توضيح المراد - ج ١

السيد هاشم الحسيني الطهراني

توضيح المراد - ج ١

المؤلف:

السيد هاشم الحسيني الطهراني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
المطبعة: المصطفوي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

شفيع يطاع ، ويحتمل ان يكون المراد بالظالمين الكفار ، فهؤلاء لا يلحقهم شفاعة شافع اصلا ، وان حملنا على عموم كل ظالم من كافر وغيره جاز أن يكون انما اراد نفى شفيع يطاع ، وليس فى ذلك نفى شفيع يجاب ، ويكون المعنى ان الذين يشفعون يوم القيامة من الأنبياء والملائكة والمؤمنين انما يشفعون على وجه المسألة إليه والاستكانة إليه لا انه يجب على الله ان يطيعهم فيه ، وقد يطاع الشافع بان يكون الشافع فوق المشفوع إليه ، ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لبريرة : انما انا شافع لكونه فوقها فى الرتبة ولم يمنع من اطلاق اسم الشفاعة على سؤاله.

اقول : ان الظالمين فى الآية اما عام او خاص بالكفار والمنافقين والمشركين ، ويطاع اما يكون بالنسبة إليه تعالى او بالنسبة الى المشفوع لهم ، والحق انه خاص لقوله تعالى : فى سورة الشعراء حكاية عنهم : ( تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، وقوله تعالى فى سورة الحاقة : صانه كان لا يؤمن بالله العظيم ( وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ) فليس له اليوم هاهنا حميم ، ولروايات كثيرة من الفريقين فى ثبوت الشفاعة للظالمين من المؤمنين ، واما يطاع فليس بالنسبة إليه عز وجل اذ ليس من بليغ الكلام ان يقال : ليس للظالمين يوم القيامة شفيع يطيعه الله تعالى فى شفاعته لان نفى معنى عن مورد عند العرف يفيد شأنية المورد له ، اللهم الا ان يتجوز فى معنى الاطاعة من الانقياد الى قبول القول ، وهذا الّذي ذكرت ما نقله الطبرسى رحمه‌الله فى مجمع البيان حيث قال « ما للظالمين من حميم » يريد ما للمشركين والمنافقين من قريب ينفعهم « ولا شفيع يطاع » فيهم فتقبل شفاعتهم ، عن ابن عباس ومقاتل ، انتهى.

فمعنى الآية ان الظالمين الذين ظلموا انفسهم بالكفر والشرك والنفاق ليس لهم قريب ينفعهم ولا شفيع اطاعوه فى الدنيا بالحق كما ان ذلك ثابت لغيرهم من المؤمنين الذين تعاونوا على البر والتقوى واطاعوا من نصبه الله تعالى للاطاعة من الأنبياء

٨٤١

وائمة الهدى ، وبهذا الّذي قلنا روايات كثيرة ، راجع ثامن البحار المطبوع حديثا.

والحاصل ان قولهم فى سورة الشعراء : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم اظهار لتحسر هم على الفائت عنهم مما حصل لاهل الايمان والولاية من الانتفاع بصديق حميم وشفاعة الشافعين ، وحكى الله تعالى ذلك الواقع عنهم فى هذه الآية.

قول الشارح : والله تعالى فوق الخ ـ قد قلنا ان يطاع ليس بالنسبة إليه تعالى لان ذلك لا يليق بالبلاغة ولان نفى الشفيع المطاع بهذا المعنى لا يختص بالظالمين.

قول الشارح : ولا يلزم من نفى الشفيع الخ ـ اى لا يلزم من ذلك نفى الشفيع المجاب فى شفاعته ، بل يجوز ان يكون للظالمين شفعاء يجيز الله شفاعتهم ويقبل فى الظالمين قولهم ويجاب فى الشفاعة دعوتهم ، ثم لما نظرنا فى الادلة وجدنا ان تلك الشفاعة والاجابة ليست لكل ظالم ، بل لمن هو مع ذلك من اهل الايمان والولاية.

ان قلت : ما الفائدة فى تقييد الشفيع فى الآية بالمطاع ، قلت : ان الفائدة على ما قلنا من كون المطاع بالنسبة الى المشفوع لهم ان الشفيع للمؤمن العاصى لا يكون الا الّذي اطاعه من النبي او الوصى او الولى الفقيه لان اضافة الاطاعة بينهما تصحح شفاعة المطاع حقا للمطيع عند الله عز وجل ، ولو لا ذلك لا ارتباط بينهما يصحح ذلك ، وشفاعة بعض المؤمنين الكاملين لبعض ليس فى درجتهم من الايمان كما نطق به بعض الاخبار ترجع بالاخرة الى تلك الاضافة والارتباط ، فالشفاعة لمطيع الحق من مطاعه ، واما غيره فالمطيع والمطاع كلاهما فى النار ، واما على القول بان المطاع بالنسبة إليه تعالى فالفائدة فيه الاشعار بان قبول الشفاعة ليس يجب عليه تعالى بحيث يعدّ مطيعا للشافعين بل على وجه المسألة والاستكانة منهم كما ذكر الشيخ رحمه‌الله فى تبيانه بقوله : ويكون المعنى ان الذين يشفعون يوم القيامة الى آخر ما نقلناه عنه عن قريب.

ان قلت : ان بعد هذا الكلام : يعلم خائنة الاعين وما تخفى الصدور ، فما المانع عن ان يكون يطاع ابتداء الكلام ويعلم حالا من ضمير يطاع الراجع الى الله تعالى لا

٨٤٢

الى شفيع ، فلم يكن شفيع يقيد بيطاع ، قلت : ذلك خلاف اجماع القرّاء لانهم وقفوا على يطاع ، ولو كان الامر كما قلت لوجب الوقف على شفيع ووصل يطاع بما بعده.

قول الشارح : وما للظالمين من انصار ـ فى سورة البقرة وآل عمران والمائدة ، وكذا ما للظالمين من نصير فى سورة الحج وفاطر.

قول الشارح : ولا تنفعها شفاعة ـ اكثر من عشرة مواضع نفى فيها اصل الشفاعة او نفعها او اغناؤها او ملكها او قبولها.

قول الشارح : يوم لا تجزى الخ ـ فى موضعين من سورة البقرة : واتقوا يوما لا تجزى الآية ، فى احدهما ولا تنفعها شفاعة ، وفى الاخر ولا يقبل منها شفاعة ، وفى الموضعين يوما منصوب على المفعولية للفعل الّذي قبله لا على الظرفية ، ولا تجزى صفة له والعائد الى الموصوف محذوف اى يوما لا تجزى فيه نفس ، واما اضافة يوم الى لا تجزى على ما فى نسخ الكتاب فاشتباه منه رحمه‌الله او خطاء من النساخ ، نعم فى سورة الانفطار : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله باضافة يوم الى لا تملك.

قول الشارح : والجواب عن هذه الخ ـ على ان اكثر هذه الآيات بقرينة ما قبلها او ما بعدها تنطبق على الكفار والمنافقين واهل العداوة لاهل البيت صلوات الله عليهم.

قول المصنف : وقيل فى اسقاط المضار ـ الظاهر ان اصحاب هذا القول ذهبوا الى ان الشفاعة فى اسقاط المضار فقط كما ذهب اصحاب القول الاول الى انها فى زيادة المنافع فقط.

قال الاشعرى فى مقالات الاسلاميين : اختلفوا فى شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل هى لاهل الكبائر ، فانكرت المعتزلة ذلك وقالت بابطاله ، وقال بعضهم : الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ان يزدادوا فى منازلهم من باب التفضيل ، وقال اهل السنة والاستقامة بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لاهل الكبائر من امته.

٨٤٣

وقال النسفى فى العقائد : والشفاعة ثابتة للرسل والاخيار فى حق اهل الكبائر بالمستفيض من الاخبار.

وقال التفتازانى فى شرحه بعد ذكر ادلة الطرفين : ولما كان اصل العفو والشفاعة ثابتا بالأدلّة القطعية من الكتاب والسنة والاجماع قالت المعتزلة بالعفو عن الصغائر مطلقا وعن الكبائر بعد التوبة وبالشفاعة لزيادة الثواب وكلاهما فاسد ، اما الاول فلان التائب ومرتكب الصغيرة المجتنب عن الكبيرة لا يستحقان العذاب عندهم فلا معنى للعفو ، واما الثانى فلان النصوص دالة على الشفاعة بمعنى طلب العفو عن الجناية.

وقال الشيخ الطوسى رحمه‌الله فى تبيانه : وقوله لا يقبل منها شفاعة مخصوص بالكفار لان حقيقة الشفاعة عندنا ان يكون فى اسقاط المضار دون زيادة المنافع ، والمؤمنون عندنا يشفع لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيشفعه الله تعالى ، ويسقط بها العقاب عن المستحقين الخ.

وقال الطبرسى رحمه‌الله فى المجمع ذيل الآية قريبا من ذلك.

اقول : هذه الكلمات ظاهرة فى ان اصحاب هذا القول حصروا الشفاعة فى اسقاط المضار ، والمصنف رحمه‌الله قال بالشفاعة فيه وفى زيادة المنافع ، وقد ذكرنا فى اوّل المسألة ان الشفاعة فى امور هذان منها.

قول المصنف : والحق صدق الشفاعة فيهما ـ اى صدقها عرفا كما بينه الشارح ، فاذا لم يتم دليل الحصر فى واحد منهما مع الصدق العرفى فيهما فلا مانع من الذهاب الى القول بثبوتها بكلا المعنيين ان وجد المقتضى لذلك من الادلة السمعية ، وقد وجد.

قول المصنف : وثبوت الثانى له الخ ـ اى ثبت الشفاعة بالمعنى الثانى له صلى‌الله‌عليه‌وآله بالدليل السمعى وهو قوله : ادخرت شفاعتى الخ.

اقول : بل ثبتت بالمعنى الاول أيضا ، ولاهل بيته وسائر الأنبياء والاولياء والعلماء والاخيار أيضا ، كل ذلك بالآيات والاخبار.

٨٤٤

المسألة الحادى عشرة

( فى وجوب التوبة )

عقد هذه المسألة فى الكلام مع انها فقهية لان التوبة متعلقة بالعقاب.

قول الشارح : التوبة هى الندم الخ ـ الندم هو اضطراب روحى مع انقباض يحصل للانسان عند اعتقاد التضرر بما فعله او تركه اختيارا بحيث لو استطاع تدارك ذلك لفعل ، وهذا يلزمه العزم على ترك المعاودة لا محالة كالعكس فهما متلازمان ، والعزم انما يتعلق بما فى حيطة الاختيار فيما يستقبل ، فما فعل بالعبد او ترك منه خارجا عن اختياره لم يصح ان يقال : انه كان عازما عليه ، فلذلك اذ حضر الموت فات مجال التوبة مع ان الندم حاصل وترك المعاودة واقع قهرا ، قال تعالى : ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) ، ولذلك قال تعالى : وليست التوبة لهم ، اى لم يتحقق منهم التوبة اذ لا يقدرون على ذلك العزم عند حضور الموت ، ولم يقل : لا تقبل توبتهم لان التوبة اذا تحققت من العبد قبلها الله تعالى تفضلا كما عليه الامامية والاشاعرة وفريق من المرجئة او وجوبا كما عليه المعتزلة وفريق آخر من المرجئة لانه تعالى قال : يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ، فتقييد التوبة فى الآية بالمقبولة كما فى بعض التفاسير ليس على ما ينبغى ، واما قوله تعالى فى المرتدين : فلن تقبل توبتهم فذلك فى ظاهر الشرع لا عند الله تعالى ان وقعت منهم التوبة حقيقة.

اقول : الظاهر ان التوبة المثبتة فى قوله تعالى : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ ) الآية والمنفية فى قوله تعالى : ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ) الآية هى توبة الله تعالى فان العبد اذا تاب الى الله عز وجل بالايمان والتقوى تاب الله عليه بالرحمة والمغفرة ، فمحصل الآيتين ان عفوه تعالى للذين يتوبون من قريب

٨٤٥

على الحقيقة لا للذى يتمادى فى الكفر او السيئات الى حضور الموت فيقول انى تبت الآن فان ذلك صرف قول لا التوبة حقيقة.

ثم ان تعلق التكليف عقلا وسمعا بالتوبة انما هو باعتبار العزم على ترك المعاودة والرجوع عما كان عليه من العصيان لان الندم خارج عن الاختيار فلا يصح تعلق التكليف به وان كان العزم لا ينقدح فى الباطن من دون حصول الندم لتلازمهما ، وقال بعض : ان التكليف به يصح باعتبار اسبابه التى بيد العبد ، فتدبر.

قول الشارح : لكونها معصية ـ هذا القيد معتبر شرعا لان الندم على المعصية ان كان للاخلال بما يرجع إليه من عرضه او نفسه او ماله او حرمته ووجاهته عند الناس او غير ذلك لا يعدّ توبة عند الشارع ، بل لا بد ان يمحض ذلك على ما وقع منه من معصية الله تعالى ، والاحكام الآتية تدور مدار هذا القيد.

قول الشارح : فى المستقبل ـ هذا القيد مستدرك لان العزم لا يكون الا بالنسبة الى ما يستقبل.

قول الشارح : لان ترك العزم الخ ـ اى انتفاؤه يستلزم انتفاء الندم لانه لازمه.

ثم ان هذا العزم لا بدّ منه فى تحقق التوبة سواء قلنا انه جزء من حقيقتها كما هو ظاهر الشارح رحمه الله تعالى وظاهر الشارح البهشتى والشارح القديم وغيرهم ، او خارج لازم لها كما هو ظاهر القوشجى ، او شرط لها كما هو صريح المفيد رحمه الله تعالى فى اوائل المقالات.

وفى الكافى باب الاعتراف بالذنوب عن امير المؤمنين صلوات الله عليه : ان الندم على الشر يدعو الى تركه ، وفى هذا اشارة الى اللزوم.

ثم ان من لم يتمكن من الذنب الّذي فعله كمن زنى ثم جبّ فان ندم عليه كان ذلك توبة صحيحة وان لم يتحقق منه العزم على الترك لعدم قدرته عليه لان له العزم تقديرا بحيث يكون عازما على الترك ان استطاع ، واما من حضره الموت فلا مجال له للعزم لا تحقيقا ولا تقديرا ، وندمه أيضا ليس عن انفعال إلهى بل من الهول والدهشة

٨٤٦

فلو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه.

ان قلت : قد ورد فى الاخبار الصحيحة : كفى بالندم توبة ، وهذا ظاهر فى عدم اشتراط العزم على ترك المعاودة ، قلت : اذا كان الندم يدعو الى الترك ويستلزمه كما مرّ آنفا فى كلام امير المؤمنين عليه‌السلام فمن بليغ الكلام ان يكتفى به فى مقام البيان.

قول الشارح : وهى واجبة بالاجماع ـ اما عند الاشاعرة فبالسمع من الآيات والاخبار الآمرة بها لان الدليل العقلى فى ذلك يبتنى على القول بالوجوب والحسن والقبح العقلية كما يأتى بيانه وهم لا يقولون بذلك ، واما عند غيرهم فبالعقل والسمع معا ، هذا ، ولكن قال الاشعرى فى مقالات الاسلاميين : واختلفوا ( اى الناس ) فى وجوب التوبة فقال قائلون : التوبة من المعاصى فريضة ، وانكر ذلك آخرون.

قول الشارح : ولا تحب من الصغائر الخ ـ لانها مغفورة استحقاقا او تفضلا.

قال الاشعرى فى المقالات : اختلف المعتزلة فى غفران الصغائر على ثلاثة اقاويل : فقال قائلون : ان الله سبحانه يغفر الصغائر اذا اجتنب الكبائر تفضلا ، وقال قائلون : يغفر الصغائر اذا اجتنب الكبائر باستحقاق ، وقال قائلون : لا يغفر الصغائر الا بالتوبة.

اقول : ظاهر قوله تعالى : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ) وكذا ما فى الحديث : من اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر ان الصغائر مغفورة من المؤمنين بدون التوبة بشرط اجتناب الكبائر تفضلا ، وهذا احد موارد العفو من دون التوبة والشفاعة.

ولكن العارف لا ينبغى له ان يغترّ بكرم ربه عز وجل فان مخالفة الحق ولو بمكروه يوجب انحطاط الدرجة فى الآخرة لا محالة.

قول الشارح : انها لا تجب من الخ ـ اى لا تجب التوبة عن الذنب الّذي تاب منه اذا نقض توبته وعاد الى مثل ذلك الذنب ، وفى قبالهم من قال : تجب لان توبته تلك بطلت بنقضها.

٨٤٧

قال الاشعرى فى المقالات : اختلف المعتزلة فى التائب يتوب من الذنب ثم يعود إليه على مقالتين : فقال قائلون : يؤخذ بالذنب الّذي تاب منه اذا عاد إليه ، وقال قائلون : لا يؤخذ بما سلف لانه قد تاب منه.

اقول : فى قوله تعالى : ( وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) فى آكل الربا ، وقوله تعالى : ( وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ) فى المحرم القاتل للصيد ، وقوله تعالى فى الكفار : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ) اشعار بان العائد الى الذنب الاول يؤخذ اشد من الاخذ الاول.

قول الشارح : سواء تاب عنها الخ ـ التوبة من الذنب الّذي تاب منه هى الاستمرار على التوبة بحيث لو نقض توبته وعاد الى مثله بطلت توبته ، وعلى هذا فيجب التوبة عن كل ذنب فى كل وقت بان تاب عنه ابتداء او استمرّ على توبته او استأنف التوبة عنه ان نقضها.

قول الشارح : الاول انها دافعة الخ ـ هذا قياس من الشكل الاول صورته ان التوبة دافعة للضرر المحتمل الّذي هو العقاب ودافعة لخوف ذلك العقاب المحتمل وكل دافع لذلك يجب اتيانه بحكم العقل فالتوبة يجب اتيانها ، بيان الصغرى ان معصية المولى مقتضية للعقاب وشمول عفوه من دون التوبة غير معلوم وكذا الشفاعة اذ ليسا من حق العبد فيصير العقاب محتملا قويا والخوف منه حاصلا ، وبيان الكبرى ان العقل يحكم بالضرورة باتيان ما يدفع هذا الخوف والاحتمال وليس ذلك الا التوبة ، فتجب بحكمه ليحصل الأمن.

ان قلت : انى يحصل القطع بقبول توبته حتى يحصل الأمن ، قلت : ان تاب بحقيقتها التى هى الندم على مخالفة المولى من حيث هى مخالفة المولى العظيم القهار والعزم على تركها حصل القطع بذلك لانه تعالى وعد فى كتابه بقبول توبة عبده وانه عز وجل لا يخلف الميعاد.

ان قلت : فاين موضع الاستغفار؟ قلت : ان العبد العاصى اذا تذكر مقام ربه

٨٤٨

من العظمة والجلال والكبرياء وتضرر نفسه بالعصيان والخطاء حصل له الندم لا محالة واحترق قلبه بنار الندامة على قدر عرفانه بعظمة ربه ففى الحال يتمحل لاطفاء تلك النار وازالة ذلك العار عن ذيل روحه فى مقام عبوديته ، ولا يجد بفطرته طريقا الى ذلك الا التوجه بقلبه الى جناب ربه الرحمن المستعان ، ناظرا الى جمال عفوه ورحمته ومغفرته ، داعيا يا الله يا رحمان يا رحيم يا عفوّ يا غفور ، يا ذا الصفح الجميل يا اهل المغفرة والرحمة يا ذا الجلال والاكرام يا ذا الفضل والانعام يا من اظهر الجميل وستر القبيح يا من لم يؤاخذ بالجريرة ولم يهتك الستر يا عظيم العفو يا حسن التجاوز يا واسع المغفرة يا باسط اليدين بالرحمة يا مقيل العثرات يا كريم الصفح يا ربنا وسيدنا ومولانا ، قائلا لا إله الا انت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسى فاغفر لى واعف عنى وارحم ذلى ومسكنتى فانه لا ربّ لى سواك ولا يغفر الذنوب الا انت يا خير الغافرين ويا ارحم الراحمين ، وهذا مقام الاستغفار والاستعفاء بعد ان قام مقام التوبة القلبية باحتراق قلبه بنار الندامة بعد ملاحظة عظمة ربه وتضرر نفسه ، ثم يأتى من بعد ذلك الى مقام التوبة النفسية بالعزم على ترك طريق الخلاف واخذ طريق الوفاق قائلا : اياك نستعين ولا حول عن معصيتك الا بك ولا قوة على طاعتك الا بك ، ثم يأتى من بعد ذلك الى مقام التوبة العملية بقضاء ما فات عنه من الفرائض واداء ما ضيع من حقوق الخلائق وجبران ما انتقص عليه من الوظائف والفضائل ، فعند ذلك يشمله العفو والمغفرة من عند رب المغفرة والعفو بفضله حسب وعده.

قال الله تعالى : ( الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ، أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ، إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ).

وفى مصباح الشريعة : قال الصادق عليه‌السلام : التوبة حبل الله ومدد عنايته ، ولا بد للعبد من مداومة التوبة على كل حال ، وكل فرقة من العباد لهم توبة ، فتوبة الأنبياء من اضطراب السر ، وتوبة الاولياء من تلوين الخطرات ، وتوبة الاصفياء من التنفيس ،

٨٤٩

وتوبة الخاص من الاشتغال بغير الله ، وتوبة العام من الذنوب ، ولكل واحد منهم معرفة وعلم فى اصل توبته ومنتهى امره ، وذلك يطول شرحه هاهنا ، فاما توبة العام فان يغسل باطنه من الذنوب بماء الحسرة والاعتراف بجنايته دائما واعتقاد الندم على ما مضى والخوف على ما بقى من عمره ، ولا يستصغر ذنوبه فيحمله ذلك الى الكسل ، ويديم البكاء والاسف على ما فاته من طاعة الله ، ويحبس نفسه من الشهوات ويستغيث الى الله تعالى ليحفظه على وفاء توبته ويعصمه عن العود الى ما اسلف ، ويروض نفسه فى ميدان الجهد والعبادة ، ويقضى الفوائت من الفرائض ، ويرد المظالم ، ويعتزل قرناء السوء ، ويسهر ليله ، ويظمأ نهاره ، ويتفكر دائما فى عاقبته ، ويستعين بالله سائلا منه الاستقامة فى سرائه وضرّائه ، ويتثبت عند المحن والبلاء كيلا يسقط عن درجة التوابين فان فى ذلك طهارة من ذنوبه وزيادة فى عمله ورفعة فى درجاته ، قال الله عز وجل : ( فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ).

وفى سادس البحار المطبوع حديثا باب التوبة عن تحف العقول عن كميل بن زياد قال : قلت لامير المؤمنين عليه‌السلام : يا امير المؤمنين العبد يصيب الذنب فيستغفر الله منه فما حد الاستغفار ، قال : يا ابن زياد التوبة ، قلت بس؟ قال : لا ، قلت : فكيف؟ قال : ان العبد اذا اصاب ذنبا يقول : استغفر الله بالتحريك ، قلت : وما التحريك ، قال : الشفتان واللسان يريد ان يتبع ذلك بالحقيقة ، قلت : وما الحقيقة ، قال : تصديق فى القلب واضمار ان لا يعود الى الذنب الّذي استغفر منه ، قال كميل : فاذا فعل ذلك فانه من المستغفرين؟ قال : لا ، قال كميل : فكيف ذاك ، قال : لانك لم تبلغ الى الاصل بعد ، قال كميل : فاصل الاستغفار ما هو ، قال : الرجوع الى التوبة من الذنب الّذي استغفرت منه ، وهى اوّل درجة العابدين ، وترك الذنب والاستغفار اسم واقع لمعان ستّ : اولها الندم على ما مضى ، والثانى العزم على ترك العود ابدا ، والثالث ان تؤدى حقوق المخلوقين التى بينك وبينهم ، والرابع ان تؤدى حق الله فى كل فرض ، والخامس ان تذيب اللحم الّذي نبت على السحت والحرام حتى يرجع الجلد الى عظمه ، ثم تنشئ فيما بينهما لحما جديدا ، والسادس ان تذيق البدن الم

٨٥٠

الطاعات كما اذقته لذات المعاصى.

قول الشارح : هو العقاب والخوف ـ فى بعض نسخ الكتاب والشرح القديم والقوشجى معطوف بأو ، فالمعنى على هذا : انها دافعة للضرر الّذي هو العقاب فى الآخرة ان لم يشمل العاصى العفو والشفاعة او خوف العقاب فى الدنيا ان شمله ، والمنفصلة مانعة الخلو ، وتقدير المحتمل كما مر فى بياننا غير محتاج إليه على هذا الفرض.

قول الشارح : الثانى انا نعلم الخ ـ هذا أيضا قياس من الشكل الاول ، هو ان التوبة ندم على القبيح او الاخلال بالواجب والندم على ذلك واجب لان الاصرار عليه قبيح عند العقلاء.

اقول ؛ قد قلنا ان الندم امر قهرى يحصل عند الاعتقاد بالتضرر بما فعله او تركه ، فهو من حيث هو ندم لا يتعلق به التكليف حتى يقال : انه واجب وتركه قبيح ، فالحق ان يقال : انا نعلم قطعا وجوب العزم على ترك معاودة القبيح او الاخلال بالواجب لان عدم العزم والاصرار على ذلك قبيح بحكم العقل والعقلاء.

قول الشارح : اذا عرفت الخ ـ اى اذا عرفت بالدليلين ان التوبة واجبة كلية لكلية المقدمتين فى كل من القياسين فهى واجبة عن كل ذنب ولا يصح من البعض كما يأتى التصريح به فى كلام المصنف عن قريب.

قول المصنف : ويندم على القبيح لقبحه الخ ـ حاصل هذا الكلام ان باعث العبد على التوبة يجب ان يكون قبح ما فعله من الحرام او ما تركه من الواجب سواء انضم إليه امر آخر من الامور الدنيوية او الاخروية أم لا بحيث لو كان الباعث امرا آخر وان كان امرا اخرويا من فوات الجنة او عذاب النار لم تصح توبته ، واستدل على ذلك بامرين.

الاول انتفاء الندم لان شارب الخمر لو ترك شربها او تارك الصلاة لو أتى بها مثلا لان الناس يذمونه او احس ضرر الشرب ببدنه او خاف عذاب النار لم يندم على هذا الفعل او الترك ، بل ترك الشرب وفعل الصلاة لاجل هذه الامور ، فلو لا هى لارتكب الشرب وترك الصلاة ، فاذا انتفى الندم انتفت التوبة لانها متقومة به.

٨٥١

الثانى قياس التوبة بالاعتذار العرفى فان المسىء لو اعتذر الى المظلوم لا لانه اساء إليه بل لخوفه من عقوبة السلطان لم يقبل عذره.

اقول : فى كلا الوجهين نظر ، والحق ان الندم يحصل وان لم يكن سببه نفس فعل الحرام او ترك الواجب ، بل امر توسط بينه وبين الندم ، فتلك الواسطة ان كانت بحيث يصح معها قصد القربة فى ترك المحرم واتيان الواجب كخوف النار وحرمان الثواب فى دار القرار صحت توبته ، وان كانت بحيث تنافى ذلك كخوف الضرر ببدنه او ملامة الناس او عقوبة السلطان فلا ، والحاصل ان قيل لتارك شرب الخمر : لم تركته؟ فان قال : لقبحه فى الدين او لانه حرام او لخوف العقاب او لرجاء الثواب او للتقرب الى الله او لان الله نهانى عنه او للامن من سخطه او غير ذلك مما يرجع إليه تعالى فتوبته صحيحة ، يسقط بها عقاب ما سلف منه ، فان اجاب بما لا يرجع إليه تعالى فلا.

قول المصنف : كان الغاية ـ اى العلة الغائية الداعية للفاعل الى الفعل الباعثة له عليه ، ويقال لها الغاية باعتبار التحقق فى الوجود بعد الفعل ، والمعنى ان خوف النار فقط من دون قبح القبيح ان كان باعثا له على ترك ارتكاب الحرام وترك الاخلال بالواجب فليس ذلك بالتوبة.

قول المصنف : فلا يصح من البعض الخ ـ قول ابى هاشم الجبائى ان التبعيض لا يصح فى التوبة ولا تصح عن قبيح دون قبيح سواء كان ذلك القبيح ارتكاب حرام او ترك واجب ، ودليله ان التوبة من القبيح لا بد ان تكون لقبحه لا لامر آخر سواء انضم الى القبح شيء آخر أم لا ، فلو تاب العاصى من بعض دون بعض يكشف ذلك عن ان توبته ليست لقبح القبيح بل لامر آخر لانه لو كان داعيه الى التوبة قبح القبيح لتاب من كل قبيح لان القبح متحقق فى كل قبيح ، نعم يصح التبعيض اذا اعتقد التائب فى بعض القبائح حسنا او كان مستحقرا لقبيح فى جنب قبيح آخر كما يأتى فى كلام المصنف والشارح ، هذا كلام ابى هاشم.

واورد عليه ما نقل عن ابى على الجبائى من ان التبعيض فى ترك القبيح كالتبعيض فى ترك الواجب ، والثانى جائز بالاجماع فكذا الاول ، والجامع بينهما ان ترك القبيح

٨٥٢

لقبحه وفعل الواجب لوجوبه فيصح التبعيض فى كليهما ، فلو كان غير صحيح فى الاول لكان غير صحيح فى الثانى.

اقول : تسلّما وجوب ترك القبيح لقبحه واتيان الواجب لوجوبه الا ان أبا هاشم يردّ هذا القياس للفرق الفارق بينهما كما يأتى بيانه فى كلام الشارح ، ولكن الحق انه لا يجب ذلك ، بل يكفى مطلق الترك فى الاول وكون الداعى فى الثانى إلهيا لا نفسانيا وان كان الاتيان لوجوبه فى الدين احد الدواعى الالهية لكنه لا يتعين ، نعم لو كفّ نفسه عن حرام تطالبه بذلك طلبا لمرضاته تعالى كان له ثواب بذلك مزيدا على الأمن من العقاب.

اذا عرفت ذلك فالتبعيض فى ذلك ممكن كما يشهد به الوجدان ويشاهد للتائبين من العباد ، فان انسانا لو كان زانيا وكاذبا امكن ندمه على كذبه وعزمه على تركه لله تعالى وان لا يعود إليه ابدا ، وبقائه على ارتكاب الزنا لغلبة شهوته وعدم تمكنه من الزواج معتقدا حرمته راجيا لتوفيق التوبة منه بالتمكن من سبيل النكاح ، وهذا مراد المصنف مما يأتى فى كلامه من ترجيح الداعى الى الندم على البعض كما ان هذا الترجيح متصور فى افعال الواجبات.

قول الشارح : لم تكن مقبولة ـ على تقرير ابى هاشم ينبغى ان يقال : لم تكن توبته بالتوبة.

قول الشارح : بالتعميم فى الاول دون الثانى الخ ـ اى بتعميم النهى المستدعى لترك كل فرد من افراد القبيح كما لو قال المولى : لا تأكل الرمانة الحامضة فانه يستدعى ترك أكل كلّ رمانة حامضة والالم يمتثل النهى بخلاف ما لو قال : كل الرمانة الحامضة فانه. لو اكل واحدة لامتثل الامر ، فحصل الفرق بين ترك القبيح وفعل الواجب بانه لو ترك بعض افراد القبيح وارتكب بعضها الاخر يكشف ذلك عن ان تركه لذلك البعض ليس لقبح الفعل بخلاف الواجب فان اتيان بعض افراده دون بعض لا يكشف عن انه ليس لوجوبه ، بل ظاهر فى الاتيان للوجوب.

اقول : كلام ابى على كما هو صريحه ليس فى افراد واجب واحد او قبيح واحد ،

٨٥٣

بل فى الواجبات والقبائح يأتى بعضها ويترك بعضها ، فانه يقول مثلا : لو صح ان يقال للعبد المصلى التارك للصوم : ان صلاتك ليست بصحيحة لان اللازم عليك ان تصلى لوجوبها ولست تصلى له لانك لو صليت لذلك لصمت لانه واجب أيضا لصح ان يقال : للعبد التائب عن الزنا المصر على الكذب : ان توبتك عن الزنا ليست بصحيحة لان اللازم عليك ان تتوب منه لقبحه ولست كذلك لانك لو تبت لذلك لتبت من الكذب لانه قبيح أيضا ، فاذا امتنع القول الاول امتنع القول الثانى ، وهذا حق اذ لو وجب ترك القبيح لقبحه لا غير واتيان الواجب لوجوبه لا غير فكما يستكشف من التبعيض فى ترك القبائح ان ترك المتروك ليس لقبحه يستكشف من التبعيض فى اتيان الواجبات ان اتيان المأتى ليس لوجوبه ، فاذا قلنا بعدم التبعيض فى احدهما فلا بد من القول به فى الاخر ، ولكن قلنا من قبل : ان الواجب لا يجب اتيانه لوجوبه ولا القبيح يجب تركه لقبحه ، والتبعيض ممكن فى المحرمات والواجبات.

قول الشارح : وان كان اعتقاده الخ ـ اى وان كان اعتقاد من اعتقد الحسن فى بعض القبائح قبيحا لانه لا يعتقد القبيح كما هو حقه ، فاعتقاده جهل مركب وهو قبيح.

قول الشارح : فكذا العزم ـ اى فكذا العزم فيما نحن فيه بالنسبة الى ترك المعاودة الى كبيرة كقتل النفس بغير حق وصغيرة ككذبة فى هزل.

قول المصنف : والتحقيق الخ ـ الفرق بين تحقيق المصنف وقياس ابى على مع اتفاقهما فى المدعى ان قياسه لا يفيد الا الزام الخصم واسكاته بجامع بين المقيس والمقيس عليه ، فلذا تمحل الخصم لبيان الفارق بينهما ، واما المصنف فقد حلّ العقدة بان الدواعى فى ترك المحرمات مع اشتراكها فى الندم على القبيح لقبحه تختلف بحسب الامور الخارجية ، فيصير اختلافها سببا لترجيح بعضها على بعض ، فيحصل له العزم على ترك بعض المحرمات دون بعض كما ذكرنا من قبل من مثال الزنا والكذب ، فتحقيقه يخالف مدعى ابى هاشم ودليل ابى على ، ويوافق دليل ابى هاشم ومدعى ابى على ، فغلط القوشجى فى قوله : ان محصل ما ذكره من التحقيق عدم الفرق بين

٨٥٤

ترك القبيح والاتيان بالواجب كما ذكره ابو على فآخر كلامه يخالف او له ، انتهى.

ثم ان المصنف اخذ كلامه هذا من المفيد حيث قال فى اوائل المقالات : القول فى التوبة من القبيح مع الاقامة على مثله فى القبح ، اقول : ان التوبة من ذلك تصح وان اعتقد التائب قبح ما يقيم عليه اذا اختلفت الدواعى فى المتروك والمعزوم ، فاما اذا اتفقت الدواعى فيه فلا تصح التوبة منه ، وهذا مذهب جميع اهل التوحيد سوى ابى هاشم الجبائى فانه زعم ان التوبة لا تصح من قبيح مع الاقامة على ما يعتقد قبحه وان كان حسنا فضلا عن ان يكون قبيحا.

قول المصنف : يبعث عليه ـ اى على الندم على البعض.

قول المصنف : وان اشترك الداعى الخ ـ اشتراك الداعى فى الندم فى كل قبيح لا يستلزم ان يكون الندم فى كل قبيح ارتكبه حاصلا بالفعل ، بل يجب حصول الندم فيما يتوب منه ، ولكن قلنا : ان حصول الندم على القبيح لا يجب ان يكون لقبحه ، بل لكل امر يرجع إليه تعالى سواء كان قبحه او غيره وكان غافلا عن القبح رأسا.

قول الشارح : كعظم الذنب الخ ـ لا بدّ ان يكون داعيه إلهيا كما قلنا سواء انضم إليه احد هذه الامور أم لا.

المسألة الثانية عشرة

( فى اقسام التوبة )

قول الشارح : كالعيدين ـ اى صلاة عيدى الفطر والاضحى.

قول الشارح : حد قذف ـ لان حدّ القذف حق للمقذوف حتى لو مات فلورثته المطالبة بذلك.

٨٥٥

قول الشارح : من جهة المعنى ـ اى من جهة كمال العمل فى مقام التوبة وكشف ذلك عن قوة ايمانه.

قول المصنف : ويجب الاعتذار الخ ـ هذا من ذكر الخاص بعد العام لانه من اقسام حق الآدمي.

قول الشارح : لامكان الاجراء ـ كذا فى النسخ ، والصحيح الاجتزاء كما فى المنقول من الكتاب فى سادس البحار المطبوع حديثا ، وحاصل المعنى ان الاكتفاء بالندم على جميع معاصيه جملة فى مقام التوبة ممكن فيكتفى بذلك لان المطلوب هو الندم وهو حاصل وان كان التفصيل اولى ، وفى بعض الاحاديث دلالة عليه.

قول الشارح : اذا تاب المكلف الخ ـ هذا الاختلاف بين ابى على وابى هاشم يرجع الى ان المداومة على الندم واجبة بحيث كلما تذكر المعصية مرتكبها كان على حالة الندامة منها أم لا ، فأبو على الاول وابنه على الثانى.

اقول : مرتكب المعصية بعد التوبة منها اما ينسيها او يتذكرها او يكون عند معرضها ، ففى حالة النسيان لا حكم عليه ، وفى الاخيرتين لا يجب عليه الا الكفّ عنها لان الندامة باقتضاء ايمانه حصلت له فلا يبقى الا الكفّ والعزم على الترك ، فلو اشتهاها او ارتكبها فتلك جديدة يجب عليه التوبة عنها أيضا ، وهكذا.

روى فى سادس البحار المطبوع حديثا ص ٤٠ عن الكافى بالاسناد عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام ، قال : يا محمد بن مسلم ، ذنوب المؤمن اذا تاب منها مغفورة له ، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة ، اما والله انها ليست الا لاهل الايمان ، قلت : فان عاد بعد التوبة والاستغفار من الذنوب وعاد فى التوبة؟ فقال : يا محمد بن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر الله تعالى منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته ، قلت : فانه فعل ذلك مرارا يذنب ثم يتوب ويستغفر ، فقال : كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة وان الله غفور رحيم ، يقبل التوبة ويعفو عن السيئات ، فإياك ان تقنط المؤمنين من رحمة الله.

ثم ان اشتهاء المعصية من حيثية الحيوانية لا ينافى الندامة من حيثية العقلانية

٨٥٦

فان المؤمن يمكن ان يكون عند ذكر ربه وتذكر وعده ووعيده نادما على ما ارتكبه من العصيان بحسب عقله وايمانه ، مائلا بحسب شهوته او غضبه الى مثل تلك التى تاب منها ، وربما يغفل ويزل فيها ثانية عند تهيؤ الاسباب ، نعم هذا عند ضعف الايمان ، واما من قوى ايمانه وعقله فهو غالب على غضبه وشهوته ، صائن لنفسه عند ما قرب من معرض معصيته.

ثم ان همّ السيئة مغفور بدلالة الاحاديث سواء كان على الابتداء او بعد التوبة من تلك السيئة.

روى فى سادس البحار ص ١٨ عن الكافى بالاسناد عن ابى جعفر عليه‌السلام ، قال : ان آدم عليه‌السلام قال : يا ربّ سلطت عليّ الشيطان واجريته منى مجرى الدم فاجعل لى شيئا ، فقال : يا آدم جعلت لك ان من همّ من ذريتك بسيئة لم تكتب عليه ، فان عملها كتبت عليه سيئة ، ومن هم منهم بحسنة فان لم يعملها كتبت له حسنة ، وان هو عملها كتبت له عشرا ، قال : يا ربّ زدنى ، قال : جعلت لك ان من عمل منهم سيئة ثم استغفر غفرت له ، قال : يا رب زدنى ، قال : جعلت لهم التوبة وبسطت لهم التوبة حتى تبلغ النفس هذه ، قال : يا رب حسبى.

قول المصنف : وكذا المعلول مع العلة ـ اى وكذا فى وجوب التوبة من المعلول مع وجوبها من علته اشكال ، فهل يجب على المرتكب توبتان من العلة والمعلول او توبة واحدة من المعلول فقط ، وهذه المسألة ترجع الى ان سبب الحرام حرام حتى يجب منه التوبة أم لا ، والحق انه ليس بحرام مطلقا الا ان ينطبق عليه عنوان من عناوين المحرمات لان الحكم يتحقق عند تحقق موضوعه والا فلا ، والحق أيضا ان التوبة لا تجب قبل وجود المعصية سواء كانت سببا او مسببا لان سبب وجوب التوبة هو ارتكاب المعصية فما لم يتحقق السبب لم يتحقق المسبب.

قال المفيد رحمه‌الله فى اوائل المقالات : القول فى التوبة من المتولد قبل وجوده او بعده ، واقول : انه لا يصلح التوبة من شيء من الافعال قبل وجوده سواء كانت مباشرة او متولدة او من فعل سببا اوجب به مسببا ثم ندم على فعل السبب قبل وجود المسبب فقد

٨٥٧

سقط عنه عقابه وعقاب المسبب وان لم يكن نادما فى الحقيقة على المسبب ، ليس لانه مصر عليه او متهاون به لكن لانه لا يصح له الندم مما لم يخرج الى الوجود والتوبة مما لم يفعله ، غير انه متى خرج الى الوجود ولم يمنعه مانع من ذلك فان التوبة منه واجبة اذا كان فاعله متمكنا ، وهذا مذهب جمهور اصحاب التولد وقد خالفهم فيه نفر من اهله ، وزعموا ان التوبة من السبب توبة من المسبب ، وقال بعضهم : انه بفعله السبب يكون كالفاعل للمسبب ولذلك يجب عليه التوبة منه ، والقولان جميعا باطلان لان التوبة من الشيء لا تكون توبة من غيره ، وقد ثبت ان السبب غير المسبب ولان السبب قد يوجد ولا يخرج المسبب الى الوجود بمانع يمنعه منه ، انتهى.

قول الشارح : اذا فعل المكلف العلة الخ ـ انه رحمه‌الله بسط هاهنا مورد الكلام وصوره صورا : فان سبب الحرام اما لا يتخلل بينه وبين الحرام زمان واما يتخلل ، وعلى كل فاما يكون المعلول مباشريا او توليديا ، والشارح رحمه‌الله فرض مورد الكلام ما اذا كان بينهما تخلل زمانى وكان المعلول توليديا ، فشيوخ المعتزلة قالوا : يجب التوبة من المعلول فقط وتصح التوبة منه ولو قبل تحققه ، وقاضى القضاة عبد الجبار المعتزلى قال : يجب عليه توبتان : إحداهما من العلة والاخرى من كون الرمى مولدا للقبيح فان التوليد عنوان غير ذات الرمى ، ولا يجوز الندم على المعلول اصلا لا قبل تحققه لانه لا قبح فيه حينئذ ولا عند تحققه لانه حينئذ خارج عن اختيار الفاعل.

اقول : كأنّ هذا القاضى ذهب الى عدم استناد الافعال التوليدية إلينا ، وقد مرّ الكلام فيها فى المسألة السابعة من الفصل الثالث من المقصد الثالث ، لكن انكار جواز الندم عليها عجيب ، فتدبر ، والحق ان كلا من المولد والمتولد ان انطبق عليه عنوان من المحرمات وجب منه التوبة والا فلا.

قول المصنف : ووجوب سقوط العقاب بها ـ اى وفى وجوب سقوط عقاب المعصية التى تاب منها العبد على الله تعالى اشكال أيضا.

اقول : مقتضى دأب المصنف من الايجاز فى الكلام لا سيما فى هذا الكتاب ان يقول : وفى ايجاب التفصيل مع الذكر ، والتجديد ، والمعلول مع العلة ، ووجوب سقوط العقاب

٨٥٨

عليه تعالى بها اشكال ، فلم افهم لذكر بعض الالفاظ وتكرير بعضها وجها ، ولا يخفى ان الوجوب فى الاخير عليه تعالى وفيما قبله على العباد.

قول الشارح : واختلفوا فقالت المعتزلة الخ ـ اقول : انه تعالى اخبر فى كتابه بقبول التوبة ووعد التائبين بذلك وخلف الوعد قبيح لا يصدر من الحكيم فوجب عليه القبول بحسب وعده لا بالاصالة ، لكن على شرط وهو الايمان والمحبة والولاية لمحمد واهل بيته الطاهرين والاعتقاد بولايتهم وإمامتهم وخلافتهم ووصايتهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال الله تعالى : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) ، وهذا الاهتداء بعد الايمان والعمل الصالح هو الاهتداء الى ولايتهم كما هو مفسر بذلك فى اخبار.

قول الشارح : وقالت المرجئة الخ ـ بعض المرجئة فى هذه المسألة على مذهب المعتزلة ، واما الاشاعرة فلا يقولون بوجوب شيء عليه تعالى ، واما الامامية فعلى وفاق الاشاعرة فى هذه المسألة.

قال المفيد رحمه الله تعالى فى اوائل المقالات : القول فى التوبة وقبولها ، اتفقت الامامية على ان قبول التوبة بفضل من الله عز وجل وليس بواجب فى العقول اسقاطها لما سلف من استحقاق العقاب ، ولو لا ان السمع ورد باسقاطها لجاز فى العقول بقاء التائبين على شرط الاستحقاق ، ووافقهم على ذلك اصحاب الحديث ، واجمعت المعتزلة على خلافهم وزعموا ان التوبة مسقطة لما سلف من العقاب على الوجوب.

قول الشارح : لم يحسن تكليف العاصى ـ بقوله تعالى : ( وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ، وغير ذلك من الآيات والاخبار ، وكذا التكليف العقلى.

قول الشارح : بيان الشرطية ان التكليف الخ ـ توضيح بيانها ان العبد اذا تاب فاما نحكم بعدم سقوط عقاب المعصية التى تاب منها ووجوب عقابه بدون الثواب له على توبته او مع الثواب له عليها ، او نحكم بسقوطه بغير التوبة او بسقوطه بها ، فالاول يلزم منه اللغو فى تكليفه بالتوبة ، والثانى ممتنع لامتناع اجتماع الثواب والعقاب اللذان

٨٥٩

هما ضدان ، والثالث يستلزم ان يكون السقوط بلا سبب وان يصير ما هو سبب لغوا معطلا اذ لا يسقط العقاب بشيء غير التوبة ، فتعين الرابع وهو الحكم بسقوط العقاب بالتوبة ، والشارح رحمه الله تعالى اجاب بمنع الثانى والثالث ، ويأتى بيانهما.

قول الشارح : الثانى ان من اساء الخ ـ هذا الاستدلال واستدلال المرجئة متقابلان ، والحق ان الاساءة ان كانت قليلة كاتلاف مال يسير او شتم بكلمة وبالغ فى الاعتذار وكان ظاهره صدقا فان العقلاء يذمون المظلوم لو لم يقبل عذره ، والا حكموا بالتخيير بين القبول وعدمه.

قول الشارح : والجواب عن الاول انه لا نسلم الخ ـ هذا الجواب مردود لان المعتزلة يقولون : لا يجب عليه تعالى اسقاط العقاب بغير التوبة ، وهذا حق نقول به أيضا لان العفو وزيادة الثواب والشفاعة جائزة لا واجبة ، فلو لم يسقط بالتوبة وقلنا ان الثواب والعذاب لا يجتمعان لزم ان يكون التكليف بالتوبة لغوا.

قول الشارح : سلمنا لكن نمنع عدم اجتماع الخ ـ هذا الجواب حق ، لكن قلنا من قبل ان الاسقاط بحسب وعده لا بحكم العقل مستقلا ، فلو لا تلك الآيات الواعدة لم يمكن الاستدلال بنفس التكليف بالتوبة على وجوب اسقاط عقاب المعصية التى تاب منها العبد ، لكن الانصاف ان فى طلب التوبة اشعارا بان المولى يضمن اسقاط العقاب ان امتثل العبد امره بها.

قول الشارح : من قبح الذم ـ اى ذم المظلوم بعد ذلك.

قول الشارح : نمنع المساواة الخ ـ والحق ذلك لان عظمة رب الارباب جلت آلاؤه لا تبقى مجالا للحكم بالمساواة.

قول الشارح : فلما بينا من ابطال التحابط ـ فى المسألة السابعة ، والتحابط هو سقوط كل من الثواب والعقاب بالآخر ، ثم لا ينحصر سبب سقوط العقاب فيهما ، بل يمكن بنفس التوبة ، سلمنا ، لكن عدم وجوبه عقلا لا يستلزم عدمه شرعا ، وهو ثابت كما مرّ.

ثم ان القول بالوجوب السمعى بحسب وعده تعالى والقول بالتفضل لا يرجع الخلاف

٨٦٠