توضيح المراد - ج ١

السيد هاشم الحسيني الطهراني

توضيح المراد - ج ١

المؤلف:

السيد هاشم الحسيني الطهراني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
المطبعة: المصطفوي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

او غيره لان عدم انطباق المفهوم على الحقيقة غير معقول لان المفهوم فى كل شيء مأخوذ من حقيقته ، وبيان ذلك : ان الإرادة هى اقبال الشيء نحو ما يمكن ان يصدر عنه بالقوة الطبيعية او النفسية او المنزهة عن الطبع والنفس ليتحصل فى العين محدودا بحد كان فى وسعه سواء كان له عناية بذلك أم لا.

انظر الى نفسك فان الإرادة فيك كما ذهب إليه الحكماء وهو الحق ومضى بحثه فى مباحث الاعراض هى الاجماع على الفعل ، وهو على ما تدرك بوجدانك ليس الا اقبال نفسك الى ما تصورته وعلمته أولا من القعود او القيام او المشى او العدو او الشرب او الاكل او غير ذلك ، فانت انت فنفسك تقبل نحو ما فى صقع علمك بعد الشوق وتاكده وزوال التردد ، وبهذا الاقبال يتحصل الحركة فى بعض اعضائك واجزائك ، والحركة امر واحد وانما تختلف باضافتها الى الآلات البدنية والخارجية المختلفة ، فيتحدد بحد من الحدود وتعنون باعتبار كل وضع وآلة بعنوان من العناوين وتسمى باسم فعل من الافعال ، بل ليس تحديد الحركة التى تصدر من صقع قوتك وقدرتك وانشائك لها واحداثك اياها الا نفس ذلك الاقبال فى الحقيقة ، فانه إرادة بما انه صفة للفاعل واحداث بما انه يتعقبه حصول الاثر محدودا متميزا فى العين ، وحديث تقدم الإرادة على الفعل بمعنى الانشاء والاحداث ممنوع ، وبمعنى الاثر الحاصل فى الخارج مسلم تقدما بالعلية لا بالزمان فاذن تنبه ان الإرادة مخصصة ( بصيغة المفعول ) لا مخصصة والتخصيص انما هو شان العلم السابق لان الخصوصية التى تبعثك وتوجب الشوق فى نفسك ما لم تكن معلومة فى الفعل المتصور أولا لم تحصل باقى المبادى الارادية ، فعلمك بفعلك على وجه يترتب عليه غرضك هو الّذي يخصص فعلك بان توقعه فى الخارج على ذلك الوجه كما انه هو الّذي يوجب الشوق فى نفسك ويجعلك تقبل نحو الفعل.

وانظر الى الحجر الهابط من علو فانه يقبل نحو الحركة الى مكانه ، وتلك الحركة بحدها المخصوصة ما يمكن ان يصدر عنه بقوته الطبعية ، والى النار تقبل نحو الاحراق ، والى الشجر يقبل نحو ابراز الاوراق والثمار ، والى

٤٦١

القمر يقبل نحو الزيادة والنقصان والطلوع والافول والانارة والكسوف والى الشمس تقبل نحو تنوير الارض وما عليها وتسخينها ،

والحاصل ان كل موجود يقبل عند كمال الشرائط نحو ما يمكن ان يصدر عنه من الاثر ليتحصل ذلك فى العين محدودا بحد متميزا عن اصله فذلك المحدود الواقع فى الخارج فعله وذلك الاقبال ارادته ، فيقال : اراد ففعل ، وان كان الاثر باعتبار انسلاخه عن حده كان مع اصله غير متميز عنه والا لم يحصل منه ، وتخصص الفعل والاثر بحده الّذي حد به اما بعلمه السابق ان كان من ذوى العلم والشعور واما بتسخيره تحت تصرف ذى علم من اصحاب الملكوت ان لم يكن. فان تخصيص الفعل بحد لائق يناسب حكمة الكون يمتنع من دون العلم.

ثم ان تسمية ذلك الاقبال الّذي هو حقيقة الإرادة بالفعل والصنع والانشاء والاحداث والتأثير وما يرادف ذلك صحيح كتسمية ما صدر عنه محدودا بالاثر والمحدث والمنشأ والمصنوع والمفعول ، وقد يطلق الإرادة فى العرف ويراد بها العزم على الفعل فى وقته اللائق ، وهى بهذا المعنى غير ما نحن بصدد بيانه.

ثم قد ظهر مما بينا ان مضمون كلام المصنف وغيره : ان المخصص لا بدّ منه فى الايجاد وليس ذلك الا الداعى الّذي هو علم الفاعل بالفعل بما فيه من الخصوصية حق لانك قد عرفت ان المخصص هو العلم السابق لا غير ذلك ، لكن تسميته بالارادة مخالف لما يفهم اهل كل عرف من هذه اللفظة ومخالف لمفهوم الإرادة الّذي اخذ من حقيقتها ووضع له تلك اللفظة لان حقيقتها ما ذكرنا ومفهومها عند اهل كل لسان ينطبق عليها.

فالحق ان الإرادة بحسب المفهوم المنطبق على حقيقتها هى اقبال الشيء نحو ما عنده ويمكن ان يصدر عنه ليتحصل فى الخارج متميزا عنه محدودا بحد كان فى وسعه شعر ذلك الشيء به او لم يشعر مع وجوب شعور ما يخصصه ، وذلك الاقبال احداث باعتبار اضافة تفرع الاثر الخارج فى الخارج عليه.

اذا عرفت ذلك كله فاعلم ان الله تعالى منزه غنى فى ارادته عما يحتاج غيره إليه فى ارادته وليس على ارادته سابقة الا علمه الذاتى المخصص لفعله ومشيته التى هى نور

٤٦٢

ذاته وتوحيده السارى فى جميع الاشياء الّذي يتحدد بالحدود الامكانية ويتميز عن ذاته العلية باعتبار تلك الحدود ، وليست ارادته تعالى فى صقع الوجوب ، بل متأخرة عنه بمرتبة هى المشية التى خلق الاشياء بها وخلقت بنفسها وبمرتبة اخرى هى علمه الذاتى الّذي هو عين ذاته وليس شيء الا كان فيه لا بالكثرة والتميز ، وعلى هذا الّذي قلت شواهد كثيرة من احاديث الائمة الاطهار صلوات الله عليهم ، ويساعده الشهود الفطرى والبرهان العقلى ، ولا يسع هذا التأليف ذكر تفاصيل ذلك ، بل يستدعى رسالة مفردة.

المسألة الخامسة

( فى انه تعالى مدرك بلا آلة )

قول المصنف : والنقل دل على اتصافه بالادراك ـ اى السمع والبصر ، بل العقل يدل على ذلك ان ارجعا الى العلم بالمسموعات والمبصرات كما عليه الاكثر وقد ذكر الرازى فى الاربعين والقوشجى فى شرحه واللاهيجى فى الشوارق دليلا عقليا عليه ، لكن لا يخلو من ايرادات ، والطالب يراجع.

ثم انه لا كلام ولا خلاف بين المتكلمين بل الحكماء المتأخرون يوافقونهم فى انه تعالى عالم بكل المحسوسات كغيرها وان ادراكه ليس كادراكنا الا المجسمة ، وانما الكلام هاهنا فى وجه استناد السمع والبصر إليه تعالى فى الشرع دون غيرهما من الادراكات كاللمس وغيره مع انهما ان كانا صفتين غير العلم كما عليه الاشاعرة او يؤولان الى العلم بالمبصرات والمسموعات كما عليه غيرهم فليطلق عليه تعالى اللامس مثلا بما ان اللمس صفة له او يأول الى العلم بالملموسات.

فقال المصنف فى شرح رسالة العلم ما حاصله : ان الذين ينزهون الله تعالى عن الادراك الحسى لا يصفونه بالسميع والبصير والشامّ وغيرها بمعناها الاصلى ، بل يصفونه

٤٦٣

بانه تعالى عالم بها واما وصفه بالسميع والبصير دون غيرهما مع تساوى الجميع فلانهما الطف الحواس واقربها من الادراك العقلى ، ومع ذلك يريدون بهما فى حقه تعالى العلم بالمبصرات والمسموعات لا معناهما الاصلى ، واما القائلون بالتجسم فيريدون فى حقه تعالى معناهما الاصلى اى الاحساس.

وقال اللاهيجى فى كوهر مراد ما حاصله : ان اطلاق السميع والبصير عليه تعالى دون غيرهما لانه يوهم التجسم لان فى مفهوم سائر الاحساسات يعتبر ملاصقة الحاس للمحسوس دون السمع والبصر ، فلا محظور فى اطلاقهما عليه تعالى وإرادة انه عليم بالمسموعات والمبصرات دون غيرهما ، وقال بهذا الوجه الشارح محمد البهشتى الأسفراييني فى شرحه على التجريد ، والحكيم السبزوارى فى اسرار الحكم احتمله مع عدم الجزم به.

اقول : ويمكن ان يقال أيضا : لان يوصف تعالى بهما دخل فى الانذار دون غيرهما.

قول المصنف : والعقل على استحالة الآلات ـ وكذلك النقل كثيرا ، منه ما رواه الكلينى رحمه‌الله فى الكافى باب صفات الذات والصدوق رحمه‌الله فى التوحيد باب صفات الذات والافعال عن محمد بن موسى بن المتوكل رحمه‌الله عن على بن ابراهيم عن ابيه عن العباس بن عمرو عن هشام بن الحكم ، قال فى حديث الزنديق الّذي سال أبا عبد الله عليه‌السلام انه قال له : أتقول انه سميع بصير ، فقال ابو عبد الله عليه‌السلام : هو سميع بصير ، سميع بغير جارحة ، وبصير بغير آلة ، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه ، وليس قولى : انه يسمع بنفسه انه شيء والنفس شيء آخر ، ولكنى اردت عبارة عن نفسى اذ كنت مسئولا وافهاما لك اذ كنت سائلا ، فاقول : يسمع بكله ، لا ان كله له بعض ، ولكنى اردت افهامك والتعبير عن نفسى ، وليس مرجعى فى ذلك الا الى انه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف المعنى.

ثم الدليل العقلى على استحالة الآلات عليه فى ادراكه تعالى لزوم الجسمية والحاجة.

٤٦٤

قول الشارح : واختلفوا فى معناه الخ ـ لا شبهة ولا خلاف فى ان سمعه وبصره تعالى من الصفات الذاتية ، فمن قال بزيادة الصفات الذاتية على الذات كالاشاعرة قال انهما صفتان غير العلم ، ومن قال بعينيتها فلا محيص له من القول بانهما العلم بالمسموعات والمبصرات.

المسألة السادسة

( فى انه تعالى متكلم صادق )

قول المصنف : وعمومية قدرته الخ ـ اشارة الى برهان القول المختار له فى مسألة كلام الله تعالى الّذي لا شبهة ولا خلاف بين اهل الملل من المسلمين وغيرهم فى ثبوته ، وانما وقع الخلاف فى قدمه او حدوثه وقيامه بذاته تعالى او بغيره وانه من صفات الذات او من صفات الفعل وانه قسمان اللفظى والنفسى او قسم واحد هو اللفظى ، ولا بأس بذكر الاقوال والكلام فيها ، فاقول.

القول الاول للامامية والمعتزلة ، وهو ان الكلام فى الواجب والممكن قسم واحد هو هذه الحروف والاصوات الحاصلة بإرادة المتكلم وقدرته القائمة بغير نفسه وذاته التى تقع على سمع المخاطب ان كان هنا مخاطب ، ولكن الله تبارك وتعالى اذ هو منزه عن الجسمية وعن ان يكون له حلق وفم وشفة وغيرها مما لنا من آلات التكلم فيوجد بقدرته العامة على كل شيء وارادته هذه الحروف باى لغة شاء فى اى شيء من خلقه من ملك او انسان او حيوان او شجر او حجر او غيرها فيسمعه من اراد الله تعالى اسماعه ، ونحن لا نعقل ولا نتصور القسم الاخر من الكلام الّذي سماه الخصم كلا ما نفسانيا اذ لا نعقل فى انفسنا من المعانى غير العلم والإرادة والترجى والتمنى والاستفهام وغيرها نسميه الكلام النفسى ، فان الخصم لو قنع بتسمية الجامع بين هذه المعانى وهو المعنى الواقع فى النفس بالكلام النفسى فلا تحاشى منا ولا مضايقة اذ لا مشاحة فى الاصطلاح ويكون

٤٦٥

النزاع لفظيا ، الا ان الخصم لا يكتفى بذلك ولا يقنع ، بل هو مصر على ان فى النفس معنى آخر غير هذه المعانى هو الكلام حقيقة ، ويأتى إن شاء الله عن قريب بيانهم وكلامهم.

ثم الدليل على هذا المذهب امور :

الاول ان عمومية قدرته مع ان الكلام النفسى غير معقول وان الكل مجمعون على انه تعالى متكلم دليل على ثبوت الكلام له تعالى بهذا المعنى.

الثانى ان لكلام الله تعالى خواص ذكرت فى الكتاب تمتنع على المعنى القديم القائم بذات الله تعالى وتصح على المعنى الّذي قلناه ، وتلك الخواص كونه مسموعا لقوله تعالى : ( وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ ) ، وكونه متلوا لقوله تعالى : ( لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا ) وكونه ذكرا لقوله تعالى : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) ، وكونه عربيا لقوله تعالى ( أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) ، وكونه منزلا لقوله تعالى : ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ) ، وكونه محدثا لقوله تعالى : ( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) ، وكونه فى لوح محفوظ لقوله تعالى : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) ، وغير ذلك.

الثالث ان ما ادعوه على الله تعالى من الكلام النفسى لم يذكره ولا اثرا منه فى كتاب من كتبه ولا على لسان نبى من انبيائه ولا وصى من اوصياء رسله ، ولم يكن له اسم ولا مفهوم عند احد من خلقه ولا فى تأليف من التآليف ولا فى كتاب من كتب اصحاب الادب واللغة ولا فى شعر احد من الشعراء حتى وصل الامر الى الشيخ الاشعرى او شيخ آخر لهم مسمى بابى محمد عبد الله المتكلم البغدادى فى القرن الثالث كما قيل ونقل فى حاشية احقاق الحق ، فهو كشف عن مكنون حقيقته واظهر اسمه وتكلم برسمه وابان مفهومه مع ان العقلاء باجمعهم فى زمانه الى اليوم صرحوا بانا لا نعقل هذا المعنى ولا نتصوره الا المقلدين له على رسم العصبية وعادة التقليد ، وان هم الا يخرصون فقتل الخراصون.

ان قلت : وقع هذا المعنى فى قول الشاعر :

ان الكلام لفى الفؤاد وانما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

قلت : لم اجد لقائل هذا الشعر اسما ولا تاريخا ، ولعله احد من الاشاعرة ،

٤٦٦

وان كان عربيا قحا لم يكن شعره دليلا على المدعى اذ من المحتمل قويا انه تجوز مبالغة باسم الدال على المدلول لان المقصود الاصلى من اتيان الكلام الدلالة على ما فى الضمير.

الرابع الاخبار الدالة على ذلك.

منها ما رواه العلامة المجلسى رحمه‌الله فى باب كلامه تعالى من توحيد البحار عن أمالي الشيخ عن المفيد عن ابن قولويه عن الكلينى عن على بن ابراهيم عن الطيالسى عن صفوان بن يحيى عن ابن مسكان عن ابى بصير ، قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لم يزل الله جل اسمه عالما بذاته ولا معلوم ولم يزل قادرا بذاته ولا مقدور ، قلت : جعلت فداك فلم يزل متكلما؟ ، قال : الكلام محدث ، كان الله عز وجل وليس بمتكلم ، ثم احدث الكلام ، ورواه الكلينى رحمه‌الله فى باب صفات الذات من الكافى ، والصدوق رحمه‌الله فى باب صفات الذات من التوحيد بهذا السند مع اختلاف فى المتن.

ومنها ما رواه أيضا فى ذلك الباب عن الاحتجاج عن صفوان بن يحيى ، قال : سأل ابو قرة المحدث الرضا عليه‌السلام. فقال : اخبرنى جعلنى الله فداك عن كلام الله لموسى ، فقال : الله اعلم باى لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية ، فاخذ ابو قرة بلسانه فقال : انما اسألك عن هذا اللسان ، فقال ابو الحسن عليه‌السلام : سبحان الله مما تقول ومعاذ الله ان يشبه خلقه او يتكلم بمثل ما هم متكلمون ، ولكنه تبارك وتعالى ليس كمثله شيء ولا كمثله قائل فاعل ، قال : كيف ذلك ، قال كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق ، ولا يلفظ بشق فم ولسان ولكن يقول له كن فكان بمشيته ، ما خاطب به موسى من الامر والنهى من غير تردد فى نفس ، الخبر. وغير ذلك من الاخبار.

ان قلت : فى بعض اخبارنا ان القرآن ( وهو كلام الله تعالى ) ليس بخالق ولا مخلوق وهذا بظاهره ينطبق على ما ذهب إليه الاشاعرة من ان كلامه صفة قديمة قائمة بذاته تعالى فان هذه الصفة ليست بخالقة لان الخالق هو الله تعالى وليست بمخلوقة لان صفات الله تعالى ليست بمخلوقة له ، كخبر رواه الصدوق رحمه الله تعالى فى التوحيد باب ان القرآن ما هو عن احمد بن زياد بن جعفر الهمدانى عن على بن ابراهيم عن ابيه عن على بن معبد عن الحسين بن خالد ، قال : قلت للرّضا على بن موسى عليهما‌السلام يا ابن رسول الله

٤٦٧

اخبرنى عن القرآن أخالق أم مخلوق ، فقال : ليس بخالق ولا مخلوق ، ولكنه كلام الله عز وجل.

قلت : جوابه ما اورده الصدوق هناك بقوله : قد جاء فى الكتاب ان القرآن كلام الله ووحى الله وقول الله وكتاب الله ، ولم يجيء فيه انه مخلوق ، وانما منعنا من اطلاق المخلوق عليه لان المخلوق فى اللغة قد يكون مكذوبا ، ويقال : كلام مخلوق اى مكذوب ، قال الله تبارك وتعالى : ( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) اى كذبا ، وقال عز وجل حكاية عن منكرى التوحيد : ( ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ ) اى افتعال وكذب ، فمن زعم ان القرآن مخلوق بمعنى انه مكذوب فقد كفر ، ومن قال : انه غير مخلوق بمعنى انه غير مكذوب فقد صدق وقال الحق والصواب ، ومن زعم انه غير مخلوق بمعنى انه غير محدث وغير منزل وغير محفوظ فقد اخطأ وقال غير الحق والصواب ، وقد اجمع اهل الاسلام على ان القرآن كلام الله عز وجل على الحقيقة دون المجاز وان من قال غير ذلك فقد قال منكرا من القول وزورا ووجدنا القرآن مفصلا وموصلا وبعضه غير بعض وبعضه قبل بعض كالناسخ الّذي يتأخر عن المنسوخ فلو لم يكن ما هذه صفته حادثا بطلت الدلالة على حدوث المحدثات وتعذر اثبات محدثها بتناهيها وتفرقها واجتماعها وشيء آخر وهو ان العقول قد شهدت والامة قد اجتمعت على ان الله عز وجل صادق فى اخباره وقد علم ان الكذب هو ان يخبر بكون ما لم يكن ، وقد اخبر الله عز وجل عن فرعون وقوله : ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ) ، وعن نوح انه نادى ابنه وهو فى معزل ( يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ ) ، فان كان هذا القول وهذا الخبر قديما فهو قبل فرعون وقبل قوله ما اخبر عنه ، وهذا هو الكذب ، وان لم يوجد الا بعد ان قال فرعون ذلك فهو حادث لانه كان بعد ان لم يكن وامر آخر وهو ان الله عز وجل قال : ( وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) ، وقال ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) ، وما له مثل او جاز ان يعدم بعد وجوده فهو حادث لا محالة ، وتصديق ذلك ما اخرجه شيخنا محمد بن الحسن بن احمد بن الوليد رحمه‌الله فى

٤٦٨

جامعه وحدثنا به عن محمد بن الحسن الصفار عن العباس بن معروف قال حدّثني عبد الرحمن بن ابى نجران عن حماد بن عثمان عن عبد الرحيم القصير ، قال : كتبت على يدى عبد الملك بن اعين الى ابى عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك اختلف الناس فى اشياء قد كتبت بها أليك فان رايت جعلنى الله فداك ان تشرح لى جميع ما كتبت به أليك اختلف الناس بالعراق فى المعرفة والجحود فاخبرنى جعلت فداك أهما مخلوقان ، واختلفوا فى القرآن فزعم قوم ان القرآن كلام الله غير مخلوق وقال آخرون كلام الله مخلوق ، وعن الاستطاعة اقبل الفعل أم مع الفعل فان اصحابنا قد اختلفوا فيه ورووا فيه ، وعن الله تبارك وتعالى هل يوصف بالصورة وبالتخطيط ، فان رأيت جعلنى الله فداك ان تكتب الى بالمذهب الصحيح من التوحيد وعن الحركات أهي مخلوقة او غير مخلوقة وعن الايمان ما هو فكتب عليه‌السلام على يدى عبد الملك بن اعين سالت عن المعرفة ما هى فاعلم رحمك الله ان المعرفة من صنع الله عز وجل فى القلب مخلوقة والجحود من صنع الله فى القلب مخلوق وليس للعباد فيهما من صنع ، ولهم فيهما الاختيار من الاكتساب ، فبشهوتهم الايمان اختاروا المعرفة فكانوا بذلك مؤمنين عارفين ، وبشهوتهم الكفر اختاروا الجحود فكانوا بذلك كافرين جاحدين ضلالا ، وذلك بتوفيق الله لهم وخذلان من خذله ، فبالاختيار والاكتساب عاقبهم الله واثابهم ، وسالت رحمك الله عن القرآن واختلاف الناس قبلكم ، فان القرآن كلام الله محدث غير مخلوق وغير ازلى مع الله تعالى ذكره وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، كان الله عز وجل ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول كان عز وجل ولا متكلم ولا مريد ولا متحرك ولا فاعل جل وعز ربنا ، فجميع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه جل وعز ربنا والقرآن كلام الله غير مخلوق فيه خبر من كان قبلكم وخبر من يكون بعدكم انزل من عند الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وسالت رحمك الله عن الاستطاعة للفعل فان الله عز وجل خلق العبد وجعل له الآلة والصحة وهى القوة التى يكون العبد بها متحركا مستطيعا للفعل ، ولا متحرك الا وهو يريد الفعل وهى صفة مضافة الى الشهوة التى هى خلق الله عز وجل مركبة فى الانسان ، فاذا تحركت الشهوة فى الانسان اشتهى الشيء فأراده ، فمن ثم قيل للانسان مريد ، فاذا اراد الفعل وفعل كان مع الاستطاعة والحركة ، فمن ثم قيل للعبد مستطيع متحرك ، فاذا كان

٤٦٩

الانسان ساكنا غير مريد للفعل وكان معه الآلة وهى القوة والصحة اللتان بهما تكون حركات الانسان وفعله كان سكونه لعلة سكون الشهوة فقيل ساكن فوصف بالسكون فاذا اشتهى الانسان وتحركت شهوته التى ركبت فيه اشتهى الفعل وتحرك بالقوة المركبة فيه واستعمل الآلة التى بها يفعل الفعل ، فيكون الفعل منه عند ما تحرك واكتسبه ، فقيل فاعل ومتحرك ومكتسب ومستطيع ، او لا ترى ان جميع ذلك صفات يوصف بها الانسان ، وسالت رحمك الله عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك ، فتعالى الله الّذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، تعالى الله عما يصفه الواصفون المشبهون الله تبارك وتعالى بخلقه المفترون على الله عز وجل ، فاعلم رحمك الله ان المذهب الصحيح فى التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله عز وجل ، فانف عن الله البطلان والتشبيه فلا نفى ولا تشبيه ، هو الله الثابت الموجود تعالى الله عما يصفه الواصفون ، فلا تعد القرآن فتضل بعد البيان وسالت رحمك الله عن الايمان ، فالايمان هو اقرار باللسان وعقد بالقلب وعمل بالاركان فالايمان بعضه من بعض ، وقد يكون العبد مسلما قبل ان يكون مؤمنا ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما فالاسلام قبل الايمان وهو يشارك الايمان ، فاذا اتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصى او صغيرة من صغائر المعاصى التى نهى الله عز وجل عنها كان خارجا من الايمان ساقطا عنه اسم الايمان وثابتا عليه اسم الاسلام ، فان تاب واستغفر عاد الى الايمان ولم يخرجه الى الكفر والجحود والاستحلال ، فاذا قال للحلال هذا حرام وللحرام هذا حلال ودان بذلك فعنده يكون خارجا من الايمان والاسلام الى الكفر وكان بمنزلة رجل دخل الحرم ثم دخل الكعبة فاحدث فى الكعبة حدثا فاخرج عن الكعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار الى النار ، ثم قال الصدوق : كان المراد من هذا الحديث ما كان فيه من ذكر القرآن ومعنى ما فيه انه غيره مخلوق اى غير مكذوب ، ولا يعنى به انه غير محدث لانه قد قال محدث غير مخلوق وغير ازلى مع الله تعالى ذكره.

القول الثانى للاشاعرة ، وهو ان كلامه تعالى صفة ذاتية قديمة قائمة بذاته ، وهى امر واحد لا تعدد فيه ولا تكثر ولا تغير كسائر صفاته الذاتية ، وهو مع كونه واحدا

٤٧٠

امر ونهى وخبر واستخبار ، سمى بالكلام النفسى ، يدل عليه هذا الكلام اللفظى ، وهو الكلام حقيقة ، واطلاق الكلام عليه وعلى اللفظى اما بالاشتراك او بالحقيقة والمجاز.

قال الشارح العلامة رحمه‌الله فى نهج الحق : والاشاعرة خالفوا عقولهم وعقول كافة البشر فاثبتوا له تعالى كلاما لا يفهمونه هم ولا غيرهم ، واثبات مثل هذا الشيء والمكابرة عليه مع انه غير متصور البتة فضلا عن ان يكون مدلولا عليه معلوم البطلان ، ومع ذلك فانه صادر عنا او فينا عندهم ولا نعقله نحن ولا من ادعى ثبوته.

اقول : اقرب ما قاله اتباع الاشعرى الى التصور فى هذا المقام ما ذكر القوشجى فى مبحث الكيفيات المسموعة بقوله : اقول المعنى النفسى الّذي يدعون انه قائم بنفس المتكلم ومغاير للعلم فى صورة الاخبار عما لا يعلمه هو ادراك مدلول الخبر اعنى حصوله فى الذهن مطلقا ، انتهى ، ومراده بالإطلاق شمول مدلول الخبر لما كان له واقع أم لا وما كان معه تصديق أم لا ، وانت ترى ان هذا أيضا تخرص كسائر ما قالوا حول هذا المدعى لان حصول مدلول الخبر فى الذهن ليس الا تصورات اطرافه وهو العلم التصورى وقد مر بعض الكلام فى ذلك فى مبحث المسموعات من الاعراض ، ومن اراد تفاصيل كلماتهم فليراجع شرح المواقف وشرح القوشجى فان الصواب ترك ذكر تلك الخرافات.

القول الثالث للحنابلة ، وهو على ما نقل اصحاب التأليف ان كلامه تعالى مركب من حروف واصوات يقومان بذاته وهو قديم ، وقد بالغوا فيه حتى قال بعضهم جهلا : الجلد والغلاف أيضا قديمان فضلا عن المصحف ، وهذا القول غنى عن الابطال لان كل عاقل يعلم ان كل مركب حادث.

القول الرابع للكرامية : وهو ان كلامه تعالى حروف واصوات وسلموا انها حادثة لكنهم زعموا انها قائمة بذاته تعالى لتجويزهم قيام الحوادث به تعالى ويرده ما يأتى فى المسألة السادسة عشرة من امتناع قيام الحوادث به تعالى.

٤٧١

القول الخامس لاهل العرفان واصحاب الحكمة المتعالية ، والكلام عندهم إنشاء الكلمات والكلمات هى الموجودات لانها معربة عن صانعها كما ان الكلمات اللفظية معربة عن ضمير لافظها والمتكلم من قام به الكلام قيام الموجود بالموجد.

ثم ان الاقوال الماضية غير ما قال الاشاعرة تدور حول الكلام والمتكلم بمعناهما العرفى ، وهذا انما هو بحسب الوضع والمواضعة فيكون الكلام على حد محدود لا يتعدى حقيقته عنه ، وذلك منحصر فى الصوت المتقاطع المكيف بكيفيات مخصوصة فيكون دلالة الكلام عرضية لانها باعتبار مواضعة بين الناس حيث جعلوا كل كلمة او كلام دالا على معنى ، ولو جعلوا مكانه شيئا آخر كالاشارة والاوضاع المتفننة بين الاعضاء والاجسام او غير ذلك لادى مؤداه الا انهم اختاروا اللفظ لانه ايسر واسهل من غيره لكونه لا يحتاج الى مئونة زائدة فى ادائه لضرورة التنفس ، والدلالة العرضية تزول بزوال ما هو بالعرض الّذي هو المواضعة العرفية بخلاف دلالة بعض الاشياء على بعض بما هى اشياء فانها دلالة ذاتية بوضع إلهى ولا تزول ، وهؤلاء حيث يكون نظرهم ممدودا الى الحقائق لا الى الاوضاع والاعتبارات والمواضعات قالوا : ان حقيقة الكلام نحو وجود دال على وجود فانّ وجود اللفظ كوجود الكتابة دال على الوجود فى الذهن وهو على الخارج وهو بعضه دال على بعض والكل على الصانع ، فاجزاء العالم برمته كلمات الله الدالات على منشئها المتكلم بكلامه الّذي هو انشائه اياها.

ثم ان هذا المذهب مأخوذ من كتاب الله تعالى وكلمات الوحى ، قال الله تعالى : ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ، اى انما شأنه وانشائه اذا اراد شيئا قوله وكلامه لذلك الشيء : كن فيكون ذلك الشيء ، فهو مقوله وكلمته الصادرة عنه ، فانشاؤه قوله وقوله كلامه وما يصدر عنه بكلامه الّذي هو انشاؤه كلمته ، وقال تعالى : ( يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ) ، وقال تعالى : ( ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ ) ، وقال عليه‌السلام فى النهج فى الخطبة المائة والحادية والثمانين : يقول لما اراد كونه : كن فيكون لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع وانما كلامه سبحانه فعل منه انشأه ، وفى تفسير القمى فى قوله تعالى : ( وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ) ، قال : الكلمات الائمة عليهم‌السلام وفى تفسير العياشى

٤٧٢

عن جابر قال : سالت أبا جعفر عليه‌السلام عن تفسير هذه الآية الى ان قال : كلماته فى الباطن على عليه‌السلام هو كلمة الله فى الباطن ، ثم ان لهم فروعا على هذا القول من الفرق بالاعتبار بين المتكلم والكاتب والكلام والكتاب ، والفرق بين القرآن والفرقان ، ومن مراتب الكلام ، ومن ان ذاته تعالى كلام باعتبار دلالتها على ذاته ، وغير ذلك ، من اراد فعليه بالمنظومتين واسرار الحكم للسبزوارى والاصفهانى والعرشية والمشاعر للشيرازى رحمهم‌الله والفصوص لابن العربى وغيرها لغيرهم ، وهذا المعنى للكلام كالارادة بالمعنى المختار مع الفرق بان إنشاء الاشياء بما هى هى إرادة وبما هى دالة كلام.

القول السادس لبعض الحكماء كالفارابى ، قال فى فصوص الحكم : للملائكة ذوات حقيقية ولها ذوات بحسب القياس الى الناس ، فاما ذواتها الحقيقية فامرية ، وانما يلاقيها من القوة البشرية الروح الانسانية القدسية ، فاذا تخاطبنا انجذب الحس الباطن والظاهر الى فوق فتمثل لها من الملك صورة بحسب ما يحتملها فيرى ملكا على غير صورته ، والوحى لوح من مراد الملك للروح الانسانى بلا واسطة ، وذلك هو الكلام الحقيقى فان الكلام انما يراد به تصوير ما يتضمن باطن المخاطب فى باطن المخاطب ليصير مثله ، انتهى ، قوله : والوحى لوح الخ ، اى الوحى ومضة وشروق مما فى باطن الملك من الحقائق العلمية التى اراد ايصالها الى الروح الانسانى الكامل كروح النبي بلا واسطة من الآلات الجسمانية بل باتصال الملك اتصالا معنويا وذلك الشروق هو الكلام الحقيقى ، وقوله : فان الكلام انما يراد به الخ ، اى فان الكلام بحسب الحقيقة عندنا انما يراد به تصوير ما يتضمن باطن المخاطب بكسر الطاء من الصور العلمية التى اراد اعلامها وحصولها فى باطن المخاطب بفتح الطاء ليصير مثله فى حصول تلك الصور ، والحاصل ان الكلام عنده يدور حول الاعلام بان يكون عند موجود صور علمية يريد حصولها عند آخر فيفعل ما به تحصل عنده من نقش او صوت كما فينا او غيرهما كما فى الروحانيين فهو متكلم وما يفعله كلام له.

٤٧٣

ثم اقول : ان شيئا من هذه الاقوال الستة ليس على الحق الصافى من تفسير الكلام لان الثانى والثالث والرابع ظاهرة الفساد والاول لا يشمل ما كان بغير ايجاد الصوت ككلام الله الملقى فى روع نبى او ولى او ملك وكلام الملك او الشيطان الملقى فى صدر الانسان ولا يشمل ما فى الكتب ولا ما تكلم به الحيوانات والاشجار والاحجار وغيرها بالاعجاز لانه لا يحصل بإرادة المتكلم وقدرته والقول الخامس لا ينطبق على معنى الكلام فى العرف العام ولا فى الشرع ولا فى عرف خاص من اصحاب العلوم بل هو اصطلاح عندهم فلا يحمل عليه ما ورد فى الكتاب والسنة ولا ما وقع فى المحاورات ولا يفهم احد من العرب وغيرها من قولنا : الله متكلم انه منشئ للاشياء ولا يكون صرف الدلالة مصححا لكون الدال كلاما واما قول امير المؤمنين عليه‌السلام فلا يدل على ذلك اذ ليس معناه ان كل فعل صدر منه فهو كلام له كما هو مدعاهم بل معناه ان كلامه ليس من صفات ذاته بل فعل منه كسائر افعاله ، واطلاق الكلمة على الائمة والأنبياء عليهم‌السلام لخصوصية سنذكرها ليست فى سائر الموجودات واما قوله تعالى : ( إِنَّما أَمْرُهُ ) الخ فهو تمثيل لسرعة انقياد الاشياء لارادته وامتناع تخلف شيء اراده عنها لا ان هنا قولا ولا انه تعالى بصدد ان انشاءه قول وكلام حقيقة ، واما قوله تعالى : ( ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ ) فليس فى الآية اشعار بان الموجودات كلماته ، بل تدل على ان لا نفاد لكلماته.

فالحق ان التكلم هو ظهور المكنون العلمى من الشيء ، والكلام ذلك المكنون العلمى باعتبار ظهوره سواء كان بالآلات والمحل المادى كالذى يقع فى الهواء او الشجر او غيرهما او لم يكن بذلك ، فيشمل ما يظهر من الله تعالى لملائكته ورسله وسائر عباده وخلقه على اى وجه كان وما يظهر من غيره من ذوى العقول وغيرهم كذلك ، ثم ان كان هناك مخاطب يراد تصوير ذلك المكنون العلمى له سمى التكلم بهذا الاعتبار خطابا وتكليما ، وان ثبت فى لوح او ورق او نفس او جبهة اسرافيل او غيرها من المجردات والماديات سمى ثبوته بالكتابة والّذي ثبت فيه بالكتاب ، واطلاق كتاب الله تعالى على امير المؤمنين عليه‌السلام بهذا الاعتبار اذ ثبت فيه ما عند الله تعالى من المكنونات العلمية

٤٧٤

وكذا اطلاق الكلمة عليه باعتبار انه يظهر به لعباده ما عند الله تعالى منها لانه مبين لمراده تعالى لهم كما ان كلمتنا تبين مرادنا ، وعلى هذا فالقرآن كلام الله تعالى على الحقيقة فى اى صقع من الاصقاع وقع فى النقوش والاشكال الكتبية او فى صدور الحفاظ او فى اصوات القراء او فى نفوس اهل السماوات او فى بواطن الرسل والأنبياء او فى غير ذلك والاجماع قائم عليه كما مر فى ضمن كلام الصدوق رحمه‌الله ، فلا وجه للذهاب الى ان ما بين الدفتين كلام الله تعالى على المجاز او ما فى اصوات القراء كذلك ، ولا يخفى انه كلما تحقق الكلام لشيء تحقق التكلم له ، لا العكس لان الحاكى لكلام الغير القارى له متكلم وليس الكلام له الا انه اذا لم يقصد الحكاية فالكلام له أيضا ، وان التكلم والكلام يسندان الى ما يظهر منه سواء كان بقدرته او بقدرة الغير فيه ، فقول الحجر لداود عليه‌السلام يا داود خذنى فاقتل بى جالوت تكلم منه وكلام له وان لم يكن بقدرته.

قول الشارح : وقد اتفقت المعتزلة والاشاعرة الخ ـ بل اتفقوا على وقوعه أيضا مع اختلاف بين الاشاعرة انفسهم فى ان اطلاق الكلام عليه بالمجاز او بالاشتراك.

قول المصنف : وانتفاء القبح عنه تعالى الخ ـ هنا ثلاثة مطالب :

الاول انه تعالى صادق ، والدليل عليه الكتاب والسنة والاجماع والعقل.

الثانى هل يجوز الكذب على الله تعالى ، فالعدلية على انه لا يجوز لقبحه الممتنع عليه تعالى ، واما الاشاعرة فعلى مبناهم من نفى الحسن والقبح على ما يأتى البحث عنه إن شاء الله تعالى فى المسألة الاولى والثانية من الفصل الثالث لا يمتنع الكذب عنه تعالى لعدم امتناع القبيح عليه تعالى مطلقا على مبناهم ، لكنهم استثنوا الكذب بالاجماع ، وذكر القوشجى وغيره وجهين آخرين لامتناع الكذب عنه ، الاولى رفضهما.

الثالث هل الصدق من صفات ذاته او فعله ، فالاشاعرة على الاول لانه صفة الكلام الّذي هو من صفات الذات عندهم ، وغيرهم على الثانى لان الكلام من صفات فعله ، لكن قد ورد فى روايات عن اهل البيت عليهم‌السلام التصريح بانه من صفات الذات.

٤٧٥

منها ما رواه الصدوق رحمه‌الله فى التوحيد فى باب صفات الذات عن جابر عن ابى جعفر عليه‌السلام ، قال : ان الله تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره نورا لا ظلام فيه وصادقا لا كذب فيه وعالما لا جهل فيه وحيا لا موت فيه ، وكذلك اليوم وكذلك لا يزال ابدا ، ورواه المجلسى رحمه‌الله فى توحيد البحار عن محاسن البرقى بعينه.

اقول : المراد بالصادق فى هذا الخبر هو الحق لا ما يكون صفة للقول والكلام ، والحق يأتى صفة للذات وللقول ، والشاهد على ذلك ما رواه الصدوق فى ذلك الباب أيضا عن هشام بن سالم ، قال : دخلت على ابى عبد الله عليه‌السلام ، فقال لى : أتنعت الله ، فقلت : نعم قال : هات ، فقلت : هو السميع البصير ، قال : هذه صفة يشترك فيها المخلوقون ، قلت : فكيف ننعته ، فقال : هو نور لا ظلمة فيه وحياة لا موت فيه وعلم لا جهل فيه ، وحق لا باطل فيه ، فخرجت من عنده وانا اعلم الناس بالتوحيد ، او المراد به معنى سلبى وهو عدم صدور الكذب والباطل عنه لا بمعنى مطابقة كلامه للواقع ، والاول اظهر.

قول الشارح : حكيم على ما يأتى ـ فى المسألة الحادية والعشرين.

المسألة السابعة

( فى انه تعالى باق )

قول المصنف : على سرمديته ـ اعلم ان السرمد والدائم والباقى والقديم والازلى والابدى معان متلازمة بل الفاظ مترادفة فى عرف اهل الكلام ، وقد وصف الله تعالى بها فى الكتاب والسنة ، والمراد بها امتناع العدم ، وهذا المعنى من اللوازم البينة لوجوب الوجود الذاتى ، فكبرى القياس الّذي ذكر الشارح رحمه‌الله بينة لا تحتاج الى البيان ، فقوله : والا لكان ممكنا تنبيه عليه لا استدلال.

قول المصنف : ونفى الزائد ـ ان قلت : ان المصنف ذكر فى المسألة التاسعة

٤٧٦

عشرة نفى المعانى الزائدة مطلقا ، فما وجه ذكر كون البقاء غير زائد على الذات هنا قلت : لان كون البقاء زائدا على الذات مما اختلف فيه الاشعريون انفسهم حتى ان بعض شيوخهم كامام الحرمين الجوينى والقاضى ابى بكر الباقلانى خالف الشيخ أبا الحسن الاشعرى فى ذلك وذهب الى نفى الزائد مع ان الشهرستانى ذكر فى الملل والنحل ان للشيخ نفسه اختلاف راى فى البقاء ولان الفريقين ذكروا لخصوص زيادة البقاء على الذات وعدم الزيادة وجوها غير ما ذكروا لمطلق الصفات ، من ارادها فعليه بشرح القوشجى وشرح المواقف.

قول الشارح : يدل على سوء فهم المورد ـ هذا المورد قاس الواجب بالذات على الواجب بالغير فانه واجب فى وقت وجود علته وممتنع فى وقت عدم علته.

قول الشارح : مجردة الخ ـ مجردة حال وتكون خبر لان.

المسألة الثامنة

( فى انه تعالى واحد )

اعلم ان الوحدة فى مقابل التكثر : وهو اما بحسب نفس الشيء وهو التركيب ، واما بحسب الغير مع امتناع المجامعة وهو الضدية ، أو لا معه مع الاتحاد فى الماهية وهو المثلية ، أولا مع الاتحاد وهو الشركة ، فهذه اربع مسائل ذكرها المصنف متعاقبة ، هذا ان قلنا ان الشريكين يعتبر فيهما اختلاف الماهية ، والا فالشريك اعم من المثل ونفيه يستلزم نفيه ، لكن مسألة ان الواجب مخالف لغيره فى الماهية والحقيقة مسألة برأسها عنونوها ، والمصنف جرى مجراهم.

قول المصنف : والشريك ـ الشريك من الشركة ، وهى اجتماع الاثنين او اكثر على فعل او فى حق او مال او غير ذلك ، والمراد هنا بنفى الشريك نفى تعدد الواجب من حيث هو هو وان استلزم ذلك نفى تعدد الصانع ، فتشمل المسألة توحيد

٤٧٧

الذات وتوحيد الفعل ، واما توحيد الصفات بمعنى ان صفاته تعالى عين ذاته تعالى فيأتى فى المسألة التاسعة عشرة

قول الشارح : ان اكثر العقلاء الخ ـ قد ذكرنا جملة القول فى الطوائف القائلة بتعدد القديم والواجب فى المسألة الخامسة والاربعين من الفصل الاول من المقصد الاول ، والتفصيل فى كتب المذاهب.

قول الشارح : والدليل على ذلك الخ ـ اعلم ان الادلة التى اقيمت على نفى تعدد الواجب من حيث هو هو تدل على نفى تعدد الصانع أيضا لانه ان لم يكن فى الوجود الا واجب واحد فهو الصانع للكل لاستناد ما سواه إليه ، واما التى اقيمت على نفى تعدد الصانع من حيث هو هو لا تدل على نفى تعدد الواجب لان العقل اذا قطع بان الصانع واحد لم يمتنع ان يتصور ان فى الوجود واجبا ليس بصانع شيئا ، فالطائفة الاولى تغنى عن الطائفة الثانية لا بالعكس ، ولكن نذكر الطائفتين لزيادة البصيرة فالدليل على وحدة الواجب امور :

الاول ما ذكره الشارح العلامة رحمه‌الله ، وتوضيحه ان الواجب لو كان متعددا لكان كل منهما مركبا ، والتالى باطل لان المركب لاحتياجه الى اجزائه التى هى غيره بما هى اجزاء ممكن فلزم ان يكون ما فرضناه واجبا ممكنا ، وهذا خلف باطل واما بيان الملازمة فان الواجبين متشاركان فى وجوب الوجود قطعا وكل متشاركين فى شيء لا بدّ ان يكونا متمايزين بشيء آخر والا ارتفع الاثنينية والشركة ويكونان واحدا لا اثنين ، وهذا الفرض مع استحالته يستلزم المطلوب لانتفاء الاثنينية والشركة فالواجبان لا بد ان يكونا متمايزين بشيء آخر غير عنوان الوجوب المشترك وهو اما تمام الذات من كل منهما فيكون وجوب الوجود عارضا فيكون كل منهما مركبا من العارض المتحد والمعروض المميز مع ان عرضية وجوب الوجود يستلزم الامكان ، واما جزء ذات كل منها وهذا الجزء فى كل منهما فصل فيكون وجوب الوجود جنسا فيكون كل منهما مركبا من الجنس والفصل ، واما عارض خارج عن ذاتهما فيكون وجوب الوجود نوعا فيكون كل منهما مركبا من العارض المميز والمعروض المتحد

٤٧٨

مع ان ما به الامتياز الّذي به التشخص خارج عن ذات كل منهما وكل ما تشخصه خارج عن ذاته فهو محتاج فيه الى الخارج وكل محتاج ممكن ، ولا رابعة لهذه الصور ، فتعدد الواجب يستلزم تركبه وهو باطل وبطلان اللازم يستلزم بطلان الملزوم ، فالواجب الوجود بالذات واحد وهو المطلوب.

واعترض على هذا البرهان بان القسمة ليست حاصرة بل لها صورة رابعة لان الصورة الاولى تنقسم الى صورتين لان العارض على قسمين : المحمول بالضميمة كقولنا : الجسم ابيض فان صحة حمله عليه يتوقف على ضميمة البياض إليه فصدق الابيض على الجسم يستلزم تركبه مع البياض ، والمحمول من صميم ذات الموضوع كقولنا : الانسان ممكن فان صحة حمله عليه لا يتوقف على ضميمة امر من خارج ذات الانسان إليه بل الانسان من حيث هو انسان ينتزع من صميم ذاته معنى الامكان فيحمل عليه ، فصدق الممكن على الانسان لا يستلزم تركبه مع الامكان ، فلم لا يجوز ان يكون هناك هويتان بسيطتان مجهولتا الكنه مختلفتان بتمام الماهية يكون كل منهما واجب الوجود بذاته ويكون مفهوم وجوب الوجود منتزعا منهما مقولا عليهما قولا عرضيا بالمعنى الثانى فحينئذ لا يستلزم التركب وهذه هى الشبهة المعروفة المنسوبة الى ابن كمونة الّذي سماه القوم بافتخار الشياطين.

والجواب ان قياس الواجب والوجوب بالانسان والامكان صحيح فان مفهوم الوجوب منتزع من صميم ذات الواجب كما ان الامكان منتزع من صميم ذات الانسان وغيره من الممكنات ، لكن الانسان لو وجد له فرد آخر هل ينتزع منه مفهوم الامكان أم لا ، والجواب مثبت ، فاذا كان الانسانان مشتركين فى انتزاع مفهوم الامكان الّذي هو مفهوم واحد ومعنى فارد فهل يستلزم ذلك اشتراك ذاتيهما فى امر واحد حتى ينتزع المفهوم الواحد عن الامر الواحد أم لا ، والجواب مثبت ، لان المفهوم الواحد كيف ينتزع من امرين متباينين بالكلية ، وهذا بين بل فطرى ، ولان

٤٧٩

العقل لا يمكنه ان ينتزع عن شيء مفهوما ما لم يجد فيه امرا يكون منشأ لانتزاعه ، فالاثنان اللذان ينتزع من صميم ذاتهما مفهوم واحد لا بدّ من ان يكونا متحدين فى تمام الماهية كالانسانين ، او فى بعض الماهية كالانسان والحمار او فى امر عرضى كالاجناس العالية ، فعلى الاول يكون كل منهما مركبا من النوع والاعراض الخارجية لان العرض المنتزع من الذات لا يكون مشخصا لكونه معنى واحدا كالذات ، وعلى الثانى مركبا من الجنس والفصل ، وعلى الثالث مركبا من العارض والمعروض ، فانتزاع الوجوب من الواجبين المفروض تباينهما بتمام الذات لا يمكن الا ان يكون فيهما امر واحد مشترك ينتزع منه مفهوم الوجوب

ثم لا يخفى ان هذا الجواب لا يفيد على القول بكون الواجب ماهية مجهولة الكنه كما عليه بعض المتكلمين لان الماهية من حيث هى ماهية لا ينتزع منها الوجود ولا الوجوب لكن الشبهة على هذا الفرض من اوّل الامر مختلة لان الماهية كيف يمكن ان تكون واجبة الوجود غير محتاجة فى الوجود الى غيرها ثم ينتزع منها مفهوم الوجوب كما هو المفروض فى بيان الشبهة ، فلا ملجأ لصاحب الشبهة ولا للقائل بان الواجب ماهية الا ان يعتنقا ويعترفا بما اكلا من فضلات ابليس لعنه الله ، والحاصل انا نسأل صاحب الشبهة انك ما تقول فى هوية الواجب بعد ان سلم انه غير مركب من الماهية والوجود أهي ماهية أم حقيقة الوجود ، فان كانت الاولى فلا يعقل انتزاع مفهوم الوجوب منه لان الوجوب من دون الوجود غير معقول ، وان كانت الثانية فالجواب ما قلنا ، وكذا لا يفيد هذا الجواب على القول بالاشتراك اللفظى فى الوجود او القول بالمعنوى مع كون الوجودات حقائق متباينة لان القولين مشتركان فى تباين الوجودات وحينئذ فالواجبان نوعان متباينان من الوجود وينتزع منهما الوجوب ولا يلزم تركيب ولكن يرد على القولين ما يرد على الشبهة.

ويمكن ان يتخلص اصل البرهان بوجه جامع بحيث يتضمن دفع الشبهة بان كل واجبين كائنين ما كانا يكون كل واحد منهما مركبا مما به الامتياز وما به الاشتراك اما ما به الامتياز فلقضية الاثنينية واما ما به الاشتراك ففى الشيئية التى لا بد لانتزاعها من

٤٨٠