توضيح المراد - ج ١

السيد هاشم الحسيني الطهراني

توضيح المراد - ج ١

المؤلف:

السيد هاشم الحسيني الطهراني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
المطبعة: المصطفوي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

اللام ) الّذي هو القدرة يستلزم اتحاد المتعلق ( بفتح اللام ) الّذي هو المقدور لان حكم المتماثلين فى الجواز والامتناع واحد فاذا جاز تعلق احدى القدرتين المفروض تماثلهما بمقدور جاز تعلق الاخرى به فاذا جاز تعلقهما به جاز اجتماع القادرين المتصفين بهما عليه ولكنه ممتنع فتعلق القدرتين به ممتنع وامتناع ذلك يدل على عدم تماثلهما ، والجواب ان ما مر هو امتناع اجتماع القادرين على وقوع مقدور واحد ، واللازم هنا تعلق القدرتين والقادرين بمقدور واحد على التبادل وقد مر انه ممكن.

قوله : فانه لا يلزم الخ ـ حاصله ان عدم اولوية كون العجز معنى ثبوتيا فى الظاهر او فى الواقع لا يستلزم كونه ثبوتيا كما هو مدعاهم ، بل اولويته يستلزم ذلك وهى غير معلومة بل معلومة العدم.

قول المصنف : ويغاير الخلق الخ ـ اعلم ان الشارح العلامة جعل الخلق مرفوعا ليكون فاعلا ليغاير وجعل مفعوله القدرة المحذوفة وجعل الفعل منصوبا معطوفا على القدرة المحذوفة كما يظهر من عبارته وتبعه غيره من الشراح ، وانما حملوا الكلام على ذلك مع انه خلاف الظاهر لان القوم انما تعرضوا لمغايرة الخلق للفعل بناء على ان اكثر الاخلاق يحصل بمزاولة الافعال ، هكذا فى الشوارق نقلا عن حواشى السيد الشريف الجرجانى على الشرح القديم ، فلو ترك كلام المصنف على ظاهره لكان هو متعرضا لمغايرة القدرة للخلق والفعل وهذا التعرض لا وجه له اذ لم يتوهم احد اتحادهما حتى ينبه على تغايرهما ، فعدلوا عن ظاهر الكلام الى ما شرحوا ليكون الكلام دالا على ان الخلق يغاير الفعل كما انه يغاير القدرة.

قول الشارح : والخلق ملكة نفسانية الخ ـ هذه الملكة تحصل من كثرة ممارسة الفعل كملكة الخياطة للخياط فانه لكثرة ممارسته لها يحصل له ان يخيط الثوب ولا يفتكر ولا يتروى فى حركات يده ولا تحريكات آلاته وكذا سائر اصحاب الحرف والصناعات ، هذا على اصطلاح الحكمة النظرية ، واما الخلق على اصطلاح علم الاخلاق والحكمة العملية صفة نفسية فضيلة كانت توجب شرافة النفس او رذيلة

٣٦١

كانت توجب خساستها سواء كانت بالغريزة او بالاكتساب.

قوله : والخلق ليس كذلك ـ لان القدرة لها نسبة السببية الى فعل وترك ذلك الفعل بعينه ، واما الخلق فله نسبة المسببية الى الفعل فقط

قوله : لانه قد يكون تكليفا ـ بخلاف الخلق وكذا سائر الملكات والحالات النفسانية فانها بنفسها خارجة عن قدرة العبد واختياره فلا يتعلق بها التكليف ، نعم قد يؤمر بها وينهى عنها اما باعتبار افعال توجب حصولها او زوالها واما باعتبار آثارها وتبعاتها.

المسألة الرابعة والعشرون

( فى الالم واللذة )

قول المصنف : ومنها الالم واللذة الخ ـ عرف الشيخ فى اوائل النمط الثامن من الاشارات اللذة بانها ادراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك ، وعرف الالم بانه ادراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك آفة وشر من حيث هو كذلك ، وتعريف الشارح العلامة هنا اجمال لهذا التفصيل لان ملائم كل شيء هو وصول ما هو عنده كمال وخير ومنافره هو وصول ما هو عنده آفة وشر ، ولكن المصنف رحمه‌الله اتى فى شرح الاشارات بتفسير لكلام الشيخ حاو لفوائد لا ينبغى الاعراض عنها ، قال : واما الادراك فقد مر شرح اسمه واما النيل فهو الاصابة والوجدان وانما لم يقتصر على الادراك لان ادراك الشيء قد يكون بحصول صورة تساويه ونيله لا يكون الا بحصول ذاته واللذة لا تتم بحصول ما يساوى اللذيذ بل انما تتم بحصول ذاته وانما لم يقتصر على النيل لانه لا يدل على الادراك الا بالمجاز ( بعلاقة العموم والخصوص فان الادراك اعم من النيل فمرجع الكلام الى ان اللذة هى الادراك النيلى لا مطلق الادراك ) وانما اوردهما معا لفقدان لفظ يدل على المعنى المقصود بالمطابقة وقدم الاعم الدال بالحقيقة واردفه بالمخصص الدال بالمجاز وانما قال لوصول ما هو عند المدرك ولم يقل لما هو عند المدرك لان اللذة ليست هى ادراك

٣٦٢

اللذيذ فقط بل هى ادراك حصول اللذيذ للملتذ ووصوله إليه ( والفرق بين ادراك الشيء وادراك حصول الشيء هو ان الثانى ادراك المدرك للشىء مع علمه بانه حاصل له حقيقة او اعتبارا ، فان هذا العلم قد ينفك عن ادراك الشيء كما ان انسانا ادرك انهارا واشجارا وبساطين واولادا وغلمانا وازواجا لم يكن بينه وبينها علاقة وملكية ) وانما قال ما هو عند المدرك كمال وخير لان الشيء قد يكون كمالا وخيرا بالقياس الى شيء وهو لا يعتقد كماليته وخيريته فلا يلتذ به وقد لا يكون كذلك وهو يعتقده فيلتذّ به فالمعتبر كماليته وخيريته عند المدرك لا فى نفس الامر والكمال والخير هاهنا اعنى المقيسين الى الغير هما حصول شيء لما من شأنه ان يكون ذلك الشيء له اى حصول شيء يناسب شيئا ويصلح له ويليق به بالقياس الى ذلك الشيء والفرق بينهما ان ذلك الحصول يقتضي لا محالة براءة ما من القوة لذلك الشيء فهو بذلك الاعتبار فقط كمال وباعتبار كونه مؤثرا ( على صيغة المفعول من الايثار ) خير والشيخ انما ذكرهما لتعلق معنى اللذة بهما واخر ذكر الخير لانه يفيد تخصيصا ما لذلك المعنى ( لان الكمال الحاصل من حيث هو كمال لا يلتذ به بل يشترط بان يكون مؤثرا ومختارا للشخص ) وانما قال من حيث هو كذلك لان الشيء قد يكون كمالا وخيرا من جهة دون جهة والالتذاذ به يختص بالجهة التى هو معها كمال وخير ( كما ان المطالعة مثلا من حيث هى متعبة للنفس وشاقة عليها لا يلتذ بها ومن حيث انها سبب لانكشاف الحقائق وحصول المعارف يلتذ بها ) فهذه ماهية اللذة ويقابلها ماهية الالم ( تقابل التضاد ) كما ذكره وهو اقرب الى التحصيل من قولهم اللذة ادراك الملائم والالم ادراك المنافى ولذلك عدل الشيخ منه الى ما ذكره فى هذا الموضع ، انتهى كلام المصنف فى شرح الاشارات.

اقول : ان اللذة والالم ينقسمان الى الحسى والتخيلى والتوهمى والتعقلى بحسب اقسام المدركات كانقسام الادراك الى الاحساس والتخيل والتوهم والتعقل ، وانما التعقل والتوهم والتخيل والاحساس البصرى بمثل الاشياء وصورها ، ولا شبهة ان الانسان يلتذ ويتألم بالصور التخيلية والتعقلية والمعانى التوهمية ، وادراك الانسان

٣٦٣

للصورة الحاصلة فى النفس ادراك حضورى لحضور المدرك عند المدرك ، وادراكه للشىء الخارجى ذى الصورة ادراك حصولى لحصول صورته للمدرك ، والانسان حقيقة لا يلتذ ولا يتألم فى هذه الادراكات بالشيء الخارجى بخلاف الادراك الحسى غير البصرى اذ ليس بين الشيء الخارجى وبين الانسان ارتباط يوجب الالتذاذ والتألم به الا باعتبار الصور الحاصلة ، بل يلتذ ويتألم بما حصل فى نفسه من الصور ، وقد يحصل اللذة والالم بالوجدانيات كادراك الجوع والعطش وادراك النفس نفسها وما يتعلق بها من صفاتها وقواها وآلاتها وافعالها ، ولاهل الشهود لذات وآلام غير هذه المذكورات كما شهد الكتاب المجيد بذلك لابراهيم على نبينا وآله وعليه السلام فى قوله : وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين.

اذا علمت هذا فمرجع هذه الجملة من كلام المصنف فى شرح الاشارات. واللذة لا تتم بحصول ما يساوى اللذيذ بل انما تتم بحصول ذاته الى ما قلنا من ان الالتذاذ حقيقة انما هو بما يناله المدرك لا بالامور الخارجية سواء كان صورا فى النفس من المعقولات والموهومات والمتخيلات والمبصرات او كيفيات من المحسوسات او الوجدانيات او المشهودات لاهل الشهود ، والحاصل ان اللذة لا تتم الا بحضور ما يعتقده المدرك خيرا عنده مع علمه والتفاته بحضوره ، وكذا الالم.

ثم ان الخير والشر المذكورين فى التعريف هما الاضافيان كما مرت الاشارة إليه هنا فى الكلام المنقول من المصنف ، ومر أيضا ذكرهما فى المسألة السابعة من الفصل الاول من المقصد الاول.

قوله : وليست اللذة خروجا عن الحالة الطبيعية ـ هكذا فى هذا الشرح وفى الشرح القديم ، وفى شرح القوشجى : وليست اللذة خروجا عن الحالة الغير الطبيعية ، ثم قال القوشجى : والموجود فى بعض نسخ الكتاب بهذه العبارة : وليست اللذة خروجا عن الحالة الطبيعية ولعله من قبل طغيان القلم ، وفى الشوارق مثل ما هاهنا ، ثم قال : كذا وقعت هذه العبارة فى نسخ المتن وظاهر انه سهو من القلم لان هذا الكلام رد لما زعمه محمّد بن زكريا الطبيب من ان اللذة هى العود الى الحالة

٣٦٤

الطبيعية بعد الخروج عنها وبعبارة اخرى هى الخروج عن الحالة الغير الطبيعية الى الحالة الطبيعية واما الخروج عن الحالة الطبيعية فليست لذة عنده بل ذلك عنده هو الالم او سببه فالصواب هو احدى هاتين العبارتين فعنده لذة الاكل هى زوال الم الجوع ولذة الوقاع زوال الم دغدغة المنى لاوعيته وهكذا قال ان الامور المستمرة لا يشعر بها فاذا تجدد زوال حالة غير طبيعية الى حالة طبيعية يشعر بها فقد قارن ادراك الحالة ذلك الزوال الّذي هو اللذة فظنوا ان ادراك الحالة الطبيعية اى الملائمة هو اللذة فقد اخذوا ما بالعرض مكان ما بالذات انتهى.

اقول : يظهر أيضا من قول الشارح العلامة فى الشرح : حتى لا يجعل اللذة عبارة عن الخلاص عن الم الشوق ان الصحيح هو عن الحالة الغير الطبيعية لان الم الشوق حالة غير طبيعية.

ثم ان القوشجى وصاحب الشوارق اخذ الحالة الغير الطبيعية كامثال الم الجوع ودغدغة المنى وهذا يلازم الم الشوق الّذي وقع فى كلام الشارح العلامة لان تلك الحالات تستتبع شوقا الى ما يدفعها من الاكل والجماع

قول الشارح : ولهذا تلتذ بصورة الخ ـ حاصل مدعى ابن زكريا هو ما فى السنة اهل الزهد من ان اللذات الدنيوية ليست الا دفع الآلام ، ونحن ندعى ان اللذات ليست منحصرة فى ذلك بل تحصل من دون ان يسبقها الم وشوق وحالة غير طبيعية كما يلتذ الانسان بصورة يشاهدها من غير سابقة ابصار ليكون له شوق وكما يلتذ بشراب حلو من دون ان يكون له الم العطش وكما يلتذ بمصادفة مال او لقاء حبيب او وصول مقام من دون ان يكون له تعب الطلب والم الشوق ، وامثال ذلك على كثرتها.

قول المصنف : وقد يستند الالم الى التفرق ـ اعلم ان الاقوال فى السبب الذاتى للألم الحسى ثلاثة : الاول قول ابن سيناء وهو ان كلا من تفرق اجزاء العضو وسوء المزاج المختلف سبب ذاتى له وهذا ظاهر المصنف هنا ، الثانى قول جالينوس وهو ان السبب الذاتى له هو تفرق اجزاء العضو فقط ، الثالث قول الفخر الرازى

٣٦٥

وهو ان السبب الذاتى هو سوء المزاج المختلف فقط ، وتفرق الاجزاء انما هو علة معدة لبعض الآلام ، وللفخر استدلالات ذكرت فى شرح القوشجى والشوارق مع اجوبتها.

قول الشارح : بان التفرق عدمى الخ ـ هذا احد استدلالات الفخر على ان تفرق الاجزاء ليس سببا ذاتيا للألم الحسى.

قوله : وفيه نظر لان التفرق الخ ـ حاصل الجواب ان التفرق ليس عدما محضا مطلقا بل هو عدم الملكة يمكن ان يكون سببا لامر وجودى باعتبار موضوعه بان يكون التأثير لموضوعه من حيث اتصافه بهذا العدم المضاف كما ان الحجر الساكن سبب لاتكاء جسم آخر عليه من حيث اتصافه بالسكون الّذي هو عدم الحركة ، وفيما نحن فيه يمكن ان يكون سبب الالم اجزاء العضو من حيث اتصافه بالتفرق ، فالسبب الذاتى فى الحقيقة هو التفرق الا انه لا يتم تأثيره الا بالموضوع الّذي هو قائم به.

قوله : على ان التفرق انما كان الخ ـ هذا لا يصلح للرد على الفخر لانه قد تسلم ان التفرق علة بالعرض اى علة معدة والعلة بالذات هو سوء المزاج المختلف.

قوله : سوء المزاج المختلف الخ ـ المزاج المختلف هو كيفية مخالفة لكيفية العضو ترد على العضو بسبب من الاسباب وتخرج مزاج العضو عن اعتداله ولا يزالان يتدافعان حتى يزول احدهما ويبقى الآخر فما دام التدافع باقيا يحس العضو بالالم ، ويقال للمزاج الوارد المزاج المختلف لمخالفته مع مزاج العضو ، واذا زال احدهما زال التدافع فزال الالم سواء كان الزائل مزاج العضو الاصلى او المزاج الوارد الا انه فى صورة بقاء المزاج الوارد وزوال المزاج الاصلى يحصل للعضو نقص كاللقوة واليبوسة والفالج وغيرها ، ويقال للمزاج الوارد اذا بقى وازال المزاج الاصلى المزاج المتفق كانه اتفق مع العضو فى ازالة المزاج الاصلى ، واما اطلاق السوء على كل منهما فظاهر لانه كيفية سيئة للعضو.

قول المصنف : وكل منهما حسى وعقلى ـ المراد من الحسى هنا ما عدا العقلى

٣٦٦

قوله : وهو اقوى ـ قال ابن سيناء فى الاشارات فى اوّل النمط الثامن : انه قد سبق الى الاوهام العامية ان اللذات القوية المستعلية هى الحسية وان ما عداها لذات ضعيفة وكلها خيالات غير حقيقية وقد يمكن ان ينبه من جملتهم من له تمييز ما فيقال له أليس الذماء تصفونه من هذا القبيل هو المنكوحات والمطعومات وامور تجرى مجراها وانتم تعلمون ان المتمكن من غلبة ما ولو فى امر خسيس كالشطرنج والنرد قد يعرض له مطعوم ومنكوح فيرفضه لما يعتاضه من لذة الغلبة الوهمية وقد يعرض مطعوم ومنكوح لطالب العفة والرئاسة مع صحة جسمه فى صحبة حشمه فينفض اليد منهما مراعاة للحشمة فتكون مراعاة الحشمة آثر وألذ لا محالة هناك من المطعوم والمنكوح واذا عرض للكرام من الناس الالتذاذ بانعام يصيبون موضعه آثروه على الالتذاذ بمشتهى حيوانى متنافس فيه وآثروا فيه غيرهم على انفسهم مسرعين الى الانعام به وكذلك فان كبير النفس يستصغر الجوع والعطش عند المحافظة على ماء الوجه ويستحقر هول الموت ومفاجاة العطب عند مناجزة المبارزين وربما اقتحم الواحد على عددهم ممتطيا ظهر الخطر لما يتوقعه من لذة الحمد ولو بعد الموت كان ذلك يصل إليه وهو ميت فقد بان ان اللذات الباطنية مستعلية على اللذات الحسية وليس ذلك فى العاقل فقط بل وفى العجم من الحيوانات فان من كلاب الصيد ما يقتنص على الجوع ثم يمسكه على صاحبه وربما حمله إليه والراصغة من الحيوانات تؤثر ما ولدته على نفسها وربما خاطرت محامية عليه اعظم من مخاطرتها فى ذات حمايتها نفسها فاذا كانت اللذات الباطنة اعظم من الظاهرة وان لم تكن عقلية فما قولك فى العقلية.

اقول : ان المنكرين للذات العقلية انما ينكرونها لانهم لم يذوقوها لانغمارهم فى الامور المادية واترافهم فى اللذات الحسية وغفلتهم عما يليق بالنفس الانسانية فان الناس اعداء لما جهلوا ومكذبون لما لم يحيطوا به علما.

٣٦٧

المسألة الخامسة والعشرون

( فى الإرادة والكراهة )

قول المصنف : ومنها الإرادة والكراهة الخ ـ اعلم انه لا شبهة فى ان الفعل الصادر منا بقدرتنا انما يصدر بالارادة ، وانه لا شبهة فى ان اهل العلم مع كثير اختلافهم فى الإرادة لم يصطلح كل قوم منهم فيها على معنى بل ارادوا تعيين ما هو الإرادة فى الواقع وعند الفاعلين القادرين ، وانه لا شبهة فى ان المرجح لطرف وجود الفعل هو الإرادة.

اذا علمت هذا فاقول : ان الفعل لا يصدر منا الا ان يتقدمه امور : الاول تصور الفعل جزئيا على ما مضى بيانه فى المسألة العاشرة من الفصل الثالث من المقصد الاول ، وتوقف وقوع الفعل منا على هذا التصور من البديهيات ، ولا احد ذهب الى ان الإرادة هى هذا التصور.

الثانى اعتقاد النفع فى ذلك الفعل اعتقادا ظنيا او علميا مطابقا للواقع او غير مطابق له لنفسه كان ذلك النفع او لغيره الّذي يحب وصول النفع إليه كولده وصديقه ، وذهب كثير من المعتزلة الى ان الإرادة هى هذا الاعتقاد ، والمصنف ذهب هاهنا الى هذا المذهب ، ويسمى هذا الاعتقاد بالداعى ، وربما يعد هذا والّذي قبله معا مبدءا واحدا من مبادى الافعال الاختيارية فيقال : اوّل المبادى تصور الفعل على الوجه النافع ظنا او علما مطابقا للواقع او غير مطابق له ، والاولى عدهما اثنين لانفكاكهما ضرورة ، والدليل على توقف الفعل عليه ان الفاعل القادر يستوى إليه طرفا الفعل بمعنى انه لا يقتضي بذاته وبقدرته وجوده ولا عدمه بل هما متساويان لا ترجح لاحدهما على الآخر فلا بد لاحدهما من مرجح وليس المرجح لطرف الوجود الا اعتقاد النفع كما انه لطرف العدم ليس الا اعتقاد الضر ، والكراهة عند هذه الطائفة هى اعتقاد الضر كذلك.

ان قلت : كيف يتوقف الفعل على هذا الاعتقاد وان كثيرا من الناس يتعاطون

٣٦٨

امورا يعلمون بضررها او يظنونه كبعض من يشرب الخمر وكالمقامر فى ابتداء امره وكبعض المرضى يأكل ما يعلم انه يضره وامثالهم ، قلت : انهم ينسون مضار هذه الامور حين الإرادة لحب انفسهم بها ويتخيلون لها منافع فيرتكبون ، او يتوهمون فيها جهة منفعة ويرجحون تلك المنفعة بوهمهم على الحيثية الضارة فيرتكبون.

الثالث ميل يعقب هذا الاعتقاد وهو اما ان يكون نحو جلب النافع فيسمى شهوة واما ان يكون نحو دفع الضار فيسمى غضبا فان دفع الضار أيضا منفعة ، هذا ان كان المراد من غير العقليات ، وان كان المراد عقليا فلا اسم خاص له ، والدليل على توقف الفعل على هذا الميل ان الانسان مفطور بالميل والشوق الى ما يرى فيه نفعا من حيث هو نافع وان كان ضارا من حيثية اخرى ، وذهب طائفة اخرى من المعتزلة الى ان الإرادة هى هذا الميل النفسى وهو المرجح لطرف الوجود لا اعتقاد النفع فقط ، والكراهة عندهم انقباض يعقب اعتقاد الضر ، وقالوا اعتراضا على الطائفة الاولى ان اعتقاد النفع ليس إرادة لان القادر كثيرا ما يعتقد النفع او يظنه ولا يريده ما لم يحدث هذا الميل ، وهم اجابوا عن هذا الاعتراض بانا لم نجعل الإرادة مجرد اعتقاد النفع او ظنه بل مع كون النفع بحيث يمكن وصوله من غير مانع من تعب او معارضة وما ذكر من الميل انما يحصل لمن لا يقدر على تحصيل ذلك الشيء قدرة تامة اما فى القادر التام القدرة فيكفى الاعتقاد المذكور كالشوق الى المحبوب لمن لم يكن واصلا إليه واما الواصل إليه فلا شوق له.

اقول : يظهر من هذا الجواب ان الطائفة الاولى ينكرون حصول الميل عقيب اعتقاد النفع فى كل مورد ويرون ان الفعل النافع يقع عقيب الاعتقاد من دون حصول ذلك الميل لمن لم يكن له مانع ومعارض عن ايجاد الفعل ، وهذا خطاء لان هذا الميل يحصل لمعتقد النفع فى الفعل كائنا من كان لما مر.

وما قيل من ان الإرادة قد تتحقق بدون هذا الميل كما ان الانسان قد يريد تناول ما لا يشتهيه كشرب الدواء مدفوع بان الميل العقلى فى هذا المثال موجود فان اعتقاد النفع كما انه قد يكون عقليا وقد يكون تخيليا على سبيل منع الخلو كذلك

٣٦٩

الميل التابع اللازم له ، فالحق مع الطائفة الثانية الا ان نفس هذا الميل والشوق ما لم يتأكد ولم يبلغ درجة الكمال برفع الموانع والمعارضات لم يتحقق الإرادة.

واعترضت الاشاعرة على هذين المذهبين وقالوا : ان الفاعل القادر قد يريد بدون اعتقاد النفع وميل يتبعه فيما يفعله فلا يكون شيء منهما لازما للارادة فضلا عن ان يكون نفسها ، وذلك كما فى الامثلة التى يرجح فيها القادر احد الامرين المتساويين من جميع الوجوه بمجرد ارادته من دون توقف على شيء آخر ، كما ان الهارب من السبع اذا عنّ له طريقان متساويان من كل الوجوه فانه لا بد وان يسلك احدهما دون الاخر لانه من المحال ان يقف هناك حتى يفترسه السبع ومن المحال ان يسلكهما معا ومن المحال ان يسلك الراجح بحسب اعتقاد النفع فيه والميل إليه بخصوصه لانا فرضنا استوائهما فى جميع الامور فلا بد ان يسلك احدهما دون الاخر من غير مرجح هو اعتقاد النفع او الميل اللازم له لانه ترك الاخر مع اعتقاد ذلك النفع والميل فيه أيضا فلو كانت الإرادة هذا الاعتقاد او النفع اللازم له لما تركه ، وكذلك العطشان جدا اذا خير بين قد حين من الماء متساويين من جميع الوجوه ، والجائع جدا اذا خير بين رغيفين متساويين من جميع الوجوه ، وضربوا امثلة كثيرة من هذا الجنس.

قالوا : ولو احتيل فى استخراج ما به يترجح احدهما على الاخر فنفرض الاستواء فى كل تلك الامور فان كل صفة حاصلة لاحد المثلين امكن حصول مثلها للآخر ، ولا يجوز ان يقال ان المرجح هو تعينه وتشخصه الّذي لا يمكن ان يشاركه غيره لان التعين ليس داخلا فى متعلق غرض الفاعل ، فثبت بما ذكر ان الفعل لا يتوقف على اعتقاد النفع والميل التابع له فالإرادة غير ذلك بها يختار الفاعل القادر احد المتساويين على الاخر فعلين كانا او تركين او مختلفين.

اقول : ان الإرادة عندهم صفة مخصصة لاحد الطرفين ، وحيث ان الإرادة عندهم هى تلك الصفة المخصصة تحصل بعد العلم بالشيء وتتعلق تارة بالفعل واخرى بالترك فلا معنى للكراهة عندهم فى مقابل الإرادة بل الكراهة عندهم تقابل المحبة والرضا.

٣٧٠

واما الجواب عن شبهتهم فان استواء الاثنين فى جميع الامور مستحيل اذ لا اقل من التفاوت بينهما فى المكان والجهة والقرب

من الفاعل او القرب من يمينه التى يفعل بها غالبا ، هكذا قيل ، والاحسن فى الجواب ان يقال : ان اعتقاد النفع والميل مرجح لجانب الوجود على العدم فيما له نفع وإليه ميل ، لا انه مرجح لفرد على آخر اذ افراد الحقيقة المطلوبة متساوية فى ذلك ، كل منها يصير بدلا عن الباقية ، لا دخل لتعين الفرد وتشخصه فى المطلوبية كما اشير إليه فى كلامهم آنفا ، فلا احتياج الى مرجح لاحدهما على غيره سواء كانت كلها متفقة فى جميع الامور أم كانت مختلفة.

الرابع التفات واقبال نحو الفعل ليرتكبه يعقب ذلك الميل والشوق ويقال له الشوق الاكيد والاجماع ، وهذا يفارق الميل فى ان الميل حاصل ولو كان فى البين مانع عن ايجاد الفعل او معارض او جهة ضارة فى الفعل تعارض الجهة النافعة فيه فيحصل للفاعل تردد وتأمل ، ولكن الاجماع لا يحصل الا اذا كان جميع هذه منتفية ، والحكماء ذهبوا الى ان الإرادة هى هذا الشوق الاكيد المسمى بالاجماع ، والمصنف مشى فى المسألة العاشرة من الفصل الثالث من المقصد الاول ممشى الحكماء ، فالكراهة على مذهبهم هى الاجماع على الترك والانقباض الاكيد عن الفعل.

فاذا كملت هذه الامور الاربعة يحصل بقوة مستودعة منبثة فى العضلات حركات فيها هى خامس المبادى لتحقق الفعل فيتحقق.

قول الشارح : علم الحى او اعتقاده او ظنه ـ اى علمه المطابق للواقع او اعتقاده المنقسم الى التقليد والجهل المركب وظنه المطابق له او اللامطابق له.

قوله : وهو يفارق الشهوة الخ ـ يعنى هذا العلم الّذي هو الإرادة يغاير الشهوة لمفارقته اياها فى بعض الموارد كالمثال المذكور فليست هى الإرادة ، وهذا رد لهولاء الآخرين القائلين بان الإرادة ميل يعقب هذا العلم.

اعلم ان الشهوة قدير ادبها الميل المتعقب لاعتقاد النفع مطلقا سواء كان عقليا او غير عقلى ، وقد يراد بها نوع من هذا المطلق وهو الميل نحو جلب النافع الغير

٣٧١

العقلى على ما مر عن قريب ، وقد يراد بها القوة الشهوية المحركة الباعثة للنفس على افعال بهيمية من الاكل والشرب والنكاح وغيرها ، وقد يراد بها اشتهاء النفس وميل الطبع الى شيء من دون التفات الى نفعه للبدن او الروح او ضره بهما كميل الطبع الى الطعام عند الجوع وميله الى الوقاع عند امتلاء وعاء المنى وغير ذلك.

اذا علمت هذا فمراد الشارح بالشهوة ان كان المعنى الاول كما انه مراد القائلين بان الإرادة هى الميل فلا يفارق العلم بالنفع هذه الشهوة كما مر بيانه ، وان كان مراده احد المعانى الثلاثة الباقية فيفارقها الا انهم لم يقولوا ان الإرادة هى احدها ، نعم قد قلنا : ان المعنى الاول ما لم يبلغ الكمال ليس بالارادة.

قول المصنف : واحدهما لازم مع التقابل ـ اى كل من الإرادة والكراهة تستلزم الاخرى مع تقابل متعلقيهما بان يتعلق الإرادة بالفعل والكراهة بالترك او بالعكس.

قول الشارح : اعنى الشيء والضد ـ اى الفعل والترك ، واطلاق الضد على الترك الّذي هو عدم الفعل عما من شأنه ان يفعل مذهب طائفة من المتكلمين ، وسيأتى توضيحه فى المسألة الخامسة من المقصد السادس إن شاء الله تعالى.

قوله : وذهب قوم الخ ـ هم ابو الحسن الاشعرى وجماعة من اتباعه ، قالوا : ان إرادة الشيء نفس كراهة تركه لان إرادة الشيء لو لم تكن نفس كراهة ضده فاما ان تكون مثلا لها او ضدا لها او مخالفة لها لان النسبة بين الشيئين المتغايرين احد الثلاثة لا غير ، لا سبيل الى الاول والثانى اذ لو كانا مثلين او ضدين لم تجتمعا ، ولا الى الثالث لان المخالف للشىء يجامعه ويجامع ضده كالحلاوة المخالفة للبياض المجامعة له وللسواد وإرادة الفعل لا يجامع كراهة الترك وضد كراهته لان ضد كراهة الترك هو إرادة الترك فيلزم اجتماع إرادة الفعل وإرادة الترك وهو محال وكذا إرادة الترك لا يجامع كراهة الفعل وضد كراهته لان ضد كراهة الفعل هو إرادة الفعل فيلزم اجتماع إرادة الترك وإرادة الفعل وهو محال ، واذ ليس بينهما احدى النسب الثلاث فهما امر واحد ، والجواب ان الصغرى ممنوعة فيما اذا كان احد المتخالفين لازما

٣٧٢

للآخر كالامكان المخالف اللازم للانسان مثلا فانه لا يجامع الامكان وضده اذ لو جامع ضده لم يكن الامكان لازما له ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، بل اشد اذ اللزوم من الطرفين فهما متلازمتان متخالفتان.

اعلم ان الاشعرى انما ذهب الى ما ذهب لانه لا معنى للكراهة عنده بالمعنى المقابل للارادة كما مر ذكره فإرادة الفعل عنده ليست الا لارادة الترك وإرادة الترك ليست عنده الا لا إرادة الفعل

قوله : من باب اخذ ما بالعرض الخ ـ اى اخذ لازم الشيء مكان نفسه.

قوله : لازم للعلم قطعا ـ اى لازم لتصور الفعل جزئيا الّذي قد مر فى المسألة العاشرة من الفصل الثالث من المقصد الاول انه اوّل المبادى لصدور الفعل.

قول المصنف : ويتغاير اعتبار هما بالنسبة الى الفاعل وغيره ـ قد علمت ان المصنف على ان الإرادة هى العلم بما فى الفعل من النفع والمصلحة وان الكراهة هى العلم بما فى الفعل من الضرر والمفسدة ، فاعلم ان هذا العلم اما ان يتعلق بالمصلحة او المفسدة الواقعة فى الفعل باعتبار صدوره عن نفس العالم المعتقد بتلك المصلحة او باعتبار صدوره عن غيره فيقال لهما بالاعتبار الاول الإرادة والكراهة التكوينيتان وبالاعتبار الثانى التشريعيتان.

ثم كما ان الاعتقاد الاول يبعث المعتقد على ان يوجد الفعل فى الخارج او يعدمه بتركه او يبقيه على العدم لو لم يكن مشتغلا به كذلك الاعتقاد الثانى يبعثه على ان يطلب ايجاد الفعل من ذلك الغير او اعدامه او ابقائه على العدم بانشاء الطلب وبهذا الانشاء يقال له الامر او الناهي.

فههنا إرادة او كراهة ، طلب ايجاد او طلب اعدام ، امرا ونهى ، فهل هى اى الإرادة وطلب الايجاد والامر او الكراهة وطلب الاعدام والنهى امور متحدة بالحقيقة والاعتبار مصداقا ومفهوما بحسب اللغة والعرف العام والخاص او امور مختلفة فى كل ذلك او فى بعضها فللاقوام فيه خلاف ليس هاهنا مجال ذكره.

قول الشارح : فهى عبارة عن صفة ـ اى اعتقاد بالنفع على مذهب المصنف

٣٧٣

واضرابه او غير ذلك على مذهب غيره على ما مر تفصيله.

قوله : تقتضى تخصيصه بالايجاد الخ ـ اى توجب المراد بلا تخلف وتأخير زمانا ، وظاهر هذه العبارة عدم الفرق بين إرادة الفاعل القديم تعالى وبين إرادة العبد فى ذلك ، لكن البحث فى إرادة العبد ، بل مطلق الحيوان.

قال صاحب الشوارق : ان إرادة الفاعل القديم اذا تعلقت بفعل من افعال نفسه فهى موجبة للمراد باتفاق من الحكماء والمليين واذا تعلقت بفعل من افعال غيره فهى موجبة أيضا عند الاشاعرة دون غيرهم وإرادة الفاعل الحادث اعنى العبد اذا تعلقت بفعل من افعال نفسه وكانت الإرادة قصدا الى الفعل لا عزما عليه والمراد من القصد ما نجده من انفسنا حال ايجادنا الفعل فهى موجبة أيضا عند اكثر المعتزلة بخلاف ما اذا كانت عزما لتقدم العزم على الفعل زمانا وربما يزول بزوال شرط او حدوث مانع وعند الاشاعرة وجماعة من المعتزلة كالجبائيين وجماعة من المتأخرين غير موجبة سواء كانت قصدا او عزما واما إرادة غير الفاعل فغير موجبة اصلا سواء كان الغير قديما او حادثا فان إرادة القديم وان كانت موجبة لافعال العباد عند الاشاعرة لكنه هو الفاعل لها حقيقة عندهم دون العباد فتدبر انتهى.

اقول : العزم فى العرف هو اخطار الانسان بباله ان يفعل شيئا فى مستقبل الزمان ، والقصد فى العرف كالارادة فيه هو توجه النفس والتفاتها نحو الفعل ليرتكبه ، ومعنى العزم والقصد فى الاصطلاح قريب من العرف ، وحيث ان الاشاعرة فسروا الإرادة بصفة مخصصة لاحد الطرفين وان المعتزلة فسروها بالعلم بما فى الفعل من المصلحة والنفع او الميل المتعقب له على اختلاف بينهم اختلفوا فى ان إرادة العبد بالنسبة الى فعل نفسه عزم اى يمكن ان يتعلق بما يقع فى المستقبل أم قصد اى لا يمكن ان تتعلق به فعلى الاول فهى غير موجبة قطعا وبالاتفاق وعلى الثانى فغير موجبة عند الاشاعرة لا لانها عزم بل لان إرادة العبد عندهم لا مدخلية لها فى فعله اذ المؤثر هو إرادة الله عند توجه العبد نحو الفعل على مبناهم واما المعتزلة فطائفة منهم كالجبائيين وكثير من المتأخرين أيضا على انها غير موجبة لامكان ان يصرف

٣٧٤

الفاعل حين التفاته الى الفعل شيء فينصرف وطائفة اخرى منهم على انها موجبة اذ المفروض ان الفاعل شرع فى الفعل حين الالتفات فلو صرفه صارف فعن ادامة الفعل لا عن اصله ، واما الحكماء فبمرتاح عن هذا النزاع لانهم فسروا الإرادة بالشوق الاكيد المسمى بالاجماع البالغ حدا لا يصرفه صارف اختيارا فلو صرفه فعلى الجبر والمنع قهرا فهى عندهم موجبة دائما ، وهذا قريب من مذهب الطائفة الاخيرة من المعتزلة.

والحاصل ان إرادة الله موجبة لفعل نفسه اجماعا ولفعل غيره غير موجبة عند غير الاشاعرة لوقوع العصيان من العباد بالنسبة الى امر الله تعالى ونهيه واما عند الاشاعرة فموجبة لان العبد ليس فاعلا حقيقة بل الفاعل لفعل العبد هو الله تعالى ففى الحقيقة لم تتعلق إرادة الله بفعل غيره بل بفعل نفسه الواقع فى العبد ، واما إرادة العبد فغير موجبة اذا تعلقت بفعل غيره اجماعا واذا تعلقت بفعل نفسه فعلى الاختلاف الّذي ذكرنا.

اذا علمت هذا فتغاير اعتبارهما فى كلام المصنف اما ان يراد به تغاير اعتبار المصلحة او المفسدة بان تكونا تارة فى الفعل باعتبار صدوره من المعتقد بهما واخرى باعتبار صدوره من غيره على ما بينا ، واما ان يراد به تغاير اعتبار الايجاب للمراد وعدم الايجاب له بان تكون الإرادة موجبة باعتبار تعلقها بالفعل الصادر من نفس صاحب الإرادة ولا تكون موجبة باعتبار تعلقها بفعل غيره على ما فى الشرح ، وعلى هذا فظاهر المصنف والشارح رحمهما الله هاهنا ان الإرادة والكراهة موجبتان اذا تعلقتا بفعل صاحب الإرادة سواء كان الفاعل هو الله او العبد وغير موجبتين اذا تعلقتا بفعل غيره كذلك.

قول المصنف : وقد تتعلقان بذاتيهما ـ اى تتعلق الإرادة بالارادة كما يعلم الانسان بالمصلحة فى علمه بالمصلحة فى شيء وبالكراهة كما يعلم بالمصلحة فى علمه بالمفسدة فى شيء ، وتتعلق الكراهة بالكراهة كما يعلم بالمفسدة فى علمه بالمفسدة فى شيء وبالارادة كما يعلم بالمفسدة فى علمه بالمصلحة فى شيء.

٣٧٥

قول الشارح : لكن الإرادة المتعلقة بالارادة الخ ـ جواب عن سؤال مقدر هو ان الإرادة لو تعلقت بالارادة او ان الكراهة لو تعلقت بالكراهة لزم ان يكون الشيء مرادا او مكروها مرتين ، وان الإرادة لو تعلقت بالكراهة او ان الكراهة لو تعلقت بالارادة لزم ان يكون الشيء مكروها ومرادا معا لان الإرادة او الكراهة المتعلقة بالارادة او الكراهة المتعلقة بشيء متعلقة بذلك الشيء لان متعلق المتعلق متعلق ، والجواب ان الإرادة او الكراهة المتعلقة بالارادة او الكراهة ليست هى الإرادة او الكراهة المتعلقة بالفعل لان مراد الإرادة الاولى ومكروه الكراهة الاولى نفس الإرادة الثانية ونفس الكراهة الثانية ومراد الإرادة الثانية ومكروه الكراهة الثانية هو الشيء فلكل منهما متعلق غير متعلق الاخرى ، فقولك متعلق المتعلق متعلق ان اردت مع وحدة التعلق فهو باطل بالضرورة او مع تعدده فلا يثبت مطلوبك ،

قوله : واما الشهوة والنفرة الخ ـ هما بالمعنى الرابع من المعانى الاربعة التى مر ذكرها فى ذيل قول الشارح : وهو يفارق الشهوة.

قوله : لان الشهوة والنفرة انما تتعلقان بالمدرك ـ هذه صغرى لقياس كبراه ولا شيء من الشهوة والنفرة بمدرك لانهما من الوجدانيات فلا شيء منهما يتعلق بنفسه ، والحق انه لا احتياج فى ذلك الى الاستدلال لان الانسان يحكم حكما ضروريا انه لا يشتهى ان يشتهى او ان يتنفر ولا يتنفر عن ان يشتهى او ان يتنفر.

قول المصنف : مشروطة باعتدال المزاج ـ فاذا اختل المزاج وخرج من الاعتدال النوعى انجر الى زوال الحياة ، وقد مضى معنى المزاج ومعنى نوعيته فى المسألة الثالثة من الفصل الثانى.

قوله : فلا بد من البنية ـ اى من البدن المتألف من العناصر ليمكن تحقق المزاج الّذي هو شرط فى الحياة.

قوله : وتفتقر الى الروح ـ اى الروح على اصطلاح الاطباء ، ويقال له الروح البخارى والروح الحيوانى.

قال صاحب الشوارق : والى هذا اعنى اشتراط الحياة باعتدال المزاج والبنية

٣٧٦

والروح الحيوانى ذهبت الفلاسفة وكثير من المعتزلة بناء على ما يشاهد من زوال الحياة بانتقاض البنية وتفرق الاجزاء وانحراف المزاج عن الاعتدال النوعى وبعدم سريان الروح فى العضو المربوط ربطا شديدا يمنع نفوذه فحكموا بقوة الحدس ومساعدة التجربة بان هذه الثلاثة شرط للحياة واما الاشاعرة بل جمهور المتكلمين فمنعوا هذا الاشتراط وقطعوا بجواز ان يخلق الله الحياة فى البسائط بل فى الجزء الّذي لا يتجزى ولا شك فى امكان ذلك امكانا ذاتيا واما الوقوع فكلا الا من طريق خرق العادة انتهى.

قول الشارح : لان الخلق هو التقدير ـ كما فى قوله تعالى : ( نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ).

المسألة السادسة والعشرون

( فى باقى الكيفيات النفسانية )

قول الشارح : وهنا اشكال فان المتضادين الخ ـ حاصل الاشكال ان المتضادين يجب اندراجهما تحت جنس واحد لما مضى فى آخر الفصل الثانى من المقصد الاول عند قول المصنف : ومشروط فى الانواع باتحاد الجنس والصحة والمرض ليسا مندرجين تحت جنس واحد فليسا متضادين فكيف يمكن ان يكون كل منهما كيفية نفسانية اذ الكيفية النفسانية امر وجودى واذ هما ليسا متضادين ولا متضايفين قطعا فليسا بوجوديين فليس كل منهما من الكيفيات النفسانية.

اقول : الصحة المبحوث عنها هنا هى الصحة فى الحيوان المقابلة للمرض ، وبعضهم عنون الكلام بحيث يشمل ما فى النبات أيضا ، وقد كثر الكلام حولها وحول مقابلها من اعلام الحكماء والاطباء مع انهما امران وجدانيان يدركهما الموجود الحاس بالوجدان ، وجعلهما من الكيفيات النفسانية باعتبار انهما لا يعرضان الا حين تعلق النفس بالبدن والا فموضوعهما البدن لا النفس ، ولكن النفس تتألم وتغتم بعروض المرض على الاعضاء وتفرح وتبتهج اذا التفتت الى سلامتها لانها الاصل فى

٣٧٧

ذلك كله ، نعم للنفس فضائل ورذائل يقال لها سليمة ومريضة باعتبارهما وموضع البحث عنهما علم الاخلاق وما نحن فيه هو المبحوث عنه فى الطب.

قوله : فالصحة ان دخلت فى الحال او الملكة الخ ـ الحال والملكة كلاهما من حقيقة واحدة هى الكيفية النفسانية والفرق بينهما بالرسوخ وعدمه كما مر بيانه فى المسألة الحادية عشرة ، والترديد من الشارح لوقوعه فى كلام الشيخ فى القانون حيث عرفها بانها ملكة او حالة يصدر عنها الافعال من الموضوع لها سليمة بخلاف تعريف الشفاء كما ذكره الشارح العلامة هنا ففيه لم يذكر الحال.

قال صاحب الشوارق : وليست كلمة او للترديد المنافى للتحديد بل للتنبيه على انها تكون من القبيلتين وهذا معنى ما قال الامام لا يلزم من الشك فى اندراج الصحة تحت الحال او الملكة شك فى شيء من مقومات الصحة بل فى بعض عوارضها لان المخالفة بين الحال والملكة انما هى بعارض الرسوخ وعدمه ، ثم قال والمرض قد عرفه الشيخ فى القانون بانه هيئة مضادة للصحة اى ملكة او حالة تصدر عنها الافعال من الموضوع لها غير سليمة انتهى.

وحاصل كلام الشارح ان الصحة والمرض لو كانا متضادين لكانا داخلين تحت جنس واحد هو الكيفية النفسانية المنقسمة الى الحال والملكة كما وقع فى كلام الشيخ ولكن ليس الامر كذلك لان المرض اما عدمى ليس داخلا تحت مقولة واما وجودى وهو اما من الكيفيات المحسوسة الفعلية او من مقولة ان ينفعل او من مقولة الكم او الوضع او من الكيفيات المختصة بالكميات.

قوله : سوء المزاج ـ قد علمت فى المسألة الرابعة والعشرين انه اما متفق واما مختلف.

قوله : فسوء المزاج ان كان هو الحرارة الخ ـ الترديد ليس للشك بل للتخيير لان سوء المزاج سواء كان مختلفا او متفقا انما يحصل بعروض كيفية مضادة لمزاج العضو فلا محالة ينفعل العضو بها فلك الخيار فى ان تطلق سوء المزاج على نفس تلك الكيفية العارضة على العضو او على ذلك الانفعال الحاصل له ، ولا يخفى

٣٧٨

ان الكيفية العارضة على العضو المضادة لمزاجه لا تنحصر فى الحرارة.

قوله : عبارة عن مقدار ـ كتورم العضو وانتفاخ البيضتين وكبر الرأس وكبر البطن بسبب الاستسقاء او غيره وغير ذلك.

قوله : او عدد ـ كغدد فى العضو وكثآليل تظهر غالبا على ظهر اليد والقدم وكشعرات تنبت فى باطن الجفن تؤذى العين.

قوله : او وضع ـ كالحول وسقوط المعدة والتواء المعى.

قوله : او شكل ـ كالقروح الواقعة على الجلد او فى باطن البدن.

قوله : او انسداد مجرى ـ كحبس البول وهذا داخل تحت مقولة الاين او الانفعال.

قوله : وتفرق الاتصال عدمى ـ قد مر من الشارح العلامة فى المسألة الرابعة والعشرين ان تفرق الاتصال ليس عدما محضا مع ان الافتراق قد عدّ نوعا من الانواع الاربعة للاين كما يأتى.

والجواب على ما قيل ان تقسيم المرض الى سوء المزاج وسوء التركيب وتفرق الاتصال تسامح والمقصود انه كيفية نفسانية تحصل عند هذه الامور وتنقسم باعتبارها وهذا ما قيل من انها منوعات اطلق عليها اسم الانواع وذلك كما يطلق الصحة على اعتدال المزاج او المزاج المعتدل مع انه من المحسوسات.

قوله : والسبب المعد فى الفرح الخ ـ اعلم ان الانسان اذا عرض لنفسه هذه الكيفيات وامثالها كالشوق والسرور والرضا والجزع والفزع والصبر والحسد والجبن والغيرة والعجلة بسبب تخيل امر محمود او مذموم بحسب اعتقاده يحصل لروحه البخارى الّذي محله القلب تغير فى الكم والكيف وهذا التغير معد له لفعل يقتضيه تلك الكيفية العارضة لنفسه.

قوله : والفاعل تخيل الكمال ـ اى الّذي ينبعث بسبب هذه الكيفيات نحو فعل من الافعال قد تخيل كمالا او نقصا اى نافعا محمودا او ضارا مذموما لنفسه بحسب اعتقاده لان هذه الكيفيات لا تعرض الا اذا تخيل الانسان شيئا من ذلك ، فان

٣٧٩

الانسان مثلا اذا تخيل اضرار عدوه به يعرض الغضب لنفسه فينبعث نحو فعل يتحقق به الانتقام.

المسألة السابعة والعشرون

( فى الكيفيات المختصة بالكميات )

قول المصنف : كالاستقامة والاستدارة الخ ـ الاستقامة كيفية للخط ، والاستدارة والانحناء كيفيتان للخط والسطح ، والتقعير والتقبيب اى التحديب كيفيتان للسطح ، والشكل والخلقة كيفيتان للسطح والجسم التعليمى.

قول الشارح : وغيرهما ـ كالصمم والانطاق.

قوله : ارشميدس ـ كان من الحكماء الرياضيين وكان متأخرا عن اقليدس قال ابن النديم فى الفهرست : خبرنى الثقة ان الروم احرقت من كتب ارشميدس خمسة عشر حملا ، ولذلك خبر يطول شرحه ، الا ان الموجود من كتبه : كتاب الكرة والاسطوانة مقالتان ، كتاب تربيع الدائرة مقالة ، كتاب تسبيع الدائرة مقالة ، كتاب الدوائر المماسة مقالة ، كتاب المثلثات مقالة ، كتاب الخطوط المتوازية ، كتاب المأخوذات فى اصول الهندسة ، كتاب المفروضات مقالة ، كتاب خواص المثلثات القائمة الزوايا مقالة ، كتاب آلة ساعات الماء التى ترمى بالبنادق مقالة

واما احراق كتب ارشميدس فهو فيما احرقت النصارى من كتب الفلسفة بعد ظهور المسيح على نبينا وآله وعليه السلام ، وهو على ما نقل ابن النديم فى المقالة السابعة من فهرسته انه كانت الحكمة فى القديم ممنوعا منها الا من كان من اهلها ومن علم انه يتقبلها طبعا ، وكانت الفلاسفة تنظر فى مواليد من يريد الحكمة والفلسفة ، فان علمت منها ان صاحب المولد فى مولده حصول ذلك له استخدموه وناولوه الحكمة ، والا فلا ، وكانت الفلسفة ظاهرة فى اليويانيين والروم قبل شريعة المسيح عليه‌السلام ، فلما تنصرت الروم منعوا منها ، واحرقوا بعضها وخزنوا البعض ، ومنع الناس من الكلام فى شيء من الفلسفة اذ كانت بضدّ الشرائع النبوية ، ثم ان الروم ارتدت

٣٨٠