توضيح المراد - ج ١

السيد هاشم الحسيني الطهراني

توضيح المراد - ج ١

المؤلف:

السيد هاشم الحسيني الطهراني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
المطبعة: المصطفوي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

ان للانسان طينة اصلية لا تبلى ولا تتفرق ، وسائر اجزائه تبلى وتتفرق ، ولكن لا تتحلل ذراته كذرات الذهب فى خلال التراب ، ثم عند البعث تلتصق تلك الذرات بتلك الطينة ، ثم تعود صورتها عليها وتلج الروح فيها.

والحاصل ان هذه الشبهة نشأت من ملاحظة ان بدن الانسان يتمزق ويتفرق اجزاؤه فى تراب الارض وتصير مادة من النباتات او نطفا للاناسى والحيوانات او يأكلها آكلون بعض الاحيان من دون تحولها كذلك وتصير اجزاء لابدان آخرين ، وكل ذلك حكم على الشيء بالمشاهدة والقياس ، والحكم كذلك لا يفيد الجزم لان الكلية وهى ان كل ما يكون فى الارض اذا قارب عروق الاشجار تمصصته ويصير جزءا منها وكل ما دخل فى جوف آكل يتحلل الى اعضائه ممنوعة ، على ان تداخل الذرات مع غيرها باى وجه كان لا يضرّ بالمطلوب لان الله تعالى يستخلصها من اى حيز كانت فيه.

الشبهة الثالثة ان المعاد الجسمانى هو عود البدن المعدوم ، واعادة المعدوم ممتنعة كما برهن عليه فى المسألة الاربعين من الفصل الاول من المقصد الاول.

والمتكلمون اجاب بعضهم بمنع الامتناع ، وبعضهم بان البدن لا ينعدم بل يتفرق اجزاؤه ثم يجمعها الله تعالى يوم القيامة كما اشار إليه المصنف فى المسألة الثالثة بقوله : ويتأول فى المكلف الخ ، وكما مر تقريره فى الجواب عن الشبهتين السابقتين.

اقول : لا يعقل العدم الصرف لشيء اذ لا اقل من كونه العلمى فى صقع الربوبية الّذي لا عدم هناك ولا يعقل له خارج حتى يتصور عدم هنا ، فالمعدوم فى العين مع بقاء كونه العلمى عند الله تعالى كما كان فى الازل لا امتناع فى اعادته مع انه تعالى مختار بالذات يمحو ما يشاء وان كان مجردا بابطال حده الماهوى وتوفى كينونيته الى صقعه الربوبى ، ويثبت ما يشاء بظهور كينونيته ثانيا فى الاعيان بالتحديد والانشاء كما انشأه أوّلا.

الشبهة الرابعة ان النفوس غير متناهية ، تستلزم ابدانا غير متناهية ، وجرم الارض

٨٠١

متناه لا يسع ابدانا غير متناهية ، والجواب ان النفوس متناهية ، والقول بعدم تناهيها باطل لان العالم حادث ، وعلى فرض كونه قديما لا يلزم من قدمه قدم النفوس ، وعلى فرض قدمها لا يلزم عدم تناهيها عددا دفعة فى الخارج ، بل عدم تناهيها تعاقبى ، فلا يكون الحاصل فى الخارج يوم البعث الا متناهيا وان بلغت فى الكثرة ما بلغت ، وازدياد حجم الارض بالتخلخل ممكن كما اشير إليه بقوله تعالى : ( وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ) ، وقد مر فى المسألة السابعة من الفصل الرابع من المقصد الثانى ما له تعلق بهذا المبحث ، على ان الخلق والحشر يكون لعالم بعد عالم بخلقه تعالى عالما ثم إماتته ثم حشره والحاقة بمقامه الابدى ثم خلق عالم آخر وهكذا.

روى الصدوق رحمه‌الله فى التوحيد باب ذكر عظمة الله عز وجل بالاسناد الى جابر بن يزيد الجعفى ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قوله تعالى : ( أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ، قال : يا جابر تأويل ذلك ان الله عز وجل اذا افنى هذا الخلق وهذا العالم وسكن اهل الجنة الجنة واهل النار النار جدّد الله عالما غير هذا العالم وجدد خلقا من غير فحولة واناث يعبدونه ويوحدونه ، وخلق لهم ارضا غير هذه الارض تحملهم وسماء غير هذه السماء تظلّهم ، لعلك ترى ان الله انما خلق هذا العالم الواحد ، وترى ان الله لم يخلق بشرا غيركم ، بلى والله لقد خلق الله الف الف عالم والف الف آدم انت فى آخر تلك العوالم واولئك الآدميين.

الشبهة الخامسة ان عود الروح الى البدن تناسخ والتناسخ باطل باعتراف القائل بالمعاد الجسمانى على ما برهن عليه فى المسألة الثامنة والعاشرة من الفصل الرابع من المقصد الثانى ، وبيان مفسدة التناسخ ان اجزاء البدن عند البعث اذا جمعت وتمت صورة البدن ثانيا واستعد لقبول النفس فى رحم الارض فهو امر بالقوة كما يستعد فى رحم الام لان فعلياته التى كانت له قد زالت وانتفت بالتفرق او الانعدام بعد مفارقة النفس ، والنفس امر بالفعل لان ما حصل لها فى مدة حياتها فى الدنيا باق له ببقائها ، فاذن ما يمكن ان يتعلق بهذا البدن هو نفس جديدة ساذجة لا النفس السابقة لان ما بالقوة لا يتحد مع ما بالفعل لتنافى الفعلية والقوة وامتناع رجوع ما بالفعل الى القوة ،

٨٠٢

والجواب ان تعلق النفس بالبدن اى بدن يمكن تعلقها به ليس من مصاديق رجوع ما بالفعل الى القوة ، بل النفس حافظة لصورها وكمالاتها الحاصلة بامداد المفارقات ، وتأخذ البدن آلة لادراك ما يناسخه والتأثير فيه فى اى عالم وقعت كما هو الشأن فى هذا العالم فان النفس تدرك الامور المادية وتفعل فيها بوساطة هذا البدن المادى.

ان قلت : كيف ذلك؟ وهو التزام بالتناسخ لان الاجزاء المنتشرة اذا جمعت واكتست صورة البدن استعدت لنفس جديدة ، فلو حلت فيه أيضا النفس السابقة لزم اجتماع النفسين فى بدن واحد ، وهذا مفسدة اخرى للتناسخ ، وهى تعدد الواحد ووحدة المتعدد ، قلت : تخصيص النفس بالبدن من قبل الفاعل لا القابل فان الفاعل يجعل البدن على خصوصية تستدعى النفس السابقة لا نفسا جديدة.

الشبهة السادسة ان تكوّن البدن العنصرى الّذي يقبل النفس يحتاج الى اعداد من السماويات وحصول استعداد بمرور الزمان كاحتياجه الى الفاعل ، والمعتقدون بالمعاد الجسمانى يقولون ان السماوات وما فيها تفنى يوم القيامة ، فمن اين يحصل الاعداد والاستعداد ، والجواب انها لا تفنى بالكلية ، بل تبدل الارض والسماوات غير هذه الارض والسماوات ويحصل ذلك من الارض والسماوات المبدلة.

الشبهة السابعة ان اعادة البدن لا يتصور لها غرض حكمى وما هو كذلك لا يصدر من الحكيم ، اما الكبرى فظاهرة ، واما الصغرى فلان الغرض من الاعادة على ما هو مذكور فى كلام القائلين بالمعاد البدنى ايصال الالم الحسى بالعاصى واللذة الحسية بالمطيع ، والاول لا يليق بالله الغنى الّذي لا يضره معصية من عصاه ولا يتصور فى حقه التشفي من الغيظ بالانتقام من الاعداء ، والثانى ليس فيه فائدة للعباد لان اللذة الحسية دفع للألم لان الاكل دفع لالم الجوع والشرب دفع لالم العطش والنكاح دفع لدغدغة وعاء المنى وهكذا ، ولا يليق بالحكمة ان يجعل العبد بحيث يتألم بشيء ثم يدفع ألمه بشيء آخر ، والجواب ان هذه الشبهة صدرت ممن لا عرفان له بشيء من المعارف فى المبدأ والمعاد ولم يفرق بين ما بالذات من الاغراض وما بالعرض منها ، فان الله تعالى خلق الخلق وجعلهم فى مسير الاستكمال وهيّأ لهم لذلك كل ما يحتاجون إليه على نحو

٨٠٣

اتم من الامور التكوينية والتشريعية وجعل غاية سيرهم ونهاية سلوكهم الوصول بكرامة الله تعالى ، والبقاء ببقائه فى البهجة والسرور ، والخلود فى اللذة التى لا سأمة معها ،.

والاستغراق فى الرحمة التى من حيث الخيرية للعبد ليس شيء فوقها. وهذا غرض حكمى لا ينكره عاقل ، واما كون اللذة دفعا للألم مع ان الامر ليس ذلك فقط فى هذه الدار فهو قياس لتلك اللذات الصافية التى لا تكون الا بإرادة مقيم الجنة التى هى شعاع إرادة الحق الاول تعالى بهذه اللذات المكدرة المنغصة المشوبة بالآلام والمتاعب والحرمانات فى هذه الدار الخسيسة الفانية ، واما ايصال الالم الحسى فليس غرضا بالذات اصلا لله تعالى ، بل هو يقع بالعرض لان حكمته تعالى اقتضت ان يسير العبد باختياره فى مسير هذا الكمال ، فاختاره لنفسه بسيئات الاعمال ما لا ينفك عنها من سيئات الجزاء.

الشبهة الثامنة ان الحشر اما لجميع الابدان او بعضها ، وكلاهما باطل ، اما الاول فلنزاحم الابدان فى المكان ، واما الثانى فللترجيح من غير مرجح مع خلف الوعد والوعيد بالنسبة الى البعض الاخر ، والجواب ان التزاحم لا يحصل لان الارض التى هى مكان الحشر تمدّ الى ان تسع الجميع.

اعلم ان المصنف لم يذكر من هذه الشبهات الا الاولى والثانية بالاشارة الى جوابهما بقوله : ولا يجب اعادة فواضل المكلف ، والثالثة من قبل بقوله : ويتأول فى المكلف الخ ، وذكر فيما يأتى خمسا اخرى غير هذه الثمانية نذكر ان شاء الله تعالى بيان كل منها فى محله عن قريب.

قول الشارح : على ما عرفت ـ فى المسألة الثالثة والرابعة والخامسة من الفصل الرابع من المقصد الثانى.

قول الشارح : التناسخية ـ روى فى الاحتجاج والمجلسى رحمه‌الله عنه فى رابع البحار ص ٣٢٠ وعاشرها ص ١٧٦ عن هشام بن الحكم انه سأل الزنديق أبا عبد الله عليه‌السلام فقال : اخبرنى عمن قال بتناسخ الارواح من اى شيء قالوا ذلك وباى حجة قاموا على مذاهبهم ، قال عليه‌السلام : ان اصحاب التناسخ قد خلفوا وراءهم منهاج الدين ، وزينوا لانفسهم الضلالات ، وامرجوا انفسهم فى الشهوات ، زعموا ان السماء

٨٠٤

خاوية ، ما فيها شيء مما يوصف ، وان مدبر هذا العالم فى صورة المخلوقين بحجة من روى ان الله عز وجل خلق آدم على صورته ، وانه لا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا نشور ، والقيامة عندهم خروج الروح من قالبه ولوجه فى قالب آخر ، ان كان محسنا فى القالب الاول اعيد فى قالب افضل منه حسنا فى اعلى درجة الدنيا ، وان كان مسيئا او غير عارف صار فى بعض الدواب المتعبة فى الدنيا او هوامّ مشوهة الخلقة ، وليس عليهم صوم ولا صلاة ولا شيء من العبادة اكثر من معرفة من تجب عليهم معرفته ، وكل شيء من شهوات الدنيا مباح لهم من فروج النساء وغير ذلك من نكاح الاخوات والبنات والخالات وذوات البعولة ، وكذلك الميتة والخمر والدم. فاستقبح مقالتهم كل الفرق ، ولعنهم كل الامم ، فلما سئلوا الحجة زاغوا وحادوا ، فكذّب مقالتهم التوراة ، ولعنهم القرآن ، وزعموا مع ذلك ان إلههم ينتقل من قالب الى قالب ، وان الارواح الازلية هى التى كانت فى آدم ، ثم هلم جرا تجرى الى يومنا هذا فى واحد بعد آخر ، فاذا كان الخالق فى صورة المخلوق فبما يستدل على ان احدهما خالق صاحبه ، وقالوا ان الملائكة من ولد آدم ، كل من صار فى اعلى درجة من دينهم خرج من منزلة الامتحان والتصفية ، فهو ملك ، فطورا تخالهم نصارى فى اشياء ، وطورا دهرية يقولون : ان الاشياء على غير الحقيقة ، فقد كان يجب عليهم ان لا يأكلوا شيئا من اللحمان لان الدواب عندهم كلها من ولد آدم ، حولوا فى صورهم فلا يجوز اكل لحوم القرابات.

قول الشارح : ابن الهيصم ـ هو محمد بن الهيصم من شيوخ الكرامية ، اجتهد فى ترميم مقالات رئيسهم ابى عبد الله محمد بن كرام من القول بانه تعالى جسم فاوّله الى القائم بالذات ، والقول بانه فى جهة الفوق فاوّله الى العلو ، وهكذا سائر مقالاته الشنيعة المذكورة فى كتب المذاهب الا القول بانه محل الحوادث فالتزمه ابن الهيصم ، كذا فى الملل والنحل للشهرستانى.

قول الشارح : الصوفية ـ سموا بذلك لانهم كانوا يلبسون الصوف لداعى الرياضة ، وهم فرق كثيرة ، قد ورد فى احاديث ائمتنا صلوات الله عليهم مذمتهم ، وفى وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لابى ذرّ رضي‌الله‌عنه : يا أبا ذر يكون فى آخر الزمان

٨٠٥

قوم يلبسون الصوف فى صيفهم وشتائهم يرون ان لهم الفضل بذلك على غيرهم ، اولئك يلعنهم ملائكة السماوات والارض ، وفى حديقة الشيعة عن البزنطى انه قال : قال رجل من اصحابنا للصادق جعفر بن محمد عليهما‌السلام : قد ظهر فى هذا الزمان قوم يقال لهم : الصوفية ، فما تقول فيهم ، قال عليه‌السلام : انهم اعداؤنا فمن مال إليهم فهو منهم ويحشر معهم وسيكون اقوام يدّعون حبّنا ويميلون إليهم ويتشبهون بهم ويلقبون انفسهم بلقبهم ويؤولون اقوالهم ، الا فمن مال إليهم فليس منا وانا منه براء ، ومن انكرهم وردّ عليهم كان كمن جاهد الكفار بين يدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قول المصنف : استبعادات ـ اى هذه الامور الخمسة اللازمة للمعاد الجسمانى التى ادعى الخصم امتناعها فيمتنع الملزوم على زعمه لا دليل تام على امتناعها ، بل ذلك صرف استبعادات ، ولا يخفى ان الصحيح ان يقال : وانخراق الافلاك وعدم تناهى القوى الجسمانية لان الخصم لا يستبعد الانخراق وعدم التناهى ، الا ان يجعل الامر الاول والثانى واحدا بان يقال : وحصول الجنة فوق الافلاك والحال ان عدم انخراق الافلاك امر مستدل عليه بزعم الخصم استبعاد لا دليل على امتناعه ، ويقدر فى الامر الخامس هكذا : ودوام الحركات فى الجنة مع تناهى القوى الجسمانية مستبعدة عنده لا دليل له على امتناعه.

قول الشارح : احدها ان السمع الخ ـ نجعل هذا الامر والّذي بعده واحدا لانهما اشارة الى شبهة طلب المكان لان المعاد البدنى الّذي هو حشر الانسان وتنعمه او تعذبه بالبدن لا يتيسر بدون المكان فاين مكان الحشر ومكان الجنة ومكان العذاب ، فالجواب ان مكان الحشر سطح الارض ، ومكان العذاب اجواف الارض ، ولا يتصور امتناع فى ذلك ، وان قيل : انها لا تسع جميع الابدان قلنا : ان كان الامر كذلك فمدّها واتساعها ممكن بالتخلخل ، واما مكان الجنة ففى جهة الفوق الى ما شاء الله تعالى ، والقول بامتناع انخراق السماوات وفنائها وتحولها عما عليه شبهة لا يسمع إليها بعد صراحة الآيات الكثيرة والاحاديث المتواترة فى ذلك على ان هذه الشبهة وامثالها مما يرجع الى

٨٠٦

فناء الممكنات منحلة بما سلف منا فى مبحث قدرته تعالى من انه تعالى مختار بالذات وخاصة الاختيار تساوى العدم والوجود فى كل ما انشأه على اى تقدير فرض.

قول الشارح : الثالث ان دوام الخ ـ توضيحه ان الانسان اذا احترق بالنار لا سيما تلك النار الموصوفة بتلك الاوصاف الهائلة فسد مزاجه وتفرق اجزاؤه ، واذا كان ذلك لم يبق علاقة للنفس بالبدن حتى يتألم الما حسيا ، فكيف تقولون : انه يبقى حيا ويتألم دائما ، والجواب ان تفرق الاجزاء كما امكن بعد التيامها امكن التيامها بعد تفرقها ، وكما امكن ذلك بفصل من الزمان امكن بلا فصل منه وبفصل قصير فى الغاية بحيث لا يحس كما قال تعالى : ( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ) ، فاذا تكرر التفرق والالتيام هكذا احس الالم دائما من دون ان يكون حيا لان الالتيام لا يبقى ولا ميتا لان التفرق لا يبقى كما قال تعالى : ( لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ).

قول الشارح : الرابع ان تولد الخ ـ بيانه ان النفس لا يتعلق بالبدن الا اذا استعد باستعداد خاص وهذا الاستعداد لا يحصل الا فى منى الرجل اذا وقع فى رحم المرأة ومضى عليه زمان ، واين المنى واين الرحم عند البعث والحشر ، والجواب أولا بالنقض كما ذكر الشارح ، وثانيا ان هذا الحصر لا دليل عليه ، بل الواجب حصول هذا الاستعداد لاجزاء جسمانية سواء كانت فى الرحم او فى وعاء آخر.

قول الشارح : الخامس ان القوى الخ ـ على ما مر بيان ذلك فى المسألة الثانية عشرة من الفصل الثالث من المقصد الاول ، والجواب ان القوة الجسمانية فعلا او انفعالا اذا كان بسبب المجرد آثارها كحركات الافلاك على ما عليه الفلاسفة يمكن ان تكون غير متناهية ، والنفس مجردة لا سيما فى الجنة

٨٠٧

المسألة الخامسة

( فى الثواب والعقاب )

قول المصنف : ويستحق الثواب والمدح الخ ـ اى ويستحق المكلف الثواب والمدح بالطاعة ، والطاعة تتحقق باحد الامور الاربعة : فعل الواجب ، وفعل المندوب ، وفعل ضد القبيح الّذي هو كفّ النفس عن القبيح ، والاخلال بالقبيح الّذي هو ترك القبيح من دون التفات إليه : والجامع بين الاخيرين هو مطلق الترك ، وتحقق الطاعة به احد المذهبين ، والمذهب الآخران الطاعة فى ترك القبيح لا تتحقق الا بكف النفس ، والتارك من دون الكف لا يستحق الثواب والمدح ، بل يظهر من بعض العبارات ان ذلك لا يسمى تركا ، وهذا قول ابى على الجبائى واتباعه ، ويأتى فى كلام الشارح ابطال مذهبه.

ثم ان المراد بالقبيح هاهنا اعم من الحرام فيشمل المكروه ، وان اريد به الحرام فقط فى اوّل الفصل الثالث من المقصد الثالث وفيما يأتى من قوله : وكذا يستحق العقاب الخ ، واما المباح فلا تتحقق الطاعة بفعله ولا بتركه الا ان يأتى به قاصدا لكونه مقدمة لواجب او مندوب او ترك قبيح اذ لا فرق فى استتباع الثواب بين ان يكون الواجب او المندوب او ترك القبيح نفسيا او غيريا كما لا فرق فى ذلك بين التعبدى والتوصلى ، وذلك لان الاستناد إليه تعالى يستتبع ثوابه سواء كان الحاكم به الشرع او العقل ، ولقوله تعالى : ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ ) الآية.

قول المصنف : بشرط فعل الخ ـ ان الطاعة لا تتحقق بصرف اتيان الواجب او المندوب او ترك القبيح ، بل يشترط بعد ذلك بان يأتى او يترك بداع إلهى ، ولذلك ورد فى الحديث : انه لا عمل الا بالنية ولا نية الا بالسنة ، فالعمل المحفوظ عند الله تعالى المجزى به فاعله يوم القيامة هو الّذي يوافق السنة بان يكون واجبا او مندوبا او ترك

٨٠٨

قبيح فى الشرع مقارنا للنية الالهية ، فلذلك لا ثواب للكافر على عمله عند الله عز وجل كائنا ما كان وان كان الله تعالى يتفضل عليه فضلا ما فى الدنيا او الآخرة ان اتى بعمل صالح فى نفسه.

ثم ان الداعى الإلهى هو ما يجعل العمل منتسبا الى ارادته تعالى ، وهو على وجوه : ان يأتى الفعل لوجوبه او ندبه شرعا ويترك لقبحه شرعا بحيث اذا سئل لم فعلت او تركت اجاب لانه واجب او مندوب او قبيح فى الشرع ، او ان يأتى لوجه الوجوب او الندب ويترك لوجه القبح ، والمراد بالوجه هو ملاك الحكم من المصلحة او المفسدة الواقعية التى يعلمها الشارع ويجعل الحكم عليها ملزمة كانت او غير ملزمة ، وجميع الملاكات يرجع الى ملاك واحد وهو القربة من الله تعالى ، بحيث اذا سئل لم فعلت او تركت اجاب لان اتقرب الى ربى عز وجل ، او ان يأتى او يترك بداعى الامتثال وهذا قريب من الوجه الاول ، او ان يأتى او يترك للتخلص عن غضبه او الفوز برحمته بحيث اذا سئل اجاب بذلك ، او ان يأتى او يترك بداعى الطاعة خالصا بحيث اذا سئل اجاب بان ربى عز وجل وجدته اهلا للعبادة والطاعة فعبدته واطعته ، وفى الحديث ان العباد ثلاثة : قوم عبدوا الله عز وجل خوفا فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلبا للثواب فتلك عبادة الاجراء ، وقوم عبدوا الله عز وجل حبا له فتلك عبادة الاحرار ، وهى افضل العبادة.

قول المصنف : والمندوب كذلك ـ اى وبشرط فعل المندوب لندبه او لوجه ندبه.

قول المصنف : والضد لانه ترك القبيح ـ اى وبشرط فعل ضد القبيح الّذي هو كف النفس عن القبيح ويكون كفّه هذا لاجل انه ترك للقبيح فى الشرع ، والحاصل انه يكفّ النفس عن الحرام او المكروه لحرمته او كراهته فى الشرع ، ولا بأس بان يقال : او لوجه حرمته او كراهته كما قلنا.

قول المصنف : والاخلال به ـ اى وبشرط فعل الاخلال بالقبيح الّذي هو تركه من دون التفات وميل من النفس إليه حتى يكفها عنه لاجل انه اخلال به وترك

٨٠٩

له اى لاجل ان المتروك حرام او مكروه فى الشرع.

ان قلت : كيف يتصور من غير الملتفت هذا التعليل ، قلت : هذا التعليل كامن فى نفسه وان لم يكن ملتفتا إليه ولا الى المعلل لانه اذا التفت وسئل : لم انت تركت الحرام الفلانى وغفلت عنه اجاب لانه حرام عند الله عز وجل.

قول المصنف : وظاهر ان المشقة الخ ـ اختلف الناس بعد اتفاقهم فى ارادته تعالى للطاعة من العباد واثابة المطيع يوم القيامة فى لمية التكليف والطاعة. فالاشاعرة استراحوا الى انكار اللمية رأسا ونفى الاغراض فى افعاله تعالى ونفى وجوب شيء عليه تعالى لتحصّل غرضه.

واما الحكماء فنعيم الآخرة وعذابها عندهم معلول بالذات للملكات الفاضلة والرديئة ، راجع النمط الثامن فى الاشارات.

واما العدلية فالاكثر على ان لميّته استحقاق العبد للثواب والمدح فى الدار الآخرة ، فان اداء الطاعات علة لاستحقاق العبد لذلك علية جعلية بمعنى ان الله تعالى بمقتضى حكمته وعدله ووعده يثيب العبد المنقاد الّذي اتى بما كلفه ، لا علية ذاتية كما يقول الحكماء ، وهذا مذهب المصنف.

وبعضهم كأبي القاسم الكعبى البلخى من المعتزلة والشيخ المفيد رحمه الله تعالى الى ان الطاعة من العباد اوجبها ما سلف من انعامه تعالى عليهم ، واداء الطاعات معلول لانعامه وعلة لاداء شكره تعالى على نعمائه ، اى ان العقل وكذا الشرع يوجب على الانسان ان يطيعه تعالى لاداء شكره على نعمه.

قال الشيخ المفيد رحمه الله تعالى فى اوائل المقالات : واقول ان نعيم اهل الجنة على ضربين فضرب منه تفضل محض لا يتضمن شيئا من الثواب ، والضرب الاخر تفضل من جهة وثواب من اخرى ، وليس فى نعيم اهل الجنة ثواب وليس بتفضل على شيء من الوجوه ، فاما التفضل منه المحض فهو ما يتنعم به الاطفال والبله والبهائم اذ ليس لهؤلاء اعمال كلفوها فوجب من الحكمة اثابتهم عليها ، واما الضرب الاخر فهو تنعيم المكلفين ، وانما كان تفضلا عليهم لانهم لو منعوها ما كانوا مظلومين اذ ما سلف لله تعالى

٨١٠

عندهم من نعمه وفضله واحسانه يوجب عليهم اداء شكره وطاعته وترك معصيته ، فلو لم يثبهم بعد العمل ولا ينعمهم لما كان لهم ظالما فلذلك كان ثوابه لهم تفضلا ، واما كونه ثوابا فلان اعمالهم اوجبت فى جود الله تعالى وكرمه تنعيمهم واعقبتهم الثواب واثمرته لهم فصار ثوابا من هذه الجهة وان كان تفضلا من جهة ما ذكرناه ، وهذا مذهب كثير من اهل العدل من المعتزلة والشيعة ، ويخالف فيه البصريون من المعتزلة والجهمية ومن اتبعهم من المجبرة ، انتهى ، والمصنف ردّ هذا المذهب بقوله فيما يأتى : وايجاب المشقة الخ.

اقول : الثواب والتفضل متقابلان لا يجتمعان فى شيء واحد لان التفضل عطاء بلا استحقاق والثواب عطاء بالاستحقاق ، نعم الاستحقاق ليس بالحق الاصالى بل بالحق الّذي جعله الله تعالى لعباده حسب وعده على ما يشهد به الآيات والاخبار ، فنعيم الجنة ثواب بهذا الاستحقاق ، ولكنه مع ذلك لا يقابله اعمالنا بل لا بدّ من فضله علينا لان اعمالنا متناهية لا تقابل النعيم اللامتناهى ، فالحق ان نعم الجنة تستدام علينا بفضله لا ان كل نعمة ثواب من جهة وتفضل من جهة اخرى.

قول الشارح : مع القصد الى الرفع منه ـ اى مع القصد من المادح الى رفع الممدوح والانباء عن ترفع مقامه لان المدح ككثير من الافعال ذو اضافة لا يتحقق عنوانه الا بقصد اضافته.

قول الشارح : على مذهب من الخ ـ هذا المذهب ان الترك والفعل ضدان ، ولا يكونان ضدين الا ان يكون الترك كف النفس لا الاعم منه ، وعلى هذا المذهب ففعل ضد القبيح الّذي هو كف النفس هو الترك والترك هو فعل ضد القبيح ، فبينهما التساوى فلا يكون عدم الفعل بدون الكف تركا ، والمذهب الاخر ان الترك اعم من فعل ضد القبيح لانه شامل له وللاخلال الّذي هو عدم الفعل من دون الكفّ.

قول الشارح : ومنع ابو على وجماعة الخ ـ توضيح ما تمسكوا به لمذهبهم ان المطلوب بالنهى هو الكف فاذا اتى به العبد فقد اتى بالمطلوب واتيان مطلوب الشارع هو الطاعة دون غيره ، واما ان المطلوب بالنهى هو الكفّ فلان المكلف فى اى حال

٨١١

كان فاما آخذ فى فعل او كافّ عن فعل ويمتنع عليه الخروج عنهما فهو لا يقدر على غيرهما ، وغير المقدور لا يطلبه الشارع من العبد على قواعد العدلية ، والجواب ان مطلوب الشارع عدم وقوع القبيح سواء امسك العبد نفسه عنه او لم يلتفت إليه اصلا ، واما قولهم : يمتنع عليه الخروج عنهما فباطل لان القدرة كون الفاعل بحيث اذا شاء فعل واذا لم يشأ لم يفعل ، وعدم المشية يتحقق مع الالتفات وبدونه.

ثم انهم تجاوزوا عن ذلك الى الالتزام بان الاخلال بفعل الواجب أيضا لا تتحقق به المعصية لعدم القدرة على الاخلال لعين ما ذكروه من الدليل بعد اعتراض الخصم عليهم بان دليلكم يقتضي عدم تحقق المعصية فى الاخلال بالواجب ، والشارح اورد عليهم بان هذا الالتزام ظاهر فساده لان العقلاء يستحسنون ذم المخل بالواجب اى التارك له من دون التفات إليه كما يستحسنون الذم على فعل القبيح ، وذلك دليل على انه قادر على الترك وان لم يكن ملتفتا الى المتروك ولم يتصوروا منه كفّا ، فاذا ثبت هذا فى الاخلال بالواجب ثبت ان الاخلال بالقبيح كذلك.

وقد يجاب عن دليلهم بان قولكم : ان المكلف اما آخذ فى فعل او كافّ عن فعل ليس بصحيح لانه فى حال سلامة قواه وانتباه حواسه دائما آخذ فى فعل ما ولازمه الغفلة عما سوى ذلك الفعل لان الانسان يشغله كل شأن عن غيره ولم يجعل الله لرجل من قلبين فى جوفه ، وفى حال النوم او عدم سلامة قواه ليس له التفات الى فعل اصلا ، وهذا هو الحق.

قول الشارح : والدليل على استحقاق الخ ـ قد مرّ بعض الكلام فى ذلك فى المسألة الحادية عشرة من الفصل الثالث من المقصد الثالث ، وقد استدلوا أيضا عليه بآيات الجزاء والوعد والاخبار ، وقول المصنف فيما يأتى : ولدلالة السمع ناظر الى المقامين ، اى استحقاق الثواب واستحقاق العقاب.

قول المصنف : لاشتماله على اللطف ـ اى لاشتمال كون فعل القبيح والاخلال بالواجب سببا لاستحقاق العقاب والذم على اللطف ، ونفس مضمون هذه القضية لا تشتمل على اللطف ، بل اذا وقعت فى ذهن المكلف وعرفها ، فان المكلف اذا عرف

٨١٢

ان المعصية سبب لاستحقاق العقاب والذم يحصل فى نفسه خوف يمتنع بسببه عن ارتكاب المعصية فيبعد عنها ويحصل غرض البارى تعالى ، فلذلك قال الشارح فى تقريره : فلان المكلف اذا عرف ان مع المعصية الخ.

قول الشارح : لاشتماله على سبب الخ ـ اى لاشتمال كل من فعل القبيح والاخلال بالواجب على سببيته لاستحقاق العقاب ، وكونه سببا لذلك لوجهين ، فالاشتمال فى كلام الشارح هو اشتمال المعصية على سببيته لذلك من باب اشتمال الموضوع على المحمول ، وفى كلام المصنف هو اشتمال هذه القضية باعتبار كونها معلومة للمكلف على اللطف من باب اشتمال القضية على لازمها.

قول الشارح : وتقريره ان العقاب لطف ـ فى هذا الكلام ايجاز فى الغاية لكن المراد يعلم من بيان الصغرى ، وتقديره ان اعلام المكلف وعرفانه بان المعصية سبب لاستحقاق العقاب لطف لان من المعلوم يقينا ان نفس العقاب ليس لطفا.

قول الشارح : واما الكبرى فقد تقدمت ـ فى المسألة الثانية عشرة من الفصل الثالث من المقصد الثالث.

قول الشارح : وقد تقدم بيان ذلك ـ آنفا بقوله : ومنع ابو على وجماعة الخ ، وقد مر أيضا توضيحه.

اعلم ان ترك الواجب بمعنى كف النفس عنه غير معقول لان الانسان اذا اشتاق نفسه الى فعل الواجب يفعله لموافقة هواه لهوى مولاه بخلاف فعل القبيح فانه يرجح هوى مولاه ويكفّ نفسه عن الارتكاب وان كان يهواه ، فلا يتصور فى ترك الواجب الا الاخلال به ، فقول ابى على والجماعة قول غير معقول ، ولكنك عرفت انهم التزموا بذلك لعدم التفكيك بين هذا المقام ومقام الاخلال بالقبيح من جهة اقتضاء دليلهم ، ولكن عرفت انه مدخول.

قول المصنف : ولقضاء العقل به مع الجهل ـ اشارة الى قياس من الشكل

٨١٣

الثانى ، هو ان العقل جاهل بالتكاليف الشرعية وليس بجاهل بالشكر فليس التكليف شكرا.

واعترض عليه بان العقل يقضى باصل وجوب الشكر ، واما تعيين مصاديقه فعلى عهدة الشارع ، والتكاليف انما هى لذلك ، فالعقل جاهل بالتكاليف وجاهل بموارد الشكر التى هى عين التكاليف.

اقول : لا منافاة بين ان يكون اداء التكاليف شكرا لنعمه تعالى وسببا للثواب.

قول المصنف : ويشترط فى استحقاق الخ ـ قد مرّ الكلام فى هذا الاشتراط فى مسألة حسن التكليف من الفصل الثالث من المقصد الثالث ، فان التكليف الشرعى كما انه ليس قوامه بان يكون الفعل المكلف به شاقا كذلك استحقاق الثواب لا يشترط بالمشقة.

قول الشارح : اذ المقتضى لاستحقاق الخ ـ المقتضى له هو كون العبد فى مقام الانقياد بما يأتى ويترك ، والمقتضى لاستحقاق العقاب هو كونه فى مقام التمرد بما يأتى ويترك سواء كان ذلك شاقا عليه أم لا ، وسواء صادف الواقع أم لا ، وذلك لان الانقياد هو مناط صيرورة العبد مطيعا والتمرد هو مناط صيرورة العبد عاصيا ، والعبد المطيع مستحق للثواب والعاصى مستحق للعقاب ، ولو كان المقتضى لاستحقاق الثواب مشروطا بالمشقة لم يكن للاخلال بالقبيح ثواب ، ولكان الارتياح فى الحلال مقتضيا لاستحقاق العقاب ، ولكان الاشق مطلقا اكثر ثوابا ، ولم يكن لاصل الايمان ثواب مع ان ثواب الاعمال مشروط به ، والتوالى كلها باطلة ، واللزوم فيها ظاهر.

قول الشارح : وقد وجدت منفكة الخ ـ اى وقد وجدت وتحققت الطاعة منفكة عن الندم لان الندم فى حال الفعل ممتنع ، فحينئذ يتحقق استحقاق الثواب لتحقق مقتضيه الّذي هو الطاعة بلا مانع.

قول الشارح : نعم نفى الندم شرط الخ ـ لان بقاء الاستحقاق مشروط بموافاة الايمان الى آخر العمر ، والندم على الطاعة يكشف عن شكه فى الدين كما

٨١٤

ان الندم على المعصية يكشف عن اليقين فيه ، وسيأتى إن شاء الله تعالى زيادة توضيح لهذا البحث فى مبحث الموافاة.

قول الشارح : وكذا لا يشترط فى الثواب الخ ـ لان الطاعة تقتضى الثواب الاخروى حسب وعده تعالى ، والنفع الدنيوى المترتب على الطاعة فى بعض الاحيان كصحة البدن المترتبة على الصوم وتفرج الهم المترتب على سفر الحج مثلا لا يمنع ما اقتضاه الطاعة ولا يوجب حسن خلف وعده تعالى ، فلا ينافى النفع الدنيوى المترتب على الفعل او الترك ما وعده الله تعالى به عباده فى الآخرة اذا امتثله خالصا لله تعالى ، وانما المنافاة بينهما اذا اتى به لاجل النفع لا لله تعالى وحده.

ثم يبقى الكلام فى الادعية والصلوات وقراءة الآيات والصيامات المندوبة وغيرها التى بين الشارع ترتب منافع دنيوية عليها كرفع المرض وسعة الرزق وانكشاف الهم وهلاك العدو واداء الدين وغيرها ، فهل للعامل بها ثواب فى الآخرة مطلقا أم لا مطلقا أم اذا لم يترتب ذلك النفع أم اذا قصد القربة مع ذلك ان امكن ، فالوجه هو الاخير.

ثم ان الامر فى العقاب على عكس ذلك ، فان الله تعالى اذا عذب عبده فى الدنيا على عمل فهو اكرم من ان يعذبه مرتين كما هو مضمون بعض الاخبار.

المسألة السادسة

( فى صفات الثواب والعقاب )

قول الشارح : ان الثواب نفع عظيم الخ ـ على هذا التعريف يكون التعظيم والاهانة من مقومات الثواب والعقاب ؛ فليسا خارجين عنهما حتى يحتاج الى اشتراط الاقتران ؛ لكن امثال هذه الحدود ليست ذاتية ؛ واما الاشاعرة حيث لا يوجبون على الله تعالى شيئا فلم يشترطوا هذا الامر.

٨١٥

قول المصنف : ويجب دوامهما ـ اى بحسب الاستحقاق فلا ينافى عدمه فى الآخرة بعفوه ومغفرته وشفاعة اوليائه لمرتكب الكبيرة او ابتلائه ببلايا فى الدنيا. او ببعض العذاب فى البرزخ ، وكذا انقطاع عذاب بعض من دخل النار بالعفو والشفاعة بعد ثلاث مائة الف سنة كما فى بعض الاخبار او بعد احقاب كما فى الآية او اقل او اكثر على ما هو مذهب الامامية والمستفاد من اخبار كثيرة لان المؤمن المرتكب للكبيرة يستحق بايمانه الجنة على ما يأتى فى المسألة الثامنة.

قول المصنف : لاشتماله على اللطف ـ الكلام فى الاشتمال هنا كالكلام فى ذيل قوله : لاشتماله على اللطف فى المسألة السابقة.

قول الشارح : ذهبت المعتزلة الى ان الثواب الخ ـ الاقوال فى ذلك خمسة : الاول انهما دائمان ، وهذا قول جمهور اهل الاسلام ، الثانى ان الجنة والنار تفنيان وتبيدان ويفنى من فيهما حتى لا يبقى الا الله وحده كما كان وحده لا شيء معه ، وهذا قول جهم بن صفوان ، الثالث ان حركات اهل الجنة والنار تنقطع ويسكنون سكونا دائما ، وهذا قول ابى الهذيل العلاف والنظام المعتزليين ، لكنه لا محصل له الاقوال جهم ، الرابع ان اهل النار يتنعمون فيها كما ان اهل الجنة يتنعمون فى الجنة ، وهذا قول البطيخية ، الخامس ان مآل اهل جهنم كلهم الى النعيم ، وهذا قول الصوفية.

قول الشارح : وذهبت المرجئة ـ الارجاء بمعنى التأخير ، وفعله يهمز ولا يهمز ، والتأخير اما عن وقت او مكان او تأخير شيء عن شيء بمعنى عزله عنه والقول بانه ليس منه ، ويقال المرجئة لهذه الفرقة من المسلمين بالاعتبار الثالث فانهم يقولون : ان العمل ليس من الايمان ، وان العبد لا يعذب على ترك الطاعة وفعل المعصية اذا كان الايمان خالصا ، والايمان عندهم هو المعرفة بالله والمحبة وترك الاستكبار.

وفى الحديث : ان المرجئ يقول : من لم يصل ولم يصم ولم يغتسل من جنابة وهدم الكعبة ونكح أمه فهو على ايمان جبرئيل وميكائيل ، وما فى الاحاديث

٨١٦

الكثيرة عن ائمتنا عليهم‌السلام من ان العمل من الايمان ناظر الى نفى ما عليه المرجئة لعنهم الله.

قال الشهرستانى : المرجئة أربعة اصناف : مرجئة الخوارج ، ومرجئة القدرية ، ومرجئة الجبرية ، والمرجئة الخالصة ، وصالح بن عمرو الصالحى ومحمد بن شبيب وابو شمر وغيلان الدمشقى والخالدى جمعوا بين الارجاء والتفويض ، انتهى ، وهذه الفرقة والوعيدية على طرفى الافراط والتفريط فانهم يقولون بتكفير صاحب الكبيرة وتخليده فى النار.

قول الشارح : فى حكم الدائمتين ـ معنى الدوام الحكمى ما رواه العلامة المجلسى رحمه‌الله فى البحار باب ذبح الموت من كتاب المعاد عن محاسن البرقى وعلل الشرائع بالاسناد عن ابى هاشم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخلود فى الجنة والنار ، فقال : انما خلد اهل النار فى النار لان نياتهم كانت فى الدنيا لو خلدوا فيها ان يعصوا الله ابدا ، وانما خلد اهل الجنة فى الجنة لان نياتهم كانت فى الدنيا لو بقوا ان يطيعوا الله ابدا ما بقوا ، فالنيات تخلد هؤلاء وهؤلاء ، ثم تلا قوله تعالى : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ ) ، قال : على نيته.

ان قلت : ان من الجائز ان لو بقى الكافر آمن او بقى المؤمن كفر ، فللكافر ان يحتج يوم القيامة ويقول : يا رب ان كنت ابقيتنى فى الدنيا الى حين لكنت آمنت بك ، قلت : ذلك الى علمه تعالى فانه ان علم ذلك من عبد لم يخترمه قبله ، قال تعالى : ( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ).

قال المفيد رحمه الله تعالى فى اوائل المقالات : القول فى علم الله تعالى ان العبد يؤمن ان ابقاه بعد كفره او يتوب ان ابقاه عن فسقه أيجوز ان يخترمه دون ذلك أم لا ، اقول : ان ذلك غير جائز فيمن لم ينقض توبته ويرجع فى كفره بعد تركه ، وجائز بعد الامهال فيمن انظر فعاد الى العصيان لانه لو وجب ذلك دائما ابدا لخرج عن الحكمة الى العبث ولم يكن للتكليف اجر ، وهذا مذهب ابى القاسم الكعبى وجماعة كثيرة من

٨١٧

اصحاب الاصلح ويخالف فيه البصريون من المعتزلة ومانعو اللطف منهم وسائر المجبرة ، انتهى.

قول الشارح : لان دوام احد المعلولين الخ ـ المراد بالمعلولين المدح والثواب المعلولين للطاعة ، والذم والعقاب المعلولين للمعصية ، والحاصل ان دوام المدح يدل على دوام علته ودوام قرينه الّذي هو المعلول الاخر ، لكن العلة دائمة حكما لا حقيقة.

قول الشارح : هذا ما فهمناه الخ ـ الادلة الثلاثة لا تخلو عن مناقشات ، فالمعتمد فى هذا البحث السمع من الآيات والاخبار ، فانه يدل على دوام الثواب والنعيم لكل من يدخل الجنة ودوام العقاب لبعض من يدخل النار وخروج بعض آخر بعد التعذيب حينا على الاختلاف

قول المصنف : على تقدير حصوله فيهما ـ اى حصول الخلوص عن الشائبة فى العوض والتفضل.

قول المصنف : وهو ادخل الخ ـ اى والخلوص فى العقاب عن الشائبة اشد تأثيرا من حيث الزجر عن المعاصى وازيد لطفا ، والمراد بذلك ان الاعلام بخلوص العقاب لطف زائد على اصل الاعلام بالعقاب كما مر نظيره ذيل قوله فى المسألة السابقة ولاشتماله الخ ، ثم ان هذا الدليل على خلوص الثواب والعقاب لا يخلو عن مناقشة ، فالمعتمد هنا أيضا الادلة السمعية.

قول الشارح : ولعدم اجتهاده فى العبادة ـ اى لعدم ذلك فى الدنيا حتى يحصل له تلك الدرجة العظمى فى الآخرة وان تلك الدار ليست محل الاجتهاد فى العبادة.

قول الشارح : فانه يجب عليهم الشكر الخ ـ لان وجوب الشكر عقلى لا يختصّ بدار دون دار ، وقد ورد فى الآيات ان اهل الجنة يحمدون ربهم.

قول الشارح : والاخلال بالقبائح ـ اى ويجب عليهم الاخلال بالقبائح.

قول الشارح : ان شهوة كل مكلف الخ ـ اى لشدة فرحه وابتهاجه بما فيه

٨١٨

لا يخطر بباله ما هو اعلى منه.

فى تفسير القمى بالاسناد عن ابى بصير ورواه المجلسى فى ثامن البحار المطبوع حديثا ص ١٢٠ ، قال : قلت لابى عبد الله عليه‌السلام جعلت فداك يا ابن رسول الله شوقنى ، فقال : يا أبا محمد ان الجنة توجد ريحها من مسيرة الف عام ، وان ادنى اهل الجنة منزلا لو نزل به الثقلان الجن والانس لوسعهم طعاما وشرابا ولا ينقص مما عنده شيء وان ايسر اهل الجنة منزلة من يدخل الجنة فيرفع له ثلاث حدائق ، فاذا دخل ادناهن رأى فيها من الازواج والخدم والانهار والثمار ما شاء الله ، فاذا شكر الله وحمده قيل له : ارفع رأسك الى الحديقة الثانية ، ففيها ما ليس فى الاولى ، فيقول : يا رب اعطنى هذه ، فيقول : لعلى ان اعطيتكها سألتنى غيرها ، فيقول : رب هذه هذه ، فاذا هو دخلها وعظمت مسرته شكر الله وحمده ، قال : فيقال : افتحوا له باب الجنة ، ويقال له : ارفع رأسك ، فاذا قد فتح له باب من الخلد ويرى اضعاف ما كان فيما قبل ، فيقول عند تضاعف مسراته : رب لك الحمد الّذي لا يحصى اذ مننت على بالجنان وانجيتنى من النيران ، قال ابو بصير : فبكيت وقلت له : جعلت فداك زدنى ، قال : يا أبا محمد ان فى الجنة نهرا فى حافتيها جوار نابتات ، اذا مرّ المؤمن بجارية اعجبته قلعها وانبت الله مكانها اخرى ، قلت : جعلت فداك زدنى ، قال : المؤمن يزوج ثمان مائة عذراء وأربعة آلاف ثيب وزوجتين من الحور العين ، قلت : جعلت فداك ثمان مائة عذراء؟! قال : نعم ما يفترش منهن شيئا الا وجدها كذلك ، قلت : جعلت فداك من اى شيء خلقن الحور العين ، قال : من تربة الجنة النورانية ، ويرى مخّ ساقيها من وراء سبعين حلة ، قلت : جعلت فداك ألهنّ كلام يتكلمن به فى الجنة ، قال : نعم ، كلام يتكلمن به لم يسمع الخلائق بمثله ، قلت : ما هو ، قال : يقلن : نحن الخالدات فلا نموت ، ونحن الناعمات فلا نبأس ، ونحن المقيمات فلا نظعن ، ونحن الراضيات فلا نسخط ، طوبى لمن خلق لنا وطوبى لمن خلقنا له ، نحن اللواتى لو انّ قرن إحدانا علق فى جو السماء لأغشى نوره الابصار.

قول الشارح : يبلغ سرورهم بالشكر الخ ـ بل بشكره يتنعمون وبحمده

٨١٩

يلتذون اكثر مما يلتذون بنعم الجنات.

قول الشارح : فانه لا مشقة عليهم الخ ـ قد ذكرنا ان الاخلال بالقبيح لا مشقة فيه حتى فى الدنيا ، واما كفّ النفس عن القبيح ففيه مشقة فى الدنيا على بعض النفوس ؛ ولكن فى الجنة لا معنى لفعل القبيح اصلا لعدم اقتضاء ذلك فى نفوسهم لتطهّرها عن الخبائث ولعدم حرمانهم عما تشتهيه انفسهم آنا ما ؛ بل كل ما تشتهيه نفس فهو حاضر عنده فى الفور بالابداع ؛ فهو غنى بالثواب والنعمة هكذا عن القبيح ؛ ولا حالة انتظار له فى شيء حتى يحتال طريقا للوصول إليه فيختار طريق خطاء او صواب.

قول الشارح : وليس ذلك تكليفا الخ ـ اشارة الى الايراد الّذي اجيب عنه ؛ وهو ان اهل النار يفعلون ما اراد الله تعالى منهم ويتركون القبائح ؛ فيجب ان يثيبهم على ذلك ؛ فاما يثيبهم فهو يخالف خلوص العقاب واما لا يثيبهم فهو يخالف عدله ؛ والجواب ان ذلك منهم ليس على سبيل الاختيار بل يلجئون إليه ؛ والجزاء انما هو على الفعل الاختيارى وقد مر بعض التوضيح لذلك فى مسألة حسن التكليف.

قول المصنف : ويجوز توقف الثواب الخ ـ هذا ردّ على ما ذهب إليه المرجئة من ان الثواب فى الآخرة لا يجوز ان يتوقف الاعلى معرفة الله تعالى والخضوع له ومحبته ؛ واستدلوا على ذلك بان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يكتفى فى اوّل البعثة بذلك ؛ وكان يقول : قولوا لا إله الا الله تفلحوا ؛ وكان يقول من مات على ذلك دخل الجنة ؛ والجواب انه لو لم يجز توقفه على شرط لكان العارف بالله تعالى وان لم يصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مثابا فى الآخرة من اهل الجنة ؛ والتالى باطل باجماع المسلمين ؛ وان اكتفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك كان مختصا باول البعثة باجماع المسلمين أيضا مع انه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يكتفى به من دون تصديق رسالته.

ثم ان بعضهم حين الزم بهذه الامور زاد على معرفة الله عز وجل معرفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والاقرار بما جاء به من عند الله تعالى بالجملة دون التفصيل ،

٨٢٠