توضيح المراد - ج ١

السيد هاشم الحسيني الطهراني

توضيح المراد - ج ١

المؤلف:

السيد هاشم الحسيني الطهراني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
المطبعة: المصطفوي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

او صنعة احدثت لرفاه عيش الآدميين فكان اصلها بارشاد نبى من الأنبياء صلوات الله عليهم ، وهذا غير خفى عند المتتبع فى التواريخ ، وسر ذلك ان احداث البديع العلمى من الانسان يحتاج الى الانبعاث الفكرى ، والانبعاث الفكرى انما هو بهداية المتصل بالعالم الروحانى لان المنقطع عن ذلك العالم المنغمر فى العالم المادى لا ينبعث فكره نحو الكمال ، بل يقتصر على ما يقضى به وطر شهوته وغضبه ، والمتصل به هو نبى او وصيه ، فالسالك سبيل الكمال اى كمال كان لا بد ان يكون متصلا بعالم الروح والقدس او يتمسك بالمتصل به.

قول الشارح : ومنها ان مراتب الاخلاق الخ ـ اعلم ان من اهم فوائد البعثة تزكية احوال النفوس لتصير مشابهة بالروحانيين الملكوتيين وقابلة للابتهاجات واللذات الباقية الخالصة الاخروية ، ثم الاحوال اما للشخص واما لاهل البيت والمنزل واما لاهل المدينة ، ووضع للاول علم تهذيب الاخلاق وللثانى علم تدبير المنزل وللثالث علم سياسة المدن ، ويطلق على الثلاثة الحكمة العملية ، والحكماء قبل الاسلام دونوا فى ذلك كتبا وصلت الى خلفهم بعد الاسلام ، ولكن الشريعة المحمدية صلوات الله تعالى على شارعها وحافظها جاءت بما اضمحل فى جنبه ما قرره السلف من اهل الحكمة والعرفان ، ودوّن علماء الاسلام منه كتبا وجمعوا ما انتشر من ذلك فى كلمات اصحاب الوحى عليهم‌السلام حتى ظهر عند اولى الالباب حقيقة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بعثت لاتمم مكارم الاخلاق.

ثم ان قول المصنف : وتكميل اشخاصه اشارة الى الاول ، وقوله : والاخلاق اشارة الى الثانى اى بحسب منزله كما فى كلام الشارح ، وقوله : والسياسات اشارة الى الثالث.

قول الشارح : فيحصل للمكلف اللطف الخ ـ تفريع على الجميع.

قول المصنف : وشبهة البراهمة باطلة الخ ـ اعلم ان لهم شبهات كما فى الملل والنحل للشهرستانى والاربعين للرازى وغيرهما ، لا بأس بذكرها والجواب عنها.

٦٤١

الاولى ما ذكره الشارح ، وإيضاحها ان ما جاء به النبي ان كان موافقا للعقول فلا حاجة إليه وان كان مخالفا لها وجب رده ، ثم قالوا : لكنهم جاءوا بما يوافقها فكان اتيانهم به لغوا وبما يخالفها فلا يجوز اتباعهم فيه ، والجواب ان هاهنا شقّا ثالثا وهو ان يأتى النبي بما لا يهتدى إليه العقول ، فاذا جاء به قبله العقل اتكالا على ثبوت صدقه عنده بالمعجزة او على تصديق حسنه بعد بيان النبي ، والى هذا اشار المصنف بقوله : واستفادة الحكم فيما لا يدل ، واستفادة الحسن والقبح ، والفرق بينهما ان الحكم فى الاعتقاديات والحسن والقبح فى العمليات ، وهذا القسم هو اكثر الامور كثرة بالغة ، بل افراد البشر لا يهتدون الى المعقولات مع معارضة الاوهام ومصادمة الغضب والشهوات والانس بالعصبية والعادات وارسال الوجهة من اوّل الولادة الى الماديات لانها موانع ، ومعها كيف الاهتداء ، وكيف الحكم من انفسهم على انفسهم بانهم فى الغفلة عن هذه المانعات او انها مانعات ، فاصحاب هذه الفكرة والروية انما تذكروا لما قالوا فى قبال الأنبياء عليهم‌السلام بعد ما سمعوا منهم من البيانات والبينات فقلبوا الامر عند اراذل الناس وطغامهم بكلمات مشابهة بكلماتهم ودعوا الناس الى خلاف ما هم دعوهم إليه علوا واستكبارا لا عقلا وخضوعا للحق ، قال الله تعالى : ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ) ، ثم ان القسم الاول ليس لغوا لان فائدته تأكيد ما يحكم به العقل بل تنبيه الغافل عنه ، وإليه اشار المصنف بقوله : كمعاضدة العقل فيما يدل عليه ، على ان حكم العقول مع معارضة الاوهام ليس ثابتا كما نراه عيانا بين الناس ، واما سنة الله تعالى فلن تجد لها تبديلا ، واما الشق الثانى فالحكم بمخالفة بعض احكام الشرع لما يقتضيه العقول انما نشأ من قصرها وعدم احاطتها بالمصالح والمفاسد الدنيوية والاخروية البدنية والرّوحية واقتصارها بالمصالح والمفاسد المناسبة لما فى ظاهر امورهم الدنيوية ، وتفاصيل اجوبة الايرادات على بعض الاحكام الشرعية مذكورة فى الاحاديث العللية والاحتجاجات ، وهذه عمدة شبههم ، فلذا لم يذكر غيرها.

٦٤٢

الثانية انهم قالوا : ما الغرض من البعثة؟ هل هو الا استحقاق الثواب بالايمان والطاعة واستحقاق العقاب بالكفر والمعصية ، فنحن ننظر فى آيات خلقه بعقولنا ونشكره بآلائه علينا ، واذا عرفناه وشكرنا له استوجبنا ثوابه واذا انكرناه وكفرنا نعمائه استوجبنا عقابه ، فما الموجب لبعثة الأنبياء؟ والجواب ان العقول لا تهتدى الى حقيقة الايمان وشرائطه والمعارف ووجوه الطاعات وما هو اللائق فى مقام شكره من دون البيان من الله تعالى على لسان اصحاب الوحى لانا نرى الخلائق حيارى مختلفين حتى بعد البعثة والتبيين ، ولكن ذلك لانحرافهم عن الاعلام المنصوبة من الشارع.

الثالثة ان من المستقبح عند العقول اتباع رجل هو مثلك ، يأكل مما تأكل ويشرب مما تشرب وكذا سائر الامور ، فما المرجح لان تتبعه ولا يتبعك؟! وهذه الشبهة مذكورة فى الكتاب حكاية عن منكرى البعثة للنبوة فى مواضع مع الجواب ، قال تعالى : ( قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) ، ثم يقال لهم : أليس لكم مقتدى وامام وبرهمن؟ فما المرجح لامامته مع ان المرجح موجود مع الأنبياء وليس موجودا مع من تقدمكم فان الأنبياء امثال الناس فى ظاهر الصورة وممتازون عنهم بكمال العقل وعلو الروح ونزول الوحى.

الرابعة ما وافقهم فرقة من الصوفية ، وهى ان الأنبياء عليهم‌السلام يدعون الخلق الى الطاعات والتكاليف فهم يشغلونهم بغير الله عز وجل والاشتغال بغيره تعالى حجاب عن معرفته ، والجواب منع الكبرى فان الاشتغال بغير الله تعالى الّذي هو الدنيا وشئونها ولذاتها والاتراف فيها حجاب عن معرفته جل وعلا ، واما الاشتغال بالطاعات والعبادات وانتظام امور المعاملات وتزكية النفس عن الكدورات وتحليتها بالفضائل والحسنات والمداومة على ذكره ودعائه والزهد فى زخارف الدنيا وتطهير الظاهر والباطن عن الارجاس والانجاس وغيرها على ما سنه الأنبياء عليهم‌السلام فحثوا العباد عليها فيفتح الطريق الى كمال معرفته والوصول الى جوار قربه ، والصغرى أيضا ممنوعة لانهم لم يدعوا الناس الى العبادة والطاعة ، بل الى الله جل وعلا بالعبادة ،

٦٤٣

فمن اشتغل بها غافلا عنه تعالى ليس بعابد له جل وعلا وهو كالمشتغل بالدنيا وزخارفها.

المسألة الثانية

( فى وجوب البعثة )

قول المصنف : وهى واجبة لاشتمالها الخ ـ يدل هذا الكلام ان للانسان تكاليف عقلية وتكاليف سمعية ، وهو المشهور.

ولكن المفيد رحمه الله تعالى قال فى اوائل المقالات : ان العقل لا ينفك عن سمع وان التكليف لا يصح الا بالرسل ، واتفقت الامامية على ان العقل يحتاج فى علمه ونتائجه الى السمع ، وانه غير منفك عن سمع ينبه الغافل على كيفية الاستدلال ، وانه لا بدّ فى اوّل التكليف وابتدائه فى العالم من رسول ، ووافقهم فى ذلك اصحاب الحديث ، واجمعت المعتزلة والخوارج والزيدية على خلاف ذلك ، وزعموا ان العقول تعمل بمجردها من السمع والتوقيف ، الا ان البغداديين من المعتزلة خاصة يوجبون الرسالة فى اوّل التكليف ، ويخالفون الامامية فى علتهم لذلك ، ويثبتون عللا يصححها الامامية ويضيفونها الى علتهم فيما وصفناه.

اقول : الحق مع المفيد رحمه‌الله وان خالفه اقوام حتى بعض الامامية بظاهر كلامهم لان العقل البشرى له مقام القبول والاستعداد فلا بد له فى مقام الحكم والاستدلال من تنبيه وافاضة من العالين ولو قبل هذه النشأة ، واما الاشاعرة فيعزلون العقل بالكلية على اصلهم كما مر.

قول الشارح : بان التكاليف السمعية الخ ـ إيضاح هذا الاستدلال ان الانسان بمجرد عقله يعمل بالتكاليف العقلية ، ولكن الشرع اذا اتى بالتكاليف الاخرى وواظب الانسان عليها كان للعمل بالتكاليف العقلية اقرب واحفظ فيحصل اللطف فى حكم العقل بالشرع.

٦٤٤

اقول : هذا الاستدلال لضعفه لا يقوم على ساق ، والحق ان علة وجوب البعثة هى علة حسنها ، وهى تلك الفوائد التى انهاها المصنف الى قوله : فيحصل اللطف للمكلف ، نعم ان يوجه هذا الكلام الى ما قلنا فى اوّل المسألة الاولى من شان الفطرة فى امر البعثة او الى قاعدة التلازم من ان كل ما حكم به الشرع حكم به العقل وبالعكس على ما فصل وبين فى مظانها كان تاما.

قول الشارح : لان ما لا يتم الواجب الخ ـ اى لا يتم هذا اللطف الا بالتكليف الشرعى ولا يتم هو الا بالبعثة.

قول الشارح : فيما تقدم ـ فى المسألة الثانية عشرة من الفصل الثالث من المقصد الثالث.

المسألة الثالثة

( فى وجوب العصمة )

قول المصنف : ويجب فى النبي العصمة ـ لا بأس بتفسيرها قبل الورود فى حكمها على ما هو الشأن فى المباحث من تقديم المبادى التصورية على التصديقية.

قال المفيد رحمه‌الله فى ملحقات اوائل المقالات : ان العصمة فى اصل اللغة هى ما اعتصم به الانسان من الشيء كانه امتنع به عن الوقوع فيما يكره ، وليس هى جنسا من اجناس الفعل ، ومنه قولهم : اعتصم فلان بالجبل اذا امتنع به ، ومنه سميت العصم وهى وعول الجبال لامتناعها بها ، والعصمة من الله تعالى هى التوفيق الّذي يسلم به الانسان مما يكره اذا اتى بالطاعة ، وذلك مثل اعطائنا رجلا غريقا حبلا ليتشبث به فيسلم ، فهو اذا امسكه واعتصم به سمى ذلك الشيء عصمة له لما تشبث به فسلم من الغرق ولو لم يعتصم به لم يسم عصمة ، وكذلك سبيل اللطف ، ان الانسان اذا اطاع سمى توفيقا وعصمة ، وان لم يطع لم يسم توفيقا ولا عصمة ، وقد بين الله ذكر هذا المعنى فى كتابه بقوله : واعتصموا بحبل الله جميعا ، وحبل الله هو دينه ، الا ترى

٦٤٥

انهم بامتثال امره يسلمون من الوقوع فى عقابه ، فصار تمسكهم بامره اعتصاما ، وصار لطف الله لهم فى الطاعة عصمة ، فجميع المؤمنين من الملائكة والنبيين والائمة معصومون لانهم متمسكون بطاعة الله تعالى ، وهذا جملة من القول فى العصمة ، ما اظن احدا يخالف فى حقيقتها ، وانما الخلاف فى حكمها وكيف تجب وعلى اى وجه تقع ، وقد مضى ذكر ذلك فى باب عصمة الأنبياء وعصمة نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام ، انتهى.

وقال المذيل لاوائل المقالات ذيل قول المفيد فى عصمة الأنبياء عليهم‌السلام : العصمة فى موضوع اللغة هو المنع ، وقد خص فى اصطلاح المتكلمين بمن يمتنع باختياره عن فعل الذنوب والقبائح عند اللطف الّذي يحصل من الله تعالى فى حقه ، وعرفه صاحب كتاب الياقوت من قدماء الامامية بانه لطف يمتنع من يختص به عن فعل المعصية ولا يمنعه على وجه القهر اى انه لا يكون له حينئذ داع الى فعل المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليهما ، انتهى.

وبما فسرت فى الياقوت فسرها العلامة فى الباب الحادى عشر ، والشارح البهشتى والشارح القديم فى شرحهما والاحسائى فى المجلى.

ثم الظاهر من هذه الكلمات ان اللطف الماخوذ فى التعريف هو اللطف بالنبى ، ولكن ظاهر المحقق اللاهيجى فى كوهر مراد ان فى العصمة لطفا بالمكلفين حيث قال ما مضمونه : ان عصمة الأنبياء لطف بالنظر الى المكلفين لان بالعصمة يحصل الوثوق التام لهم بافعال النبي واقواله والمكلف بسبب ذلك يقرب من الانقياد ويبعد عن المخالفة ، فاذا كان اللطف واجبا عليه تعالى فعصمة الأنبياء واجبة.

هذا تفسير العصمة على مسلك القائلين باللطف من العدلية.

واما الاشاعرة فقال الشارح القديم : العصمة عندهم هى القدرة على الطاعة او عدم القدرة على المعصية.

واما الحكماء فقال اللاهيجى فى كوهر مراد نقلا عنهم ما مضمونه : ان

٦٤٦

العصمة غريزة معها لا داعى الى صدور المعصية مع القدرة عليها ، وتلك الغريزة هى قوة العقل بحيث توجب قهره على سائر القوى النفسانية.

وقال السبزوارى فى اسرار الحكم ما مضمونه : ان العصمة خلق يمنع صاحبه عن الخطأ من جهة علمه بمثالب المعاصى ومناقب الطاعات ، فيمكنه المعصية وعدم الطاعة ، لكنه لعلمه بمعايب المعاصى ومضارها لا يرتكبها ، ولعلمه بمحاسن الطاعات ومنافعها يفعلها ، وتلك الهيئة النورية العلمية تؤكد وترسخ رسوخا فى الأنبياء والاولياء بتتابع الوحى والالهام.

ويظهر من الشيخ فى الشفاء ان العصمة الواجبة فى النبي هى العدالة الكاملة ، قال : وافضل الناس من استكملت نفسه عقلا بالفعل ومحصلا للاخلاق التى تكون فضائل عملية ، وافضل هؤلاء هو المستعد لمرتبة النبوة ، ثم قال : ورءوس هذه الفضائل عفة وحكمة وشجاعة ومجموعها العدالة ، وهى خارجة عن الفضيلة النظرية.

وقال الاحسائى فى المجلى : انها العدالة المطلقة المستلزمة لحفظ النسبة بين جميع الموجودات المشار إليها فى قوله عليه‌السلام : بالعدل قامت السماوات والارض.

اقول : العصمة فى اللغة المنع ، وكذا فى الاصطلاح لم يتجاوز عن هذا المفهوم لان مفهومها عند الكل هو الامتناع عن المعاصى ، لكنهم ارادوا تعيين حقيقتها اى ما به يتحقق الامتناع ، فالمنع انما يكون فى قبال الاقتضاء كما ان الاذن أيضا كذلك ، لكن الاذن هو تخلية سبيل المقتضى الى ظهور اثره ، والمنع سد سبيله لئلا يظهر اثره ، فسد السبيل اما بعدم شرط كما هو ظاهر تفسير الاشاعرة للعصمة حيث قالوا : هى عدم القدرة على المعصية فان القدرة شرط لظهور ما يقتضي النفس بشهوتها وغضبها من المعاصى والخطايا ، ولكن قولهم ظاهر خطأه ، واما بوجود مانع كما هو ظاهر تفسير غيرهم للعصمة باللطف او الغريزة او الخلق او العدالة ، فظاهر الكل ان نفس النبي بما هى نفس انسانية تقتضى نظائر ما يصدر عن غيره من المعاصى والذنوب ، ولكنّ لها حاجزا يسد باب ذلك الاقتضاء ، وذلك الحاجز هو قوة نفسه وعقله من جهة

٦٤٧

كمال علمه واحاطته بمبادى الخطايا والذنوب وتبعاتها وعواقبها وعدم غفلته عن حضور الرب تعالى وحبه لمحاسن الاعمال وما فيه رضا الله تعالى فيمتنع عن الارتكاب كما ان الرجل العاقل يمتنع من اللعب مع الصبيان فى الشارعة لعقله وعلمه بمضاره وعدم الانتفاع به مع انه قادر على ذلك وربما يشتهيه بطبعه.

وظاهر الآية المباركة المستدل بها على عصمة اهل البيت عليهم‌السلام يوافق هذا لان التعبير باذهاب الرجس والتطهير متعلقا بهما الإرادة الماتى بها بهيئة المضارع يحسن اذا كان مقتضى ذلك موجودا والا فالتعبير بقوله : جعلكم طاهرين ، والامر كذلك فانهم عليهم‌السلام بعد النزول فى هذه النشأة والتزمل بالجسمية والمعية بالطبيعة حصلت لهم مقتضى ذلك بذلك ، ولكن نفسيتهم العالية قهرت جميع ما فى هذا العالم من آثار الطبائع.

ثم ان الظاهر من كلمات القوم لا سيما الحكماء ان النبي ليس له روح فوق الروح الانسانى به النبوة والعصمة ، بل فيه ذلك فى مراتب كماله ، ولكن كثيرا من الاخبار يدل على ذلك ، منها ما فى البحار الباب السادس عشر من تاريخ نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بصائر الدرجات عن الحسين بن محمد عن المعلى عن عبد الله بن ادريس عن محمد بن سنان عن المفضل عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : يا مفضل ان الله تبارك وتعالى جعل للنبى صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة ارواح : روح الحياة فبه دبّ ودرج ، وروح القوة فبه نهض وجاهد ، وروح الشهوة فبه اكل وشرب واتى النساء من الحلال ، وروح الايمان فبه امر وعدل ، وروح القدس فبه حمل النبوة ، فاذا قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انتقل روح القدس فصار فى الامام ، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يسهو ، والاربعة الارواح تنام وتلهو وتغفل وتسهو ، وروح القدس ثابت يرى به ما فى شرق الارض وغربها وبرها وبحرها ، قلت : جعلت فداك يتناول الامام ما ببغداد بيده؟ قال : نعم ، وما دون العرش.

اقول : الحديث مروى فى الاختصاص عن سعد عن اسماعيل بن محمد البصرى ، عن عبد الله بن ادريس الخ ، وعلى هذا فعصمة النبي بذلك الروح.

٦٤٨

ثم الظاهر من هذا الحديث ان العدالة فى مرتبة روح الايمان ، والعصمة فى مرتبة روح القدس ، ويفرق بينهما أيضا بان صاحب العصمة يبغض المعاصى والخطايا ويتأذى بوقوعها من غيره كما ينطق به الاخبار واما صاحب العدالة فليس كذلك بل امتناعه فى كثير من الاحوال لخوفه من عقابه تعالى وان حصل لبعض الورعين المتقين كراهة لبعض المنكرات ، وبان صاحب العصمة يمتنع عن الارتكاب مع علمه بتفاصيل العلل والاسرار وصاحب العدالة من المؤمنين يصبر مع عدم علمه بما فى كف نفسه عن المحرمات من الحكم والاسرار ، وبان صاحب العصمة حجة بين الله وبين عباده وصاحب العدالة بالغا ما بلغ ليس بحجة كذلك ، وبان العصمة كالنبوة موهبة من الله عز وجل لا تحصل بالرياضة والاكتساب والعدالة تحصل بذلك ، وبان العصمة لذلك لا تزول والعدالة يمكن زوالها ، وبعروض السهو والخطا وغيرهما لصاحب العدالة دون صاحب العصمة كما يظهر من الحديث المذكور.

ثم ان العصمة فى الملائكة عليهم‌السلام ليست من جهة المانع ، بل من جهة عدم المقتضى فى ذواتهم للعصيان والخطاء كما يظهر من الاحاديث.

قول الشارح : اختلف الناس هاهنا الخ ـ اعلم ان ما يفرض صدوره من المعصية عن الأنبياء سلام الله عليهم فهو اما يكون قبل البعثة او مطلقا ، واما يكون سهوا او مطلقا ، واما يكون صغيرة او الاعم منها ، واما يكون فى امر النبوة او مطلقا ، واما يكون فى اعتقاد او عمل او مطلقا ، واما على سبيل التقية او مطلقا ، واما يكون على الاستخفاء او مطلقا ، فالامامية على تنزه النبي وعصمته عن كل ذلك من اوّل الولادة الى آخر العمر ، وكذلك اعتقادهم فى الائمة عليهم‌السلام الا ما عن التقية بل تنزهه عن كل ما ينفر عنه ، واما غيرهم فقد اخذ كل فرقة منهم بطرف من هذه التفاصيل.

ثم ان من الآيات ما بظاهره خلاف ذلك فصار متمسكا للخصم ، وهو مع وجود المعارض اوّلوه الى ما يوافق المذهب مشروحا فى كتبهم كتنزيه الأنبياء وغيره وتفاسيرهم.

قول الشارح : ان الغرض من بعثة الخ ـ ان الغرض من بعثتهم سلام الله عليهم

٦٤٩

هو توجه الخلق إليهم مقدمة لتوجههم الى الله تعالى والى الآخرة وليعقلوا عن الله عز وجل بهم ، قال الكاظم عليه‌السلام لهشام بن الحكم فى حديث طويل رواه الكلينى فى كتاب العقل والجهل من الكافى : يا هشام ما بعث الله انبياءه ورسله الى عباده الا ليعقلوا عن الله ، فاحسنهم استجابة احسنهم معرفة ، واعلمهم بامر الله احسنهم عقلا ، واكملهم عقلا ارفعهم درجة فى الدنيا والآخرة الخ ، وذلك لا يحصل الا بالوثوق التام بافعالهم واقوالهم ، وذلك لا يحصل الا بان لا يراه احد من الناس طول عمره على زلة وخطيئة ، وهذا لا يمكن عادة الا بملكة العصمة ، فهى واجبة تحصيلا لغرض البعثة والا يكون نقضا للغرض وهو على الحكيم قبيح.

ان قلت : ان الناس يتوجهون ويميلون الى رؤسائهم وكبرائهم مع ما يرون فيهم من الخطايا والزلات ، ولا يوجب ذلك اعراضهم وانصرافهم عنهم ، بل يطيعونهم ويخدمونهم ويثقون بهم فيما يعدونهم مع وقوع الخلف كثيرا منهم ، قلت : ان الناس يميلون الى كبرائهم مع ما فيهم طمعا فى حطام الدنيا وذلك لا ينافى ذلك بل هو من لوازمه ، واما الأنبياء فيدعونهم الى الله والى الدار الآخرة وطباع الناس لا يقبل دعوتهم الا اذا كانوا مبرءين عن ادناس الدنيا وهفواتها وآثامها.

قول الشارح : لانه بالنظر الى كونه نبيا الخ ـ حاصل هذا الدليل هو لزوم اجتماع الضدين لان وجوب متابعة النبي فى جميع افعاله واقواله لكونه نبيا ووجوب مخالفته فيما صدر عنه من الذنوب ضدان ، ولا يخفى ان هذا الدليل والّذي بعده لا يثبتان وجوب العصمة الا حالكونه نبيا مبعوثا لا وجوبها قبل البعثة بخلاف الدليل الاول فانه عام.

ثم ان المعتمد عندى فى مسألة العصمة مطلقا السمع فانه لا شبهة ولا خلاف فى ان الأنبياء والائمة عليهم‌السلام صادقون وقد اخبروا بعصمتهم.

قول المصنف : وكمال العقل والذكاء الخ ـ اعلم ان الانسان من حيث الكمال لا يقف على حد ، بل فى كل حد منه كان له امكان ان يجوز الى حد بعده ان اجتمعت الشرائط ، فمقتضى لطفه وجوده تعالى ان يكون بين الناس من يتيسر له

٦٥٠

تزكية الناس وتكميل كل احد وترقيته من اى حد الى ما فوقه بتقريب الشرائط وهو النبي او مثله ممن يقوم مقامه ، فلا بد ان يكون هو فى حد كامل بحيث يتيسر منه ذلك فى جميع المراتب وينقاد الامة للتعلم عنده والخضوع لديه ، وكذلك يجب ان لا يكون فيه ادنى منفر حسبا او نسبا لئلا ينفض احد من حوله ويكون حجة له عليه فى تنفره وتبعده عنه ، وكذا القائم مقامه ، فكل ما فى التواريخ والتفاسير والاحاديث من نسبة الزرى الى الأنبياء عليهم‌السلام مختلق او يؤول الى ما يليق بهم.

المسألة الرابعة

( فى الطريق الى معرفة صدق النبي عليه السلام )

قول المصنف : وهو ثبوت ما ليس بمعتاد الخ ـ تذكير الضمير باعتبار الخبر كقوله تعالى : ( قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ) ، ولا يبعد رجوعه الى ظهور ، وقد يقال : المعجز من دون التاء ، والاول بتقدير الفعلة والثانى بتقدير الفعل قبل النقل ، واما بعده فالتاء له ، وقوله : مطابقة الدعوى عطف على ظهور المعجزة لا من تتمة التعريف لان الكرامة والارهاص والمعجزة المعكوسة المكذبة لمدعى النبوة من اقسام المعجزة عند المصنف على ما يأتى فى كلامه ، فعلى ما جرى عليه فالمعجزة اما مع دعوى النبوة أو لا ، فالاول اما ان يكون طبقا لدعواه فهى المعجزة الحقة او خلافا لها فهى المعجزة المعكوسة ، والثانى اما ان يصير صاحبها فى مستقبل الزمان نبيا فهى الارهاص ( والارهاص فى اللغة بمعنى التأسيس ) او لا فهى الكرامة ، والحاصل انه بصدد تعريف المعجزة مطلقا لا ما يقابل تلك الثلاثة.

ثم ان تعريفه هذا احسن التعاريف ، وتحليله ان يقال : ان الامر الواقع فى الكون سواء كان ثبوتا او انتفاء اما ان يكون جاريا على سبيل الاسباب الظاهرة المعتادة

٦٥١

المعلومة للناس فهو الامر المعتاد كاكثر الوقائع ، واما لا يكون سببه ظاهرا معلوما ، فهو اما يكون سببه جاريا فى سبيل العادة الطبيعية غير خارج عن مجرى الطبيعة بحيث يمكن الناس ان يهتدوا إليه بافكارهم ويأتوا بمثل ما اتى به صاحبه وان كان فى الحال خفيا عليهم سببه كالسحر والشعبدة وما صنع السامرى وكثير من صنائع العصر فهو الامر الغير المعتاد ، واما يكون سببه خارجا عن مجرى الطبيعة غير جار فى سبيل العادة الطبيعية فهو الامر الخارق للعادة ، والناس لا يهتدون إليه بافكارهم وان بلغت ما بلغت ، ولا يقدر عليه احد من العباد الا باذن خاص ممن بيده ملكوت كل شيء ، ولا ريب ان له سببا لان الحادث لا بد له من سبب حادث الا انه ليس كسائر الحوادث من حيث جريان الاسباب ، وقد عرفت ان غير المعتاد اعم من الخارق للعادة ، فالمعجزة هو الامر الغير المعتاد ثبوتا او نفيا الخارق للعادة ، وانما اتى بكلا الامرين فى التعريف مع كفاية الاتيان بالخارق للعادة فقط لانهما جزءان له احدهما الجنس والاخر الفصل ، والمعرفة بالشيء يحصل بالفصل كقولنا : الانسان ناطق ، لكن الاحسن الاتم اتيانهما معا كقولنا : الانسان حيوان ناطق.

ثم ان من خواص كونه خارقا للعادة امكان ان يتحدى به وامتناع ان يعارض بمثله.

فحاصل كلام المصنف ان من يدعى النبوة اذا ظهر على يده المعجزة وكان دعواه طبقا لها بان يقول انا نبى الله ومعجزتى قلب العصا حية او شق القمر نصفين او احياء الميت وحصلت هذه الامور كما هى عرف انه صادق فى دعواه ويجب بصريح حكم العقل تصديقه واتباعه.

اذا تبين لك هذا كله علمت ان ما ذهب إليه الشراح من اخذ قوله : مطابقة الدعوى جزءا من تعريفه ليس على ما اراده المصنف ، وان ما اعترض الشارح القديم على المصنف بقوله : وقول المصنف مع خرق العادة زيادة يغنى عنه فان كل واحد من قوله : ثبوت ما ليس بمعتاد او نفى ما هو معتاد يكون خرقا للعادة ، وكذا ما اعترض عليه القوشجى بقوله : واما قول المصنف مع خرق العادة فهو لغو محض ولعله من طغيان القلم خطاء ناش من الجهل بمراد المصنف.

٦٥٢

ثم ان القوشجى كغيره ذكر تعريفين آخرين لا جداء لذكرهما والكلام فيهما.

قول الشارح : لان فعل المعتاد الخ ـ فى هذه العبارة سقط ظاهر ، والصحيح لان فعل ما ليس بمعتاد او نفى المعتاد لا يدل على الصدق اذ لا بد ان يكون مع ذلك خارقا للعادة كما بيناه.

قول الشارح : ولا بد فى المعجزة من شروط الخ ـ اى لا تتحقق الا بها لان الاول هو مفهوم الاعجاز ، لكن لا خصوصية للامة المبعوث إليها ، بل تقيده بذلك مضر ، والثانى ان المعجزة لا تكون الا من قبله تعالى بان لا يكون نفس النبي ذات تأثير فيها او بامره تعالى بان تكون ذات تأثير فيها ، والثالث ان المعجزة عند اشراط الساعة واقترابها لا حاجة إليها لانقطاع الدعوة فى ذلك اليوم الّذي لا ينفع فيه نفسا ايمانها لم تكن آمنت من قبل او كسبت فى ايمانها خيرا ، ومع ذلك لا تمتنع ، لو اقتضت الحكمة لظهرت على يد حجة الله ، والرابع لاخراج ما يجرى على يد غير مدعى النبوة من الاولياء ، ولكنه أيضا معجزة على مذهب المصنف ، والخامس انه حقيقة المعجزة ، والعلامة المجلسى رحمه الله تعالى ذكر فى البحار فى مجلد تاريخ نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله فى آخر باب اعجاز القرآن الكريم هذه الشروط الا الثالث منها مع ثلاثة اخرى ، والطالب يراجع.

قول الشارح : او جار يا مجرى ذلك الخ ـ اى جاريا مجرى كونها عقيب دعواه كالمعجزتين لنبى واحد تكون إحداهما بعد الاخرى ، فالثانية جارية مجرى كونها عقيب دعواه لانها ليست عقيبها بل عقيب المعجزة التى هى عقيب دعواه ، ولا يخفى عدم الحاجة الى هذا التطويل المعقد فى كلامه لبيان هذا المطلب الظاهر.

قول الشارح : وانه لا يدعى النبوة غيره ـ هذا القيد لان من الممكن حينئذ ان يكون المعجز الآخر لذلك النبي الآخر فيكون عقيب دعواه لا جاريا مجراه.

٦٥٣

قول الشارح : ولانه لاجله ظهر الخ ـ اى ولان المعجز الثانى لاجل دعواه ظهر مثل الاول الّذي ظهر عقيب دعواه.

المسألة الخامسة

( فى الكرامات والارهاص والمعجزة المعكوسة )

قول الشارح : مثل قصة آصف ـ هو آصف بن برخيا وصى سليمان على نبينا وآله وعليه السلام ، وقصته مذكورة فى القرآن بقوله تعالى : ( قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ) الخ.

قول الشارح : كالاخبار المتواترة الخ ـ المذكورة فى مدينة المعاجز والبحار وغيرهما من تآليف الخاصة والعامة.

قول الشارح : وحمل المانعون الخ ـ هذا الحمل لا يضر بمدعى المثبتين لان تلك المعجزات ظهرت على ايدى اولئك الاولياء ، واما لاى شيء ظهرت فهو امر آخر ، مع ان التفاسير والاخبار ناطقة بان ما وقع لمريم وقع لسكون قلبها وقوته ، وما وقع لآصف وقع للدلالة على وصايته عن سليمان ، وما وقع للائمة الطاهرين عليهم‌السلام وقع للدلالة على وصايتهم وإمامتهم وولايتهم من قبل الله تعالى لا لاثبات نبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لانها كانت ثابتة عند الجمهور وان كان مستلزما له.

قول الشارح : بلغت فى الكثرة الى خروجها الخ ـ الكثرة اما بحسب عدد المعجزات لشخص واحد وظاهر ان هذا لا قبح فيه ولا امتناع ، واما بحسب وقوع المعجزات لاشخاص كثيرة وهذا أيضا كذلك الا اذا بلغت حدا لا يترتب عليها الغرض المطلوب.

قول الشارح : الثانى قالوا الخ ـ إيضاح الشبهة ان المعجزة لو ظهرت على

٦٥٤

يد غير النبي لزم نفرة الناس وميلهم عن الأنبياء وعدم اطاعتهم لهم وتصديقهم اياهم لان النبي لا خصوصية فيه تقتضى وجوب طاعته وتصديقه والاخذ بما يأتيه الا بالمعجزة فاذا شاركه غيره فيها انتفت هذه الخصوصية عنه فينتفى معلول هذه الخصوصية اى وجوب الطاعة والتصديق ، والتالى باطل لانه نقض للغرض من البعثة فالمقدم مثله ، والجواب ان الشركة لا تستلزم سلب مقتضى المعجزة عن النبي ، بل تستلزم ثبوته فى كل مورد تحققت ، فاينما وجدت يقبل مدعى صاحبها ان ادعى شيئا واتى عليه بها سواء كان نبيا او وصيا او وليا لان الواجب على الله تعالى ان يظهر عند العقول كذب المدعى الكاذب المفترى على الله تعالى ان تشبث بشبه الاعجاز ولم يكن للناس طريق الاهتداء الى ابطاله على ما يأتى بيانه عند ذكر المعجزة المعكوسة.

قول الشارح : لو اكرم الرئيس الخ ـ على صيغة المجهول ، اى لو اكرم بنوع من مأكل احد من الرعية هان موقع ذلك النوع من الماكل عند الرئيس وكان موجبا لاهانته بسبب انه مأكل من لا يستحق الاكرام من افراد الرعية ، فتشريك الرئيس والرعية فى نوع المأكل فى الضيافة يوجب تشريكهما فى عدم الاكرام مع ان الرئيس مستحق للاكرام والرعية لا ، وكذا ما نحن فيه فان تشريك النبي وغيره فى اتيان المعجزة يوجب تشريكهما فى عدم وجوب الاطاعة ، والجواب ان القياس مع الفارق لان الاعجاز من الله تعالى فاينما تحقق ثبت مقتضاه ، واما الاكرام من الناس بالاطعام والضيافة وغيرهما تابع للاعتبار فان الرئيس قد يكرم فى بعض الموارد بادنى شيء لا يفعل بادنى الناس فى موارد اخرى.

قول الشارح : لكان موقعه اعظم ـ مع بقاء الوقع والعظمة فى كليهما ، واما الانحطاط وهو ان الموقعية راسا فلا ، وفيه نظر ، بل الامر بالعكس فان النبي كلما عزز بنبي آخر لكان اعظم تأثيرا واوقع فى نفوس الناس لوحدة دعوتهم وعدم تزاحمهم فى شيء كما قال تعالى : ( فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ ).

قول الشارح : الرابع لو جاز الخ ـ لا يخفى ان هذا قريب من الوجه الثالث لان المقدم فيهما واحد مضمونا وتالييهما متلازمان لان بطلان دلالة المعجز على النبوة

٦٥٥

وعدم تميز النبي عن غيره بالمعجز متلازمان ، فلذلك ترى ان الجواب من الشارح فيهما واحد.

قول الشارح : لا يقال يكفى فى التكذيب الخ ـ اقول : المدعى للنبوة اما يأتى بغير المعتاد أو لا ، فعلى الثانى يكفى فى تكذيبه عدم الاتيان لان العاقل لا يصدق مدعيا لدعوى غير ظاهرة الا ببينة توافق دعواه ، ولكن الله تعالى ربما يظهر امرا عند دعواه ان كان كاذبا يدل على كذبه لئلا يبقى للناس شك فيه او لمصلحة اخرى ، وعلى الاول فذلك الامر الّذي ليس بمعتاد ان كان معجزا خارقا للعادة من عند الله تعالى فهو ، وان لم يكن كذلك كسحر أتي به أو أمر بديع لم يهتد الناس الى طريق اسبابه وكشف علله العادية فواجب فى لطفه تعالى ان يظهر امرا يكشف عن كذبه لان الناس معذورون فى اتباعه لعدم تمايز ما اتى به عن المعجزة عندهم ، ولكن الامر بعد ختم النبوة بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالأدلّة القطعية سهل ظاهر.

المسألة السادسة

( فى وجوب البعثة فى كل وقت )

قول الشارح : بحيث لا يجوز خلو زمان الخ ـ بحيث لو ان كل احد من العباد اراد ان يفحص ويتبع دينا من عند الله تبارك وتعالى مطاعا غير منسوخ تيسر له ذلك ولو بوسائط وهذا ميسر لكل احد حتى فى ايام الفترة من الرسل لان اللطف بمعنى المحصل للغرض من الخلق لا يتم الا بذلك ، ولا معنى لتبعيض اللطف بالمعنى المذكور ، ولا اظن احدا ينكر ذلك لان لله الحجة البالغة ابلغها العباد لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ، وفى الاخبار المتواترة ان الارض لا تخلو من الحجة وان اوّل من ظهر فى الارض كان حجة الله وآخر من فى الارض هو حجة الله ولو بقى فى الارض اثنان احدهما الحجة ، وليس المراد ان دليل وجوب البعثة يعطى ان يكون

٦٥٦

فى كل زمان نبى ظاهر بين اظهر الناس ، بل الواجب هو وجود العلم الحجة كائنا من كان يدعو الى الله وينشر شريعة الرسول المبعوث.

قول المصنف : ولا تجب الشريعة ـ اى لا يجب ان يكون النبي المبعوث الى الناس صاحب شريعة جديدة ناسخة لشريعة النبي الماضى ، بل يمكن ان يكون وصيا له يحفظ شريعته كيوشع لموسى او مبعوثا الى امة بشريعته كلوط لابراهيم او معينا له فى التبليغ كيحيى لزكريا ، مع ان الآثار تدل على وجود انبياء كثيرين فى زمن واحد فى ملة واحدة كبنى اسرائيل ، ولا يعقل ان يكون كل منهم صاحب شريعة.

قول الشارح : ودعاؤه اياهم الخ ـ ومما فى عقولهم وجوب اتباع شريعة النبي السالف الّذي يدعوهم نبيهم إليه.

قول الشارح : وكذا يجوز بعثة نبى الخ ـ هذا وان كان جائزا لكن لم يعهد فى الآثار بعث نبى كان يدعو الناس الى الاحكام العقلية فقط ، نعم فى الاخبار ان من الأنبياء من كان نبيا منبأ فى نفسه لا يعدو غيرها.

المسألة السابعة

( فى نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله )

قول المصنف : وظهور معجزة القرآن الخ ـ حاصل كلامه قياس من الشكل الاول صورته : ان محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ادعى النبوة من عند الله تعالى وظهرت منه المعجزة وفق دعواه وكل من كان كذلك كان نبيا حقا من عند الله عز وجل ، وهذا البرهان يبتنى على مقدمات :

الاولى ادعاؤه النبوة من الله تعالى ، وهذا امر لم يخف على احد من العالمين ولم ينكره ذو لسان من الخلائق اجمعين ، والقول بان ثبوت ذلك بالتواتر ثم الطعن فى افادة التواتر العلم كما فى الاربعين للرازى شطط وتعسف فظيع اذ هو فوق التواتر

٦٥٧

لان كل من كان بعد ظهوره بالنبوة فى زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله او نشأ بعده فى جمع من الآدميين الى اليوم انما نشأ فى فضوة تسامع خبره وادعائه ، كأنّ الارض طور والآذان يدقها صوت دعوته من جميع الجهات وشخصه مستور عن الابصار.

الثانية انه صلوات الله عليه وآله اتى بهذا القرآن الّذي فى ايدى الناس ، وهذه كسابقتها ثابتة بما فوق التواتر.

الثالثة ان هذا القرآن كتاب من عند الله تعالى انزله عليه معجزا له طبقا لدعواه لانه تحدى به بالتحدى الموجود فى القرآن فصحاء العرب بل الناس كلهم بل الجن والانس ، ودعاهم تعجيزا الى المباراة والمعارضة بالمثل ولو بان يأتوا بسورة من مثله ، فما قدروا على ذلك وامتنع منهم الاتيان به لانهم لو قدروا على ذلك اتوا به لتوفّر دواعيهم على اطفاء نوره واسكاته عن دعوته ، فاختار بعضهم القراع بالسهام والسيوف واراقة الدماء وبذل الانفس والارواح واسارتهم واسارة نسائهم والاطفال واثارة الفتن الهائلة ، وبعضهم الاسلام كرها على المعارضة بالاتيان لعجزهم عن ذلك ، وآخرون عرفوا الحق فاتبعوه ، فلو كان الاتيان بالقرآن امرا عاديا لا من عند الله بخرق العادة لاتى بمثله او بعضه الى اليوم احد من الذين كان همهم اطفاء نوره وابطال دعوته ، هذا اصل كون القرآن اعجازا ، واما وجه كونه اعجازا فياتى إن شاء الله.

الرابعة ان كل من كان كذلك فهو نبى من عند الله تعالى لان اظهاره تعالى المعجزة على يد الكاذب قبيح وهو تعالى منزه عنه ، ولا يخفى ان المنكرين للحسن والقبح العقليين اضطربوا فى اثبات هذه المقدمة ، فلا بد لهم ان يرجعوا الى المذهب الحق.

قول المصنف : غيره ـ عطف على القرآن.

قول المصنف : يدل على نبوته ـ اما القرآن فيدل عليها لكل احد فى كل عصر ، واما غيره كشق القمر مثلا فيدل عليها لمن حضره وشاهده ، واما الغائب فلا ، نعم يمكن التأييد والاعتضاد به لمن يسمعه نقلا ،

قول المصنف : يعضده ـ اى يعضد القرآن من حيث الاعجاز ، ولا تهافت بين

٦٥٨

كون غير القرآن دالا على النبوة وبين كونه معتضدا لان الاول للحاضر فى زمن الرسالة والثانى للغائب المتأخر عن ذلك الزمان.

اقول : الحق ان غير القرآن من المعجزات حيث ان نقلها على حد التواتر البالغ الكامل يدل على نبوته لا سيما مع نقل من هو من غير ملة الاسلام كثيرا منها فى كتبهم كما اشار الى طرف منه المولى محمد صادق فخر الاسلام صاحب كتاب انيس الاعلام فى كتابه بيان الحق فى المجلد الرابع فى الباب التاسع والعشرين منه ، فالمتفحص عن التاريخ الناظر فى احوال رسول الله واوصيائه الطاهرين صلوات الله عليهم بنظر التحقيق يحصل له القطع بانه صلى‌الله‌عليه‌وآله نبى من عند الله وان لم ينظر فى القرآن.

قول الشارح : معجزات كثيرة ـ قال الطريحى فى مجمع البحرين : قد ذكر المسلمون للنبى صلى‌الله‌عليه‌وآله الف معجزة منها القرآن.

قول الشارح : قال لعلى شق ـ بصيغة الامر اى اطلع.

قول الشارح : ما يرى فيه الا اثر اصابعهم الخ ـ اى لم ينقص من الطعام شيء ، وحتى اكتفوا اى شرب كل منهم على قدر كفايته ، وفى بعض الروايات : وايم الله الّذي نفس على بيده ان كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم ، ثم جئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعا وايم الله ان كان الرجل منهم ليشرب مثله.

قول الشارح : عاد ابو لهب الى كلامه ـ اى عاد إليه فقاموا وخرجوا.

قول الشارح : فبايع عليا عليه‌السلام الخ ـ ذيل الحديث فى الروايات هكذا : ثم ( فى اليوم الثالث ) تكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا بنى عبد المطلب انى والله ما اعلم شابا فى العرب جاء قومه بافضل ما جئتكم به ، انى قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد امرنى ربى عز وجل ان ادعوكم إليه ، فايكم يؤمن بى ويوازرنى على امرى فيكون اخى ووصيى ووزيرى وخليفتى فى اهلى من بعدى ، قال : فامسك القوم واحجموا عنها جميعا ، قال على عليه‌السلام : فقمت وانى لا حدثهم سنا وارمصهم عينا واعظمهم بطنا واحمشهم ساقا فقلت : انا يا نبى الله اكون وزيرك على

٦٥٩

ما بعثك الله به ، قال : فاخذ بيدى ، ثم قال : ان هذا اخى ووصيى ووزيرى وخليفتى فيكم فاسمعوا له واطيعوا ، فقام القوم يضحكون ويقولون لابى طالب : قد امرك ان تسمع لابنك وتطيع ، انتهى وهذا الحديث يدل على مقارنة تبليغ الامامة لتبليغ النبوة.

قول الشارح : بخبر ذى الثدية وسيأتي ـ فى المسألة السابعة من مقصد الامامة ذيل قول المصنف : ولاخباره بالغيب ، فراجع.

قول المصنف : واعجاز القرآن قيل الخ ـ المراد بالفصاحة هو المعنى الشامل للبلاغة ، والاسلوب فى اللغة الطريق ، ويستعمل بالخصوص فى العرف فى طريقة الكلام وفن منه وضرب من ضروبه ، ويرجع ذلك الى نظم خاص ونسبة خاصة بين الكلمات من حيث التقديم والتأخير وبين الجملات من حيث الترتيب والتلفيق ، والاعجاز هو الاتيان بشيء يعجز عنه الغير ، وعجز الغير اما لكون ذلك الشيء فوق قواه وخارجا عن طوق علمه وقدرته ، او لحصول مانع يمنعه عن الاتيان وان لم يشعر به مع كونه فى طاقته لو لا المانع ، ويعبر عن الثانى بالصرفة ، ومذاهب اهل الفن فى اعجاز القرآن تدور مدارهما.

الاول مذهب الصرفة ، وهو المشهور عن النظام من شيوخ الاعتزال ، والمنقول عن ابى اسحاق النصيبى وعباد بن سليمان وهشام بن عمر الفوطى من المعتزلة ، والمشهور عن علم الهدى السيد المرتضى رحمه‌الله ، والمذكور فى اوائل المقالات للمفيد رحمه‌الله حيث قال : القول فى جهة اعجاز القرآن ، اقول : ان جهة ذلك هو الصرف من الله تعالى لاهل الفصاحة واللسان عن معارضة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمثله فى النظام عند تحديه لهم ، وجعل انصرافهم عن الاتيان بمثله وان كان فى مقدورهم دليلا على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واللطف من الله تعالى مستمر فى الصرف عنه الى آخر الزمان ، وهذا من اوضح برهان فى الاعجاز واعجب بيان ، وهو مذهب النظام ، وخالف فيه جمهور اهل الاعتزال ، انتهى.

ولكن المجلسى رحمه‌الله نقل من المفيد رحمه‌الله خلاف هذا المذهب حيث

٦٦٠