توضيح المراد - ج ١

السيد هاشم الحسيني الطهراني

توضيح المراد - ج ١

المؤلف:

السيد هاشم الحسيني الطهراني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
المطبعة: المصطفوي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

الاول ما ذكره هنا ، وهو ان الواجب الوجود يمتنع عليه الجهة والحيز وغير ذلك من شرائط كون الشيء مرئيا التى مضى ذكرها فى المسألة الثالثة عشرة من الفصل الرابع من المقصد الثانى وكل ما يمتنع عليه هذه الشرائط يمتنع عليه الابصار فواجب الوجود يمتنع رؤيته ، وقوله : لان كل مرئى فهو فى جهة عكس نقيض للكبرى المذكورة.

ثم ان المجسمة منكرون للصغرى ، وقد تبين بطلان عقيدتهم فيما مر ، والاشاعرة لهم كلام فى اشتراط تلك الشرائط مر هناك ، ومنكرون للكبرى ، قال الرازى فى الاربعين : هذا قياس للشاهد بالغائب فان امتناع ابصار الاشياء التى نشاهد ها عند انتفاء هذه الشرائط لا يستلزم امتناع ابصاره تعالى عند انتفائها اذ لعله تعالى يمكن رؤيته وان لم يكن هذه الشرائط حاصلة لان المختلفين لا يجب استوائهما فى الحكم ، ثم قال : وهذا سؤال لا محيص عنه ، والجواب ان الكلام ليس فى حكم الشاهد والغائب واختلافهما او اتفاقهما فى الاحكام ، بل الكلام فى حكم الرؤية والابصار ، فاذا ثبت بالوجدان والبرهان ان ابصارنا لا يتعلق الا بما يجمع هذه الشرائط كائنا ما كان فلا فرق بين الشاهد والغائب ، ثم ان غيبته ليست الا من جهة امتناع رؤيته بمشاهدة الابصار والا فهو على كل شيء شهيد.

الثانى لو صحت رؤيته لكنا نراه ، والتالى ظاهر البطلان ، وبيان اللزوم ان صحة الشيء مع شرائط الوقوع تصل الى الوقوع ، والشرائط حاصلة لان الخصم لا يشرط فيما نحن فيه الا سلامة الحاسة وعدم الحجاب ، وهما حاصلان.

ان قلت : ان من المتكلمين كضرار بن عمرو وحفص الفرد وسفيان بن سحبان يزعمون ان الله تعالى يخلق لعباده فى المعاد حاسة سادسة يدركونه بها على ما نقل الاشعرى فى المقالات ، والاشاعرة يقولون : انه تعالى يرى يوم القيامة لا فى الدنيا كما يرى القمر ليلة البدر ، يراه المؤمنون لا الكافرون ، والمجسمة يقولون انه يرى مطلقا ، فبطلان التالى غير مسلم عند الخصم ، قلت : ان ذلك كله خرص لا دليل لهم عليه الا ظواهر آيات واخبار يأتى توجيهها ، وادلة الامتناع مطلقة ، والسمعية منها صريحة

٥٢١

غير قابلة للتوجيه ، يثبت الامتناع بها فى الدنيا والآخرة وفى النوم واليقظة ، للانسان وغيره ، للانبياء عليهم‌السلام وغيرهم.

الثالث كل ما يرى فاما بالانطباع او وقوع الشعاع على اختلاف مر فى المسألة الثالثة عشرة من الفصل الرابع من المقصد الثانى ، وذلك محال عليه تعالى لانه من لوازم الجسم.

الرابع الآيات الكثيرة والاخبار المتواترة الدالة على الامتناع المذكورة فى مظانها.

قول الشارح : او فى حكم المقابل ـ كوجه الانسان المرئى فى المرآة.

قول الشارح : سال الرؤية ـ كما جاء فى التنزيل.

قول الشارح : لم يصح عنه السؤال ـ لانه عليه‌السلام ان كان جاهلا بامتناع رؤيته تعالى فلا يليق به الرسالة ، وان كان عالما به كان سؤاله لغوا لا يليق به أيضا.

قول الشارح : ان السؤال كان من موسى عليه‌السلام لقومه ـ اى لما الزمه قومه بذلك ولم يكن له محيص عنه ساله ، واما موسى عليه‌السلام فكان عارفا بالامتناع وذلك لوجوه :

الاول قوله تعالى : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) ، وقوله تعالى : ( يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) فسؤال موسى لسؤال قومه.

ان قلت : لم اجاب مسئولهم والتزم به ولم سال الرؤية لنفسه ولم يقل رب ارهم ينظروا أليك ، قلت : لان القوم لم يتركوه ، وانهم الزموه ان يسال الرؤية لنفسه كما فى حديث نذكره.

الثانى قوله تعالى : ( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ )

٥٢٢

الآية ، و ( بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ ) هو سؤال الرؤية بدليل ما قبل الآية وموسى عليه‌السلام ليس من السفهاء فليس السؤال منه.

الثالث ما رواه الصدوق رحمه‌الله فى التوحيد فى باب ما جاء فى الرؤية بالاسناد عن على بن محمد بن الجهم ، قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا على بن موسى عليهما‌السلام ، فقال له المأمون : يا بن رسول الله أليس من قولك ان الأنبياء معصومون ، قال عليه‌السلام : بلى ، فسأله عن آيات من القرآن ، فكان فيما سأله ان قال له : فما معنى قول الله عز وجل : ( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي ) الآية ، كيف يجوز ان يكون كليم الله موسى بن عمران عليه‌السلام لا يعلم ان الله تعالى ذكره لا يجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال ، قال الرضا عليه‌السلام : ان كليم الله موسى بن عمران عليه‌السلام علم ان الله تعالى جل ان يرى بالابصار ، ولكنه لما كلمه الله عز وجل وقربه نجيا رجع الى قومه فاخبرهم ان الله عز وجل كلمه وقربه وناجاه ، فقالوا لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، وكان القوم سبعمائة الف رجل ، فاختار منهم سبعين الفا ، ثم اختار منهم سبعة آلاف ، ثم اختار منهم سبعمائة ، ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه ، فخرج بهم الى طور سيناء ، فاقامهم فى سفح الجبل وصعد موسى عليه‌السلام الى الطور وسأل الله تبارك وتعالى ان يكلمه ويسمعهم كلامه فكلمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق واسفل ويمين وشمال ووراء وامام لان الله عز وجل احدثه فى الشجرة ثم جعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه ، فقالوا لن نؤمن لك بان هذا الّذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة ، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عز وجل عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا ، فقال موسى : يا رب ما اقول لبنى اسرائيل اذا رجعت إليهم وقالوا انك ذهبت بهم فقتلتهم لانك لم تكن صادقا فيما ادعيت من مناجاة الله اياك ، فاحياهم الله وبعثهم معه ، فقالوا انك لو سألت الله ان يريك ان تنظر إليه لاجابك ، وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته ، فقال موسى عليه‌السلام : يا قوم ان الله لا يرى بالابصار ولا كيفية له ، وانما يعرف بآياته ويعلم باعلامه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى تسأله ، فقال موسى عليه‌السلام :

٥٢٣

يا رب انك قد سمعت مقالة بنى اسرائيل وانت اعلم بصلاحهم ، فاوحى الله جل جلاله إليه يا موسى اسألنى ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى عليه‌السلام : رب ارنى انظر أليك قال لن ترانى ولكن انظر الى الجبل فان استقر مكانه وهو يهوى فسوف ترانى ، فلما تجلى ربه للجبل بآية من آياته جعله دكا وخر موسى صعقا ، فلما افاق قال سبحانك تبت أليك يقول رجعت الى معرفتى بك عن جهل قومى وانا اوّل المؤمنين منهم بانك لا ترى ، فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن.

ثم قال الصدوق رحمه‌الله : ولو اوردت الاخبار التى رويت فى معنى الرؤية لطال الكتاب بذكرها وشرحها واثبات صحتها ، ومن وفقه الله تعالى ذكره للرشاد آمن بجميع ما يرد عن الائمة عليهم‌السلام بالاسانيد الصحيحة وسلم لهم ورد الامر فيما اشتبه عليه إليهم اذ كان قولهم قول الله وامرهم امر الله وهم اقرب الخلق الى الله عز وجل واعلمهم به صلوات الله عليهم اجمعين.

اقول : كفى ما فى هذه الرواية من بيان الامام عليه‌السلام جوابا لما اعترض الاشاعرة كما فى شرح القوشجى والاربعين للرازى وغيرهما على تفسير الآية بان السؤال كان لقومه.

قول الشارح : وهذا متعذر فى حقه تعالى الخ ـ اقول : ان الخصم الاشعرى قد تسلم ان النظر الّذي هو سبب الرؤية متعذر فى حقه تعالى لانه يستلزم ان يكون المنظور إليه فى جهة ، وامتناعه مسلم عنده ، فاذا كان الامر كذلك فالرؤية التى هى مسببة عن هذا السبب أيضا متعذرة لان امتناع السبب يستلزم امتناع مسببه ، فلا معنى لارادة المسبب من ذكر هذا السبب ، فالكلام هنا على تسلم الخصم لذلك ختم ، فالنظر فى الآية بمعنى آخر ، وسيأتى.

قول الشارح : المنع من إرادة هذا المجاز الخ ـ اى نمنع من ان النظر المقرون بالى يفيد الرؤية ويستلزمه حتى تراد به الرؤية مجازا اذ يقال نظرت الى الهلال فلم اره ، وذكر اهل اللغة ان معنى نظر إليه مد طرفه إليه رآه او لم يره. فحينئذ اما ان يراد به نظر العين بدون تقدير او مع تقدير او يراد معنى آخر له ولا لى معنى آخر

٥٢٤

والاول بعيد جدا لان المؤمنين يوم القيامة ليسوا جاهلين بان الله تعالى ليس فى جهة فلا يمدون طروفهم الى جهة لذلك ، والثانى ان يكون التقدير الى ثواب ربها ناظرة وامثال هذا فى القرآن كثيرة ، والثالث ان يكون الى اسما بمعنى النعمة وناظرة بمعنى منتظرة.

قول الشارح : فان النظر وان اقترن به حرف الى ـ النظر يأتى بمعنى الانتظار ويتعدى بنفسه ، وبمعنى التفكر ويتعدى بفى ، وبمعنى الرأفة ويتعدى باللام ، وبمعنى مد الطرف ويتعدى بالى.

قول الشارح : قد فعل بها فاقرة ـ هى ما يكسر فقرات الظهر ، والكلام كناية عن شدة الغم كما فى قوله عليه‌السلام : قصم ظهرى رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك ، ويحتمل الكسر حقيقة.

قول الشارح : وتقريرها ان الجسم والعرض الخ ـ حاصل كلامهم ان علة صحة رؤية الاجسام والاعراض هى الوجود لا غير والوجود مشترك بين الواجب والممكن فعلة صحة الرؤية مشتركة بينه وبينه ، وكلما تحقق العلة تحقق المعلول فرؤيته تعالى ممكنة ، ثم ان الوجوه المذكورة فى كلام الشارح راجعة الى منع الصغرى الا الثامن والتاسع فانهما الى الكبرى ، وكل منها على فرض تسليم الّذي قبله ، وما فى كلام المصنف هو الرابع والثالث والخامس.

قول الشارح : الثامن المنع الخ ـ لان الوجود العام البديهى ليس محل الكلام اذ هو امر اعتبارى لا يصلح للعلية للامر الخارجى ، وحقيقة الوجود ليست مشتركة فى الجميع لانها حقائق متباينة على قول المشاء ، ولو سلم كونها حقيقة واحدة فى الجميع كما عليه غير المشائين فلم يلزم مطلوبكم للاختلاف من جهة العينية والزيادة فان وجود البارى تعالى عين ذاته وفى غيره زائد على ماهيته.

قول الشارح : التاسع المنع من وجود الخ ـ هذا المنع يتوجه الى ان صرف اشتراك الوجود بين الواجب والممكن لا يثبت الحكم للواجب لاحتمال مانع ممتنع الارتفاع فيه او شرط ممتنع الحصول.

٥٢٥

ثم ان بعض الاشاعرة كالفخر الرازى فى الاربعين والبراهين اعترف بضعف هذا الدليل حيث قال : اعلم ان جمهور الاصحاب عولوا فى اثبات انه تعالى يصح ان يرى على دليل الوجود ، واما نحن فعاجزون عن تمشيته ، ونحن نذكر ذلك الدليل ثم نوجه عليه ما عندنا من الاعتراضات ، انتهى ، ثم ذكره وذكر ما الشارح هنا ذكره.

ثم ان بعضا آخر منهم كامام الحرمين الجوينى على ما نقل القوشجى وشارح العقائد النسفية حيث تنبهوا لضعف الدليل وورود الاعتراضات قالوا : ليس المراد بالعلة فى هذا الدليل ما فهمه الاكثرون من المؤثر بل المراد بها متعلق الرؤية والقابل لها ، ولا خفاء فى لزوم كونه وجوديا اذ المعدوم لا يتعلق به الرؤية بالضرورة ، وعلى هذا فالاعتراض بتلك الوجوه مندفع.

اقول : لا خفاء عند عاقل فى ان هذا القول سفه وفرار من المطر الى الميزاب لان نتيجة الدليل على هذا ترجع الى انه كلما تحقق القابل تحقق المعلول ، وهذا مما لا يتفوه به جاهل فضلا عن فاضل لان القابل لا يكفى لتحقق المعلول اصلا ، فلا بد من بيان علة امكان الرؤية حتى ننظر أتامة هى أم لا ، وعلى فرض التمامية ننظر اى شيء يمكن ان يكون قابلا لها ، وقد بينا ان الوجود ليس علة تامة بل لا بدّ مع ذلك من خصوصيات اخرى تمتنع فى الواجب تعالى سواء فرضناه علة فاعلة او علة قابلة.

المسألة الحادية والعشرون

( فى باقى الصفات )

قول الشارح : وجماعة الاوائل الخ ـ عرفوا الجود بانه افادة ما ينبغى للمستفيد من غير عوض ولا غرض ، وسيأتى بيانه فى المسألة الرابعة من الفصل الثالث ان شاء الله تعالى.

قول الشارح : والحقيقية المستلزمة للاضافة ـ اقول : بل الاضافية المحضة

٥٢٦

أيضا لان الاضافات متوقفة على وجود الممكنات ، وهو له تعالى.

قول الشارح : ويقال على حال القول والعقد الخ ـ القول هو القضية اللفظية والعقد هو القضية الذهنية ، وحالهما هو النسبة فى القضية ، والمطابقة للواقع يصح اعتبارها لنسبة القضية ولنفس القضية.

قول الشارح : الى المقول والمعتقد ـ المقول هو الواقع نظرا الى القول والمعتقد هو الواقع نظرا الى العقد.

قول الشارح : اذا كان مطابقا ـ اى اذا كان حال القول والعقد مطابقا ( بصيغة المفعول ) الى الواقع.

قول الشارح : وهو الصادق أيضا الخ ـ اى يقال الصادق على حال القول والعقد أيضا لكن باعتبار كونه مطابقا ( بصيغة الفاعل ) الى الواقع ، وذكر الشارح القول والعقد مكان حالهما خلافا لما جرى عليه فى تفسير الحق لما قلنا من صحة اعتبار المطابقة لنسبة القضية ولنفس القضية.

قول الشارح : لان الخير عبارة الخ ـ قد مر الكلام فى ذلك مستوفى فى المسألة السابعة من الفصل الاول من المقصد الاول.

قول الشارح : عبد الله بن سعيد ـ هو عبد الله بن سعيد بن الحصين الكوفى ابو سعيد الاشج الحافظ المتوفى سنة مأتين وسبعة وخمسين ، وكان من كبار القوم فقها وحديثا وكلاما ، روى عن عبد السلام بن حرب وابى خالد الاحمر والمحاربى وابن ادريس وهشيم ومن فى طبقتهم ، فراجع كتاب الخلاصة للخزرجى ص ١٦٩ ، هكذا فى حاشية احقاق الحق فى مبحث كلامه تعالى.

٥٢٧

الفصل الثالث من المقصد الثالث

( فى افعاله تعالى )

المسألة الاولى

( فى اثبات الحسن والقبح العقليين )

قول الشارح : هذين المذهبين ـ مذهب تمشى قواعد الاسلام ومذهب تجويز القبائح عليه تعالى ، وهذا تعيير على الاشاعرة.

قال الشارح فى نهج الحق : المبحث الحادى عشر فى العدل وفيه مباحث ، الاول فى نقل الخلاف فى مسائل هذا الباب ، اعلم ان هذا اصل عظيم تبتنى عليه القواعد الاسلامية بل الاحكام الدينية مطلقا ، وبدونه لا يتم شيء من الاديان ، ولا يمكن ان يعلم صدق نبى من الأنبياء على الاطلاق الا به على ما نقرره فيما بعد إن شاء الله تعالى ، وبئس ما اختاره الانسان لنفسه مذهبا خرج به عن جميع الاديان ولم يمكنه ان يتعبد الله بشرع من الشرائع السابقة واللاحقة ولا يجزم به على نجاة نبى مرسل او ملك مقرب او مطيع فى جميع افعاله من اولياء الله وخلصائه ولا على عذاب احد من الكفار والمشركين وانواع الفساق والعاصين ، فلينظر العاقل المقلد هل يجوز له ان يلقى الله تعالى بمثل هذه العقائد الفاسدة والآراء الباطلة المستندة الى اتباع الشهوة والانقياد للمطامع.

قول الشارح : واعلم ان الفعل من المتصورات الخ ـ اعلم ان الفعل المطلق

٥٢٨

مع انه ضرورى التصور عرفوه بتعريفات لفظية للتنبيه والشرح : منها ما فى اوّل النمط الخامس من الاشارات من انه حصول وجود للشىء من شيء آخر بعد ما لم يكن ، وهذا التعريف من المتكلمين نقله الشيخ هناك لبيان خطاهم فى مناط علة الحاجة الى الفاعل ، ومنها ما ذكره الحكماء من انه حصول وجود بعد العدم عن سبب ما سواء كان العدم ذاتيا او زمانيا ، والتعريف الثانى اعم من الاول لانه يشمل الوجود بعد العدم الزمانى فقط دون الثانى ، وذلك لان المتكلمين على ان لا وجود لفعل لم يسبقه عدم زمانى بناء منهم على حدوث العالم ، ومعلوم ان الاختلاف المذكور بين الفريقين لا مساس له بمفهوم الفعل وماهيته حتى يبنى تعريفه عليه ، ومنها ما فى كلام الشارح من تعريف ابى الحسين البصرى ، ومنها انه مبدأ التغير فى آخر ، ومنها انه ما يوجد بعد ما كان مقدورا ، ومنها انه صرف الشيء من الامكان الى الوجوب ، ومنها انه كون الشيء مؤثرا فى غيره ، ومنها ما مر فى اواخر المقصد الثانى فى كلام الشارح من انه تأثير الشيء فى غيره ، ومنها انه الهيئة العارضة للمؤثر فى غيره بسبب التأثير ، ومنها انه الاخراج من العدم الى الوجود ، وكل غير خال من شيء.

فاقول : ان المراد بالفعل هناك ليس ما يقابل الاسم والحرف ، ولا المراد به مدلول المصدر كالضرب والذهاب ، ولا المراد به ما يقابل الترك ، ولا ما يقابل الانفعال بل المراد به ما ينقسم الى الارادى والطبيعى والقسرى ، وهو الاثر الحاصل عن سبب ما من حيث هو حاصل عنه لا من حيث هو شيء بالنظر الى نفسه.

قول الشارح : فالفعل الحادث ـ الوصف إيضاح ، وسره ان يكون الكلام تمهيدا لقوله : بامر زائد على حدوثه.

قول الشارح : بامر زائد ـ هذا الامر الزائد هو مناط اتصاف الفعل بالحسن والقبح ، وهو على ما ظهر من الشارح العلامة والقوشجى والشارح القديم واللاهيجى فى كوهر مراد وشارح الباب الحادى عشر والعلامة المجلسى فى حق اليقين والاحسائى فى المجلى وصاحب معتقد الامامية انه القصد والاختيار ، فيخرج الفعل الطبيعى

٥٢٩

والقسرى ، وظاهر البهشتى احد شراح التجريد هو الحكم ، ولعل مراده به القصد الّذي هو مناط الحكم بان الفعل حسن او قبيح.

وظاهر الفخر الرازى فى الاربعين والبراهين ان الزائد هو العنوان الاعتبارى الّذي يمتاز به كل فعل عن آخر حيث قال ما مضمونه : ان الصلاة والزنا متساويان من جهة ان كلا منهما حركة ويمتاز كل منهما عن الاخر بصفة زائدة هى كون تلك الحركة صلاة والاخرى زنا ، ثم قال : اصل الحركة بقدرة الله تعالى والوصف بقدرة العبد ، وهذا قول القاضى ابى بكر الباقلانى.

اقول : انما فسر الزائد بذلك لانه واصحابه من الاشاعرة لا يرون للعبد اختيارا فى فعله حتى يكون مناطا للقبح والحسن ، بل هما عندهم منوطان بهذا الوصف الّذي يتحقق من بيان الشارع وامره ونهيه.

قول الشارح : وهو قسمان حسن وقبيح الخ ـ اقول : يسمى الحسن باقسامه الاربعة بالحلال ويسمى القبيح بالحرام ، قال المصنف فى شرح الاشارات فى النمط السادس : اعلم ان القائلين بالوجوب والحسن والقبح العقلية يعرّفون الحسن بانه كل فعل يقتضي استحقاق مدح او لا استحقاق ذم فان اقتضى الاخلال به مع ذلك استحقاق ذم فهو واجب والا فلا ، والقبيح بانه كل فعل يقتضي استحقاق ذم ، انتهى : وما قال الشارح ابين واحسن ، هذا هو المشهور ، وقال الاردبيلى رضوان الله عليه فى حاشيته على شرح القوشجى : اعلم ان تقسيم فعل المختار الى هذه الاقسام على ما فعله الشارح احد الاقوال ، وبعض يقسمه بحيث يدخل المكروه فى القبيح ، وكان الاول اولى اذ تسمية فعل جوزه الله تعالى بقبيح لا يناسب ، والامر فى ذلك هين اذ لا مشاحة فى الاصطلاح ، انتهى.

اقول : من ذلك البعض المدخل للمكروه فى القبيح الفاضل اللاهيجى فى كوهر مراد فى مبحث التكليف ، والقول الاخر من الاقوال فى كلامه هو اخراج المباح عن الاقسام راسا لانه لا يتعلق به امر ولا نهى ولا ذم ولا مدح ولا عليه عقاب ولا ثواب فليس بحكم اصلا ، قال الغزالى فى المستصفى فى اواخر الفن الثانى من القطب الاول : فان

٥٣٠

قيل : فهل المباح حسن ، قلنا : ان كان الحسن عبارة عما لفاعله ان يفعله فهو حسن وان كان عبارة عما امر بتعظيم فاعله والثناء عليه او وجب اعتقاد استحقاقه للثناء ، والقبيح ما يجب اعتقاد استحقاق صاحبه للذم والعقاب فليس المباح بحسن ، انتهى

ثم ان انقسام الحسن الى الاربعة انما هو باعتبار ما حكم به الشارع ، واما حكم العقل مع قطع النظر عن الشرع فهو باعتبار ما يدرك من المصلحة فيحكم بالحسن وما يدرك من المفسدة فيحكم بالقبح ، ومع خلو الفعل عنهما عنده لا يحكم بشيء ثم انه يحكم بوجوب الفعل نظرا الى وجود الداعى وبقبحه نظرا الى عدمه ، فحيث انه تعالى على ما عليه العدلية يحكم العقل على افعاله فلا حكم له فيها الا بالوجوب مع وجود الداعى وبالقبح مع عدمه ، فليس هذا الانقسام فى افعاله تعالى ، وسيأتي فى ذلك كلام فى المسألة الثانية إن شاء الله تعالى.

ثم ان هذا التقسيم لا يتأتى على مذهب الاشاعرة لانهم على اصلهم ينكرون الاختيار ويقولون كل فعل من كل احد هو فعل الله تعالى وكل ما فعله الله تعالى فهو حسن فكل فعل من كل احد فهو حسن ، والالتجاء الى القول بالكسب لا ينفعهم شيئا كما يأتى تفصيل ذلك فى المسألة السادسة إن شاء الله تعالى.

قول المصنف : وهما عقليان الخ ـ اعلم ان البحث فى مطلق الفعل لا خصوص فعله تعالى او فعل العبد كما يظهر من بعض ، فان المدعى ان كل فعل من حيث هو فعل يتصف بالحسن او القبح سواء تعلق تجويز شرع به او منعه أم لا ، وسواء ادرك عقولنا جهة الحسن او القبح أم لا ، وسواء كان الله تعالى فاعلا او العبد.

ثم اختلفوا فى جهة الحسن والقبح ، هل هى ذات الفعل او صفة ذاتية له او وجوه واعتبارات او احدها او احد الاولين او احد الآخرين ، فعلى الاولين يصح ان يقال : الحسن او القبح الذاتى والعقلى معا بمعنى ان فى ذات الفعل بذاته او بصفة ذاتية له ما يقتضي حسنه او قبحه وان العقل يدرك ذلك ويحكم بالحسن او القبح ، واما على الوجوه والاعتبارات فلا يصح توصيف الحسن او القبح بالذاتى ، بل بالعقلى فقط بمعنى ان العقل

٥٣١

من دون حكم الشرع يحكم بالحسن او القبح بلحاظ الوجوه والاعتبارات ، والشارح العلامة رحمه‌الله على ان الحسن والقبح على احد الاخيرين حيث قال فى نهج الحق : قالت الامامية وتابعوهم من المعتزلة ان الحسن والقبح عقليان مستندان الى صفات قائمة بالافعال او وجوه واعتبارات تقع عليها ، انتهى ، وهذا احد الاقوال ، وفى المسألة اقوال اخرى ، ونقل عن الجبائى احد شيوخ الاعتزال انه قال : ان الحسن والقبح ليسا لذوات الافعال ولا لصفات قائمة بذاتها ، بل لوجوه واعتبارات فى جميع الافعال ، انتهى ، والحق عندى هذا القول اذ لم نجد فى الافعال ما يكون حسنا او قبيحا بذاته او بلازم ذاته ، وما مثل به من العدل والظلم ليس بمثبت له لان الظلم والعدل عنوانان طاريان على افعال مختلفة بعد اعتبار الحسن والقبح بلحاظ وقوع الفعل فى محله اللائق به او لا وقوعه فيه.

ثم ان حكم العقل بالحسن والقبح على ثلاثة اوجه كما قال الشارح فى نهج الحق : ذهب الامامية ومن تابعهم من المعتزلة الى ان من الافعال ما هو معلوم الحسن والقبح بضرورة العقل كعلمنا بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار فان كل عاقل لا يشك فى ذلك وليس جزمه بهذا الحكم بادون من الجزم بافتقار الممكن الى السبب وان الاشياء المساوية لشيء واحد متساوية ، ومنها ما هو معلوم بالاكتساب انه حسن او قبيح كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع ، ومنها ما يعجز العقل عن العلم بحسنه او قبحه فيكشف الشرع عنه كالعبادات ، انتهى ، والاشاعرة ينكرون كل ذلك ويقولون : لا حسن ولا قبح ولا جهة لهما فى فعل حتى يدركها العقل لا بالذات ولا بالاعتبارات الا باعتبار تجويز الشرع ومنعه او فعله تعالى وتركه ، فالحسن ما فعله او جوزه والقبيح ما تركه او منعه وان كان على اصلهم لا فعل الا فعله ، والعجب من الشيخ الاشعرى حيث نقل عنه الشهرستانى فى الملل والنحل انه قال فى هذا المقام : والواجبات كلها سمعية والعقل لا يوجب شيئا ولا يقتضي تحسينا ولا تقبيحا الى ان قال : وانبعاث الرسل من القضايا الجائزة لا الواجبة ولا المستحيلة ، ولكن بعد الانبعاث تاييدهم بالمعجزات وعصمتهم من الموبقات من جملة الواجبات اذ لا بد من طريق للمستمع يسلكه ليعرف به صدق

٥٣٢

المدعى ولا بد من ازاحة العلل فلا يقع فى التكليف تناقض ، انتهى ، وان تعجب فعجب انه كيف حكم بالوجوب على الله فى هذا المورد مستدلا بالعقل دون سائر الموارد.

ثم ان جهة الحسن او القبح ترجع الى عنوان واحد يعبر عنه بالمصلحة والمفسدة ، والمصلحة كون الفعل بحيث يلائم الغاية المطلوبة والمفسدة بخلافها ، وهما فى ستة نظامات : الاول نظام العالم برمتها ، الثانى نظام اجتماع العباد المختارين من الانس والجن والشياطين وغيرها ان كان ، الثالث نظام الاجتماع الانسانى الكبير ، الرابع نظام الاجتماع الانسانى الصغير ، الخامس نظام الاجتماع البيتى ، السادس نظام الفرد ، وهذه النظامات بعضها من بعض ، ويجب رعاية مصلحة كل منها مقدما على ما بعده بحيث يكون فوت المصلحة على المتأخران امتنع الجمع بين المصالح ، ولا خفاء فى ان رعاية المصالح وترتيبها وتعيين الافعال بحسبها بيده تعالى لان له الخلق والامر ، وجعل العباد مختارين من جملة المصالح ، وقل عقل يدركها وجهاتها كملا ، فالاعتراض بما لا يراه الناس مصلحة لفرد او اجتماع ساقط لذلك ، فرعاية المصلحة هى اتيان الفعل على ما يراه الحق صالحا بدلالة الشرع او العقل ، فحيث ان الفاعل المختار بيده ان يجعل فعله بحيث يؤدى الى غاية روعى لها المصلحة التى يجب عليه مراعاتها وان يجعله بحيث يؤدى الى غاية بخلاف ذلك يفتتح باب التحسين والتقبيح واتصاف الفعل بالحسن على الاول وبالقبح على الثانى وينطلق لسان المدح او الذم ممن يدرك تلك المراعاة وعدمها ، فجهة الحسن والقبح هى المصلحة والمفسدة ، ومناط التحسين والتقبيح والمدح والذم والثواب والعقاب هو رعاية الفاعل المختار لتلك المصلحة وعدمها ، فتحصل من ذلك كله ان المصلحة والمفسدة مع اختيار الفاعل اصل ، واعتبار الحسن والقبح يتفرع عليه ، والمدح والذم والثواب والعقاب متفرعة على الحسن والقبح.

اذا عرفت ذلك فلا حاصل لما ذكره القوشجى وغيره تبعا لبعض سلفهم دفعا لشناعة مذهبهم من ان الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة : الاول صفة الكمال والنقص ، يقال : العلم حسن اى لمن اتصف به كمال ، والجهل قبيح اى لمن اتصف به نقصان ، ولا نزاع فى ان هذا المعنى امر ثابت للصفات فى انفسها وان مدركه العقل ، الثانى ملائمة الغرض

٥٣٣

ومنا فرته فما وافق الغرض كان حسنا وما خالفه كان قبيحا وما ليس كذلك لم يكن حسنا ولا قبيحا ، وقد يعبر عنهما بالمصلحة والمفسدة ، فيقال : الحسن ما فيه المصلحة والقبيح ما فيه المفسدة وما خلا عنهما لا يكون شيئا منهما ، وذلك أيضا يدركه العقل كالمعنى الاول ، الثالث ما تعلق به مدحه تعالى وثوابه او ذمه وعقابه ، فما تعلق به الاول يسمى حسنا وما تعلق به الثانى يسمى قبيحا وما لا يتعلق به شيء منهما فهو خارج عنهما ، هذا فى افعال العباد ، وان اريد به ما يشمل افعال الله تعالى اكتفى بتعلق المدح والذم ، وهذا المعنى هو محل النزاع ، انتهى ، وبعد العرفان بما بينا من قبل يظهر مواقع النظر والايراد فى هذا الكلام وان هذا التفصيل لا يسمن ولا يغنى من جوع لان العلم والجهل مثلا وكذا سائر الصفات امور حادثة مستندة الى فاعل مختار وان كان هو الله تعالى ، واما المصلحة والمفسدة فلا يطلق عليهما الحسن والقبح ، نعم ما فيه المصلحة حسن وما فيه المفسدة قبيح كما وقع فى كلامه لانهما منشأ انتزاعهما كما قلنا ، فمن قال بالمصلحة والمفسدة فلا بد له ان يقول بالحسن والقبح اللذين يتفرع عليهما المدح والثواب والذم والعقاب للفاعل ، فان كان العقل مدركا لهما فمدرك لهما أيضا فحاكم عليهما بذم الفاعل وعقابه او مدحه وثوابه اذ ادراك منشأ الانتزاع يستلزم ادراك المنتزع ولكنهم لا يقولون بالمصلحة والمفسدة الواقعيتين ويسندون كل فعل من كل احد الى الله تعالى من دون غرض وغاية ، فذلك تمويه فى كلام بعضهم.

قول المصنف : بحسن الاحسان ـ يقال الاحسان لاتيان الفعل الحسن وهو قريب من معنى العدل وبهذا المعنى لا يحتاج الى التقييد ، ويقال بمعنى ايصال النفع الى الغير وحسنه يقيد بكونه فى المحل اللائق به.

قول الشارح : وتقريره انا نعلم الخ ـ إيضاح ذلك انه لو لم يكن الحسن والقبح عقليين بل كانا شرعيين فقط لما حكم بهما من لم يعترف بشريعة ، لكن التالى باطل لحكم البراهمة والملاحدة بل كل عاقل بحسن العدل والاحسان وقبح الظلم والإساءة بالضرورة ، واما الملازمة فظاهرة ، واعترض الخصم عليه بان جزم العقلاء بالحسن والقبح فى الامور المذكورة بالمعنى المتنازع فيه ممنوع ، بل بمعنى الملائمة

٥٣٤

والمنافرة ، والجواب ان الجزم بهما يستلزم الحكم بالحسن والقبح على الفعل كما مر بيانه فلذلك يمدحون الفاعل ويذمونه : ان قلت : يمكن منع بطلان التالى بان لكل اجتماع شريعة ، قلت : ان الخصم يقول لا حسن ولا قبح الا بشريعة إلهية ، وهؤلاء ليست لهم ذلك.

اقول : ان الجماعات البشرية متفقون فى قبح مفهوم الظلم وحسن مفهوم العدل لا فى مصاديقهما ، فما يحكم جماعة بكونه عدلا او ظلما فربما يحكم جماعة اخرى بالعكس ، فحديث العدل والظلم ووجوب ترك هذا والاخذ بذاك بين الناس على اصنافهم سواء كانوا اهل شريعة أم لا انما هو بحسب مصالحهم التى يرونها لانفسهم فيحكمون بكون امر عدلا وبكون آخر ظلما ، فبناء حسن افعاله تعالى وقبحها على ما يحكم به جماعات الناس من العدل والظلم كما هو مسلك المعتزلة غير صحيح لان حكمهم ليس على حقيقة ثابتة بين الجميع ، بل اتفاقهم انما هو فى حسن العدل وقبح الظلم مفهوما ، مع انه لو كان حكمهم بذلك على حقيقة ثابتة بينهم كان بحسب مصالح نظام الاجتماع الانسانى لا بحسب مصلحة النظام الاعلى ، فلا يكون حكمهم بحسن العدل وقبح الظلم فيما بينهم ميزانا للحكم بان نظير ما يكون ظلما بينهم ظلم من الله تعالى فيحكم بقبحه ونظير ما يكون عدلا بينهم عدل من الله تعالى فيحكم بحسنه ، فان اهلاك الطفل الصغير مثلا من انسان ظلم واما من الله فليس بظلم ، وما ورد فى بعض الاخبار من عقم نساء قوم نوح اربعين عاما فهلكوا ولم يكن فيهم طفل حتى لا يلزم ظلم بالاطفال فان صح الخبر كان ذلك لحكمة علينا خفية ، وجواب الامام عليه‌السلام : ما كان الله عز وجل ليهلك بعذابه من لا ذنب له لا ينافى ان يكون لعقم النساء حكمة اخرى.

قول الشارح : البراهمة والملاحدة ـ قال فى مجمع البحرين : يريدون بالملحدة الاسماعيلية الذين لا يعملون بالشرع مع غيبة الامام ، وبالبراهمة الذين لا يعملون بالشرع ولا يحسنون بعثة الأنبياء ، وهذان الفريقان يحكمان بالحسن والقبح العقليين

اقول : لا يبعد أيضا ان يكون تسمية الاسماعيلية بذلك لقولهم فى البارى تعالى : انه لا موجود ولا معدوم ولا عالم ولا جاهل ، ولا قادر ولا عاجز وكذا فى سائر الصفات

٥٣٥

فانهم الحدوا فى صفاته تعالى الى غير ما وصف به نفسه.

قول المصنف : ولانتفائهما مطلقا الخ ـ بيانه ان الحسن والقبح لو ثبتا بالشرع فقط لانتفيا مطلقا ، والتالى باطل بالاجماع ولاستحالة انتفاء الشيء على تقدير ثبوته ، بيان اللزوم انا لا نحكم على هذا بقبح شيء ولا بحسن شيء فلا نجزم بصدق اخبار من الشرع لان هذا الجزم اما لحكم العقل بقبح الكذب ومنافاة ذلك لحكمة البارى وحكم العقل بان صدور ما ينافى الحكمة عنه تعالى قبيح ، والمفروض ان العقل معزول عن ذلك ولا حكم له ، واما لحكم الشرع وهذا يستلزم الدور لتوقف الجزم بصدق الشرع على قبول حكمه وتوقف قبول حكمه على الجزم بصدقه.

واعترض عليه القوشجى بانا لا نجعل حكم الشرع اى امره ونهيه دليل الحسن والقبح ليرد ما ذكرتم بل نجعل الحسن عبارة عن كون الفعل متعلق الامر والمدح ونجعل القبح عبارة عن كون الفعل متعلق النهى والذم ، والجواب ان العاقل لا يجد فرقا بين الكلامين فى ان مفادهما ان الحسن والقبح لا يكونان الا بامر الشارع ونهيه ، ومفاد هذه العبارة صريح اسلافه فى كتبهم.

قول الشارح : فجاز وقوعه الخ ـ اى فجاز وقوعه نظرا إلينا حيث لا نحكم بقبح الكذب ، لا نظرا الى الواقع لانه على هذا خفى علينا ، وهذه الجملة المتفرعة مستغنى عنها فى الاستدلال اذ يكفى لبيان اللزوم عدم حكمنا بقبح شيء وحسن شيء كما ذكرنا.

قول الشارح : فاذا اخبرنا فى شيء الخ ـ الاولى ان يقال : فاذا اخبرنا بشيء لم نجزم بصدقه كما ذكرنا سواء كان الاخبار بقبح شيء او حسنه او بشيء آخر لتجويز الكذب عليه حيث لا يحكم العقل بقبح الكذب حتى يحكم بامتناعه عليه ، وحكمه به بعد اخبار الشرع يستلزم الدور كما بينا.

قول الشارح : ولجوزنا ان يأمرنا الخ ـ عطف على قوله : لم يثبتا لا شرعا ولا عقلا ، وهذا استدلال على حدته كما ذكره الشارح رحمه‌الله فى نهج الحق بقوله ملخصا : السادس لو كان الحسن والقبح شرعيين لحسن من الله تعالى ان يامر بالكفر

٥٣٦

وتكذيب الأنبياء وتعظيم الاصنام وبالمواظبة على الزنا والسرقة وان ينهى عن العبادة والصدق لانها غير قبيحة فى انفسها فاذا امر الله تعالى بها صارت حسنة ، وانها غير حسنة فى انفسها فاذا نهى الله تعالى عنها صارت قبيحة ، لكن لما اتفق انه تعالى امر بها ونهى عنها لغير غرض ولا حكمة صارت تلك حسنة وتلك قبيحة ، واما قبل الامر والنهى فلا فرق بينهما.

قول الشارح : على هذا التقدير ـ اى على تقدير ان لا يكون الفعل فى نفسه حسنا او قبيحا لان الفعل حينئذ خال عن المصلحة والمفسدة ، وبدونهما لا معنى للحكمة التى هى صدور الفعل بحيث يراعى فيه مصلحته للنظام المطلوب وخلوه عن المفسدة فيه.

قول المصنف : ولجاز التعاكس ـ التعاكس هو صيرورة الحسن قبيحا والقبيح حسنا ، وهو ممتنع جزئيا ، اما بحسب الشرع فلان كثيرا مما امرنا به الشارع وحكم بحسنه يمتنع ان يصير منهيا عنه محكوما بالقبح كتحصيل المعارف وتوقير الاولياء ، وكثيرا مما نهانا عنه وحكم بقبحه يمتنع ان يصير مأمورا به محكوما بالحسن كتكذيب الأنبياء وقتل النفس بغير حق وهذا يرجع الى الدليل الّذي نقلناه ذيل قول الشارح : ولجوزنا ان يأمرنا بالقبيح ، واما بحسب العقل فكالذى ذكره الشارح ، ووقوع النسخ والتعاكس عند الشرع والعقل فى بعض الامور لا ينافى امتناعه فى بعض آخر بالضرورة ، فالممتنع هو التعاكس فى كل فعل الّذي هو لازم القول بان الحسن والقبح ليسا الا بتعلق امر الشارع ونهيه.

ان قلت : على ما اخترتم من ان الحسن والقبح فى جميع الافعال بالوجوه والاعتبار يجوز التعاكس فى كل فعل لان تغير الاعتبار يستدعى امكان التعاكس ، قلت : ان العقل اذا حكم بقبح فعل او حسن فعل بوجوه امتنع تعاكسه مع بقاء تلك الوجوه من دون زيادة ونقصان وتغير واختلاف كقتل النفس من دون موجب واداء الحق من دون مانع ، وعلى هذا امتنع التعاكس كليا.

قول الشارح : ولا العادات ـ اشارة الى ما قيل فى الوجه الاول من ان حكم

٥٣٧

البراهمة وغيرهم من الذين ليسوا اهل شريعة بالحسن والقبح انما هو مستند الى العادات وتقليد الآباء ، والجواب ان ما مثل به الشارح لا يتطرق إليه الاستناد الى العادات مع ان العادات لها ابتداء لم يكن بالعادة.

ثم ان هاهنا وجوها اخرى من الآيات والاخبار وادلة العقل يمكن الاستدلال بها على المطلوب تركناها مخافة التطويل.

قول الشارح : لو كان العلم بقبح الاشياء الخ ـ اى بعضها لان القائلين بذلك لم يدعوا العلم الضرورى بقبح جميع الاشياء او حسنها ، بل بعض الافعال كما نقلنا ذلك من الشارح نفسه.

قول المصنف : وارتكاب اقل القبيحين الخ ـ اعلم ان للاشاعرة شبهات فى المسألة جعلوها دلائل لمدعاهم :

الشبهة الاولى ما نقله الشارح هنا ، وجوابه من وجوه :

الاول منع بطلان التالى لان فى هذا الكذب جهتين جهة ذاتية وهى تقتضى قبحه وجهة عارضة وهى كونه سببا لتخليص النبي وهى تقتضى حسنه فهو حسن بهذه الجهة وقبيح من حيث ذاته ، فتقدم جهة حسنه على جهة قبحه لانها ارجح ، وببيان آخر ان جهة الحسن العارضة مانعة عن الاقتضاء الذاتى ، والى هذا الجواب اشار المصنف بقوله : وارتكاب اقل القبيحين.

واعترض الفخر الرازى فى الاربعين والبراهين على هذا الجواب بانه لو جاز تخلف القبح عن الكذب لمانع فلا كذب الا ويجوز ان يقال : لعله وجد مانع من الموانع يمنع عن قبحه فلا يمكن الحكم القطعى بقبح شيء من الاكاذيب ، والجواب ان المقطوع وهو قبح الكذب لا يرفع اليد عنه الا بمانع مقطوع اقوى.

الوجه الثانى منع بطلان التالى أيضا بان الكذب المقتضى للتخليص قبيح ، لكنا لا نحتاج فى التخليص الى ارتكاب الكذب لامكان التعريض والتورية كما قيل : ان فى المعاريض لمندوحة عن الكذب ، والى هذا اشار بقوله : مع امكان التخلص ، اى التخلص عن الكذب بالتورية.

٥٣٨

واعترض الفخر فى الكتابين على هذا الجواب أيضا بانا نفرض الكلام فيما لا يمكن التورية كما لو سألك الظالم المريد لقتل النبي : أرأيته فى هذه الساعة وانت رأيته ، فان قلت : نعم طالبك وقتله ، وان قلت : لا فقد كذبت ، والجواب ان التورية ممكنة ولو فى هذا المفروض ، مع انه يمكنه اتيان الكذب بصورة الاخبار من غير قصد إليه.

الوجه الثالث منع الملازمة لان الكذب ليس قبيحا بذاته ، بل بالوجوه والاعتبارات كما مر بيانه ، فالكذب بهذه الجهة ليس قبيحا اصلا.

الشبهة الثانية ما نقله الشارح بقوله : لو قال الانسان لا كذبن غدا الخ ، وتوضيحه ان الانسان لو قال : لا كذبن غدا لزم ان لا يكون احد الكذبين قبيحا لانه اما يحسن الوفاء بعهده فى الغد او لا يحسن ، فعلى الاول لزم حسن الكذب فى الغد وعلى الثانى كان قوله : لاكذبن غدا كذبا حسنا ، والجواب انه لا يحسن الوفاء بعهده فى الغد لان فى الوفاء ارتكاب قبيحين : الكذب الّذي يقوله غدا والعزم عليه ، وفى ترك الوفاء قبيح واحد وهو الكذب بقوله : لا كذبن غدا

اقول : ان قوله : لا كذبن غدا اخبار ليس فيه مفهوم العهد والوعد الا بتأويل ان يكون كذبا خاصا مطلوبا لاحد فى الغد فوعده بذلك ، وعلى اى حال سواء جرى فى الغد على ما قال أم لا فهذا الكلام قبيح لانه ان لم يكن له عزم بذلك فهو لغو ، وان كان فوعد بالقبيح او اظهار لعدم التحاشى عن ارتكاب القبيح ، واما فى الغد فان فعل ذلك فقد فعل قبيحا آخر والا فلا ، هذا ان لم يكن فى كذبه غدا مصلحة اقوى من مفسدة الكذب والا فالوعد به والوفاء بوعده كلاهما حسن.

الشبهة الثالثة لو كان العبد مجبورا فى افعاله لما اتصف فعله بالحسن ولا بالقبح العقليين لان مناطهما عندكم هو اختيار العبد كما مر ، لكنه مجبور فلا حسن ولا قبح فى فعله ، والجواب ان العبد ليس مجبورا فى افعاله كما يأتى بيانه فى المسألة السادسة ، وإليه اشار المصنف بقوله : والجبر باطل ، مع ان الامر لو كان كذلك لزم عدم اتصاف فعله بالحسن والقبح الشرعيين أيضا اذ لا يصح تعلق المدح او الذم بفعله ، على ان الكلام بالاصالة فى افعاله تعالى لا افعال العباد.

الشبهة الرابعة ما ذكره الرازى فى الاربعين والبراهين تركها المصنف لشدة

٥٣٩

فظاعتها ، والطالب يراجع.

قول الشارح : ولان جهة الحسن الخ ـ عطف على قوله : لان تخليص النبي عليه‌السلام ارجح الخ ، وهذا تعليل ثان لعدم بطلان التالى على القول بكون القبح ذاتيا لبعض الافعال ، فان الكذب قبيح بذاته وتخليص النبي الّذي اجتمع مع هذا الكذب حسن بذاته ، مع غلبة حسنه على قبحه.

قول الشارح : الطعن فى الصغرى ـ قد يطلق الصغرى على المقدم فلا اعتراض عليه ، مع ان هذه الشبهة يمكن ان ترتب بالقياس الاقترانى بان يقال : العبد مجبور فى افعاله وكل من هو مجبور فى افعاله لا يتصف فعله بالحسن والقبح.

ثم ان قول الاشاعرة بان الحسن والقبح شرعيان يحصلان للافعال بمجرد امر الشارع ونهيه لا باعتبار المصلحة والمفسدة فى نفس الفعل لا ينحصر بشخص الشارع عندهم ، بل لو امر واحد من المتشرعة بشيء او نهى عن شيء باجتهاده يصير حسنا او قبيحا ، وهذا هو القول بالتصويب المعروف منهم ، قال الرازى فى الاربعين : هل الحسن والقبح لصفة عائدة الى الفعل او هو محض حكم الشرع بذلك او حكم اهل المعرفة بالشرع ، فقالت المعتزلة بالاول ، ومذهبنا الثانى ، انتهى ، والتفصيل فى ذلك موكول الى اصول الفقه.

المسألة الثانية

( فى انه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب )

قول الشارح : اختلف الناس هنا الخ ـ اعلم ان المعتقدين بالمبدإ الواحد جميعا قائلون بانه تعالى لا يفعل الا الحسن فلا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب لانه قبيح أيضا ، وكذا متفقون فى ان الفعل ما لم يتم علته لم يوجد ، ولكن الاقوام بعد هذا الاتفاق تفرقوا :

٥٤٠