توضيح المراد - ج ١

السيد هاشم الحسيني الطهراني

توضيح المراد - ج ١

المؤلف:

السيد هاشم الحسيني الطهراني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
المطبعة: المصطفوي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

اما واجب واما ممكن ، فهو ان كان واجبا فهو المطلوب ، وان كان ممكنا استلزم الواجب الوجود بدءا وبقاء لان الممكن لن يتحقق من دون الواجب الا على تصور الدور او التسلسل بان يفرض ممكنات بعضها يكون علة لبعض وبالعكس ، او يفرض سلسلة غير متناهية من الممكنات يكون كل سابق فى السلسلة علة للاحقه ، ولا تنتهى الى سابق لا يكون لاحقا ، وكلاهما اى تحقق الممكن على سبيل الدور او التسلسل باطل كتحققه بنفسه ، فالممكن لا يتحقق الا بالواجب وهو المطلوب.

اقول : هذا البرهان يشتمل على مقدمات ، لا بأس بالتكلم فيها تذكرة للافكار وتشحيذا للاذهان ، وقد مر اكثرها فى الجزء الاول.

الاولى ان ما بمشهدنا موجود ، وهذه ضرورية بديهية فى غاية البداهة ، لا حاجة الى التكلم فيها ، الا ان قوما من الناس فى قديم الزمان يقال لهم السوفسطائية ولعل فى الناس ما بقى منهم كانوا ينكرون هذه المقدمة لانكارهم كل شيء حتى المحسوسات والبديهيات ، وليس للعاقل ان يكلمهم او يكالمهم او يتكلم فيهم.

قال عمر بن محمد النسفى الاشعرى فى كتابه ( العقائد النسفية ) : قال اهل الحق حقائق الاشياء ثابتة والعلم بها متحقق خلافا للسوفسطائية ، والمصنف رحمه‌الله ذكر فى المقدمة الاولى من تلخيص المحصل انهم طوائف ثلاث.

الثانية ان الموجود اما واجب واما ممكن اذ قسمة ما يقع فى التصور وينسب الى الوجود حاصرة فى الثلاثة لانه اما له ضرورة الوجود أو لا ، والثانى اما له ضرورة العدم أو لا ، وما له ضرورة العدم لا يوجد فى الخارج ابدا ، فما هو الموجود فيه اما الّذي له ضرورة الوجود واما الّذي ليس له ضرورة من الضرورتين ، والاول هو الواجب ، والثانى هو الممكن.

الثالثة انه لا يمكن ان يوجد الممكن بنفسه ، ولا يترجح وجوده او عدمه بذاته بل يحتاج فى كل منهما الى امر خارج عن ذاته وهذه المقدمة هى المسألة الحادية والثلاثون من الفصل الاول من المقصد الاول.

الرابعة انه لا يمكن ان يبقى الممكن من دون علته ، فكما يحتاج فى بدء

٤٢١

وجوده الى امر خارج عن ذاته هو الواجب لا يستغنى بعد حدوثه عنه لان علة حاجة الممكن الى العلة هى الامكان وهو لا ينفك عن ذات الممكن ابدا ، وهذه القضايا قد اثبتت فى المسألة التاسعة والعشرين والحادية والثلاثين والرابعة والاربعين.

الخامسة انه لا يمكن ان يوجد الممكن على سبيل الدور ، وبطلان الدور بديهى ، قد مر فى آخر المسألة الثالثة من الفصل الثالث من المقصد الاول ، وما احتج به على فساده كما فى اربعين الرازى وغيره تشريح للمطلب البديهى لا انه استدلال.

السادسة انه لا يمكن ان يوجد الممكن على سبيل التسلسل ، وقد مر بيان بطلان التسلسل فى المسألة الرابعة من الفصل الثالث من المقصد الاول ، ولكن لا بأس بذكر ما يكون مذكرا ومتمما لذلك المبحث.

فاقول : ان التسلسل هو كون سلسلة من الاشياء بحيث يكون كل واحد منها معلولا لسابقه وعلة للاحقه لا الى نهاية تكون هى علة غير معلولة سواء كان فى كل مرتبة من مراتب السلسلة موجود واحد او موجودات كثيرة يكون مجموعها علة لما بعدها او معلولا لما قبلها.

وقد استدل على بطلان ذلك بوجوه كثيرة ، احسنها وانسبها بما نحن فيه هو الوجه الاول المذكور فى مبحثه الّذي قال صاحب الشوارق هو وجه مشهور عن المصنف مخترع له.

وتوضيحه ان كل ما يكون معلولا سواء كان علة لغيره أو لا ممكن ، والممكن هو الّذي لا يجب بنفسه بل يجب بغيره ، ولا يجب بغيره الا بعد امتناع جميع انحاء العدم عليه وسد جميع طرق العدم إليه من جانب ذلك الغير ، فلو كان ذلك الغير ممكنا لم يتيسر له سد جميع طرق العدم الى معلوله لان من الاعدام التى تتوجه الى هذا الممكن المعلول عدم علته لان عدم العلة يسرى الى المعلول ، ولا يتيسر لهذه العلة المفروض انها ممكنة سد عدم نفسها بنفسها ، بل بعلتها لانه لو تيسر ذلك لها بذاتها لم تكن ممكنة وهذا خلف ، وكذا الكلام فى علة هذه العلة ، وهكذا ، فاما ان تنتهى السلسلة الى ما

٤٢٢

ينسد جميع طرق العدم إليه بنفسه أو لا ، والاول هو المطلوب ، والثانى يستلزم امتناع تحقق تلك السلسلة المفروض وجودها لان كل واحد منها لا يتيسر له سد تطرّق العدم إليه لا بنفسه ولا بغيره لان غيره كمثله ، وهذا معنى قوله تعالى الله خالق كل شيء ومعنى قولهم : لا مؤثر فى الوجود الا الله تعالى ، اى لا يتيسر التأثير لشيء ما لم ينته الى تاثيره تعالى ، والى هذا المعنى اشار بهمنيار فى التحصيل بقوله : فان سالت الحق فلا يصح ان يكون علة الوجود الا ما هو بريء من كل وجه عن معنى ما بالقوة ، وهذا هو صفة الاول لا غير.

السابعة انه لا يمكن ان يكون الممكن علة لنفسه ، وهذا بديهى ، ينبه عليه بانه يستلزم ان يكون الشيء موجودا قبل وجوده ، وهذا معنى تقدم الشيء على نفسه ، على ان الشيء الواحد لا يمكن ان يكون علة ومعلولا من جهة واحدة وهذه المقدمة تندرج تحت هذه القاعدة.

قال الشيخ ابن سيناء فى الفصل العاشر من النمط الرابع من الاشارات. ما حقه فى نفسه الامكان فليس يصير موجودا من ذاته ، فانه ليس وجوده من ذاته اولى من عدمه من حيث هو ممكن.

ثم ان الفرق بين هذه المقدمة والمقدمة الثالثة ان فى هذه يفرض للممكن علة هى نفسه ، وفى تلك يفرض تحقق الممكن من دون استناد الى علة سواء كانت نفسه او غيره.

الثامنة ان الشيء اما موجود بنفسه واما موجود لا بنفسه ، لا يمكن فى العقول فرض قسم ثالث ، والقسم الاول لا يحتاج الى العلة ، والقسم الثانى يحتاج إليها ، وعلته اما موجود مثله محتاج الى العلة غير منته الى الموجود بنفسه او معلوله او نفسه او موجود بنفسه بالواسطة او بلا واسطة ، لا يمكن فى العقول فرض قسم خامس لان علة الشيء اما نفسه او غيره. والثانى اما معلوله او غيره ، والثانى اما موجود مثله محتاج الى العلة غير منته الى الموجود بنفسه او انه ليس كذلك ، والثانى موجود بنفسه او منته إليه ، فلما ثبت فى المقدمة الخامسة والسادسة والسابعة ابطال الاول

٤٢٣

والثانى والثالث بقى الرابع صحيحا معقولا ، فما لا يكون موجودا بنفسه يحتاج فى وجوده الى ما هو موجود بنفسه بدءا وبقاء بمقتضى هذه المقدمات الثمان.

ثم ان انقسام الموجود الى الواجب الغنى عن العلة والممكن المحتاج إليها وامتناع تحقق الممكن من دون الواجب يدفع ما فى اذهان بعض العوام فى قديم الزمان كما ورد فى بعض الآثار وفى هذا الاوان كما يظهر من سؤالهم من ان كل موجود له علة وموجد ، والله تعالى موجود فما علته وموجده؟

ثم اعلم ان هذه المقدمات حتى مسألة بطلان التسلسل على الوجه الّذي ذكرناه كنفس المطلوب بديهية لا تحتاج الى الاستدلال بعد تصور جميع الاطراف حق التصور الا ان القوم قد اطالوا الكلام والنقض والابرام فى اكثرها والسر فى ذلك ان البديهى حيث هو مستغن عن الدليل يذكر غالبا فيما هو صورة دليل له مقدمات منبهة من دون رعاية شرائط القياسات فيها ، فيتسع المجال للمجادل المعاند ، فياتى على المستدل بنقوض ومناقضات وشكوك ومعارضات ، فيفتح باب الجدال ويطول ذيل الالزام والسؤال ، وربما يصرف ساعات بل ايام وشهور من العمر فى مسألة ككثير من المسائل الكلامية والاصولية ، وذلك لان المراء والجدال داء قلما يسلم منه ابناء آدم على نبينا وآله وعليه السلام ، شفانا الله تعالى منه برحمته ولطفه وكرامته.

قول الشارح رحمه الله تعالى : وبيان افعاله وآثاره ـ اى بيان ما يجوز عليه من الافعال وما لا يجوز.

قول الشارح : وهو استدلال لمى ـ قد مر فى المسألة التاسعة عشرة من الفصل الاول من المقصد الاول ان الحد الاوسط فى القياس اذا كان علة لثبوت الاكبر للاصغر فى الواقع كما كان علة له فى الذهن فهو برهان لمى ، والاسواء كان الامر بالعكس اى يكون ثبوت الاكبر للاصغر علة للاوسط او كان كلاهما معلولين لامر ثالث فهو برهان انى ، ويختص باسم الدليل.

اذا تذكرت ذلك فليس هذا الاستدلال لمّيّا ولا إنيا اذ ليس فيه اصغر واوسط و

٤٢٤

اكبر متغايرة على نحو القياسات الاقترانية ولا فيه مقدم وتال متغايران على نحو القياسات الاستثنائية لان المذكور فيه انما هو ما بمشهدنا ، الموجود ، ممكن الوجود ، واجب الوجود ، وكل ذلك عبارة عن الموجود لا غير ، فليس فى المقام اوسط غير الاصغر والاكبر حتى يستدل به عليه ، فليس هذا دليلا ولا برهانا على اصطلاح علم الميزان ، نعم اذا استدل بالواجب الوجود على صفاته وآثاره لكان برهانا لمّيّا كما يجيء فى كلام الشيخ عن قريب ان طريقة الصديقين انهم يستشهدون به لا عليه ، اى يستشهدون بالواجب الوجود على غيره لا عليه بغيره ، والمصنف رحمه الله تعالى سلك هذا المسلك فى كتابه اذ هو استدل بوجوب وجوده على صفاته ، فلا نحتاج فى هذا الاستدلال الى النظر فى شيء الا الوجود اى الموجود من حيث هو موجود وانه ممكن او واجب.

قال الشيخ الرئيس فى كتاب المبدأ والمعاد بعد الفراغ من تقرير هذا المنهج : انا اثبتنا الواجب الوجود لا من جهة افعاله ولا من جهة حركته ، فلم يكن القياس ( اى هذا القياس ) دليلا ولا أيضا برهانا محضا ، فالاول ليس عليه برهان محض ، بل كان قياسا شبيها بالبرهان لانه استدلال من حال الوجود انه يقتضي واجبا الخ.

اقول : فالشارح انما اطلق عليه الاستدلال اللمى اى البرهان لانه يشبه به كما وقع فى كلام الشيخ.

وقال صاحب الشوارق : ان وجه كون هذا الطريق اشبه بالبرهان اى اللمى هو ما اشار إليه الشيخ من ان الواجب وان لم يفعل شيئا ولم يظهر منه اثر يمكن بهذا القياس ان يثبت وذلك لان القياسات الانية انما تكون من الافعال والآثار بخلاف اللمية ، فهذا الطريق لكونه لا من جهة الآثار يشبه اللم ، ومن جهة انه ليس من العلة ليس به.

والعجب من الشهرستانى حيث انه ذكر فى الجزء الثانى من كتاب الملل والنحل فى الباب الثانى فى الفصل الرابع فى المسألة السادسة : ان اثبات واجب الوجود ليس يمكن الا ببرهان ان ، ثم ذكر ما ذكره الشيخ فى الاشارات من الاستدلال المذكور.

وقال الشيخ فى آخر النمط الرابع من الاشارات : تامل كيف لم يحتج بياننا

٤٢٥

لثبوت الاول ووحدانيته وبراءته عن الصمات الى تامل لغير نفس الوجود ولم يحتج الى اعتبار من خلقه وفعله وان كان ذلك دليلا عليه ، لكن هذا الباب اوثق واشرف ، اى اذا اعتبرنا حال الوجود يشهد به الوجود من حيث هو وجود ، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده فى الوجود ، والى مثل هذا اشير فى الكتاب الكريم : سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق ، اقول : ان هذا حكم لقوم ، ثم يقول : او لم يكف بربك انه على كل شيء شهيد ، اقول : ان هذا حكم للصديقين الذين يستشهدون به لا عليه ، انتهى.

ثم تبعه غيره من بعده فى تسمية هذه الحجة بطريقة الصديقين ، لكن المولى صدرا قال فى اوّل إلهيات الاسفار : ان هذا المسلك اقرب المسالك الى منهج الصديقين ، وليس بذاك كما زعم لان هناك ( اى منهج الصديقين ) يكون النظر الى حقيقة الوجود وهاهنا يكون النظر فى مفهوم الوجود ، وحاصله ان النظر فى مفهوم الوجود والموجودية يعطى انه لا يمكن تحققه الا بالواجب اذ لو انحصر الموجود فى الممكن لم يتحقق موجود اصلا انتهى كلامه ، وذكر منهجا آخر سماه منهج الصديقين.

اقول : ليس الامر كما قال لان النظر فى مفهوم الوجود من حيث هو مفهوم حاصل فى الذهن كيف يعطى انه لا يمكن تحققه الا بالواجب من دون الانتقال من المفهوم الى الحقيقة ، فحقيقة الوجود لا بد ان تكون ملحوظة فى هذا الحكم كما هو مصرح به فى البيانات التى ذكرناها والكلمات التى نقلناها ، بل الحق ان هذا الحكم الفطرى ليس الا لاحتفاف حقيقة الوجود بشراشر كل موجود.

وسمى صاحب الشوارق والشارح الأسفرايني والحكيم السبزوارى هذا المنهج بمنهج الإلهيين.

قال صاحب الشوارق : واعلم ان هذا المنهج اعنى منهج الإلهيين هو اوثق المناهج واقواها واتمها واهديها واقلها مئونة واكثرها معونة ، ويشبه ان يكون طريق الصديقين الذين هم يستشهدون بالحق لا عليه لكونه نظرا فى الوجود وهو عين حقيقته تعالى ، فيغنى

٤٢٦

غناء البراهين اللمية ، ويمكن الوصول الى معرفته تعالى وان لم ينظر الى موجود بالفعل بعد ما فرض امكان وجوده.

قول الشارح : والمتكلمون سلكوا طريقا آخر الخ ـ ان المسالك فى اثبات الصانع ثلاثة.

مسلك الإلهيين ، وهو النظر فى الموجود من حيث هو موجود على ما مر تقريره.

ومسلك المتكلمين وهو النظر فى الموجود من حيث هو حادث ، فيقال : العالم متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث ، ثم يقال : وكل حادث له محدث فللعالم محدث ، ومحدث العالم لا يكون حادثا اذ لو كان حادثا يحتاج الى محدث آخر ، وهكذا الى ان ينتهى الى محدث غير حادث دفعا للدور والتسلسل ، وهذا المسلك كما اشار إليه الشارح قاصر عن افادة المطلوب ، ولا يتم الا بان يقال : فان ذلك المحدث الغير الحادث ان كان واجبا فهو المطلوب وان كان ممكنا استلزم الواجب لان غير الحادث لا يمتنع ان يكون قديما ممكنا على طريقة الحكماء ، والقديم الممكن يحتاج الى المؤثر لان علة الحاجة الى المؤثّر هو الامكان فقط عند الحكماء ، نعم مسلكهم يتم على مبناهم من علية الحدوث للحاجة الى المؤثر ، ولكن قد ابطل هذا المبنى فى المسألة التاسعة والعشرين من الفصل الاول من المقصد الاول ، فالحق الاحق بالذكر مسلك الإلهيين المتفق عليه الكل فى مقدماته.

ومسلك الطبيعيين ، وهو النظر فى الموجود من حيث هو جسم ومتحرك يحتاج الى محرك ، فلا بد من الانتهاء الى محرك غير متحرك ، وقد ينظرون فيه من حيث هو مركب يحتاج الى بسيط ، وقد ينظرون فيه من حيث ان الاجسام كلها مشتركة فى الجسمية وكل منها يختص بحقيقة غير الجسمية ولا بد للاختصاص من علة لامتناع الترجح من غير مرجح ، وعلة الترجيح ليست الجسمية المشتركة ولا تلك الخصوصية فهى خارجة عن الاجسام ، ولكن هذا المسلك أيضا لا يتم الا بالتمشى على مسلك الإلهيين كما هو ظاهر.

٤٢٧

الفصل الثانى

فى اثبات صفاته تعالى

المسألة الاولى

( فى انه تعالى قادر مختار )

قول الشارح : فى انه تعالى قادر مختار ـ اعلم ان الحكماء والمتكلمين بعد اتفاقهم على انه تعالى قادر اختلفوا فى الايجاب والاختيار ، ولذلك اختلفوا فى تفسير القدرة فى هذا المبحث.

فقال المتكلمون : ان قدرته تعالى هى ان يصح منه ايجاد العالم وتركه ، لا الايجاد واجب ولا الترك ممتنع نظرا إليه تعالى.

وقال الحكماء : ان العالم على النظام الواقع من لوازم ذات الحق تعالى يستحيل ان ينفك عنه لان ذاته كافية فى فعل العالم الّذي هو جوده وفيضه تعالى ، ولا يتوقف على حصول شرط ولا زوال مانع على ما فصل فى كتبهم ، ولذلك لم يرتضوا بالتفسير المتقدم فقالوا : ان قدرته تعالى هى كونه تعالى بحيث ان شاء فعل وان لم يشا لم يفعل.

وتفسير القدرة بمفهوم هاتين الشرطيتين لم ينكره المتكلمون أيضا الا انهم قالوا انه تعالى شاء ففعل ولم يشأ فلم يفعل ، اى لا مقدم الشرطية الاولى واجب صدقه وتحققه ليجب تاليه ، ولا مقدم الثانية ممتنع الصدق ليمتنع تاليه : خلافا للحكماء حيث قالوا : انه واجب الصدق ازلا وابدا لان مشيته ذاتية فتاليه أيضا كذلك ولازم ذلك ان يكون مقدم الثانية ممتنع الصدق وكذلك تاليه.

٤٢٨

ولاجل ان الحكماء قالوا : ان العالم من لوازم ذات الحق تعالى ويستحيل انفكاكه عنه عرفوا عند المتكلمين بانهم قائلون بالايجاب منكرون لقدرة الحق تعالى واختياره لان لزوم الاثر ووجوبه ينافى اختيار المؤثر ، والاختيار لازم القدرة.

ثم انه من الظاهر الّذي لا يخفى على احد ان الحكماء لم يقولوا : ان استحالة انفكاك العالم عن ذات الحق كاستحالة انفكاك الآثار عن الاشياء الطبيعية لانهم قائلون بالعلم والمشية للحق تعالى دون الطبائع ، فليس تمثيل بعض المصنفين من المتكلمين للمقام بالنار والاحراق فى محله ؛ ولاجل ذلك صرح بعض الاكابر كالحكيم السبزوارى رحمه‌الله فى منظومته بان مرادهم هو ان الحق تعالى موجب بكسر الجيم اى موجب لفعله بعلمه ومشيته اللذين هما عين ذاته تعالى لا انه موجب بفتح الجيم فى فعله واثره كالنار الا ان يقال : ان وجه التمثيل ومناط الايجاب اى الموجبية بفتح الجيم هو لزوم الاثر للمؤثر وامتناع انفكاكه عنه سواء كان المؤثر عالما شاعرا باثره أم لا ، وهذا هو المتنازع فيه.

نقد وتنبيه

اعلم ان الصحة الماخوذة فى تعريف المتكلمين هى الخامس من اقسام الامكان المذكورة فى المسألة الخامسة والعشرين من الفصل الاول من المقصد الاول ، وقد قلنا هناك : ان ذلك الامكان هو مناط قدرة الفاعل ، وانه هو الامكان الذاتى للاثر باعتبار صدوره عن المؤثر ، وهو المسمى بالامكان الصدورى فلو كان الاثر باعتبار صدوره واجبا كالحرارة من النار فهو الوجوب الصدورى ، او ممتنعا كالحرارة من ذات الماء فهو الامتناع الصدورى وانما قلنا : ان الصحة الماخوذة فى التعريف هى ذلك الامكان لا الامكان الذاتى لانها لو كانت ذلك لكان كل ذى طبيعة كالنار والماء قادرا لان الاثر الصادر منه ممكن نظرا الى ذاته ولكان لفظة منه فى التعريف لغوا بل مصرة.

وحيث ان الحكماء لا يرون العالم ممكنا باعتبار صدوره عن الحق تعالى

٤٢٩

لم يذكروا تعريف المتكلمين لان العالم باعتبار صدوره عنه تعالى واجب عندهم وان كان ممكنا نظرا الى ذاته.

اذا تحققت ذلك فاعلم ان ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى فى تلخيص المحصل من قوله : اعلم ان القادر هو الّذي يصح ان يصدر عنه الفعل وان لا يصدر ؛ وهذه الصحة هى القدرة ، والفلاسفة لا ينكرون ذلك ، وكذا ما ذكره صاحب الشوارق رحمه الله تعالى من قوله : واما القدرة بمعنى كونه تعالى بحيث يصح منه فعل العالم وتركه بالنظر الى ذاته تعالى او بمعنى كونه بحيث ان شاء فعل وان لم يشأ لم يفعل فمتفق عليه بين الفريقين لا يوافق ما ذكر فى كتب الفريقين ولا قول المصنف نفسه فى تلخيص المحصل فى آخر المسألة الاولى من مبحث خواص القديم والمحدث حيث قال : اختلفوا أيضا فى معنى الاختيار فان الفلاسفة يطلقون اسم المختار على الله تعالى ، لكن لا بالمعنى الّذي يفسر المتكلمون الاختيار به ، وذلك انهم يقولون بوجوب صدور الفعل عنه تعالى دائما ، والمتكلمون ينفون دوام الصدور عنه ، ويقول بعضهم بوجوب الصدور نظرا الى قدرته وارادته ، وينفى بعضهم وجوب الصدور عنه اصلا ، ويقولون انه تعالى يختار احد الطرفين المتساويين على الاخر لا لمرجح انتهى.

والحاصل ان من نظر فى كلمات الفريقين لا يرتاب فى ان الفلاسفة يقولون بوجوب صدور العالم عنه تعالى على النظام العلى والمعلولى المذكور فى كتبهم لانه تعالى تام الفاعلية وتخلف الاثر وامكان صدوره عن الفاعل التام ممتنع ، ولازم ذلك ازلية العالم وابديته ، وامتناع الفناء عليه ، وامتناع التغير والتحول فيه عما هو عليه الا ما يقع تحت الحركة والزمان من الماديات ، وامتناع انتهاء وجود ما هو مقتضى العقل العاشر او ارباب الانواع من الانواع الكائنة الفاسدة فى عالم المادة ، وامتناع الدار الآخرة على النحو الّذي ورد فى كلمات الوحى ، وامتناع بعض المعجزات المنقولة عن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله والأنبياء السالفين سلام الله عليهم اجمعين ، وامتناع المحو والاثبات عن الواح السماوية الملكوتية ، وامتناع الموت على الملائكة الذين يقول الحكماء انهم هم العقول الكلية التى اثبتناها ، وامتناع وجود الجنة ودخول عباد الله فيها فى خارج

٤٣٠

هذا العالم ، وامتناع انكساف الشمس والقمر من دون حيلولة الارض ، وغير ذلك من الامور التى التزموا عند البحث عنها بامتناعها او وجوبها من حيث صدورها عنه تعالى والقول بذلك حكم بعجزه تعالى عن هذه الامور لان مناط القدرة والاختيار كما قلنا هو امكان الاثر من حيث الصدور ؛ وعلم الفاعل بالاثر وارادته التى هى عين علمه على مذهب الحكماء لا يصحح الاختيار.

فالقول بان الله تعالى قادر بمعنى انه عالم ومريد بالارادة الذاتية لاثره الّذي يجب عنه وجوده ويمتنع عدمه انكار لقدرته وان كان فى ظاهر اللفظ اعترافا بذلك.

وتفسير القدرة بمفهوم الشرطيتين تمويه للامر لئلا يصيبهم رمى التكفير والتلحيد من اهل الملة لان مفهوم القضية من المعقولات الثانية ، ليس بإزائه فى الخارج شيء لينطبق عليه ، والقدرة للواجب او الممكن حقيقة خارجية ، فلا بد ان تفسر بما ينطبق على الحقيقة الخارجية كما ان تفسير المتكلمين أيضا مخدوش من هذه الجهة لان الامكان من الامور الاعتبارية.

وبالجملة ان الفلسفى يقول : ان كل موجود ليس واقعا فى جوف فلك القمر من الافلاك والكواكب والملائكة والعقول المجردة والنفوس الكلية وغيرها يتطاول فى قبال الرب جل وعلا ويقول له : انا وان كنت من حيث الوجود منك وانت اصلى فيه لكنى متحصن فى حصن الوجوب ، قائم فى مقام الأمن من ارادتك لا فنائى وازالتى عن مقامى ، واجد لما تصف نفسك به من ازلية الكون وامتناع الفناء لان فى فنائى فنائك وفى ازالتى عن مقامى زوالك وانت لا بد لك فى شئونك منى ، ولا يستقر امرك دونى تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

تحقيق وتتميم

القدرة هى قوة بها يكون للفاعل سلطان على فعله ايجادا واعداما طبقا لعلمه وهى فيه تعالى عين ذاته ، وفينا كيفية قائمة بالنفس تختلف من حيث ظهور اثرها باختلاف الآلات الداخلية والخارجية ، وقد مر البحث فيها فى الفصل الخامس من المقصد الثانى فى مبحث الكيفيات النفسانية.

٤٣١

واما الاختيار فهو لازم القدرة ، بل عينها ، وهو بحسب المفهوم ما يقتضي تساوى الفعل والترك للفاعل فى قبال الايجاب الّذي لا يكون الترك فى وسع الفاعل معه والامتناع الّذي لا يكون الفعل فى وسعه معه ، وهو كالقدرة من صفات ذاته تعالى بخلاف الإرادة التى سيأتي إن شاء الله تعالى فى المسألة الرابعة بيان انها من صفات الفعل ، فهو بذاته المختارة ذاتا يوجد ولا يوجد ويعدم ولا يعدم كل ما هو فى صقع الامكان الذاتى والتحدد بالحد الماهوى ، والمخصص هو علمه الّذي لا يحيطون بشيء منه ولا يبلغون دون كنهه.

وبالجملة ان الاختيار مقدم على المشية ، به ان شاء فعل وان لم يشأ لم يفعل ، لا بصرف مفهوم الملازمة ، بل بالحقيقة له فعل عن مشيته لا بالايجاب ، وترك عن عدمها لا بالامتناع.

واما الامكان الصدورى فهو من الاوصاف الاعتبارية للفعل بعد امكانه الذاتى ، فاذا حصل له بالنسبة الى الفاعل اتصف بالقدرة عليه ، لا بالقدرة المطلقة لان الفاعل عن علم ومشية قادر لا محالة ، وهو يختلف للفاعلين بحسب وجود شرائط الفعل وعدمها ووجود موانعه وعدمها ، وحيث ان لا شرط لجوده تعالى غير ذاته ولا مانع عن ارادته فكل ممكن ذاتا ممكن صدورا بالنسبة إليه تعالى ، فهو تعالى على كل شيء قدير ،.

ثم قد يطلق الاختيار على ترجيح جانب الفعل على الترك او ترجيح جانب الترك على الفعل ، وهذا الاختيار فى عرض الإرادة ، لا مقدم عليها ، وارادته تعالى نفس التحديد للشىء بالحد الماهوى على ما يأتى بيانه إن شاء الله تعالى

واما حديث ان الفاعل اذا كان تاما يمتنع تخلف الفعل عنه فحق ، لكن الفاعل المختار باختيار ذاتى تام فى مقام الاختيار ، يفعل او لا يفعل بمقتضى اختياره طبقا لعلمه فالاختيار الذاتى يجعله دائما على الاستواء بالنسبة الى كل مقدور له ، والعلم هو المخصص لاحد الطرفين ، وجهل الغير بخصوصيات تعلقات علمه بافعاله ، ولم يفعل ذاك ولا يفعل ذلك؟ لا يوجب حكما منافيا لقدرته واختياره ، فهو بذاته العالمة المختارة يفعل

٤٣٢

أو لا يفعل من دون مدخلية شيء آخر ، بخلاف غير المختار من الفواعل ، فانه بالنسبة الى كل شيء فى احد الطرفين دائما ، وحاصل الكلام كله انه تعالى لو لم يتصف فى مرتبة ذاته بالاختيار لا تصف بمقابله الّذي هو الايجاب والامتناع ، وهو ينافى سلطانه على ما فى ملكه بالايجاد والاعدام.

قول المصنف : وجود العالم بعد عدمه ـ اى حدوث العالم ، ولم يأت بهذه العبارة مع انها اخصر لئلا يفهم منه الحدوث الذاتى.

قول الشارح : والدليل على انه تعالى قادر الخ ـ تلخيص الكلام فى هذا الدليل ان المبدأ لو كان موجبا كان العالم قديما ، لكن العالم حادث فهو ليس بموجب وبيان اللزوم ظاهر بعد القطع بقدم المؤثر وامتناع تخلف الاثر عن الفاعل الموجب ، واما الشق الثانى من التالى وهو حدوث المؤثر فمسلم بطلانه ، لا حاجة الى ذكره.

ثم ان الدليل على حدوث العالم بمعنى جميع ما سوى الله تعالى هو اجماع المليين والآيات والاخبار الواردة عن اصحاب الوحى سلام الله عليهم لان استدلالهم كما فى هذا الكتاب على حدوث الاجسام ، واذ لم يقم برهان على امتناع الجواهر المجردة كما صرح به المصنف فى اوّل الفصل الرابع من المقصد الثانى فلا جزم يحصل عن ذلك الدليل بان ما سوى الله تعالى حادث حتى يكون مقدمة لاثبات اختياره.

وما ذكر المتكلمون فى كتبهم كالاربعين والمواقف وغيرهما من الاستدلال على امتناع موجود غير الاجسام ، والاستدلال على اختياره بحدوث حادث ما ، والاستدلال على حدوث ما سوى الله تعالى وان كان فيه غير الاجسام كله مخدوش.

فالمعتمد فى المقام ما ذكرت من ان الاختيار لو لم يثبت له تعالى بالمعنى الّذي ذكرناه لزم نقصه وعجزه تعالى عن ذلك.

قول الشارح : ويلزم التسلسل ـ اى وعلى فرض حدوث المؤثر يلزم التسلسل لاحتياجه الى مؤثر آخر ، وهكذا.

قول الشارح : والمعنى بالعالم كل موجود الخ ـ قد علمت فى الحاشية السابقة ان العالم بهذا المعنى لم يبين حدوثه فى هذا الكتاب ، وما ذكر فى غيره مخدوش

٤٣٣

لا يخفى على من راجع ، بل المبين حدوث العالم الجسمانى ، وهذا لا يكفى لنفى واسطة قديمة زمانا بين الواجب تعالى وبينه اذ لم يقم برهان على امتناع المجردات ، فان كانت امكن توسطها بين الواجب تعالى وبين العالم الجسمانى ، فالمعتمد فى حدوث ما سوى الله تعالى الادلة السمعية البالغة فوق التواتر ، ان اردتها فراجع الرابع عشر من بحار الانوار ، واما الاختيار الذاتى على ما مر بيانه فلا ينافى حدوث العالم ولا قدمه ، وقاعدة ما ثبت قدمه امتنع عدمه لا تنافى هذا لان ذلك فيما يكون قديما من حيث لزومه لذات القديم الذاتى ، ولازم ذاته تعالى نوره الساطع لا الموجود الممكن من حيث تحدده بالحد الامكانى.

قول الشارح : وتقريره ان المؤثر الخ ـ حاصل هذا الاعتراض من الحكماء ان امكان صدور الاثر من المؤثر غير معقول لان المؤثر ان استجمع شرائط التأثير وجب صدور الاثر لامتناع تخلفه عن المؤثر التام ، وان لم يستجمع امتنع صدور الاثر ، ولا واسطة بين الاستجماع واللااستجماع ، فلا يعقل امكان الصدور ، فلا يعقل تفسير القدرة المتحققة فى المؤثر بامكان الصدور.

قول الشارح : والا افتقر ترجيحه الخ ـ اى وان لم يجب وجود الاثر عن المؤثر المستجمع جميع جهات المؤثرية لزم الخلف ان افتقر ترجيح وجود الاثر على عدمه الى امر زائد يحصل به الترجيح لان جهات المؤثرية ليس كلها حينئذ موجودة مع انا فرضناه مستجمعا لها ، او لزم ترجيح عدم الاثر على وجوده من غير مرجح ان لم يفتقر إليه ، بل هذا ترجيح المرجوح على الراجح لان المؤثر تام لوجود الاثر ، فوجوده راجح فان لم يجب وجوده رجح عدمه المرجوح عليه.

قول الشارح : وحينئذ لا يمكن تحقق القادر ـ اى بمعنى انه الّذي يصح ان يصدر عنه الفعل وان لا يصدر على ما ذهب إليه المتكلمون اذ بين ان الصدور اما واجب واما ممتنع.

قول الشارح : وهذا كما اذا فرضنا الخ ـ اى وهذا الوجوب الّذي يكون الاثر باعتباره موجودا كالوجوب الّذي يكون باعتبار الوجود متحققا ، فان وجود

٤٣٤

المعلول محفوف بالوجوبين على ما مر بيانه فى المسألة الحادية والثلاثين من الفصل الاول من المقصد الاول ، وهذا الكلام اشارة الى جواب عن الاعتراض الثالث ويأتى بيانه.

وحاصل الجواب عن الاعتراض الثانى ما قلنا فى آخر الحاشية الاولى من انه تعالى تام فى مقام الاختيار ، لا يحتاج الى شيء خارج عن ذاته ، ومن خواص الاختيار كون الترك والفعل فى وسعه دائما ، والمخصص لاحد الطرفين علمه الذاتى الّذي يقال له الداعى باعتبار تعلقه بالمصلحة ، فالوجوب باعتبار الداعى لا ينافى امكان الصدور باعتبار الاختيار.

ان قلت : فعلى هذا يجب الفعل وجوبا بالغير فى الازل اذ علمه بالمصلحة حاصل فى الازل ، فاين الحدوث حتى يستدل به على الاختيار قلت : ان الاثر مع ذلك فى اختياره ، والعلم لا يقتضي الايجاب مع الاختيار الذاتى لانه مخصص لاحد الطرفين دائما ، وحيث ان خصوصيات تعلقات علمه تعالى مخفية علينا فلا سبيل لنا الى الحكم بغير الاختيار فى هذا المقام بالبيان المتقدم ، واما القدم او الحدوث فلا ثباته طريق آخر ، ولا طريق الى اثبات الحدوث الا السمع القطعى.

قول الشارح : وبهذا التحقيق يندفع الخ ـ قد نقلنا ذيل النقد والتنبيه فى الحاشية الاولى عن المصنف فى تلخيص المحصل ان المتكلمين ينفون دوام الصدور عنه تعالى ، ويقول بعضهم بوجوب الصدور نظرا الى قدرته وارادته ، وينفى بعضهم وجوب الصدور عنه اصلا ويقولون انه تعالى يختار احد الطرفين المتساويين على الاخر لا لمرجح.

اقول : ان الّذي اختار المصنف هنا فى الجواب هو قول البعض الاول ، وهم المعتزلة ، والبعض الآخر هم الاشاعرة ، وعبر الشارح عنهم باكثر المتكلمين.

ثم اعلم ان ترجح احد المتساويين على الاخر ممتنع بلا خلاف ، ومناط الامتناع اجتماع المتقابلين لان التساوى والترجح على طرفى التقابل ، فلا يعقل صيرورة احد المتساويين مترجحا الا ان يخرج احدهما عن التساوى بامر خارج عن الماهية التى

٤٣٥

يتساويان إليها ، وهذا المناط بعينه موجود فى الترجيح بلا مرجح اذا فرضنا ان الفعل والترك متساويان بالنسبة الى اختيار الفاعل كما هو مفروض كلام غير الحكماء فى المقام فالترجيح لا بد له من مرجح ومخصص وهو الداعى.

ثم ان الاشاعرة استدلوا فى كتبهم على جواز الترجيح بلا مرجح بوجوه ركيكة باطلة ، تركها اولى.

قول المصنف : واجتماع القدرة على المستقبل مع العدم ـ عطف على قوله : عروض الوجوب ، هكذا عبارة الشرح القديم أيضا ، وفى شرح الأسفرايني والشوارق : ويمكن اجتماع القدرة على المستقبل مع العدم فى الحال ، وفى شرح القوشجى : ويمكن اجتماع القدرة على الوجود فى المستقبل مع العدم فى الحال كما اتى بهذه العبارة الشارح العلامة فى الشرح ، واصل المتن ما هاهنا ، وما زيد عليه فى سائر الشروح من الشراح ، حسبه النساخ من المتن فجعلوه تحت الخط.

قول الشارح : وتقريره ان نقول الاثر اما الخ ـ توضيحه ان القدرة بمعنى التمكن من الفعل والترك غير معقولة لانها بهذا المعنى لا ينافى وجود الاثر ولا عدمه وتجتمع مع كل منهما ، وحينئذ فنقول : ان التمكن اما حال وجود الاثر فلا يتمكن القادر من الترك لكون الوجود واجبا حينئذ بالوجوب اللاحق ، واما حال عدمه فلا يتمكن من الفعل لكونه ممتنعا حينئذ بالامتناع اللاحق ، والحاصل ان الاثر حال الوجود او حال العدم ضرورى بشرط المحمول فهو حاصل ، ومعنى التمكن منه تحصيله ، وتحصيل الحاصل محال.

وهذا السؤال نظير السؤال السابق الا ان الفرق بينهما انه باعتبار وجوب الاثر وامتناعه السابقين ، وهذا باعتبار الوجوب والامتناع اللاحقين.

واجيب عنه بجوابين : الاول ما اشار إليه الشارح فى ذيل السؤال السابق بقوله : وهذا كما اذا فرضنا الخ ، وبيانه ان وجوب الاثر حال وجوده او امتناعه حال عدمه لا ينافى تمكن القادر منه واختياره لانه وجوب وامتناع بإرادة القادر واختياره ، فاذا

٤٣٦

شاء ابقاه على الوجود او العدم ، واذا شاء بدل الوجود بالعدم او العدم بالوجود ، وهذا معنى التمكن منهما.

الثانى ما اشار إليه هاهنا بقوله : وتقرير الجواب ان الاثر معدوم الخ ، وبيانه ان القادر يحصل الوجود فى ثانى حال العدم ويحصل العدم فى ثانى حال الوجود ، فلا هو يحصل العدم فى حال العدم ولا الوجود فى حال الوجود حتى يلزم تحصيل الحاصل ولا هو يحصل العدم فى حال الوجود ولا الوجود فى حال العدم حتى يلزم اجتماع النقيضين بل امر بين الامرين ، فتجتمع القدرة على وجود الاثر فى المستقبل مع عدمه فى الحال وعلى عدمه فى المستقبل مع وجوده فى الحال.

قول الشارح : لانا نقول القدرة لا تتعلق بالوجود الخ ـ توضيح الجواب ان تعلق القدرة ووجود المقدور كلاهما فى الاستقبال ، وان كان وجود القدرة فى الحال لا ان تعلق القدرة فى الحال ووجود المقدور فى الاستقبال.

اعلم ان هذا الجواب لا يتمشى فى قدرة العبد على مذهب الاشاعرة القائلين بكون قدرته مقارنة للفعل ، ويلتزمون بهذا السؤال بالنسبة الى قدرة العبد. ويقولون ان تمكنه من الفعل معه لا قبله ، وهو باطل لما مر فى مبحث القدرة من مباحث الاعراض فى الجزء الاول.

قول الشارح : وتقرير الجواب ان القادر هو الّذي الخ ـ ان الجواب متوجه الى المقدمة الاولى اى قولهم : ان القادر لا يتعلق فعله بالعدم ، وذلك لوجوه من ان العدم لا امتياز له عن غيره وما لا امتياز له عن غيره لا تتعلق به القدرة ، وان العدم نفى محض ولا شيء من النفى المحض يصلح ان يكون متعلقا للقدرة ، وان العدم ازلى ولا شيء من الازلى بمتعلق للقدرة بالمعنى الّذي عندكم ، والجواب ان القدرة على العدم وتعلقها به ليس معناه ان العدم اثر صادر عن القادر ، فالقادر ليس هو الّذي يصح ان يصدر عنه الوجود والعدم ، بل القادر من يصح ان يصدر عنه وان لا يصدر عنه ، والفرق بين صحة عدم الصدور وصحة صدور العدم ظاهر ، والاول هو احد الطرفين اللذين يتعلق بهما القدرة.

٤٣٧

اقول : والتحقيق ان القدرة انما تتعلق بالوجود ، الا ان وجود الاثر اذا لم يكن ازليا وكانت القدرة ازلية تشمل القدرة وجود الاثر وعدمه ويعتبر تعلقها بهما.

قول المصنف : وعمومية العلة الخ ـ اى عمومية علة مقدورية الممكنات وقادرية الواجب تعالى عليها وهى الامكان المشترك بين جميع الممكنات لان الوجوب والامتناع ينافيان المقدورية تستلزم عمومية صفة المقدورية والقادرية المتضايفتين.

اعلم ان الامكان الذاتى وان كان يكفى فى المقدورية الذاتية بمعنى ان ذات الممكن لا تابى ان تقع تحت قدرة من حيث الايجاد والاعدام ولكن هذا الامكان لا يكفى فى المقدورية بمعنى تعلق القدرة به الا ان يكون ذات القادر تامة فى الفاعلية غير مشروطة بشيء مفقود ولا ممنوعة بمانع موجود وهى ذات الله الّذي هو على كل شيء قدير ، راجع لتوضيح ذلك الى القسم الخامس من الامكان فى المسألة الخامسة والعشرين من الفصل الاول من المقصد الاول والى توضيح قول الشارح : اما نسبته الى الفاعل فجاز ان تكون معللة فى مبحث القدرة من مباحث الاعراض فى الجزء الاول.

قول الشارح : فان الفلاسفة قالوا الخ ـ انه تعالى قادر عندهم على غير ما سوى الصادر الاول بالواسطة ، وغير قادر عليه بلا واسطة لا مطلقا

قول الشارح : وقد تقدم بطلان مقالتهم ـ فى المسألة الاولى من الفصل الرابع من المقصد الثانى ، مع ان المصنف قال بقول مطلق فى المسألة الثالثة من الفصل الثالث من المقصد الاول : ومع وحدته يتحد المعلول ، وان كان الشارح فصل بين المؤثر المختار والموجب فراجع.

قول الشارح : والمجوس ذهبوا الخ ـ ان المجوس اقوام كلهم قائلون بمبدئين : الله وابليس ، وعلى لغتهم يزدان واهرمن ، وهم يقولون : ان يزدان مبدأ الخير واهرمن مبدأ الشر ، والفرق بينهم وبين الثنوية فى المبدأ انهم يقولون : ان مبدأ الخير قديم ومبدأ الشر حادث ، ثم اختلفوا فى كيفية حدوث مبدأ الشر ،

٤٣٨

ولا محيص لهم الا ان يسندوه الى مبدأ الخير وهو نقض لاصل مذهبهم ، واما الثنوية فيقولون بقدم المبدءين.

قول الشارح : والنظام الى ان الله تعالى الخ ـ انظر الى مقالة هذا المعتزلى المفرّط حيث يقول : انه تعالى لا يقدر على القبيح ، والى مقالة الاشعرى المفرط حيث يقول : انه تعالى فاعل لكل قبيح ، اعاذنا الله عز وجل من الغى والضلالة.

ثم ان للمعتزلة كلمات فى نفى قدرته تعالى عن اشياء نقلها الاشعرى فى مقالات الاسلاميين وغيره فى غيره ، وهم مع اتفاقهم على انه تعالى ليس بفاعل لشيء من افعال العباد فى شيء مختلفون فى قدرته تعالى عليها على مذاهب كما اشار الشارح هنا الى بعضها.

قول الشارح : يستلزم عمومية الصفة الخ ـ اى يستلزم ان يكون الواجب تعالى قادرا على كل ممكن اذ قد عرفت ان الامكان الذاتى فى الممكنات امكان نسبى صدورى بالنسبة إليه تعالى لانه تعالى ليس فاقدا لشرط ولا ممنوعا بمانع

قول الشارح : والجواب عن شبهة المجوس الخ ـ اعلم ان لاستدلال المجوس والثنوية تقريرين :

الاول ان الله تعالى خير محض والخير المحض لا يصدر منه الشر مع انا نرى فى الكائنات شرورا كثيرة فلا بدلها من مبدأ آخر ، والجواب عنه ما اشار إليه بقوله : وأيضا الخير والشر الخ ، وتوضيحه ان الخير والشر مفهومان منتزعان من الموجودات باعتبار اضافة بعضها الى بعض وارتباط بعضها ببعض ، وليسا ذاتيين لمصاديقهما ، ولا بإزائهما حقيقة فى الخارج ، بل الخيرية منتزعة من حقيقة الوجود والشرية من العدم ، فالشيء بما هو شيء فى نفسه وذاته مع قطع النظر عن ارتباطه بغيره خير فى ذاته ، فيصح اسناده الى ذات واحدة هى مبدأ كل شيء بما هو شيء ، فالله تعالى خير محض ، لا يصدر منه الا الخير ، وما يتراءى فى الكائنات من الشرور انما يرجع الى العدم ، والعدم غير مفعول ولا مستند الى مبدأ موجود بالذات.

٤٣٩

الثانى ان فى العالم خيرات وشرورا فلو كان مبدأ الخير والشر واحد الزم كون الواحد الحقيقى خيّرا وشريرا معا وهو محال ، فلا بد من مبدءين ، والجواب عنه ما اشار إليه بقوله : ان المراد من الخير والشر الخ ، وتوضيحه ان المراد بالخير ان كان من غلب خيره وبالشرير من غلب شره فالملازمة ممنوعة لان الواحد يمتنع ان يكون غالب الخير وغالب الشر معا ، وان كان المراد بالخير خالق الخير وفاعله وبالشرير خالق الشر وفاعله بغلبة احدهما او تساويهما فاستحالة التالى ممنوعة لان الواحد لا يمتنع ان يفعل الخير والشر معا فى الجملة ، وكلام الشارح اشارة الى الثانى من شقى الترديد فى الجواب.

وانت خبير بان هذا الجواب لا يسمن ولا يغنى من جوع لان الواحد الحقيقى يمتنع ان يصدر عنه المتضادان ، فالتالى مستحيل مطلقا ، فالجواب عن هذا الاستدلال أيضا منع قولهم : ان فى العالم خيرات وشرورا بالذات ومنع قولهم : ان للشرور مبدءا لان كون الشر ليس فى العالم كونا اصيلا ، فلا لها مبدأ كما مر فى الجواب عن استدلالهم الاخر ، ولذلك قال صاحب الشوارق : وهذا الجواب لا يحسم مادة الشبهة لان لهم ان يقرروها بان الله صرف الوجود ومحض الخير فيمتنع ان يصدر عنه الشر الّذي مناطه ليس الا العدم على ما تقرر فى موضعه سواء كان الشر غالبا او مغلوبا لامتناع صدور العدم وفيضانه من الوجود ، انتهى ، وقد مر بعض الكلام فى ذلك مفصلا فى المسألة السابعة من الفصل الاول من المقصد الاول.

قول الشارح : وعن شبهة النظام الخ ـ يعنى انه تعالى ليس له داع الى ايجاد القبيح بل له صارف عنه وهو كونه قبيحا ، فعدم الفعل انما هو بالنظر الى عدم الداعى ووجود الصارف ، فلا ينافى ذلك امكان الفعل بالنسبة إليه تعالى.

اقول : ان النظام لم يفرق بين الامكان الصدورى المعتبر فى القدرة والامكان الوقوعى ، فان القبيح ممكن لله تعالى صدورا وممتنع عنه وقوعا ، والفرق بينهما مبين فى المسألة الخامسة والعشرين من الفصل الاول من المقصد الاول ، فراجع.

٤٤٠