توضيح المراد - ج ١

السيد هاشم الحسيني الطهراني

توضيح المراد - ج ١

المؤلف:

السيد هاشم الحسيني الطهراني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
المطبعة: المصطفوي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

قوله : لا لانتفاء المرئى فى نفسه ـ يعنى انتفاء رؤية اللون فى الظلمة ليس لانتفاء اللون المرئى فى نفسه لانتفاء شرط وجوده كما يقول الشيخ ولا لمانعية الظلمة عن الرؤية بل لانتفاء شرط الرؤية وهو الضوء.

قول المصنف : قابلان للشدة والضعف المتباينان نوعا ـ هكذا فى النسخ وسائر الشروح ، والقاعدة تقتضى جرّ المتباينان لانه نعت للشدة والضعف ، ولكن يمكن ان يقال انه نعت مقطوع اذ هو فى المعنى نعت للشديد والضعيف ، وقال الشارح القوشجى : ان تقدير الكلام : قابلان للشدة والضعف فيكون فى كل من الضوء واللون الاشد والاضعف المتباينان.

قول الشارح : فاعلم ان الشديد فى كل نوع مغاير الخ ـ بيانه ان بين طرفى اللون وطرفى الضوء وكذا غيرهما من الكيفيات القابلة للشدة والضعف كالصوت والحرارة والبرودة وامثالها مراتب لا تحصى بحسب الشدة والضعف ، كل مرتبة شديدة بالنسبة الى ما دونها ضعيفة بالنسبة الى ما فوقها ، وكل مرتبة نوع مخالف فى الحقيقة لمرتبة اخرى ، وهذا لا يحتاج الى مئونة استدلال لان كل مرتبة من حيث هى تلك المرتبة حقيقة مغايرة لمرتبة اخرى ، فذات الشديد والضعيف مع قطع النظر عن وصف الشدة والضعف كيفية واحدة بالحقيقة فى جميع المراتب هى حقيقة الضوء ، واما الشديد من حيث هو شديد مباين للضعيف من حيث هو ضعيف ، ولذلك لم يأت الشارح العلامة بما اتى غيره من الدليل فتأمل.

قوله : وقد بينا خطأهم فيما تقدم ـ اشار الى هذا المطلب فى المسألة السادسة والثلاثين من الفصل الاول من المقصد الاول فى ذيل قول المصنف والوجود المعلوم هو المقول بالتشكيك ، وفى ذيل قول المصنف آنفا : وطرفاه السواد والبياض المتضادان.

قوله : يحدث عند المقابلة ـ اى يحدث فى المستضيء عند مقابلته للمضيء.

قول المصنف : وهو ذاتى وعرضى ـ الضوء الذاتى هو ما يكون من نفس الجسم النير كضوء الشمس وضوء النار وهذا يسمى ضوءا وضياء ، والضوء العرضى

٣٢١

ما يحصل للجسم من غيره كالضوء الحاصل فى القمر والارض والهواء من الشمس وهذا يسمى نورا كما فى قوله تعالى : ( جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ).

قوله : واوّل وثان ـ هذان قسمان للضوء العرضى فانه اما اوّل وهو الّذي يحصل للجسم من غيره بلا واسطة كالامثلة التى مضت ، واما ثان وهو الّذي يحصل للجسم بواسطة غيره كنور القمر الواقع على الارض فى الليل وكنور الهواء الواقع على الارض قبل طلوع الشمس بعد طلوع الفجر فانه ضوء الشمس يقع على كرة الهواء أولا لانها فوق الارض ومنها يقع على الارض ثانيا ، واما بعد طلوع الشمس فضوؤها يقع على الارض بلا واسطة ، وليس المراد بالواسطة الجسم المتوسط بين المضىء والمستضيء بحسب المكان بل الواسطة فى الإضاءة.

قول الشارح : وفى هذا نظر ـ هذا النظر مدفوع بتشريح الدليل وهو ان الظلمة لو كانت كيفية وجودية لكانت كيفية وجودية مبصرة اذ لا يتصور ان تكون كيفية نفسانية او استعدادية او مختصة بالكميات او كيفية محسوسة ملموسة او مذوقة او مسموعة او مشمومة ، ولو كانت كيفية وجودية مبصرة لحصل الفرق بين فتح العين وغمضها فى الظلمة المحضة والملازمة ظاهرة والتالى باطل بالوجدان فليست كيفية وجودية مبصرة ولا غير مبصرة.

المسألة السابعة

( فى البحث عن المسموعات )

قول المصنف : وهى الاصوات الحاصلة الخ ـ يمكن ان يقال : ان الصوت كيفية تحصل من الجسم بسبب الضغط الوارد عليه ، وليس لتموج الهواء دخل فيه ، والصوت الحاصل فى الهواء أيضا لوقوع الضغط عليه ، فلو كان الصوت حاصلا من تموج الهواء لما كان لهذا الاختلاف الكثير فى الاصوات سبب بل كان الاختلاف واحدا هو الاختلاف بالشدة والضعف فكلما كان التموج اشد كان الصوت اشد وكلما كان اضعف كان اضعف ، ولكن ليس كذلك لان الاصوات مختلفة اختلافا

٣٢٢

كثيرا بحسب الاختلافات الحاصلة فى الاجسام من الصغر والكبر واللين والصلابة والميعان واليبوسة والبلة والجفاف والخفة والثقل والتكاثف والتخلخل والبساطة والتركيب وغيرها مما لا نحصيه ، فتأمل فى محال الاصوات المختلفة ، ومن ذلك لا يجب قيام الصوت بالهواء او بالجسم المائع كما هو ظاهر كلمات القوم ، بل يقوم بكل جسم كان ، وبذلك يندفع كثير اشكال فى السمع والمسموع ، والشاهد على ما قلنا انك قد تسمع صوتا شديدا او ضعيفا وليس هناك تموج معلول لقرع او قلع بعنف ومقاومة كالصوت المسموع من المزمار المنفوخ فيه والصوت المسموع من الزق المنفوخ فيه الّذي تقع فيه ثقبة وتخرج منه الريح ، وليس لصرف التموج علية للصوت كما هو ظاهر لمن يحرك يده فى الهواء ، فالصوت فى المثالين معلول للهواء الخارج بضغط من الزق والمزمار ، ويؤيد المطلب بانه يحدس ان انسانا لو دخل جوف صندوق من نحاس او صفر او حديد ضخيم الجدار وكان ثابتا فى الارض جدا بحيث لا يتحرك اصلا ولم يكن له ثقبة وفرجة الى الخارج حتى من بابه وبقى فيه حيا زمانا ما وضرب آخر مدقة عليه من الخارج لسمع صوتا وليس بين صماخه ومحل القرع جسم مائع متموج يحمل الصوت فحامل الصوت جدار الصندوق.

قول الشارح : جوهر ينقطع بالحركة ـ اى جسم ينفصل عن الجسم المتحرك بالشرائط التى تجب فى تكون الصوت ، كما قيل فى الرائحة من انها اجزاء متحللة منفصلة من الجسم ذى الرائحة على ما مر فى المسألة الثالثة عشرة من الفصل الرابع.

قول المصنف : فى الخارج ـ متعلق بالحاصلة اى ومن الكيفيات المحسوسة المسموعات وهى الاصوات الحاصلة فى خارج الصماخ خلافا لقوم ذهبوا الى انه انما يحصل عند الصماخ.

قول الشارح : خلافا للكرامية ـ قال الشيخ فخر الدين الطريحى رحمه‌الله فى مجمع البحرين : كرام بفتح الكاف والتشديد والد ابى عبد الله محمّد بن عبد الله بن المشبه الّذي اطلق اسم الجوهر على الله تعالى وانه استقر على العرش والكرامية

٣٢٣

منسوبون إليه.

قول المصنف : ولا يعقل غيره ـ هذا النزاع بين المعتزلة والاشاعرة من اطول النزاعات ذيلا وابشعها ذوقا واقلها فائدة ، ثم لا شبهة ان فى نفس المتكلم بالكلام المنتظم من الحروف شيئا من تصور او تصديق او إرادة او كراهة او إرادة اختبار او هزل او غير ذلك يتبعه الكلام ويقال لذلك الشيء مدلول الكلام كما يحصل فى نفس السامع شيء بذلك الكلام ، فالاشاعرة القائلون بالكلام النفسى ان اصطلحوا على وضع الكلام النفسى لتلك الامور التى هى ما يقع فى نفس المتكلم ويتبعه الكلام المنتظم من الحروف وسموه مدلول الكلام اللفظى كما هو ظاهر الشارح القديم فلا مشاحة معهم اذ النزاع يرجع حينئذ لفظيا لانهم سموا مدلول الكلام فى نفس المتكلم الّذي هو اما تصور او تصديق او إرادة او كراهة او غير ذلك كلاما نفسيا ، وان ارادوا ان فى النفس شيئا غير تلك الامور هو الكلام النفسى كما هو ظاهر بعضهم فهو خرص محض وجهل صرف اذ لم يظفر احد بماهيته ولا استدل على وجوده ، والى هذا اشار المصنف بقوله : ولا يعقل غيره اى غير المنتظم من الحروف.

قول الشارح : ومغاير لتخيل الحروف ـ تخيل الحروف قد يكون تابعا لها كتخيل السامع لها ، وقد يكون من دون التبعية بل يكون تخيلها نفس وجودها كتخيل الواضع لها ارتجالا ، وقد يكون متبوعا لها كتخيل المتكلم بها فان المتكلم يتخيل الحروف أولا ثم يلفظها ، فالاستدلال على المغايرة بكون التخيل تابعا للحروف ومختلفا باختلافها لا يفيد شيئا ، مع ان تخيل الحروف تابعا كان او متبوعا او لا تابعا ولا متبوعا ليس الا تصورها.

قوله : لان تخيلها تابع لها ـ وما فى النفس ليس بتابع لها بل متبوع فينتج من الشكل الثانى ان تخيلها ليس هو ما فى النفس ، وقد عرفت فساد هذا الدليل اذ تخيلها للمتكلم متبوع لها.

قوله : وهذا المعنى لا يختلف ـ هذا المعنى لم يبين ماهيته ولن تبين حتى يحكم بانه يختلف أو لا يختلف.

٣٢٤

قوله : وليس الطلب مغايرا لها ـ لا شبهة ان الطلب النفسى الحقيقى عين الإرادة النفسية الحقيقية اذ كل ما تعلقت به الإرادة النفسية من الامور المباشرية او غير المباشرية فهو مطلوب محبوب للنفس من تلك الحيثية التى تعلقت بها الإرادة ، فاستدلال الاشاعرة بان الآمر اختبارا او تهديدا طالب غير مريد اذ ليس له حقيقة إرادة لما امر به مردود بانهم ان ارادوا بها إرادة ما امر به فليس فى نفسه طلب له أيضا بالوجدان وطلبه ليس الا بحسب ظاهر اللفظ الّذي سماه بعض طلبا انشائيا ، وان ارادوا بها إرادة الاختبار او التهديد فانه مريد له فى نفسه يقينا كما انه فى نفسه طالب له أيضا ، واما ما امر به فهو طالب ومريد له بحسب اللفظ فقط ، وعلى هذا يرجع ادعاء الاشاعرة الى ان الطلب بحسب اللفظ مغاير للارادة الحقيقية النفسية ويرجع قول المعتزلة الى ان الطلب الحقيقى النفسى غير مغاير للارادة الحقيقية النفسية ويصير النزاع لفظيا ، وهذا النزاع اللفظى الّذي اشار إليه الشارح العلامة غير ما مر فى اصل المطلب اذ هذا فى تغاير الطلب والإرادة وعدم تغايرهما وذاك فى ثبوت الكلام النفسى وعدمه ، وصاحب الشوارق اخطأ فى تقرير النزاع اللفظى فى اصل المطلب حيث قال : وعلى تقدير ثبوت معنى آخر فهل يصح اطلاق لفظ الكلام عليه أم لا وهذا نزاع لفظى انتهى ، اذ النزاع حقيقة فى ثبوت معنى آخر وعدمه ولو ثبت فالمعتزلة لا يسمونه الا كلاما نفسيا فتقرير النزاع اللفظى فى اصل المطلب هو ما مر أولا موافقا للشارح القديم.

المسألة العاشرة

( فى البحث عن الكيفيات الاستعدادية )

قول المصنف : والاستعدادات الخ ـ المراد بهذا الاستعداد هو الكيفية الحاصلة فى الجسم التى تهيؤه لقبول اثر ما او امتناعه ، وهذا القبول اما بسهولة وسرعة واما بصعوبة وبطء ، فان الدهن مثلا سهل وسريع فى قبول ما يرد عليه من آثار الاجسام والبدن الممراض سريع وسهل فى قبول ما يرد عليه من الامراض وبعض

٣٢٥

الاجسام سهل وسريع فى قبول الروائح والطعوم من ذوات الطعوم والروائح تجاوره وبعض الابدان كبدن الحية سهل وسريع فى قبول البرودة ، واما الحديد والبدن المصحاح وبعض الاجسام وبعض الابدان كبدن الكلب على خلاف ذلك لها صعوبة وبطء فى قبول تلك الامور ، وهذه الاستعدادات وامثالها فى الاجسام مختلفة المراتب وطرفا المراتب استعداد شديد للانفعال بحيث لا بكون للجسم المستعد مقاومة اصلا بالنسبة الى المؤثر وهذا يسمى باللاقوة واستعداد شديد للاانفعال بحيث يكون له مقاومة تامة بالنسبة إليه وهذا يسمى بالقوة ، والمراد بطرفى النقيض هما الاستعدادان الشديدان فى الغاية وبين الطرفين مراتب متوسطة لا تحصى ، وبعض هذه الاستعدادات له لفظ موضوع كاللين والصلابة وبعضها ليس له ذلك.

اقول : نظير هذه الاستعدادات فى الاجسام موجود فى النفوس ولا بأس بتسميته كيفية استعدادية نفسية كما ان بعض النفوس سريعة وسهلة فى قبول العقائد الباطلة والاخلاق الرذيلة وبعضها صعبة وبطيئة فيه وكذا فى قبول العقائد الحقة والاخلاق الفاضلة يوجد القسمان ، وكذا بعض النفوس تتأثر بسرعة من الملمات وتتوجع وتفزع وبعضها على عكس ذلك ، وكذا بعضها تختجل وتستحيى شديدا او غير شديد من القبائح وبعضها ليست كذلك ، وبعضها تأخذها الرحمة بادنى شيء وبعضها صاحبة قساوة كالحجارة او اشد قسوة لا تتأثر من شيء ، وامثال ذلك من قبول العلوم والمعارف وغيرها ، وكل ذلك استعدادات نفسية نحو الانفعال الشديد واللاانفعال وما بينهما.

قول الشارح : وهى ما يرجح به القابل الخ ـ يعنى ما يستعد به القابل لقبول الاثر ، وقبوله اما فى جانب الراجحية بان يكون سهلا سريعا او فى جانب المرجوحية بان يكون صعبا بطيئا ،

قوله : اعنى الوجود والعدم ـ يعنى وجود الانفعال وعدم الانفعال ، وقد مر ان طرفى الاستعدادات الموجبة للقبولات المختلفة استعداد يوجب الانفعال التام بحيث لا يوجد هنا مقاومة اصلا واستعداد يوجب اللاانفعال بحيث يوجد هنا مقاومة تامة.

٣٢٦

قوله : وذلك لان الرجحان الخ ـ يعنى ان الاستعداد لا يزال يتزايد الى احد الطرفين حتى ينتهى الى الاستعداد الّذي يوجب الانفعال التام او الى الاستعداد الّذي يوجب اللاانفعال ، وتسمية الاستعداد بالرجحان لان به ان يترجح الانفعالات بعضها على بعض الى ان ينتهى الى الانفعال التام كما صرح فى قوله. هى ما يرجح به القابل ، والحاصل ان الاستعدادات لها طرفان هما أيضا استعدادان لكن احدهما استعداد للانفعال التام والاخر استعداد للاانفعال ، فالوجود والعدم فى الطرفين يضافان الى الانفعال لا الى الاستعداد.

قوله : المتوسط بين طرفى الوجود والعدم الخ ـ هذه العبارة توهم ان الوجود والعدم يضافان الى الرجحان المراد به الاستعداد ولكن لا بد من صرفها الى ما قلنا لان اللاانفعال الملازم للمقاومة التامة لا يتصور من دون استعداد يقتضي ذلك.

قوله : نحو الفعل ـ اى نحو اللاانفعال الملازم للمقاومة ومراده بالفعل هو المقاومة.

المسألة الثانية عشرة

( فى البحث عن العلم بقول مطلق )

قول الشارح : وهو العلم خاصة ـ العلم التصديقى له معنى خاص وهو المذكور هنا ويخص باسم اليقين وقد عدّ له مراتب ثلاث : علم اليقين ، عين اليقين ، حق اليقين ، وما يقابله لا يسمى الجهل بقول مطلق اذ التقليد ليس بجهل ، وقد يطلق العلم على الشامل لهذا والظن والتقليد والجهل المركب وهذا هو العلم بالمعنى الاعم ، ويقابله الجهل البسيط وهو عدم اولوية نسبة القضية فى احد الطرفين سواء لم يكن فى النفس تصور النسبة اصلا او كان ولم تترجح الى احد الطرفين.

والحاصل ان لوح النفس اما ان لا يكون فيه صورة واما ان يكون ، والثانى هو التصور بقول مطلق ، وهو اما بلا حصول النسبة او مع حصولها ، والثانى اما ان

٣٢٧

لا يكون رجحان فى احد الطرفين وهو الشك ، واما ان يكون ، والثانى اما ان لا يصل الى حد الجزم وهو الظن فى جانب الراجح والوهم فى جانب المرجوح ، واما ان يصل إليه ، والثانى اما بلا مطابقة للواقع وهو الجهل المركب ، او مع المطابقة له ، والثانى اما ان يحصل بلا برهان وهو التقليد ، واما مع البرهان وهو العلم الخاص المسمى باليقين.

قوله : فان الكيفيات الوجدانية الخ ـ هذا مردود بان الكيفيات الوجدانية ظاهرة بمصاديقها وافرادها لا بمفاهيمها وماهياتها ، وذلك لا يفيد الاحاطة بماهياتها بل الامتياز عما عداها كما ان انسانا لو عرف زيدا وميزه عن عمرو وعن شخص حجر او شجر لا يفيده ذلك الا الامتياز لا العلم بحقيقته وماهيته ، ولو كان كون الشيء وجدانيا مفيدا للعلم بماهيته وموجبا لصيرورته بديهيا عند النفس لما اختلف العقلاء فى ماهيات كثير من الوجدانيات والعلم منها.

قوله : ولان غير العلم الخ ـ هذا أيضا مردود بان غير العلم يعلم بصورة شخصية من العلم وهى لا يعلم بغير العلم حتى يلزم الدور بل المعلوم بغير العلم هو كلى العلم وماهيته كما ذكر فى اوّل المبحث ان العلم هو حصول صورة الشيء فى الذهن.

قوله : وكلاهما غير مانعين ـ هذا حق لو اخذ التعريفان للعلم بالمعنى الاخص واما لو اخذا للعلم بالمعنى الاعم فلا بل يكونان غير جامعين ، اللهم الا ان يراد الاعم الخارج منه الظن.

المسألة الثالثة عشرة

( فى ان العلم هو الصورة الحاصلة فى الذهن ذات الاضافة لا غيرها )

قول الشارح : على ما تقدم ـ فى المسألة العاشرة من الفصل الثانى من المقصد الاول عند قول المصنف : والاتحاد محال.

قوله : جعل العلم امرا وراء الصورة ـ اى جعله صفة ذات الاضافة غير الصورة

٣٢٨

فحينئذ يتصور وحدة العلم وتعدد المعلوم ، واما على مذهب من جعله نفس الاضافة فتعدد المعلوم يقتضي تعدد العلم أيضا لان تعدد احد طرفى الاضافة يوجب تعدد الاضافة وان كان الطرف الاخر كالنفس فيما نحن فيه واحدا.

قول المصنف : كالحال والاستقبال ـ مثال لاختلاف المعلوم المقتضى لاختلاف العلم واشارة الى ما فى الشرح.

قول الشارح : علم بالحال عند حضور الاستقبال ـ اى العلم المتعلق بالامر المستقبل الآن عين العلم المتعلق به حين حضور الاستقبال اى حين يصير الاستقبال حالا.

قوله : وهذا خطأ فان العلم بان الشيء سيوجد الخ ـ حاصله ان العلم بان الشيء سيوجد مشروط بعدم ذلك الشيء فى الحال وان العلم بانه موجود مشروط بوجوده فى الحال والشرطان متخالفان وكذا المشروطان فالعلم الاول ليس عين العلم الثانى.

قوله : وسيأتي زيادة تحقيق ـ فى المسألة الثانية من الفصل الثانى من المقصد الثالث.

قوله : والّذي يلوح منه الخ ـ توضيحه ان القائلين بان العلم هو الصورة الحاصلة من المعلوم فى العالم يتوجه عليهم اشكالان عند تعقل الشيء نفسه : احدهما باعتبار الحلول وهو كيف يتصور حلول صورة الشيء فى نفسه ، ولو قيل انه ليس فى نفسه بل فى مادته اجيب ان العاقل مجرد ليس له مادة ، مع انه لو فرضت له مادة لزم اجتماع الصورتين المتماثلتين ، والجواب عنه ان العالم بذاته علمه حضورى يكفى فيه حضور ذاته من غير احتياج الى صورة اخرى وكلامنا فى العلم الحصولى والاشكال الثانى باعتبار الاضافة اللازمة للصورة الحاصلة وهو ان الاضافة تستلزم الطرفين فلا تعقل بين الشيء ونفسه ، والجواب عنه ان المغايرة الاعتبارية كافية لتحقق الاضافة وهى متحققة لان الشيء من حيث هو عاقل مغاير لنفسه من حيث هو معقول.

٣٢٩

اعلم ان الاشكال الثانى يرد أيضا على القائلين بان العلم هو نفس الاضافة من دون ان ينفعهم هذا الجواب وسيأتى بيانه عن قريب.

قوله : ويقوى الاشكال ـ اى يقوى طبيعة الاشكال بسبب تعدد افراده لما مر ان الوارد عليهم اشكالان.

قوله : ولان العاقل هو الشخص الخ ـ هذا الجواب ردّى على كل مذهب على ما يأتى بيانه.

قوله : وهذان رديان ـ اى المذكوران فى الجواب عن الاشكال الثانى الّذي هو اشكال الاضافة.

قوله : فلو جعلنا التعقل الخ ـ اى لو جعلنا التعقل الّذي هو نفس الاضافة على القول به او صورة ذات الاضافة متوقفا على التغاير الاعتبارى لدار ، اما توقف المغايرة على التعقل فلان التعقل لو لم يكن فلا عاقل ولا معقول حتى تحصل المغايرة ، واما توقف التعقل على المغايرة فلان التعقل هو نفس الاضافة او صورة ذات الاضافة والاضافة لا تحصل الا بعد حصول المتضائفين وهما لا يحصلان فيما نحن فيه الا بعد المغايرة.

اقول : هذا الاشكال مدفوع بان علم الشيء بنفسه وتعقله لها هو حضور الشيء لنفسه وهو لا يتوقف على المغايرة ولا حاجة إليها فى تعقل الشيء لنفسه وان كانت المغايرة فى غير العلم الحضورى بين العاقل والمعقول متوقفة على التعقل ، نعم لو التزم الذاهبون الى ان العلم هو نفس الاضافة حتى فى علم الشيء بنفسه فما هذا الاشكال عنهم بمنصرف.

قوله : يكون عالما بجزئه الخ ـ لان الماهية الكلية الانسانية مثلا هى جزء شخص الانسان العاقل لنفسه وليس البحث فيه بل البحث فى علم الانسان بذاته الشخصية

قوله : وانما الموجود ما هى مثال له ـ يعنى ان الموجود فى الخارج تكون تلك الصورة الذهنية مثالا له فهو كالموجود فى الذهن بحسب الماهية ، واما بحسب الوجود فما فى الخارج مستقل وما فى الذهن تابع وكل تابع لغيره فى الوجود

٣٣٠

بالحلول فيه فهو عرض.

المسألة الرابعة عشرة

( فى اقسام العلم )

قول الشارح : قد تقدم ان العلم الخ ـ فى المسألة الثانية عشرة.

قوله : وهو علم واجب الوجود بذاته ـ قال بعضهم ان العلم الواجب هو ما يمتنع انفكاكه عن العالم سواء غفل عنه احيانا كعلمنا ببعض الامور أم لا كعلم الشيء بنفسه ، والممكن ما لا يمتنع انفكاكه عنه.

قول المصنف : وهو تابع الخ ـ اشارة الى نزاع بين المعتزلة والاشاعرة ذكره القوشجى وصاحب الشوارق.

قول الشارح : حكم باصالة المعلوم فى هيئة التطابق ـ يعنى فى صفة التطابق وماهيته وطبيعته.

بيان ذلك ان الاضافات المتشابهة الاطراف كالمساواة والمطابقة والمحاذاة والموازاة وغيرها وان صح بحسب التعبير واللفظ اخذ كل من طرفيها اصلا والاخر فرعا فيقال مثلا هذا مساو لذاك وذاك مسا ولهذا وهذا مطابق لذلك وذلك مطابق لهذا ، ولكن بعضها يقتضي بحسب الطبيعة ومادة الكلمة اصلا ليس فرعا وفرعا ليس اصلا كالمطابقة فان طبيعتها تقتضى شيئا هو الاصل يطابقه غيره هو الفرع وكالموازنة بخلاف المؤاخاة والموازاة والمحاذاة مثلا ، وحيث كانت المطابقة ثابتة بين العلم والمعلوم فاحدهما اصل والآخر فرع ويمتنع ان يكون العلم اصلا لان الاصل لا يزول بزوال الفرع دون العكس والعلم ليس كذلك اذ العلم الحقيقى يزول ذاته بزوال المعلوم واما ذات المعلوم فثابتة وان زال العلم.

قوله : وان ما عليه العلم فرع على ما عليه المعلوم ـ لا يخفى ان الشارح العلامة رحمه‌الله جعل الاصل فى هذه العبارة وعبارته التى تأتى عن قريب ما عليه المعلوم والفرع ما عليه العلم وجعل الاصل فى عبارته السابقة آنفا واللاحقة عن

٣٣١

قريب أيضا نفس المعلوم والفرع نفس العلم فكانّ مراده بما عليه المعلوم هو حاله المقتضى لكونه اصلا وهو ثباته وعدم تغيره بزوال العلم ومراده بما عليه العلم هو حاله المقتضى لمقابل ذلك ، واطلاق الاصل على نفس المعلوم وحاله هذا صحيح وكذا العلم.

قوله : فلزمكم الدور الخ ـ توضيحه ان العلم اذا كان تابعا لم يكن علمه تعالى فعليا بل يلزم انتفاء هذا القسم من العلم رأسا لان العلم الفعلى علة للمعلوم ولا شبهة فى اصالة العلة بالنسبة الى المعلول فلو كان المعلوم أيضا اصلا لدار.

قوله : وتقرير الجواب عن هذا ان نقول الخ ـ لا دخل لهذا فى الجواب بل يقرر الاشكال ، والجواب ما يأتى الاشارة إليه فى كلامه عن قريب.

قوله : ووجه الخلاص من الدور الخ ـ هذا هو الجواب وتوضيحه ان العلم الفعلى ليس علة على الاطلاق للمعلوم بحيث يكون له اقتضاء لوجوده بل هو محصل له فى الخارج بمعنى ان هذا العلم يصير سببا لارادة الفاعل ايجاد المعلول فى الخارج.

قوله : لا بالوضع ـ اى التقدم بالرتبة.

قوله : بالذات ـ اى التقدم بالطبع.

قوله : يمتنع الحكم الخ ـ لان التقدم بالطبع يستلزم التقدم بالزمان او المعية به ، والتقدم بالعلية يستلزم المعية بالزمان ، والتقدم بالزمان ظاهر فى المنافاة فتقدم المتبوع باحد هذه التقدمات ينافى الحكم بتأخره.

قوله : والجواب عنه ما تقدم أيضا ـ اى كون المعلوم متبوعا بالمعنى الّذي قررناه لا يوجب تقدمه على العلم باحد انواع التقدم.

المسألة الخامسة عشرة

( فى توقف العلم على الاستعداد )

قول المصنف : ولا بد فيه من الاستعداد الخ ـ اعلم ان علومنا الحاصلة فى النفس لا بدّ فى فيضانها من الفاعل من استعداد النفس لها اذ هى فى اوّل خلقتها

٣٣٢

خالية عنها فلو لا الاستعداد لما حصلت لها ابدا ، والّذي يعدها للعلوم الضرورية هو احساس المحسوسات بالحواس فان النفس بعد ادراك الجزئيات تحصل لها بسبب التجريد كليات يتركب بعضها مع بعض فتحصل لها ضروريات تصورية وتصديقية ، والّذي يعدها للعلوم النظرية هو هذه الضروريات ، والنظريات لها مراتب بعضها يتقدم على بعض ، ويمتنع ان يكون النفس هى الفاعل المفيض لهذه العلوم لاستحالة كون الشيء الواحد فاعلا وقابلا لما مر فى المسألة السادسة من الفصل الثالث من المقصد الاول ، فاختلفوا فى الفاعل المفيض ، فالحكماء ذهبوا الى انه العقل الفعال كما انه المفيض بمدد الحق تعالى لسائر الافاضات على عالم الكائنات ، والاشاعرة ذهبوا على مبناهم الى انه الله تعالى فان عادته جرت باعطاء العلم عقيب المقدمات ، واما المعتزلة فذهبوا الى ان المقدمات مولدة للنتائج ، هذا فى النظريات واما الضروريات فقال الشارح العلامة رحمه‌الله ان فاعلها هو الله تعالى بمعنى ان النفس اذا خلقها الله تعالى بحواسها وقواها فلا تحتاج فى حصول تلك الضروريات بعد الاحساس والادراك والالتفات الى المدركات الى شيء آخر.

قول الشارح : والا لم ينفك منه ـ اى ان الفاعل لو اخرج المقبول من القوة الى الفعل لكان واجدا للمقبول وكان المقبول غير منفك عنه فلا يعقل قبوله له اذ القابل لا بدّ ان يكون خاليا من المقبول.

قول الشارح : بين كليات تلك المحسوسات ـ متعلق بالتصديقات اى التصديقات بالنسب الواقعة بين الكليات سلبا او ايجابا.

قوله : فانها مستفادة من النفس ـ اشارة الى مذهب المعتزلة يعنى مستفادة من القياسات التى يركبها النفس بالقوة المتفكرة ، واما نفس النفس فليست فاعلة لها لما مر من انها قابلة.

قوله : او من الله تعالى ـ اشارة الى مذهب الاشاعرة.

قوله : الى المقدمات الضرورية ـ الضروريات اما ذاتية اولية وهى التى مر الكلام فيها ، واما عرضية ثانوية وهى النظريات التى صارت معلومة للنفس بسبب

٣٣٣

البرهان والقياس ، وكلتا الطائفتين تصير مقدمة للنظريات الغير الحاصلة.

المسألة التاسعة عشرة

( فى كيفية العلم بذى السبب )

قول المصنف : وذو السبب انما يعلم به كليا ـ هذا الكلام ينحل الى قضيتين والحصر راجع الى كل منهما الاولى ان الممكن المعين لا يعلم وجوده او عدمه الا بوجود سببه او عدمه ما لم يعلم باحساس او إلهام او اخبار صادق او غير ذلك ، وقيد التعيين لتصحيح الحصر اذ الممكن يعلم وجوده او عدمه بوجود مسببه او عدمه لكن العلم بالمسبب لا يستلزم العلم بالسبب المعين بل بسبب ما واما العلم بالسبب يستلزم العلم بالمسبب المعين ، والقضية الثانية ان ما يعلم بسببه لا يعلم الا على الوجه الكلى هكذا فسر الشارحون ، ولكن ظاهر عبارة المصنف لا يحتمل الا القضية الثانية ، والحصر راجع الى قوله : كليا لان الحمل عليهما وارجاع الحصر إليهما يحتاج الى كثير تقدير والاصل خلافه ، نعم ينحل الى قضيتين اذا ارجع الحصر الى الثانية فقط بان يقال ذو السبب يعلم بسببه وما علم بسببه لا يعلم الا كليا ، وهذا اشارة الى ما عليه الحكماء من ان الواجب تعالى يعلم الجزئيات على الوجه الكلى لان علمه بها انما هو من طريق اسبابها وعللها لا باحساس او حدس او اخبار او إلهام إليه لانه تعالى منزه عن ذلك كله ، وتوهم بعض انهم نفوا علمه تعالى بالجزئيات رأسا وهو خطأ فى فهم مرادهم ، وتفصيل الكلام فى مظانه.

قول الشارح : لانه بدون السبب ممكن الخ ـ تعليل للقضية الاولى ، والعجب من الشارح العلامة رحمه‌الله اذ لم يأت بالقيود التى يصحح بها الحصر فى القضية الاولى كما اتى بها غيره.

قوله : لان كونه صادرا الخ ـ توضيحه ان الألف اذا علم انه يصدر منه الباء حصل العلم بالباء الكلى لان نفس تصوره لا يمنع الشركة وحصل أيضا العلم بانه صادر منه وتقييد الباء بهذا القيد لا يقتضي الجزئية بل يقتضي الكلى المركب وهو

٣٣٤

الباء الصادر من الألف.

قوله : وصفاته الكلية ـ عطف على كسوفا اى وعقلت صفاته الكلية من جهة اسبابها.

قوله : نوعا مجموعا فى شخصه ـ اى نوعا حاصلا مجتمعا مع نوع غيره فى شخص الكسوف مثلا.

قوله : كان العلم به كليا ـ اى كان العلم به على الوجه الكلى لا ان العلم نفسه كلى.

بيان ذلك ان الشخص الموجود مجمع للكليات الذاتية والعرضية مع التشخص والوحدة ، فتارة يتعلق به الاحساس فيدرك عرض من اعراضه او يدرك كلى من كلياته بتجريده عما احتفّ به او يحكم بوجوده باحساس وامثاله او يستدل عليه باثر من آثاره او يستدل على حيثية من حيثياته باثر مناسب لتلك الحيثية ، وكل من هذه الادراكات ناقص بالنسبة الى ذلك الموجود يغيب كل عن الاخر فانك اذا احسست بياض الجسم مثلا لا يمكنك فى هذا المقام ان تتعقل طبيعة البياض ولا طبيعة الجسم واذا تعقلت ذلك لا يمكنك فى مقام التعقل ان تحكم بوجوده فى الخارج ومتعلقات وجوده ، ومع ذلك لا يمكنك ان تدرك هذه الامور بالكنه ولا ان توقن بها كما توقن بذاتك ، وأيضا لست تدرك الشخص بحقيقته اى لا تدرك حقيقة الوجود بل مفهومه المحمول عليه وعلى غيره ، هذا حال علمنا وادراكنا للاشياء.

واما الّذي يدرك الاشياء بالاحاطة بعللها المتصلة إليه فهو يدرك كل موجود بحقيقته ويدرك كل كلى حاصل فيه بحقيقته وذاته لا يغيب عنه حيثية من حيثياته بل كلها بحقائقها حاضرة عنده حاصلة لديه ، وكذا حال ما هو علة له او معلول له فيعلم الروابط الحاصلة بين العلل والمعلولات ولا يعزب عن عمله مثقال ذرة فى الارض ولا فى السماء ولا اصغر من ذلك ولا اكبر الا فى كتاب مبين ، وهذا اشرف انحاء الادراك واعلاها وهو اللائق بالذى تنزه عن مجانسه المخلوقات ، وهذا هو العلم بالجزئى على الوجه الكلى فهو العلم بحقيقة كل كلى فى ضمن الجزئى بسبب العلم

٣٣٥

بعلتها ، وهذا العلم لا ينفك عن العلم بارتباط كل حقيقة مع ما معها فيحصل العلم بالحقائق المجتمعة التى حصل منها شخص جزئى فيعلم الجزئى على ذلك النحو الاشرف.

ان قلت : مع ذلك كله انه ليس علما بالجزئى بل هو علم بالكليات المجتمعة ، قلت : انه علم بالجزئى وليس احساسا به وانك متوقع له فى حق خالقك كما هو هكذا فى حقك ، وقد علمت انه تعالى منزه عن ذلك لان الاحساس يحوج المحس الى الآلات فافهم.

قوله : له معلول كلى ـ هكذا فى النسخ ، ولكن لفظ له زائد من اقلام الناسخين.

المسألة العشرون

( فى تفسير العقل )

قول المصنف : والعقل غريزة الخ ـ لا شبهة فى ان فى الانسان حقيقة يمتاز بها عن سائر الحيوانات وهى مناط التكاليف الشرعية عليه وهى مسماة بالعقل ، واختلفوا فى ماهيته فقالت المعتزلة هو ما يدرك به حسن الحسن وقبح القبيح ، وقال ابو الحسن الاشعرى هو العلم ببعض الضروريات وهذا شأن العقل بالملكة ويأتى ذكره ، وقال القاضى ابو بكر الباقلانى هو العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات فى مجارى العادات ، واما الحكماء فلم يفسروه بهذه التفاسير بل عدوا للنفس الناطقة باعتبار كل من العلم والعمل مراتب اربع سموا كل مرتبة عقلا وسيأتى عن قريب بيانه.

واما المصنف ففسر العقل بانه غريزة الخ ، والغريزة فى اصل اللغة بمعنى الثابتة فى الارض يقال غرزت الشيء اى اثبته فى الارض ، وفى العرف هى الطبيعة الثابتة فى الانسان التى جبل عليها ، والمراد بالآلات هى الحواس الظاهرة والباطنة ، والمراد بسلامتها كونها بحيث اذا وجد عندها محسوس ادركته ، ففاقد الحس والنائم ومن لحسه

٣٣٦

مانع عن الادراك ليسوا بسالمى الآلات مع انهم عاقلون ، فهذا القيد يخصص الملزومية لا نفس العقل ، فالعقل غريزة ملزومة للعلم بالضروريات لا مطلقا بل عند سلامة الآلات فيمكن ان يكون الانسان عاقلا كهؤلاء المذكورين ولا يكون عالما ببعض الضروريات لفقدان شرط اللزوم وهو عدم سلامة بعض حواسه ، فلذا قيل من فقد حسا فقد فقد علما

قول الشارح : لامتناع انفكاك احدهما عن الاخر ـ يعنى لامتناع انفكاك العقل الّذي هو تلك الغريزة الملزومة عن العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات فهما متلازمان ولا بأس بان يفسر احدهما بالآخر ، واما هذا العلم والعلم بالضروريات الّذي اخذ فى تعريف المصنف فواحد لان الضرورة اذا تضاف الى الوجود فهى الوجوب واذا تضاف الى العدم فهى الاستحالة والامتناع.

قوله : وهو ضعيف لعدم الملازمة بين التلازم والاتحاد ـ يعنى تلازم العقل والعلم لا يصحح ان يفسر احدهما بالآخر لان الاتحاد بين المفسر والمفسر به واجب والتلازم بين الشيئين لا يلازم الاتحاد بينهما.

قوله : سبق البحث فيهما ـ فى المسألة الاولى من الفصل الرابع.

قوله : اما القوى النفسانية فيقال الخ ـ اعلم ان النفس الانسانية فى بدو فطرتها خالية عن العلم والعمل ولكن لها استعداد لهما ولا وقوف لاستكمالها فيهما بل كلما اعتلت الى مرتبة فلها ان ترتقى منها الى مرتبة اخرى وقلما تصل نفس الى اقصى مراتب الكمال فيهما بل لا يمكن للنفوس فى هذه النشأة الداثرة ذلك الا عباد الله المخلصين ، وسميت النفس باعتبار مراتبها الاستكمالية فى العلم عقلا علميا وفى العمل عقلا عمليا : ووضعوا لكل مرتبة اجمالية من العقل العلمى اسما ولا احصاء منا للمراتب التفصيلية.

ومراتب العقل العلمى اربع :

الاولى مرتبة العقل الهيولائى وهى مرتبة الاستعداد المحض لحصول العلوم الضرورية شيئا فشيئا ، سميت به تشبيها لها بالهيولى الاولى التى هى قوة محضة و

٣٣٧

خالية فى حدّ ذاتها عن جميع الفعليات ، والاستعداد فى هذه المرتبة يسمى استعدادا بعيدا.

الثانية مرتبة العقل بالملكة وهى مرتبة حصول بعض الضروريات او كلها على اختلاف الاستعدادات ، ولا يخفى ان النظريات متوقفة على الضروريات لكن لا كلها على كلها بل فى الاكثر تحصل ضروريات وبسببها تحصل نظريات ثم تحصل بعد ذلك ضروريات اخرى ، نعم ان الضرورى لا يتوقف على النظرى بل الامر بالعكس ، وسميت به لان النفس خرجت من عدم العلم الى ملكته او خرجت من عدم الانتقال الى النظريات الى ملكته او حصلت لها فى هذه المرتبة كيفية نفسانية راسخة هى العلوم الضرورية والكيفية النفسانية الراسخة تسمى ملكة كما مر فى المسألة الحادية عشرة ، والنفوس فى هذه المرتبة اى فى ان ترتب الضروريات وتستنتج منها النظريات مختلفة وهذا الاختلاف لا يختصّ بترتيب الضروريات واستنتاج النظريات بل يأتى فى ترتيب النظريات المعلومة لاستنتاج النظريات المجهولة أيضا وبالجملة هذا الاختلاف هو فى استنتاج المجهولات من المعلومات ، فنفس لا تقدر على الاستنتاج اصلا وصاحبها البليد الملحق بالحمار ، ونفس لا تعجز عن استنتاج ولا تغفل عن استنتاج ولا تخطى فى استنتاج وسريعة كمال السرعة فى كل استنتاج وصاحبها العالم الربانى الإلهى صاحب القوة القدسية الملكوتية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، وبينهما النفوس المختلفة اختلافا كثيرا ، وللنفس فى هذه المرتبة الثانية فعلية واستعداد ، فعلية العلوم الضرورية واستعداد ادراك النظريات ، وهذا الاستعداد يسمى استعدادا متوسطا.

المرتبة الثالثة مرتبة حصول النظريات ، وللنفس فى هذه المرتبة شأنان شأن الحضور وشأن الاستحضار ، والاول هو ان تكون النظريات الحاصلة حاضرة عند النفس تشاهدها كمشاهدة البصر المبصر ، والنفس فى هذه المرتبة بهذا الاعتبار تسمى عقلا مستفادا اذ هى استفادت هذه المرتبة وهذا المقام العقلى من العقل الفعال والثانى ان تكون النظريات الحاصلة المكتسبة غائبة عن النفس ولكنها تقتدر على

٣٣٨

استحضارها متى تشاء من غير افتقار الى كسب جديد وبهذا الاعتبار تسمى عقلا بالفعل لشدة قربها الى الفعلية والحضور ، والعقل بالفعل متأخر عن العقل المستفاد حدوثا لان النظريات ما لم تكتسب ولم تستفد من العقل الفعال لا يمكن استحضارها بعد غيبتها ، واما بقاء فمتقدم بمعنى ان اقتدار الاستحضار باق وحضور النظريات ينتفى بغيبتها فلذا عدّ بعضهم العقل بالفعل فى المرتبة الثالثة والعقل المستفاد فى المرتبة الرابعة وبعضهم على العكس ، والاولى ان يقال كلاهما شأنان للنفس فى مرتبة ثالثة وللنفس فى هذه المرتبة أيضا فعلية واستعداد فعلية النظريات واستعداد احضارها من دون كسب جديد ، فالمراتب ثلاث : الاستعداد المحض ، استعداد اكتساب النظريات مع فعلية الضروريات ، استعداد احضار النظريات مع فعليتها اذ هى فى حال الغيبة حاصلة بالفعل أيضا بالقياس الى قبل الاكتساب ، وهذا الاستعداد يسمى استعدادا قريبا ، والقرب والتوسط والبعد بالنسبة الى الكمال المطلوب.

ومراتب العقل العملى أيضا اربع :

الاولى تحلية العبد ظواهر افعاله بفضائل الآداب وحسنات العادات باتباع الشرائع النبوية وتطبيق ما صدر منه لما ورد عن اصحاب الشرائع من الاوامر والنواهى ، والمتكفل لبيان ذلك هو علم الفقه.

الثانية تخليته عن رذائل الحالات والملكات النفسانية وقطع العلائق الحسية ونفض الآثار المادية عن الجوهر الملكوتى.

الثالثة تحليته بفضائلها والتخلق باخلاق المحسنين ونفسيات المخلصين ، والمتكفل لبيان هاتين هو علم الاخلاق.

الرابعة اتصاله بعالم الملكوت والاستغراق فى لجة الجبروت حتى يكون الله هو سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به ويده التى يبطش بها ولا يشاء الا ان يشاء الله ويخاطب بما رميت اذ رميت ولكن الله رمى ، وهذا لا يتيسر الا لخلص اوليائه.

ثم لا بدّ للعقل العملى من قوى اربع حتى يتيسر للنفس الارتقاء فى مدارج الكمال : قوة التشخيص بين حسنات الافعال وسيئاتها بالشرع والعقل ، وقوة

٣٣٩

تطبيقهما على مصاديقهما تطبيقا صحيحا بمقدمات صحيحة ، وقوة الترجيح بين الحسنتين او السيئتين عند الدوران والاخذ باحسنهما والترك لا سوئهما ، وقوة التدبير فى مقدمات الافعال بحيث توصله الى المطلوب على اقرب الطرق ، والناس فى هذه الاربع مختلفون وبعضهم فاقد لبعضها او كلها.

قوله : واما العملى فيطلق على القوة الخ ـ اشارة الى القوة الاولى.

قوله : وعلى المقدمات التى الخ ـ اشارة الى القوة الثانية.

قوله : وعلى فعل الامور الخ ـ اشارة الى المرتبة الاولى من العقل العملى ، والكامل ما ذكرنا.

المسألة الحادية والعشرون

( فى الاعتقاد والظن وغيرهما )

قول المصنف : والاعتقاد يقال لاحد قسميه ـ اى قسمى العلم الذين هما التصور والتصديق الجازم المطابق الثابت كما مر انقسام العلم إليهما فى المسألة الثانية عشرة وهذا احد الاصطلاحين فى الاعتقاد ، والاصطلاح الآخر هو مطلق التصديق الشامل لهذا المعنى والجهل المركب والتقليد والظن فهو كالعلم التصديقى الّذي قد مر فى تلك المسألة ان فيه اصطلاحين ، ويمكن حمل كلامه على الاعتقاد بالمعنى الاعم وارجاع الضمير الى العلم المنقسم الى التصور والتصديق المطلق لان المبحوث عنه هاهنا هو الاعتقاد بالمعنى الاعم لمكان قوله : ويقع فيه التضاد ، ولا ينافى هذا انقسامه الى التصور والتصديق الجازم الثابت المطابق فى تلك المسألة.

قول الشارح : ابو الهذيل العلاف ـ قال ابو المظفر شاهفور بن طاهر بن محمّد الأسفرايني الاشعرى الشافعى المفسر المتكلم فى كتابه ( التبصير فى الدين ) فى الملل والنحل فى الباب الخامس : الفرقة الثالثة منهم ( اى من المعتزلة ) الهذلية ، وهم اتباع ابى الهذيل محمّد بن الهذيل المعروف بالعلاف وكان من موالى عبد القيس ، وله فضائح كثيرة فيما احدثه من البدع حتى كفر بتلك البدع جميع الامة ، وكفر

٣٤٠