توضيح المراد - ج ١

السيد هاشم الحسيني الطهراني

توضيح المراد - ج ١

المؤلف:

السيد هاشم الحسيني الطهراني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
المطبعة: المصطفوي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

الدخول فى الوجود كما ان الصورة المائية لا تمنع الصورة الهوائية عن الحلول فى مادتها ، وكلون الحمرة يشغل موضوع الصفرة فى بعض الفواكه ، قلت : ان ذلك كله بمعونة الغير ، وهم لا يقولون فى الفناء كذلك ، وان قالوه قلنا : فالاعدام يكون بذلك الغير ، ووجود الفناء وتأثيره موهوم.

قول الشارح : لما تقدم ـ فى المسألة الثالثة مشيرا إليه بقوله : على تقدير القول بعدم دخول الحادث فى الوجود.

قول الشارح : اما ان يكون الخ ـ لان الموجود فى الخارج ليس خارجا منهما.

قول الشارح : والا لم يوجد الجواهر ـ على فرض قولكم بانه ضد لها.

قول الشارح : وذلك يعطى امكانه الخ ـ اى فاذا لم يكن واجب الوجود بذاته فهو ممكن ان فرضناه موجودا فى الخارج كما تقولون ، ولكن الثانى اى كونه موجودا ممكنا باطل أيضا لانه حينئذ يصح عليه العدم ، فعدمه ان كان لذاته فهو ممتنع الوجود بعد ما فرضناه ممكن الوجود ، فهذا خلف ، ان التزمتم به التزمتم بانقلاب حقيقته ، وان كان عدمه بالفاعل فليكن عدم سائر الممكنات بالفاعل كما هو الحق ، فبطل بذلك اصل دليلكم لعدم الفرق بين هذا الموجود الممكن وغيره من حيث قبول العدم ، وان كان عدمه بفناء آخر ننقل الكلام فى ذلك ، فيلزم التسلسل.

ويمكن تقرير هذا الدليل على وجه آخر ، وهو ان الفناء حين وجوده اما واجب بذاته فهذا يستلزم انقلاب حقيقته من الامكان الى الوجوب الذاتى لانه قد كان معدوما من قبل والا لم يكن ما فرضناه فانيا به موجودا اصلا ، واما ممكن يصح عليه العدم والوجود ، فعدمه اما لذاته ، فهذا أيضا انقلاب من الامكان الى الامتناع الذاتى ، وعلى اى حال فالانقلاب هذا محال لما مر فى المسألة الرابعة والعشرين من الفصل الاول من المقصد الاول ، واما عدمه لغيره ، فذلك الغير اما الفاعل او انتفاء شرط لوجوده ، فهذا ترك للمدعى رأسا لعدم الفرق بين هذا الممكن وغيره فى ذلك ، واما فناء

٧٨١

آخر ضد له فيتسلسل.

اقول : ان الشروح متفقة فى تفسير انقلاب الحقائق بانقلاب حقيقة الفناء من الامكان الى الوجوب او الامتناع كما ذكرناه وهذا مخالف لظاهر العبارة لان الحقائق جمع محلى باللام يصلح ان يكون المراد به حقائق الاشياء ، ومخالف للواقع لان الفناء ليس له حقيقة كما عليه المصنف ، فالحق فى تفسير هذا الكلام ان يقال : ان الفناء لو فرض موجودا فاما واجب بالذات فينقلب حقائق الاشياء من الوجوب بالغير الى الامتناع بالغير فلا يوجد شيء فى الخارج لانها مع وجود الفناء الواجب بالذات يمتنع وجودها ، واما ممكن فيحتاج فى عدمه الى فناء آخر فيتسلسل.

قول المصنف : واثبات بقاء لا فى محل الخ ـ اعلم ان الاشاعرة وبعض المعتزلة ذهبوا الى ان الجوهر الحادث الموجود بعد آن حدوثه موجود بشيء غير وجوده وغير فاعله بمعنى ان ذلك الشيء شرط لوجوده.

ثم اختلفوا فقال قائلون : ان ذلك الشيء هو البقاء لا فى محل ، وهذا قول ابى الهذيل العلاف المعتزلى على ما حكى عنه فى مقالات الاسلاميين وابن شبيب على ما ذكر الشارح هنا ، وقال قائلون : هو البقاء الحال فى الجوهر الباقى ، وهذا قول الكعبى وجماعة من الاشاعرة ، وقال قائلون : ان ذلك هو الاكوان الاربعة ، وهذا احد قولى القاضى ابى بكر الباقلانى الاشعرى ، وقال قائلون : انه نوع من كل جنس من اجناس الاعراض فاذا لم يخلق فى الجوهر نوع منه انعدم ، وهذا قول امام الحرمين الجوينى وقول آخر للقاضى على ما نقل الشارح القديم.

ثم ان القائلين بالبقاء لا فى محل لم يصرحوا بانه جوهر او عرض وان كان ما لا فى محل جوهرا لا محالة ، ولكنهم لعدم تصريحهم يلزمون بالترجيح من غير مرجح ان قالوا انه جوهر وباجتماع النقيضين ان قالوا انه عرض على ما شرحه الشارح ، واما القائلون بانه فى المحل والقائلون بان شرط وجود الجوهر عرض غير البقاء وان لم يذكرهم المصنف فيلزمون بتوقف الشيء على نفسه.

اقول : ان المعقول من الفناء هو العدم ، لكن يتبادر منه عرفا العدم بعد الوجود

٧٨٢

فى قبال الحدوث الّذي هو الوجود بعد العدم ، والمعقول من البقاء هو الوجود مع تقيده بكونه بعد الحدوث ، هذا فى الحادث ، واما القديم تعالى فبقاؤه كونه ازليا ابديا دائميا يمتنع عليه تعالى العدم.

ثم ان هؤلاء القائلين بالبقاء لم يريدوا به الوجود ، بل قالوا : انه شرط لوجود الجوهر ، والشرط غير المشروط.

ثم ان القول بان الجوهر ينعدم بوجود ضد هو الفناء مع القول بانه ينعدم بانتفاء شرط هو البقاء فى شقاق لان كلا من الفريقين اكتفى فى انعدام الجوهر باحدهما ، واما ابن شبيب فقد جمع بينهما على ما حكاه الشارح رحمه‌الله عنه ، فمرجع كلامه الى ان الجوهر باق ببقاء غير حال فيه ويفنى بفناء حال فيه ، فيبقى عليه سؤال ان الفناء اذا حلّ فى الجوهر فما حال بقائه القائم بذاته؟!.

قول الشارح : الثانى ان يقال الخ ـ سائر الشارحين لم يذكروا هذا التقرير لان الخصم اى الاشعرى القائل بالبقاء يجوز ترجيح الشيء وجودا او عدما من دون مرجح ، فالنزاع يرجع الى المبنى.

قول الشارح : لاستحالة استناده ـ اى استناد عدمه او استناد ترجيح عدمه فان المآل واحد.

قول الشارح : يتوقف على وجود المحل الخ ـ لان البقاء لا يتصور الا مع امتداد لوجود الحادث حتى يتحقق معنى البقاء ، فلو حدث الشيء فى زمان وانعدم ولم يمرّ عليه زمان ثان لم يتصف بالبقاء.

المسألة الرابعة

( فى وجوب المعاد الجسمانى )

قول الشارح : اختلف الناس هنا الخ ـ اعلم ان الناس فى امر المعاد على فرق اربع :

٧٨٣

الاولى الفلاسفة الطبيعيون والدهريون واصحاب التناسخ والمشركون الذين نقل مقالهم فى مواضع من القرآن ، فانهم يقولون : ان الحى اذا مات فات وليس وراء ذلك شيء الا اصحاب التناسخ فانهم مع انكارهم للمعاد يقولون : ان الحى اذا مات انتقل روحه الى بدن آخر وهكذا الى ابد الآباد.

الثانية الفلاسفة الاولون القائلون بالمعاد الروحانى بمعنى بقاء النفس الناطقة مبتهجة بعقلها وهيئاتها الفاضلة الحسنة او معذبة كامدة بجهلها وهيئاتها الرذيلة السيئة ، وانكروا الجسمانى لشبهات يأتى ذكرها فى كلام المصنف ، ثم اتبعهم بعض من نشأ بعد الاسلام ، وسكت آخرون عن النفى والاثبات ، وصدقه بعضهم لضرورة ثبوته فى الاسلام وبعض آخر كصاحب الاسفار لدلالة العقل على وقوعه أيضا غير اخبار صادع الاسلام صلوات الله عليه وآله.

الثالثة القائلون بالمعاد الجسمانى فقط المنكرون للروحانى وهو قول اكثر المتكلمين على ما قال الرازى فى الاربعين ، ولم يقولوا ذلك الا لقصور فهمهم عن التحقيق فى امر النفس.

الرابعة المحققون من العلماء والحكماء ، فانهم قالوا بالمعادين معا ، واثبتوا للانسان حتى فى هذه الدار من حيث اللذات والآلام نشأتين ، وهذا هو الحق المحقق عند اهله.

قول الشارح : على وجوب المعاد مطلقا ـ اى مع قطع النظر عن كونه جسمانيا او روحانيا او معا.

قول الشارح : الاول ان الله تعالى الخ ـ صورة هذا الدليل ان الله تعالى وعد المطيع بالثواب واوعد العاصى بالعذاب ، والوعد والوعيد يجب ايفاؤهما عليه تعالى ، وهذا الايفاء لا يقع فى الدنيا قبل الموت لانا نرى ان الناس يموتون ولا يوفى لهم ذلك ولانه تعالى وعد واوعد بالايصال فى الآخرة ، فيجب عليه تعالى ان يحييهم فى الدار الآخرة للوفاء بوعده ووعيده لان خلف ذلك قبيح لا يصدر منه عز وجل.

اقول : ذكر الوعيد فى الدليل ليس بحسن وان اتى به الشارح رحمه‌الله طبقا

٧٨٤

لما فى كتب المعتزلة ، ولذا لم يذكره المصنف لان خلف الوعيد حسن مستحسن عقلا وشرعا لكونه عفوا وغفرانا كما يأتى فى المسألة التاسعة الا ان يكون هناك جهة اخرى تقتضى العمل بما اوعده.

روى المجلسى رحمه الله تعالى فى باب الوعد والوعيد من كتاب العدل من البحار عن محاسن البرقى بالاسناد عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجز له ، ومن اوعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار ، وهذا الحديث مروى بطرق الفريقين.

ثم ان هذا الدليل وكذا الثانى يتمشى عليه العدلية ، واما الاشاعرة المنكرون للحسن والقبح العقليين فتمسكهم فى اثبات اصل المعاد كالجسمانى منه بآيات الكتاب واحاديث السنة والاجماع ، واما الحكماء فلهم طريق آخر الى اثبات المعاد الروحانى مذكور فى كتبهم.

قول الشارح : الثانى ان الله تعالى الخ ـ حاصل هذا الدليل ان الله تعالى كلف العباد وفعل بهم الآلام ، وذلك اما كان عبثا والعبث ينافى الحكمة ، واما لفوائد راجعة حاصلة للعباد ، وحصول تلك الفوائد اما فى الدنيا وذلك يستلزم العبث أيضا لان كل فائدة دنيوية فرضت يمكن ايصالها الى العبد ابتداء من دون تحمل التكليف والمشاق ، فلا بد ان يكون حصولها فى الدار الاخرى ، وذلك يستلزم البعث بعد الموت.

قول الشارح : اختلف الناس فى المكلف ما هو الخ ـ اعلم ان هاهنا ثلاثة مباحث :

المبحث الاول

ان الناس اختلفوا فى حقيقة الانسان التى يحكى عنها بانا وتخاطب بخطابات وتكلف بالتكاليف.

٧٨٥

فالحكماء قاطبة وقليل من المتكلمين على انها جوهر مجرد متعلق بالبدن تعلق التدبير ، لا يفنى بفناء البدن ويبقى ابدا لتجرده ذاتا عن المادة القابلة للفساد ولواحقها ، وهو مناط كل حكم فى الانسان من حيث هو انسان ، إلا شرذمة من الفلاسفة الاقدمين على اختلاف كثير بينهم ، يبلغ اقوالهم اكثر من عشرة ، فانهم ذهبوا الى ان النفس جسم او جسمانى ، حكاها فى الاسفار عن الشفاء ، واوّلها الى ما يوافق مذهب جمهور الحكماء خلافا للشيخ فانه نقضها وردها.

ثم ان صاحب الاسفار استدل فى السفر الرابع باحدى عشرة حجة على تجرد النفس وبآيات واحاديث لا يقصر جميعها عن اثبات المطلوب وان امكن المناقشة فى بعضها.

ثم ان الصوفية موافقون للحكماء فى تجرد النفس ، لكنهم لم يستدلوا عليه كما استدلوا ، بل تكلموا فيه على سبيل ادعاء الكشف والوجدان بعبارات رمزية وكنائية وبعضها ظاهرة على ما نقلها الاسفار.

واما المتكلمون فمنهم من قال : ان الانسان هذا الهيكل المحسوس مع اعراضه او بدونها ، ومنهم من قال : ان الانسان اعراض ينعدم كالبدن بالموت ، ومنهم من قال. ان الانسان اجزاء جسمانية لطيفة سارية فى البدن باقية ، لا تتغير ولا يتطرق إليها الزيادة والنقصان اما لذاتها او لمنع البارى تعالى عن عروضها ، ومنهم من قال : الانسان مجموع الروح والبدن.

ثم انهم تكلموا فى الروح والنفس والحياة ، فمنهم من ذهب الى انها ليست شيئا وراء البدن ، ومنهم من ذهب الى ان الروح هى الحياة بعينها صار البدن به حيا وبالاعادة إليه يوم القيامة يصير أيضا حيا ، ومنهم من قال : ان الروح هى المزاج ، ومنهم من قال : انه عرض فى البدن ، ومنهم من قال : ان الروح جسم وان الحياة عرض ، ومنهم من قال : ان الروح والحياة الدم الصافى ، ومنهم من قال : ان الحياة عرض وهى غير الروح والروح غير النفس ، وهذه الاقوال مذكورة فى مقالات الاسلاميين وغيره.

٧٨٦

اقول : الحق ان الانسان هو الروح المجردة عن المادة وعلائقها ذاتا ، وهى غير البدن وان كانت شديدة الاتصال والعلاقة به ، ويطلق عليها الروح باعتبار تجردها الذاتى ، والنفس باعتبار افعالها وتحريكاتها ، والقلب باعتبار عقائدها وتقلباتها ، والعقل باعتبار مدركاتها العلمية.

واما الحياة فهى قوة فى البدن تكون منشئا لفعل النفس ودركها بالآلات البدنية ، فهى باقية ما دامت النفس متعلقة بالبدن ، فاذا انقطع التعلق زالت فلا تفعل ولا تدرك ما بها كانت تفعله وتدركه ، وهذه الحياة غير الحياة الذاتية للنفس لانها بعد انقطاع العلاقة إيضاحية.

واما مناط كونه مكلفا فهو كونه عقلا لان الجهل لا يليق بالخطاب ومرفوع عنه التكليف كما ورد فى الحديث ان الله تعالى لما خلق العقل قال له : ادبر فادبر ، ثم قال له : اقبل فاقبل ، فقال : وعزتى وجلالى ما خلقت خلقا احسن منك ، اياك آمر واياك انهى واياك اثيب واياك اعاقب ، وفى حديث آخر : لك الثواب وعليك العقاب ، وفى آخر : بك آخذ وبك اعطى ، وفى آخر : اذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا فى حسن عقله فانما يجازى بعقله ، وغير ذلك.

واما كون النفس غير البدن وانها مجردة ليست جسما ولا جسمانيا فهو مذهب جمهور الامامية والحكماء لدلالة آيات كثيرة واحاديث صريحة وادلة عقلية مذكورة فى محلها ، وظهور بعض الاخبار فى ان الروح جسم يحمل على الروح البخارى السارى مع الدم فى البدن الّذي يقال له الروح فى مصطلح الاطباء جمعا بينها وبين سائر الدلائل ، وذهاب بعض الفرق الضالة كالتناسخية والكرامية وغيرهما الى الحق فى هذا المبحث لا يمنع من قبوله لان الحق متبع اينما كان مع ان الامامية اخذوه من معادن الوحى لا منهم.

ثم ان القول بالمعاد البدنى ليس لان الانسان هو البدن او هو الروح والبدن جميعا ، بل القول به مأخوذ من ادلته التى تثبت للانسان الآلام واللذات الحسية

٧٨٧

فى النشأة الآخرة ، وهى لا تحصل للانسان الا بواسطة البدن ، وغيرها من سائر الادلة.

ثم ان حقيقة الانسان وان كانت هى النفس ، لكنها تكتسى فى كل عالم نزلت بحقيقة ذلك العالم لتتمكن من البقاء فيه والمفاعلات مع ما فيه ، ولهذا شواهد واشارات فى كلمات اصحاب الوحى ، وبهذا الاعتبار لا بأس بان يقال : ان حقيقة الانسان هو المركب من الروح والبدن.

المبحث الثانى

ان القائلين بالمعاد الجسمانى اختلفوا فى ان الّذي يعاد يوم القيامة ويكون منعما او معذبا سواء قلنا بتجرد النفس أم لا ما هو؟

فاقول : ان منهم من يقول : انه غير هذا البدن رأسا بمعنى ان النفس تتعلق لادراكاتها الحسية التلذذية او التألمية بجسم غير مربوط بهذا البدن اصلا ، ومنهم من يقول : ان الّذي يعاد عين هذا البدن الدنيوى ، ومنهم من يقول : انه مثله.

اما القائلون بالغيرية فمنهم من يقول : ان النفس بعد خراب البدن تتعلق فى هذه الدار لا فى دار اخرى ببدن آخر اشرف او اخس أو مساو للبدن الّذي كان لها من قبل ، وهكذا الى ابد الآباد ، والنفس فى كل تعلق مدبرة للبدن فعالة فيه مؤثرة به ، والتفاوت بحسب صور الابدان ، فتارة تنتقل من البدن الانسانى الى بدن طائر او دابة او انسان اجمل او اقبح او انثى او ذكر بحسب اوصافه الروحية التى كانت لها فى البدن السابق ، وهذا مذهب التناسخية لعنهم الله ، ولكن قد قلنا : ان هذا انكار للمعاد راسا وان كانوا مشتركين مع القائلين به فى تعلق النفس ببدن بعد خراب البدن.

ومنهم من يقول : انها تتعلق بعد المفارقة عن البدن الدنيوى بجرم الفلك او الهواء او الدخان حسب اختلافات النفوس لا ان تكون نفسا مدبرة له فعالة فيه مؤثرة به ،

٧٨٨

بل يكون موضوعا لادراكاتها الحسية فقط ، وليس هذا لكل نفس ، بل لنفوس البله ، واما العارفون فهم مستغنون عن المعاد الجسمانى باللذات العلية الاخروية ، وهذا قول الشيخ الرئيس ابى على بن سيناء تبعا للفارابى ، لكن لا على سبيل الجزم والتحقيق بالبرهان ، بل على سبيل عدم الامتناع والجواز.

قال فى النمط الثامن من الاشارات : والعارفون المتنزهون اذا وضع عنهم درن مقارنة البدن وانفكوا عن الشواغل خلصوا الى عالم القدس والسعادة وانتقشوا بالكمال الاعلى وحصلت لهم اللذة العليا وقد عرفتها ( اى اللذة العليا وهى اللذة الروحية العقلية وهى معنى المعاد الروحانى ) واما البله فانهم اذا تنزهوا خلصوا من البدن الى سعادة تليق بهم ، ولعلهم لا يستغنون فيها عن معاونة جسم يكون موضوعا لتخيلات لهم ، ولا يمتنع ان يكون ذلك جسما سماويا او ما يشبهه ، ثم صرح فى كتاب المبدأ والمعاد بان ما يشبهه هواء او دخان على ما نقل المصنف فى شرح الاشارات والمولى صدرا فى الاسفار والسبزوارى فى شرح المنظومة.

وغير خفى على العلماء منافاة هذين المذهبين ( والاول اشد نكرة ) لاصول الحكمة وما ثبت بالضرورة فى الشريعة ، بل ليسا الا انكارا للمعاد بالمعنى الّذي عند ارباب الوحى واصحاب الشرع ، وان مال الحكيم السبزوارى رحمه‌الله الى تصحيحه ببعض التوجيهات.

ولكن الشيخ اعترف فى الشفاء بالعجز عن تحقيق المعاد الجسمانى بالبرهان ، واشار الى وجوب الاعتقاد به لثبوته فى الشرع كالمصنف هنا.

قال فى إلهيات الشفاء : يجب ان يعلم ان المعاد منه ما هو مقبول من الشرع ولا سبيل الى اثباته الا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة وهو الّذي للبدن عند البعث ، وخيرات البدن وشروره معلومة لا يحتاج الى ان تعلم ، وقد بسطت الشريعة الحقة التى اتانا بها سيدنا ومولانا ونبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حال السعادة والشقاوة التى بحسب البدن ، ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهانى وقد صدقته النبوة وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالمقائيس اللتان للانفس ، وان كانت الاوهام منا تقصر

٧٨٩

عن تصورهما الآن لما نوضح من العلل ، والحكماء الالهيون رغبتهم فى اصابة هذه السعادة اعظم من رغبتهم فى اصابة السعادة البدنية ، بل كانهم لا يلتفتون الى تلك وان اعطوها ، ولا يستعظمونها فى جنبة هذه السعادة التى هى مقارنة الحق الاول على ما نصفه عن قريب.

والشيخ الاشراقى مع تصحيحه للمعاد الجسمانى بالقول بعالم المثال على ما يأتى بيانه إن شاء الله تعالى لم يتحاش عن هذا المذهب حيث قال فى المقالة الخامسة من كتابه : فصل فى بيان احوال النفوس الانسانية بعد المفارقة البدنية : والسعداء من المتوسطين والزهاد من المتنزهين قد يتخلصون الى عالم المثل المعلقة التى مظهرها بعض البرازخ العلوية ، ولها ايجاد المثل والقوة على ذلك ، فيستحضر من الاطعمة والصور والسماع الطيب وغير ذلك على ما يشتهى ، وتلك الصور اتم مما عندنا فان مظاهر هذه وحواملها ناقصة ، وهى كاملة ، ويخلدون فيها لبقاء علاقتهم مع البرازخ والظلمات وعدم فساد البرازخ العلوية ، انتهى ، ومراده بالبرازخ العلوية الاجرام السماوية.

واما القائلون بالعينية فهم فرقتان من المتكلمين :

الفرقة الاولى القائلون بجواز اعادة المعدوم على اختلافهم فى شأن النفس ، فهم قالوا : ان الله تعالى يعيد هذا البدن يوم البعث بعد ان كان يفنى وينعدم بالكلية ولكنهم لم يوجبوا العود بجميع خصوصياته واوصافه من الشكل واللون والمقدار وعود الشعر عليه لروايات ناطقة بتغير هذه الاوصاف فى المؤمن والكافر.

والفرقة الثانية المانعون للجواز ، فهم قالوا : الاجزاء تتفرق ولا تنعدم بالكلية ، ثم يجمعها الله تعالى يوم البعث ويحييها كما هو ظاهر بعض الآيات والاخبار من دون لزوم عود جميع الاوصاف ، لكن منهم من قال كالمصنف هنا فرارا عن بعض الشبهات : ان الاجزاء منها اصلية ومنها فضلية ، والمناط هو الاصلية ، وهى اجزاء فى البدن لا تتغير عما عليه ، بل تبقى فى خلال سائر الاجسام وان تحولت من مكان الى مكان حتى تجمع وتحيى ، ولا بأس بان يلتصق بها عند البعث اجزاء اخرى من هذا البدن

٧٩٠

او بدن الغير او غير البدن من سائر الاجسام.

ويرد على هذين المذهبين بعد قطع النظر عن جواز اعادة المعدوم وعدم جوازها ان القول بانتقال الانسان بالاجزاء العنصرية من هذه الدار الى الدار الآخرة ينافى ما نطقت به اخبار كثيرة من انخلاع الانسان عن خواص هذه الاجسام لا سيما اذا نزل فى الجنة الا ان يقال : انها تتحول عن حقيقتها كما يتحول بعض العناصر الى بعض.

ثم ان هؤلاء القائلين بالعينية مع القائلين بالمثلية على ما يأتى اقوالهم المختلفة متفقون على اتحاد الانسان فى الدنيا والآخرة من حيث ظاهره المشهود بحيث اذا رآه احد قال : هذا هو الشخص فى الدنيا كما ورد فى الحديث هذا المضمون ، واما القائلون بالغيرية فمفاد كلامهم ان الظاهر المشهود من الانسان غير ما كان أولا وان كانت النفس هى هى.

واما القائلون بالمثلية فهم ثلاث فرق : الاولى من قال : ان المناط كلّه هو النفس ، والمكلف فى الواقع ليس الا النفس ، والثواب والعقاب والالتذاذ والتألم والادراك والفعل انما هى لها ، والبدن انما هو آلة لها فى ادراكاتها الحسية وافعالها البدنية ، فلا بأس بان تتعلق عند البعث باجزاء غير اجزائها على مثل صورته التى كان فى الدنيا عليها ، ولا يلزم من ذلك ظلم لان الثواب والعقاب لا يرجعان الى الجسم ، وكل جسم تعلقت به النفس فهو بدنها ، وهذا القول يظهر من الغزالى فى مواضع من كتبه ، وهذا أيضا مناف لظواهر الآيات والاخبار.

والفرقة الثانية من قال بعالم المثال ، وهم الاشراقيون والصوفية ، ومجمل البيان فى عالم المثال ان العوالم ثلاثة : العقلى المحض الّذي هو متجرد عن المادة وعن الشكل والمقدار ، والحسى الّذي له المادة والشكل والمقدار ، وعالم المثال الّذي هو متجرد عن المادة لا عن الشكل والمقدار ، وهذا الثالث متوسط بين العالمين ويقال له : المثال الاكبر ، ونظيره المثال الاصغر وهو خيالنا الّذي يتحقق فيه صور الاشياء

٧٩١

بلا مادة مع شكل ومقدار مناسب ، والفرق بينهما ان موجودات المثال الاكبر قائمة بذاتها وموجودات المثال الاصغر قائمة بنا ، ثم ان الموجود المجرد يتنزل فى هذا العالم ويتلبس بالشكل كما ورد ان جبرئيل عليه‌السلام نزل على صورة بشر لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله وللانبياء عليهم‌السلام ولمريم الصديقة ، والموجود المادى الحسى يترقى إليه بانخلاع المادة وبقاء صورته وشكله ، ويقال لهذا العالم أيضا : الخيال المنفصل وعالم البرزخ ، وهؤلاء يقولون : ان البعث بتعلق النفس بالقالب المثالى وتدرك به الآلام واللذات الحسية وليس معه شيء من مادة هذا العالم.

قال الشيخ الاشراقى فى المقالة الخامسة من كتابه بعد ذكر عالم المثال : وهذا العالم المذكور نسميه عالم الاشباح المجردة ، وبه تحقق بعث الاجساد والاشباح الربانية وجميع مواعيد النبوة ، انتهى ، ومثلوا للقالب المثالى بالصورة فى المرآة اذا فرض قيامها بذاتها ، ثم تتعلق به النفس الانسانية.

والفرقة الثالثة عدة من المتأخرين كالمولى صدرا الشيرازى ومن تبعه ، وحاصل كلامهم ان نفس الانسان كما تدرك بدنها بالحواس تدركه بخيالها كما تدرك صور سائر الاجسام ذوات الاشكال والمقادير بقوة الخيال بعد غيبتها عن الحواس الظاهرة ، ويوضح ذلك ان الانسان يرى بدنه فى المنام بقوة الخيال لا بالحواس لانها نائمة غير مدركة حالة النوم ، وهذا امر ثابت بالوجدان ، ثم ان قوة خيال الانسان مجردة كنفسها ، وقد برهن على هذا المطلب صاحب الاسفار ، ثم ان قوة الخيال لتجردها لا تزول بفناء البدن ، بل تبقى مع النفس ابدا ، ثم ان النفس من حين مفارقة هذا البدن فى البرزخ وعند البعث وفى الجنة او النار تنشئ بقوة خيالها التى معها دائما بدنا خياليا به تلتذ بلذات حسية وتتألم بآلام حسية فى الدار الآخرة ، وهذا البدن عين بدنه فى الدنيا فى كل شيء الا انه منخلع عن المادة الدنيوية لان هذه المادة لو كانت معه لكانت هناك خواصها مع ان الثابت فى محله ان الدار الآخرة صافية عن خواص مادة هذا العالم ، وانما قال : ان ذلك البدن عين البدن الدنيوى لان شيئية الشيء بصورته لا بمادته ، وصورة البدن واحدة فى الدارين ، واما انا فعددت هذا القول من الاقوال

٧٩٢

بالمثلية لان جهة الحلول فى المادة الدنيوية من خصوصيات الصورة ما دامت فيها ، فاذا زالت تلك الخصوصية زالت العينية.

وحاصل هذا القول ان شيئية الشيء بصورته وصورة الانسان صورتان : احداهما الباطنة وهى النفس والاخرى صورته الظاهرة ، وكلتاهما باقيتان فى الآخرة ، فهذية الانسان محفوظة ، والصورة الظاهرة هى الصورة الخيالية الحافظة لمثل المحسوسات الخارجية ، وهى الباقية بعد خراب البدن مع النفس ابدا ، وهى المادة التى تقبل النشأة الآخرة وتنتقش فيها امثلة محسوساتها وصورها المفارقة عن مادة المحسوسات ، وتلذذ الانسان او تالمها بالآلام واللذات الحسية التى اثبتها لسان الوحى فى النشأة الآخرة انما هو بها.

اقول : كيف يتصور بقاء الصورة الظاهرة من دون المادة والنفس ليست قابلة لها ، وان كانت فاعلة اياها كما هو المصرح به فى كلامهم فكيف يتصور وجودها لا فى المادة ، وان كانت هى مادة للصور الحسية الاخروية.

ثم ان القولين مشتركان فى ان الانسان لا يتلبس من حين الموت الى آخر المراحل الاخروية بشيء من مادة هذا العالم الدنيوى ثانيا ، فعلى ذلك فتسمية المعاد بالجسمانى غير ما هو عند الباحثين ، فالاولى ان يسميا بالمعاد المثالى والخيالى.

ثم ان بعض هذه الاقوال لم يظهر منه حال النفس من حيث تعلقها بالقالب فى البرزخ قبل البعث.

فاقول : ان المستفاد من الآيات واحاديث اهل البيت سلام الله عليهم فى هذا الباب ان الروح اذا انخلعت من هذا القالب الجسمانى الدنيوى وقعت فى سعة من الادراك على خسب مراتب النفوس فى عالم يسمى بالبرزخ فى لسان الوحى ( سواء قلنا انها تتعلق بهذا البدن فى القبر زمانا ما للمسائلة على ما هو ظاهر بعض الاخبار أم لا ) وذلك بتعلقها بقالب من سنخ ذلك العالم مثل القالب الدنيوى ، فتدرك ما فيه من الملائمات أو المنافرات وما يلتذّ به او يتألم به ، بل يحصل للبعض ادراك منزله ودرجاته فى الجنة العالية او مقعده ودركاته فى تار جهنم ، وذلك العالم فى باطن هذا العالم الجسمانى

٧٩٣

عالياته وسافلاته وليس بخارج منه ، ولكنه محيط بهذا العالم من حيث الادراك ، من كان فيه يتمكن من الاشراف والاطلاع على وقائع هذا العالم ان اذن الله تعالى ، واما العكس فلا الا لبعض الاولياء الذين ماتوا وانخلعوا من علاقة هذه الحياة التى ليست الا لعبا ولهوا قبل ان يموتوا بزوال الحركة والاحساس عن هذا البدن.

ثم ان حقائق ذلك العالم كالعالم الاعلى منه لا تدرك الا بالورود عليها والدخول فيها كما اشير فى الحديث : ان الله يقول : اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، بله ما اطلعتكم عليه ، وهذا يدل على الاختلاف من حيث الحقيقة بين ما هنا وما هناك ، وقياس تلك الحقائق بهذه الحقائق وحصر حقائق الممكنات فى الجواهر الخمسة واعراضها وحصر كل منها فى انواعها واعطاء احكام ما ادركناه لما لم ندركه خرص لا يليق.

كيف وانهم لم يتحققوا حقيقة العقل المجرد المفارق ، بل عرفوه بما انه عقل وذلك من العوارض ، وبما انه مجرد عن المادة ولوا حقها وذلك من السلوب ، ولم يعرفوا حقيقة النفوس الكلية ولا الجزئية ، بل عرفوها بما انها متعلقة بالابدان مدبرة لها محركة اياها ، وان الجزئية منها متدرّجة فى الكمالات العلمية والعملية ، ولم يعرفوا حقيقة الجسم السماوى ، بل قالوا : انها عنصر خامس ، ولم يعرفوا حقائق ما اخبر عنه اصحاب الوحى صلوات الله عليهم من الملك والروح وغيرهما ، بل قالوا : انها مجردات لما سمعوا من اثبات بعض الاحكام لها فى الكتب الالهية والاحاديث الولوية من الاحكام السلبية او العرضية للمجردات.

كيف الحصر وحقيقة الوجود لا يمتنع عليها ان يحددها الله تعالى بحدود غير قابلة الاحصاء لنا غير هذه الحدود التى فى وسعنا ادراكها.

كيف ولا موجود يمكنه ان يدرك الا ما يجده فى ذاته وذيل ذاته وما هو من سنخه فى خارج ذاته بالمشابهة والقياس ، قال الله تعالى : ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) ، وتقديم الظرف يفيد الحصر ، وقال تعالى : ( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ

٧٩٤

مِنْها عَمُونَ ) ، وتدارك العلم هو تحققه بحيث يكون المعلوم وجدانيا لا يمكن الشك فيه كما ندرك ما فى ذواتنا الآن ، وهذا العلم غير حاصل لنا بامور الآخرة ونحن فى هذا العالم ، فالواجب الايمان بما اخبر الّذي ثبت صدقه بالبينات ، فالعوالم كثيرة ، وبعضها فى بعضها متداخلة ، وجوهر الروح لصفائه وتجرده ولطافته يمكنه التلبس والاكتساء باذن الله عز وجل بحقيقة كل عالم دخل فيه ليتمكن من البقاء فيه والمفاعلات والمداركات مع ما فيه.

فالحق ان الروح تتعلق بعد مفارقة هذا البدن بقالب كقالبها الدنيوى من حيث المشاهدة من سنخ حقيقة ذلك العالم التى لما ندركها ونحن فى هذا العالم ، والشاهد على ذلك احاديث نذكر منها عددا :

الاول ما رواه المجلسى رحمه‌الله فى سادس البحار المطبوع حديثا ص ٢٢٩ عن أمالي الطوسى بالاسناد الى ابن ظبيان ، قال : كنت عند ابى عبد الله عليه‌السلام فقال : ما يقول الناس فى ارواح المؤمنين بعد موتهم؟ قلت : يقولون : فى حواصل طيور خضر ، فقال : سبحان الله ، المؤمن اكرم على الله من ذلك ، اذا كان ذلك اتاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، ومعهم ملائكة الله عز وجل المقربون ، فان انطق الله لسانه بالشهادة له بالتوحيد ، وللنبى صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوة ، والولاية لاهل البيت شهد على ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام والملائكة المقربون معهم ، وان اعتقل لسانه خصّ الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعلم ما فى قلبه من ذلك فشهد به ، وشهد على شهادة النبي على وفاطمة والحسن والحسين على جماعتهم من الله افضل السلام ، ومن حضر معهم من الملائكة ، فاذا قبضه الله إليه صير تلك الروح الى الجنة فى صورة كصورته وفى رواية : فى قالب كقالبه فى الدنيا فيأكلون ويشربون ، فاذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التى كانت فى الدنيا.

الثانى ما رواه أيضا فى ذلك ص ٢٣٧ عن مشارق الانوار للبرسى عن الفضل بن شاذان من كتاب صحائف الابرار ان امير المؤمنين عليه‌السلام اضطجع فى نجف الكوفة

٧٩٥

على الحصى فقال قنبر : يا مولى الا افرش لك ثوبى تحتك ، فقال : لا ، ان هى الا تربة مؤمن او مزاحمته فى مجلسه ، فقال الاصبغ بن نباتة : اما تربة مؤمن فقد علمنا انها كانت او ستكون ، فما معنى مزاحمته فى مجلسه ، فقال : يا ابن نباتة ان فى هذا الظهر ارواح كل مؤمن ومؤمنة فى قوالب من نور على منابر من نور.

الثالث ما رواه أيضا فى ذلك الكتاب والباب ص ٢٦٨ عن الكافى بالاسناد الى ابى ولاد الحناط عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له : جعلت فداك يروون ان ارواح المؤمنين فى حواصل طيور خضر حول العرش ، فقال : لا ، المؤمن اكرم على الله من ان يجعل روحه فى حوصلة طير ، لكن فى ابدان كابدانهم.

الرابع ما رواه فى ص ٢٦٩ عن الكافى بالاسناد الى ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ارواح المؤمنين ، فقال : فى حجرات فى الجنة ، يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها ، ويقولون : ربنا اقم لنا الساعة وانجز لنا ما وعدتنا ، والحق آخرنا بأولنا.

الخامس ما رواه فى ص ٢٧٠ عن الكافى عن ابى بصير ، قال : قلت لابى عبد الله عليه‌السلام : انا نتحدث عن ارواح المؤمنين انها فى حواصل طير خضر ترعى فى الجنة وتأوى الى قناديل تحت العرش ، فقال : لا ، اذا ما هى فى حواصل طير ، قلت : فاين هى ، قال : فى روضة كهيئة الاجساد فى الجنة.

ثم ان الارواح هكذا باقية فى عالم البرزخ حتى يحكم الله تعالى على الدنيا وما فيها بالموت والفناء بل على سائر الاشياء من ذوات الحياة والارواح وغيرها من السماوات واهلها وما دونها على كيفية وردت فى الآيات والاخبار التى ذكرنا من قبل بعضها الا من شاء الله تعالى.

ثم يمضى الامر هكذا احيانا وذلك بين النفختين ، ثم اعيدت الاشياء كما بدأها مدبرها ، فارض غير هذه الارض وسماء غير هذه السماء ، فيرد الارواح الى الابدان ، فيشرع فى امور القيامة من السؤال والحساب والميزان وغيرها ، ففريق فى الجنة وفريق فى السعير.

٧٩٦

ثم ان البدن الّذي تتعلق به الروح عند القيامة ليس جامعا لجميع خصوصياته التى كانت له فى الدنيا من اللون والمقدار والتخطيط وغيرها من الاوصاف والاحوال ، بل هو هو من حيث المجموع كما هو الحال فى سنوات العمر فى الدنيا ، بل تبعثر القبور ويخرجون من اجداث الارض عند رد الارواح الى الابدان وان تفرقت اجزائها فى شرق الارض وغربها على بسيط الارض غير الارض قاعا صفصفا من دون الامت والعوج ممدودة لتسع الاولين والآخرين مع تغير فى الابدان من حيث الاوصاف والاحوال وبقاء اصل الاجزاء لان اجزاء ابدان ذوات الارواح الاصلية كذرات الذهب بين تراب الارض لا تتحلل ولا تختلط ، والله تعالى يجمع بعلمه وقدرته تلك الاجزاء لكل بدن من متفرقات الامكنة من بين سائر الاجزاء الارضية بانزال المطر عليها اربعين صباحا ويجعل فيه روحه ويحيى ويقوم فى عرصات المحشر.

ثم ان اهل العذاب بعد تمام امرهم يعذبون بهذه الابدان فى اجواف الارض ، وهذه مكان النار ، واما اهل الثواب فينزع ما فى صدورهم من غلّ ، وتخلص نفوسهم عن كل رذيلة ان كانت فيها ، وتصفى ابدانهم عن كثافات هذه الموادّ وكدورات هذه العناصر بغسلها بمطهر بعد مطهر حتى تسانخ حقائق الجنان وتناسب دار الكرامة والرضوان ، فينتقلون إليها ، ومكان الجنات على درجاتها ومقاماتها التى لا يحصيها الا هو عنده تعالى ، وفى بعض الاخبار انها فى السماء ، والسماء غير هذه السماء. وفى بعض آخر انها فوق السماوات تحت العرش.

المبحث الثالث

ان للمنكرين للمعاد الجسمانى شبهات أوردها واجيب عنها على ما هو دأب الباحثين.

الاولى المعروفة بشبهة الاكل والماكول وتقريرها على صور : هى ان انسانا او غير انسان لو اكل آخر او بعضه فالاجزاء المأكولة كانت اجزاء لاحدهما ثم صارت اجزاء للآخر ، فان اعيدت

٧٩٧

فى بدن احدهما لم يكن بدن الاخر معادا بعينه بعد ان عودها الى كل منهما معلوم امتناعه وعدم عودها الى واحد منهما مسلم انتفاؤه ، او ان كافرا لو اكل مؤمنا او بالعكس لزم مع ذلك تنعيم الكافر اذا اعيد اجزاؤه الى بدن المؤمن الاكل او تعذيب المؤمن اذا اعيد اجزاؤه الى بدن الكافر الاكل ، او ان الاموات لو تحللت اجزاء ابدانها فى الارض وتكونت من تلك الاجزاء معادن او نباتات او حيوانات ويأكلها الاحياء من المؤمنين والكافرين لزم ذلك كله أيضا ، او ان انسانا لو قطع عضو من اعضائه وتحلل بمرور الزمان ثم تكوّن منه مأكول ثم اكله ذلك الانسان بعينه ثم صار جزءا من عضو آخر له او اعضاء اخرى لزم بعد امتناع جعل ذلك الجزء جزءا من العضوين ان لا يعاد احد العضوين بعينه ، وحاصل جميع الصور ان اجزاء ابدان المكلفين وغيرهم من الحيوانات لا تزال تفسد وتتحلل وتتكون منها اشياء مأكولة من المعدن والنبات والحيوان ، وقد يصير اجزاء منها نطفة لانسان آخر وهكذا الى يوم القيامة ، فيمكن بل من الواقع ان يصير بدن واحد اجزاء لابدان وكل من هذه الابدان اجزاء لابدان اخرى وهكذا ، فيكون اجزاء بعينها ابدانا لنفوس كثيرة على عكس صورة التناسخ ، فبدن اى من تلك النفوس يعذب او ينعم مع ان منها نفوسا مؤمنة ونفوسا كافرة ، واجزاء ابدانها مشتركة ، وكلما بعد زمان نشو انسان من اوّل زمان الدنيا وقرب من آخر زمانها ازداد هذا الاشتراك ، فكيف يمكن عود بدن كل نفس يوم البعث بتمامه.

الشبهة الثانية ان الله تعالى اما ان يعيد جميع الاجزاء البدنية الحاصلة من اوّل العمر الى آخره اى كل ما تكوّن منه وما ازداد عليه فى خلال عمره وتحلل منه و ـ بقى له ، او القدر الّذي تكوّن منه فى ابتداء نشوه ، او القدر الحاصل له فى انتهاء عمره ، او احد المقادير الحاصلة له بين الابتداء والانتهاء ، والكل باطل ، لان الاول يستلزم عظم بدنه فى الغاية مع ان اكثر اجزائه من غيره لا محالة ، والثانى يستلزم صغره فى الغاية لانه فى اوّل نشوه كان نطفة ، والثالث يستلزم الاهمال او ايصال الحق الى غير مستحقه لان العبد يمكن ان يكون فى جميع عمره عاصيا وفى آخر عمره مطيعا او

٧٩٨

بالعكس ، فلو عذب العاصى فى آخر عمره فى تلك الاجزاء لزم اهمال الاجزاء المتحللة قبل ذلك فى الطاعة لعدم اثابتها ، ولو ثوب فى تلك الاجزاء لزم ايصال الثواب الى غير مستحقه ، وكذا الكلام فى المطيع فى آخر عمره العاصى قبل ذلك ، والرابع يستلزم الترجيح من غير مرجح.

فالجواب عن الشبهتين على القول بالمثلية كما عرفت فى المبحث الثانى ظاهر لا مئونة فيه لان المعاد الجسمانى على ذلك لا يستلزم عود البدن الّذي كان له فى الدنيا ، واما على القول بالعينية فالجواب المشهور ما فى كلام المصنف والشارح من ان لكل بدن اجزاء اصلية ، هى باقية من الاول الى الاخر ، لا تتحلل ولا تصير جزءا من غير ذلك البدن ، ولو اغتذى بها احد جعلت عند البعث فى بدن المأكول الّذي كانت تلك الاجزاء اصلية له ، ولا تجعل جزءا من بدن الاكل ، ثم لا بأس بان يلتصق بتلك الاجزاء الاصلية اجزاء اخرى من بدن او غير بدن لان مناط التعذيب والتنعيم تلك الاصلية كالروح فى مذهب من يقول انما المناط هى.

ويؤيد هذا القول ما رواه فى الكافى باب النوادر آخر كتاب الجنائز بالاسناد الى عمار بن موسى عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : سئل عن الميت يبلى جسده؟ قال : نعم حتى لا يبقى له لحم ولا عظم الا طينته التى خلق منها ، فانها لا تبلى ، تبقى فى القبر مستديرة حتى يخلق منها كما خلق اوّل مرة.

اقول : الاستدارة طلب الدور ، والدور هو التحرك عائدا الى ما كان عليه أولا ، واخبار الطينة وان الله عز وجل خلق الخلق من طينتين وماءين كثيرة ذكرها المجلسى رحمه‌الله فى البحار باب الطينة والميثاق من كتاب العدل ، وهى تدل على ان خلق الناس من جوهر من الجنة والعليين وجوهر من الارض والسجين بعد خلطهما ومزجهما ، والحسنات من العباد يقتضيها احدهما والسيئات يقتضيها الاخر ، فكل منهما تم اقتضاؤه باقتران الامور الخارجة ظهر آثاره ومنع الاخر منعا عن ظهور الآثار ، فذلك السعادة او الشقاوة ، ثم فى يوم الفصل يتزيل بين الجوهرين ويرجع كل الى اصله.

٧٩٩

ثم ان هذه الشبهة لم تبلغ فوق الاحتمال ، فلا موجب لرفع اليد بها عن ظواهر الآيات والاخبار من ان الله تعالى يبعث الخلق عن الاجداث وبطون الارض بجمع الاوصال وانبات اللحوم بعد امطار السماء على الارض اربعين صباحا فيعود بدنه الّذي مات عليه مع تغير فى بعض الاحوال والاوصاف اذ من الممكن ان لا يصير اجزاء البدن الانسانى جزءا من شيء ولا جزءا من بدن آكلها ، بل يدفع من باطنه بالتمام من دون ان تتحلل الى اجزاء بدن الاكل كالزيبق والنفط وغيرهما مما لو دخل فى جوف آكل خرج منه من دون التحلل ، كما يومى إليه قول الصادق عليه‌السلام فى حديث طويل ذكره فى الاحتجاج عن هشام بن الحكم وذكره المجلسى رحمه‌الله متفرقا فى البحار وكله فى باب احتجاجات الصادق عليه‌السلام جوابا عما قال الزنديق له : وانى له بالبعث والبدن قد بلى ، والاعضاء قد تفرقت ، فعضو ببلدة يأكله سباعها ، وعضو باخرى تمزقه هو أمّها ، وعضو قد صار ترابا بنى به مع الطين حائط ، قال عليه‌السلام : ان الّذي انشأه من غير شيء وصوره على غير مثال كان سبق إليه قادر ان يعيده كما بدأه ، قال اوضح لى ذلك ، قال عليه‌السلام : ان الروح مقيمة فى مكانها ، روح المؤمن فى ضياء وفسحة وروح المسىء فى ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا كما منه خلق ، وما تقذف به السباع والهوامّ من اجوافها مما اكلته ومزقته كل ذلك فى التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة فى ظلمات الارض ويعلم عدد الاشياء ووزنها ، وان تراب الروحانيين بمنزلة الذهب فى التراب ، فاذا كان حين البعث مطرت الارض مطر النشور فتربو الارض ثم تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب اذا غسل بالماء والزبد من اللبن اذا مخض ، فيجتمع تراب كل قالب الى قالبه فينتقل باذن القادر الى حيث الروح ، فتعود الصورة باذن المصور كهيئتها وتلج الروح فيها ، فاذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا.

قوله عليه‌السلام : تراب كل قالب الى قالبه ، الظاهر انه الطينة التى ذكر فى الحديث المذكور آنفا انها تبقى فى القبر مستديرة الخ فانها الجزء الاصلى سمى فى هذا الحديث بالقالب كما ان البدن كله قالب للروح ، ومقتضى الجمع بين الحديثين

٨٠٠