيد الحد للمحدود ، والمحدود بحده له تعالى وفى قبضته ، فلكل محدود احكام حدوده ، لا تستند تلك الاحكام الى الّذي ليس له حد ومنتهى كما لا يستند وجود المحدود بما هو محدود إليه لتنافى الحدية واللاحدية ، بل المنسوب إليه وجوده بلا حده وتحديد وجوده بحده ، فحركات الانسان بما هى حركات الانسان ليست بحركات صادرة من الله تعالى عن ذلك كما يقول العارف او الجبرى بل من الانسان ، ولكنه تعالى له ملك الايجاد وملك التصرف وملك الاختيار فيه وفى جميع شئونه وحركاته قبلا ومعا وبعدا ، لا كما يقول المعتزلى بانقطاع عونه وسلطنته عنه وعن شئونه ، هذا ما اثبته الصادر عن معادن العلم والحكمة صلوات الله عليهم ، ويساعده العقل والوجدان والفطرة والاعتبار والبرهان ، وهو الامر بين الامرين المشهور عنهم عليهم‌السلام.

ثم ان ما ينسب الى الانسان ينقسم الى ما لا يكون باختياره كالمرض والصحة والموت والحياة وغيرها فيقع له من اسبابه فلا ذم له به ولا مدح ، لكنه تعالى يعوضه فى الآخرة بفضله ان كان مما تأذى به وتألم فى الحياة الدنيا مع الايمان ، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى فى المسألة الرابعة عشرة ، والى ما يكون باختياره فيقع له باسبابه التى منها الاختيار الّذي قد مر بيان انه ذاتى للانسان بل كل قادر ، فيتعلق به التكليف وسيأتى تفصيله إن شاء الله تعالى فى المسألة الحادية عشرة ، وقد مر فى المسألة الخامسة ما له ارتباط بهذا المبحث فلا تغفل عنه.

قول الشارح : وقال آخرون انه استدلالى ـ قد مر بعض ادلة المعتزلة فى استناد الإرادة الى العبد فى المسألة الخامسة ، وذلك يكفى للاستدلال لهذه المسألة.

وقال الفخر الرازى فى الاربعين : واما المعتزلة فكلامهم فى هذا البحث فى غاية البسط الا انه يرجع الكل الى حرف واحد ، وهو انه لو لا الاستقلال بالفعل

٥٥٨

لكان الامر والنهى والمدح والذم والثواب والعقاب باطلا ، والجواب ان هذا السؤال لازم عليكم أيضا من ستة اوجه ، ثم عدّ الستة ، ثم قال : فان قيل هب ان هذا الاشكال لازم على الكل ، فما الحيلة لنا ولهم فى دفعه ، قلنا : الحيلة ترك الحيلة والاعتراف بانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وانه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، انتهى كلامه بعينه.

اقول : الحيلة ترك العصبية والتقليد عن رؤساء الفرق والحرية فى التفكير والرأى وحفظ نورانية الفطرة بالتقوى والالتجاء الى باب العلم والحكمة الّذي فتحه الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الامة وامرهم بالاتيان إليه عند تراكم الظلمات وتخالف الاهواء وتشتت الآراء ، ودونك الكلام الكافى الوافى الشافى لهذه المعضلة فيما روى عنهم عليهم‌السلام فى الكافى والتوحيد والبحار وغيرها فى ابواب الإرادة والمشية والاستطاعة ، والقضاء والقدر ، والجبر والتفويض والامر بين الامرين ، والهداية والضلالة والشقاوة والسعادة ، والطينة والميثاق.

قول الشارح : ضرار بن عمرو ـ قال الشهرستانى فى الملل والنحل : الضرارية من الجبرية اصحاب ضرار بن عمرو وحفص الفرد ، واتفقا فى التعطيل ، وعلى انهما قالا : البارى تعالى عالم قادر على معنى انه ليس بجاهل ولا عاجز ، واثبتا لله سبحانه ماهية لا يعلمها الا هو ، الى ان قال : وقالا : افعال العباد مخلوقة للبارى تعالى حقيقة ، والعبد مكتسبها حقيقة ، وجوزا حصول فعل بين فاعلين الخ ، اقول : كان ضرار فى البصرة قبل ابى الهذيل العلاف المعتزلى ، وكان حفص معاصرا لابى الهذيل ، وكانا من المعتزلة الا انهما خالفاهم فى اشياء منها كون افعال العباد مخلوقة لله تعالى ، فاشتهرا بالجبر.

قول الشارح : والنجار ـ بواو العطف على ضرار ، وفى بعض النسخ سقطت من قلم النساخ فيوهم ان النجار لقب لضرار

قال ابن النديم فى الفهرست : النجار ابو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله النجار وكان حائكا فى طراز العباس بن محمد الهاشمى ، من جلة المجبرة ومتكلميهم ، وقد

٥٥٩

قيل انه كان يعمل الموازين من اهل بم ، واذا تكلم كان كلامه صوت الخفاش ، وكان من اهل الناظرين ، وله مع النظام مجالس ومناظرات ، ثم ذكر سبب موته ، ثم ذكر له أربعة وعشرين كتابا ، وقال الكيلانى فى ذيل الملل والنحل : يطلق بعضهم على النجارية اسم الحسينية ، ومات النجار فى حدود سنة ٢٣٠.

اقول : النجار كان من المعتزلة كضرار لكنه انفرد عنهم باشياء ، وكان معروفا بالرازى كما فى كتاب اللباب لابن الاثير ، وكان اكثر معتزلة الرى وما حواليها على مذهبه ، والنجارية فرق ثلاث : برغوثية ، زعفرانية ، مستدركة كما فى الملل والنحل.

قول الشارح : وحفص الفرد ـ قال ابن النديم فى الفهرست : حفص الفرد من المجبرة ومن اكابرهم نظير النجار ، ويكنى أبا عمرو ، وكان من اهل مصر ، قدم البصرة فسمع بابى الهذيل ، واجتمع معه وناظره فقطعه ابو الهذيل ، وكان أولا معتزليا ثم قال بخلق الافعال ، وكان يكنى أبا يحيى ، ثم عدّ له ستة كتب.

قول الشارح : ابو اسحاق ـ قال المحدث القمى رحمه الله تعالى فى الكنى والالقاب : وقد يطلق الأسفراييني على ركن الدين ابى اسحاق ابراهيم بن محمد بن ابراهيم الفقيه الشافعى المتكلم الاصولى الّذي اخذ عنه الكلام عامة شيوخ نيسابور صاحب كتاب اصول الدين والرد على الملحدين ، يحكى عن صاحب بن عباد انه كان اذا انتهى الى ذكر ابن الباقلانى وابن فورك والأسفراييني وكانوا متعاصرين من اصحاب ابى الحسن الاشعرى قال لاصحابه : ابن الباقلانى بحر مغرق وابن فورك صل مطرق والأسفرايين نار تحرق ، توفى ابو اسحاق يوم عاشوراء سنة ٤١٨ ( تيح ) بنيسابور ثم نقل الى اسفرايين ودفن بها ، واسفرايين بكسر الهمزة وسكون السين وفتح الفاء بلدة بخراسان من نواحى نيسابور ، انتهى ، وللرجل مع القاضى عبد الجبار المعتزلى فى دار الصاحب بن عباد قصة مشهورة ، هى ان القاضى دخل دار الصاحب فاذا ابو اسحاق بالدار فقال تعريضا عليه : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، فقال ابو اسحاق بلا فصل : سبحان من لا يجرى فى ملكه الا ما يشاء ، والكلامان كلاهما حق والجمع بينهما هو الامر بين الامرين ، لكن الخصمان اختصموا فى ربهم ولم يلحقوا النمط الاوسط اذ لم يفهموا حقيقة الكلامين.

٥٦٠