الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

للصلاة معك ثابتة على الإيمان بما جاء من عندنا ، وروى الحاكم عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله : (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ، قال : عليّ وأبو ذر (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي هو يقدّر ويعلم الوقت الذي تقدمونه فيهما (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي عرف انكم لا تتمكّنون من حصر الوقت المستحب ، فعن مقاتل أن الرجل كان يصلّي الليل كلّه مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام ، فلذلك طيّب سبحانه نفوسهم وقال : علم أن لن تحصوه ، لأنكم لا تطيقون معرفة ذلك بدقّة (فَتابَ عَلَيْكُمْ) بأن جعل ذلك تطوّعا ولم يجعله فرضا فغفر لكم ولم يلزمكم إثما ولا تبعة بل خفّف عنكم (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) في صلاة الليل عن أكثر المفسّرين. وقيل معناه : فصلّوا ما تيسّر من الصلاة ، فعبّر عن الصلاة بالقرآن لأنها تتضمّن القرآن ، وقراءة القرآن في ذلك الوقت محمولة على الاستحباب أيضا لا على الوجوب ، ثم اختلفوا في ذلك وفي القدر الذي تضمّنه هذا الأمر بقراءة القرآن فقيل هو خمسون آية ، وقيل مائة آية ، كما قيل مائتان ، وعندنا أنه خمسون آية لا على طريقة الوجوب (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) يقتضي التخفيف عنهم (وَآخَرُونَ) منكم (يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) يسافرون (يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) تجارة وسعيا وراء الكسب (وَآخَرُونَ) منكم أيضا (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) يجاهدون الكفار ، وحالهم تقضي بالتخفيف عنهم أيضا (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) أي من القرآن فاقرأوا ما قدرتم عليه ، وروي عن الإمام الرضا عليه‌السلام مرفوعا قال : ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بشروطها وحدودها الواجبة (وَآتُوا الزَّكاةَ) المفروضة (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أنفقوا في سبيل مرضاته وعلى عياله من الفقراء والمساكين (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي ما تقدّمونه بين أيديكم من طاعة ثوابها خير (تَجِدُوهُ) تجدوا ثوابه (عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) معدّا لكم عنده سبحانه (وَأَعْظَمَ أَجْراً) أني أكثر ثوابا (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) توبوا إليه

٢٦١

واطلبوا مغفرته (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) متجاوز عن ذنوبكم ، ساتر لها ، ذو صفح جميل لأنه شديد الرحمة بمخلوقاته.

* * *

٢٦٢

سورة المدّثّر

مكيّة وآياتها ٥٦ نزلت بعد المزّمّل.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠))

١ ـ ٧ ـ (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ ...) المدّثّر أي المتدثّر وقد أدغمت الثاء في الدال. وهو المتغطى بالثياب عند النوم لأن الدّثار هو الثوب. فقد خاطب سبحانه نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يا أيها الملتفّ بثوبه عند النوم قم فأنذر الناس وخوّفهم من عدم الإيمان بالله وأدعهم إلى التوحيد ، وخوّفهم النار وغضب الجبّار ، وعن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : أحدّثكم ما حدّثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي ، فنوديت ، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي فلم أر أحدا. ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء ـ يعني جبرائيل ـ فقلت دثّروني دثّروني.

٢٦٣

فصبّوا عليّ ماء ، فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ). وفي رواية : فحييت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض ، فجئت إلى أهلي فقلت : زمّلوني ، فنزل : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي فعظّم ربّك سبحانه ، وقيل : كبّره في الصلاة بأن تقول : الله أكبر (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي فطهّرها من النجاسات للصلاة. وقيل معناها : ونفسك فطهّر من الذنوب ، كما قيل : وثيابك فقصّر ، لأن تقصير الثوب يبعده عن النجاسة بعكس ما لو انجرّ على الأرض. وقد قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ كما في المجمع ـ : غسل الثياب يذهب الهمّ والحزن ، وهو طهور للصلاة. وتشمير الثياب طهور لها. وقد قال الله سبحانه : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) ، أي : فشمّر (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي اترك الأصنام والأوثان واهجرها واجتنبها تمام الاجتناب. وقال الكسائي. الرّجز بالضمّ : الصنم ، والرّجز بالكسر : العذاب (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) يعني : لا تعط أحدا عطيّة ليعطيك أكثر منها. وهذه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة لأن الله تعالى أدّبه بأشرف الآداب. وقيل إن من معناها ، لا تمنن بعطائك على الناس مستكثرا ما أعطيتهم فإن المنّ يكدّر الصّنيعة (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أي فاصبر على تحمّل أذى المشركين والكافرين متقرّبا إلى وجه ربك ، أو أصبر على أداء الرسالة وما تلاقي من مشاق ، طالبا بذلك رضى الله تعالى.

٨ ـ ١٠ ـ (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ، فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ...) أي إذا نفخ في الصور وقد مرّ تفسير مثلها في النفخة الأولى التي هي أول الشدائد والأهوال ، وقيل بل إذا نفخ فيه النفخة الثانية لبعث الخلائق وإحيائهم ، فذلك اليوم يكون عسيرا : صعبا شديدا (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) أي غير هينّ ولا سهل لما يرون من سوء العاقبة التي تنتظرهم.

* * *

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ

٢٦٤

وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١))

١١ ـ ١٧ ـ (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ...) نزلت هذه الآيات في الوليد ابن المغيرة المخزومي الذي كان معاندا للرسالة يكيد للنبيّ (ص) ويقف في سبيل الدعوة ، والذي استمع إلى القرآن وسأل جماعته من المشركين عن قولهم في النبيّ (ص) فقالوا إنه شاعر ، فعبس ثم قال : قد سمعنا الشعر فيما يشبه قوله الشعر ، فقالوا : نقول إنه كاهن ، قال : إنه لا يحدّث بما تحدّث به الكهنة ، قالوا : نقول : انه مجنون ، فقال : تأتونه فلا تجدونه مجنونا. فقالوا : ماذا نقول فيه إذا؟ ففكّر مليا ثم عبس قليلا ثم قال :

٢٦٥

تقولون إنه ساحر. فخرجوا وصاروا لا يلقى أحدهم النبيّ (ص) إلّا قال : يا ساحر يا ساحر فنزلت هذه الآيات التي فيها تهديد ظاهر لهذا الكافر إذ يقول لرسوله : (ذَرْنِي) أي دعني ومن خلقته متوحّدا بخلقه ولم يشاركني أحد في ذلك ، فاترك عليّ عقابه وأنا أكفيك ذلك. فخلّ بيني وبينه وغدا أريك ما أفعل به فقد خلقته وكان لا مال له ولا ولد (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) أي مالا كثيرا (وَبَنِينَ شُهُوداً) حاضرين قد كانوا عشرة فيما ذكر وكانوا يبقون بين يديه ولا يغادرون مكة لتجارة أو غيرها لأنهم أغنياء عن ذلك (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) أي وسّعت عليه في العيش وبسطت له فيه بسطا وسهّلت له الأمور (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي يطلب الزيادة ويرغب فيها دون أن يشكرني على ذلك. (كَلَّا) وهذا ردع وزجر له ، أي : لان لا يكون ذلك كما ظنّ هذا الكافر لي وبنعمتي ، فليمتنع ذلك الجاهل وليرتدع عمّا هو فيه من كفر (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي كان معاندا لحججنا ينكرها مع معرفته بصدقها ، ولذلك (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي سأحمّله مشقة عذاب لا راحة فيه بل فيه ازدياد. وقيل إنه سيتعبه في ارتقاء جبل من نار في جهنم اسمه صعود ، يأخذ المعذّب في ارتقائه فإذا وضع يده عليه ذابت من حرّه ، وإذا رفعها عادت ، ولذلك يصيب رجله إذا حطها عليه ، كما قيل إنه صخرة في النار ملساء يكلّف بصعودها فيفعل بعناء شديد ، ثم إذا ما بلغ أعلاها انحدر إلى أسفلها ، وذلك دأبه لا يفترّ عنه لأنه يضرب بسياط من نار من خلفه ، ويجذب بسلاسل من نار من أمام فيصعدها في أربعين سنة كما عن الكلبي.

١٨ ـ ٣١ ـ (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ...) أي أنه تأمّل وتفكّر فيما يقوله في نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيما يحتال به للباطل لا للحق لأنه سبحانه قال : فقتل أي لعن وعذّب كيف قدّر : أي على أيّ حال قدّر من الكلام لأنه لا يقدّر إلا سوءا ، فلعن على تقديره ذلك في آياتنا مع وضوح دلائلها وحججها.

٢٦٦

وقيل معناه : عوقب في الآخرة مرة تلو مرة ، وجاء في صيغة الماضي لتحقق وقوعه (ثُمَّ نَظَرَ) قلّب البصر في طلب ما يردّ به القرآن (ثُمَّ عَبَسَ) قطّب (وَبَسَرَ) كلح وجهه ونظر بكراهة (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن التصديق والإيمان وولّى ظهره له (وَاسْتَكْبَرَ) تعجرف حين دعي إلى الاعتراف بالوحدانية والرسالة (فَقالَ إِنْ هذا) ما هذا القرآن (إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي انه سحر يروى لواحد عن واحد من السّحرة. وقيل : يؤثر من الإيثار ، أي يستحسن لحلاوته (إِنْ هذا) ما هذا الكلام الذي سمعته من القرآن (إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) قول الإنس وليس من عند الله تعالى ولو كان كذلك لأتى السحرة بمثله ، ولكنهم عجزوا وقصّروا هم وغيرهم .. ثم هدّده سبحانه على هذه البدعة التي افتراها على رسول الله (ص) فقال : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأحرقه في نار جهنم التي لا يموت فيها ولا يحيا ، وألزمه بها فلا يغادرها. وقيل إن سقر دركة من دركات جهنّم وقد وصفها خالقها متعجبا : (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) أي ما معرفتك أيها السامع بسقر ، وهل تبلغ معرفتها ونعتها في هولها وشدّة عذابها وضيقها وكثير من صفاتها؟ لا فإنها (لا تُبْقِي) لسكّانها لحما إلّا أكلته (وَلا تَذَرُ) لا تدع لهم خلقا حين يعادون كما كانوا بل تشوّهه وتحرقه حتى تذيقهم ألوان العذاب بما تذيب من شحمهم ولحمهم وبما تدقّ من عظامهم وبما تسيخ من ألبابهم ، لأنها (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي مغيرة لجلودهم تجعلها محروقة سوداء أشد سوادا من فحمة الليل ، قد جعلنا (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) ملكا من ملائكة العذاب هم خزنتها لهم أعين كالبرق الخاطف وأنياب كالصياصي يخرج اللهب من أفواههم إذا تكلّموا ، وهم ذوو خلقة عجيبة وصفوا بأن ما بين منكبي كلّ واحد منهم مسيرة سنة ، وان كفّ الواحد منهم تسع مثل قبيلتي ربيعة ومضر نزعت الرحمة من قلوبهم ، ويقبض الواحد منهم على السبعين ألفا فيرميهم حيث أراد من جهنم يدعّهم فيها دعا ، هذا عدا عن بقية الملائكة الموكّلين بالعذاب ، والذين لا يحصيهم إلّا خالقهم عزوجل. وقيل في تخصيص هذا العدد أقوال كثيرة لا مجال لذكرها ،

٢٦٧

وأهمها ، أنه عدد يجمع أكثر القليل من العدد وأقلّ الكثير منه ، لأن العدد آحاد وعشرات ومئات وألوف ، فأقلّ العشرات عشرة وأكثر الآحاد تسعة ، والله تعالى أعلم بما أراد إذ قال عزّ من قائل : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي ما جعلنا الموكّلين بالنار إلا ملائكة وخلقنا شهوتهم في التعذيب لأهل النار (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لم نجعلهم في هذا العدد بالذات إلا محنة للكافرين الذين أنكروا الوحدانية ، وليفكّروا في ذلك مليّا فإنه سبحانه لا يفعل إلّا ما فيه الحكمة فكيف جعل هؤلاء تسعة عشر في حين أنه خلق ملكا واحدا يقبض أرواح العالمين جميعا ، فتبارك الله وتقدّس لأنه العالم بما خلق حين جعل تسعة عشر يسوقون الناس إلى عذاب جهنّم ولم يجعلهم أكثر ولا أقل (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ليصدّق اليهود والنصارى أن رسولنا محمد صادق في كلّ ما أخبر من كتبهم التي بين أيديهم من غير أن يقرأها ومن دون أن يتعلّمها منهم (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) أي ليزدادوا يقينا بهذا العدد وبصدق جميع ما جاء به رسولنا الكريم لأنه يخبر أهل الكتاب بما في كتبهم دون زيادة أو نقصان (وَلا يَرْتابَ) ولا يشك (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) بهذا العدد من خزنة جهنّم ، وليؤمن من لم يؤمن إذا تدبّر وفكّر في هذه الأمور التي يقولها رسولنا لهم (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي زيغ ونفاق (وَ) ليقول معهم (الْكافِرُونَ : ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً؟) أي ماذا أراد الله بهذا الوصف للعدد وليفكّروا فيصلوا الى التدبّر والإذعان والإيمان. واللام في (ليقول) هي للعاقبة ، أي ليكون عاقبة أمرهم أن يقولوا ذلك (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي كما جعلنا خزنة جهنّم ملائكة عددهم محنة واختيار ، فكذلك نكلّف الخلق ليظهر الضلال من بعضهم ، والهدى من بعضهم الآخر. وقد أضاف الهدى والضلالة إلى نفسه لأن سبب التكليف يأتي من جهته عزوجل. وقيل إنه يضل في الآخرة عن طريق الجنّة من يشاءوهم مستحقّو العذاب ، ويهدي إليه من يشاء ، وهم مستحقو الثواب (وَما

٢٦٨

يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي لا يعرف كثرة عددهم غيره ولم يجعل خزنة جهنّم تسعة عشر فقط لقلة جنوده ، بل فيها من ملائكة العذاب ما لا يحصي عددهم. غيره.

وقيل هذا جواب لأبي جهل حين قال : ما لمحمد أعوان إلّا تسعة عشر. وكان قد قال لكفّار قريش : ثكلتكم أمّهاتكم .. أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنّم؟ فقال أبو الأسود الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر : عشرة على ظهري وسبعة على بطني فاكفوني أنتم اثنين فنزل : وما يعلم جنود ربّك إلا هو ... وعاد سبحانه إلى ذكر جهنّم فقال : (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي موعظة وتذكرة للعالم لا بد أن يجتنبوها إذا عرفوا صفاتها ويحذروا عذابها وويلاتها.

* * *

(كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧))

٣٢ ـ ٣٧ ـ (كَلَّا وَالْقَمَرِ ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ...) أي : لا ، ليس الأمر كما يتوهّم الكفار من التغلّب على خزنة النار ، ثم أقسم سبحانه بالقمر لما فيه من الآيات العجيبة في مشارقه ومغاربه وزيادته ونقصانه وعكسه لنور الشمس على الأرض ، وبالليل إذا ولّى وذهب بعد انسلاخه من النهار (وَ) أقسم أيضا ب (الصُّبْحِ) نور الفجر (إِذا أَسْفَرَ) أضاء وأنار وكشف الظلام وتعارفت الأشياء والمخلوقات وقال بعض المفسّرين كأنه سبحانه أقسم بربّ هذه الأشياء لأن اليمين لا تكون إلّا به عزوجل (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) أي أن سقر التي تحدّثت عنها الآيات السابقة هي إحدى العظائم. وهذا جواب القسم ، والكبر جمع الكبرى أي العظمى (نَذِيراً

٢٦٩

لِلْبَشَرِ) أي مخوّفا ومنذرا ومحذّرا ممن ينبغي الحذر منه. وكلّ نبيّ نذير لقومه. وقد قيل إنه جلّ وعزّ وصف النار بأنها نذير للناس. أما نصب (نَذِيراً) فقيل إنه على الحال وذو الحال الضمير في إحدى الكبر العائد الى الهاء في (إِنَّها) وهي كناية على النار ، وتذكيره بناء على قولهم : امرأة طالق ، وقيل أيضا إنه حال يتعلّق بأول السورة ، أي : يا أيّها المدّثر قم نذيرا للبشر والأول أقرب للمعقول (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) أي ان يتقدّم في طاعة الله أو يتأخر عنها بارتكاب المعاصي ، فهذا الإنذار متوجه لمن يتمكن من اجتناب المعاصي واتّقاء العذاب بفعل الطاعات. وروى محمد بن الفضيل عن أبي الفضل عن أبي الحسن عليه‌السلام أنه قال ؛ كلّ من تقدّم إلى ولايتنا تأخّر عن سقر ، وكلّ من تأخّر عن ولايتنا تقدّم إلى سقر.

* * *

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨))

٣٨ ـ ٤٨ ـ (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ...) أي ان كلّ نفس مرهونة بعملها حبيسة مطالبة بما جنته من طاعات أو من معاصي (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) أي ما عدا الذين يعطون كتبهم بأيمانهم ، وهم المؤمنون العاملون للصالحات المستحقّون للثواب. وفي المجمع عن الباقر عليه‌السلام قال : نحن وشيعتنا أصحاب اليمين (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ) أي يسأل بعضهم

٢٧٠

بعضا عن حاله ، وقيل يتساءلون (عَنِ الْمُجْرِمِينَ) اي المذنبين الذين استحقّوا النار قائلين : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) أي ما أدخلكم في النار وأوقعكم فيها؟ وهو سؤال توبيخ وتقريع من أهل الجنة لأهل النار (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي لم نؤدّ الصلوات المفروضة بحسب تقرير الشرع لها (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي لم نخرج الزكاة من أموالنا ولم نعطها لأربابها ولا تصدّقنا على الفقراء والمساكين (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) أي كنا ندخل في كلّ باطل ونغوي مع الغاوين (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي كنّا ننكر البعث والحساب والثواب والعقاب كما ننكر الجنّة والنار (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) حتى أتانا الموت الذي هو حق ونحن على هذه الحالة أو معناه : حتى وصلنا إلى ما عاينّاه الآن (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي لا تفيدهم شفاعة الأنبياء ، ولا الملائكة كما تنفع غيرهم من الموحّدين ، وعن ابن مسعود قال : يشفع نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله رابع أربعة : جبرائيل ، ثم إبراهيم ، ثم موسى أو عيسى ، ثم نبيّكم (ص) لا يشفع أحد أكثر مما يشفع فيه نبيّكم (ص) ثم النبيّون ، ثم الصدّيقون ، ثم الشّهداء ، ويبقى قوم في جهنّم فيقال لهم : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) ، إلى قوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ).

* * *

(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

٤٩ ـ الى آخر السورة ـ (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ...) أي فما

٢٧١

بالهم قد انصرفوا عن القرآن الذي هو تذكرة وموعظة ولا شيء لهم في الآخرة إذا أعرضوا عنه في الدنيا. فلم ينفرون عنه ويفرون عن الدعوة إليه (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) أي كأنهم حمر وحشيّة نافرة هربا (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) يعني هربت خوفا من الأسد ، وكذلك هؤلاء الكفار كانوا يفرّون من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كلمّا رأوه يقرأ القرآن على الناس ويعظهم وينذرهم ويحذّرهم ويبشّرهم ويلقي عليهم أوامر الله تعالى ونواهيه (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي يودّ كلّ واحد منهم أن تنزل عليه كتب من السماء باسمه تأمره بالإيمان بمحمد (ص) وبالبراءة من العقوبة ، وبالنّعمة والدعة وإلّا فإنهم يقيمون على الضلال ، وقيل : بل يريد كلّ واحد منهم أن يكون رسولا ، ولذلك قال سبحانه : (كَلَّا) أي ليس الأمر كما قالوا ولا كما أحبّوا (بَلْ) هم (لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) لتكذيبهم بحدوثها ولو آمنوا بها لآمنوا برسولنا وبدعوته (كَلَّا) هذه ليست ردعا بل معناها : حقّا (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي القرآن فإن فيه تذكيرا (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي فمن أراد اتّعظ به وتذكّر (وَما يَذْكُرُونَ) أي ما يتذكّرون (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) يريد. وهذا لمشيئة غير الأولى ، لأن الأولى مشيئة اختيار والثانية مشيئة إجبار ـ. والمعنى انّ هؤلاء المعاندين من الكفّار لا يذكرون إلا إذا أجبرهم الله تعالى على ذلك (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي أنه سبحانه هو الجدير بأن تتّقى محارمه ويخشى غضبه ، وهو الغفّار المتجاوز عن ذنوب المخطئين. وعن أنس قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تلا هذه الآية فقال : قال الله سبحانه : أنا أهل أن أتّقى فلا يجعل معي إله ، فمن اتّقى أن يجعل معي إلها فأنا أهل أن أتّقى فلا يجعل معي إله ، فمن اتّقى أن يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له.

* * *

٢٧٢

سورة القيامة

مكيّة وآياتها ٤٠ نزلت بعد القارعة.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤))

١ ـ ٤ ـ (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ...) معناه : أقسم بيوم القيامة وعظمة ما يجري فيه من مظاهر قدرة الله تعالى. وحرف (لا) هنا صلة لأنه قيل : إن مجاري القرآن مجاري الكلام الواحد والسورة الواحدة ، بدليل أنه قد يذكر الشيء في سوره ويأتي بجوابه في سورة ثانية وكقوله تعالى حكاية عن الكفّار : يا أيّها الذي نزّل عليه الذّكر إنك لمجنون ؛ فقد جاء جوابه في سورة أخرى : ما أنت بنعمة ربّك بمجنون. والمعنى : لأقسمنّ بيوم القيامة وبالنّفس اللّوامة ، لا كما تظنون ، فإني أقسم بذلك. واللوامة هي كثيرة اللّوم لصاحبها يوم القيامة والندامة (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) أي هل يظن بأننا لن نقدر على جمع عظامه البالية المتفرّقة. و (أَلَّنْ) هي : أن ولن مدغمتان ، وقيل إن

٢٧٣

كل نفس تكون لوّامة لصاحبها يوم القيامة ، فالنفس البارّة تلوم صاحبها على عدم الازدياد في عمل الخير ، والنفس الفاجرة تلوم صاحبها على فعل الشر ، وكلّ نفس تلوم على ما مضى حتى في كثير من أفعال الدنيا. والسؤال : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ ...) سؤال إنكار على الكافرين بالبعث ، لا سؤال استفهام ، لأنه سبحانه قادر على البعث الذي كنّى عنه بجمع العظام بعضها الى بعض (بَلى) أي : نعم (قادِرِينَ) نحن (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) نؤلّف بينها حتى تستوي ، وتعود كما كانت من كبار العظام وصغارها ، نقدر على ذلك ولا يعجزنا هذا الأمر. و (قادِرِينَ) نصب على الحال بتقدير : بلى نجمعها قادرين على ذلك ، والعامل في الحال محذوف لدلالة ما تقدّم عليه كما في قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً) ، أي فصلّوا رجالا.

* * *

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥))

٥ ـ ١٥ ـ (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ...) هذا إخبار من الله تبارك وتعالى عمّا في علمه من شأن الإنسان وهو اعلم بما خلق إذ يقول : إن الإنسان الكافر يريد أن يمضي قدما في المعاصي ، راكبا عناده بحيث لا

٢٧٤

يقف عند حدّ ولا يتوب ، وهذا الانغماس في المعاصي يحجبه عن التفكير في أوامر ربّه فينكر البعث وغيره ، وقيل : ليفجر أمامه : أي ليفكر بما هو أمامه من البعث والحساب ويكذّب ، وأن الفجور هو التكذيب ، أي أنه يكذّب بما هو لاقيه فيعجّل بالمعصية ويسوّف بالتوبة ، ثم (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) أي متى تكون القيامة والحساب؟ وهو لا يستفهم بمقدار ما يسخر من ذلك ويكذّب به ، وقد أجاب سبحانه على ذلك بقوله : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) أي شخص عند معاتبة الموت وانخطف فهو لا يطرق من شدة الفزع (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) ذهب نوره (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) جمع بينهما بذهاب الضوء وتمام الخسوف والكسوف حيث تلفّ الأرض ظلمة هائلة ، ف (يَقُولُ الْإِنْسانُ) المنكر ليوم البعث (يَوْمَئِذٍ) في ذلك اليوم : (أَيْنَ الْمَفَرُّ) أي إلى أين المهرب؟ فيجيبه الكلام القدسيّ : (كَلَّا لا وَزَرَ) أي لا مهرب تهربون إليه ، ولأن الوزر ما يحصّن به كالجبل وغيره ، ومنه الوزير الذي يلجأ إليه في المهامّ (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أي أن المنتهى في ذلك اليوم إلى ربّك سبحانه وتعالى ، وهم صائرون إلى حكمه وأمره يوم (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ) يخبّر (بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) بأول عمله وآخره فيجازى بحسبه ، وقيل معناه بما قدّم من عمل قام به ، وبما أخّر ممّا سنّة فعمل به غيره بعد مماته (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) ذلك أنه يعرف ما قدّم وما أخّر. مضافا إلى أن جوارحه تشهد عليه بذلك فهو شاهد على نفسه بعلمه بما عمل وبشهادة جوارحه عليه. وما أحسن ما قاله القتيبي من أن الإنسان ها هنا هو الجوارح التي تشهد عليه ولذلك أنّث (بَصِيرَةٌ) وإن كان الأخفش قد قال هي كقولك : فلان حجة ، وهذا الأمر عبرة. وفي العياشي عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما يصنع أحدكم إن يظهر حسنا ويسرّ سيئا ، أليس إذا رجع الى نفسه يعلم أنه ليس كذلك ، والله سبحانه ، يقول : بل الإنسان على نفسه بصيرة. إن السّريرة إذا أصلحت قويت العلانية (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) يعني ولو

٢٧٥

اعتذر ودافع عن نفسه وجادل فإنه لا ينفعه ذلك ولو أدلى بكل حجة عنده.

* * *

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥))

١٦ ـ ١٩ ـ (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ...) الخطاب للنبيّ (ص) أي لا تحرّك لسانك بتلاوة القرآن حين الوحي به إليك ، ولا تتعجّل تلاوته قبل أن يقضى الوحي. فقد قال ابن عباس : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا نزل عليه القرآن عجّل بتحريك لسانه لحبّه إياه وحرصه على أخذه وضبطه مخافة أن ينساه ، فنهاه الله عن ذلك. (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) في قلبك وحفظه في صدرك (وَقُرْآنَهُ) وترتيبه وتأليفه بحسب نزوله عليك ، فلا تخف أن يفوتك شيء منه (فَإِذا قَرَأْناهُ) أي قرأه جبرائيل عليه‌السلام عليك بأمر منّا (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي قراءته إذا فرغ منها. وكان النبيّ (ص) بعد هذا إذا نزل عليه جبرائيل (ع) أطرق مصغيا ، فإذا ذهب قرأ. وقال البلخي : لم يرد القرآن هنا وإنما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة ، يدل على ذلك من قبله وما بعده ، وليس فيه شيء يدل على أنه القرآن ولا شيء من أحكام الدنيا. وفي ذلك تقريع للعبد وتوبيخ له حين لا تنفعه العجلة ، يقول : لا تحرّك لسانك بما تقرأه من صحيفتك التي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك ولا تعجل ، فإن هذا الذي هو على نفسه بصيرة

٢٧٦

إذا رأى سيئاته ضجر واستعجل فيقال له توبيخا : لا تعجل وتثبّت لتعلم الحجة عليك فإن نجمعها لك ، فإذا جمعناه فاتّبع ما جمع عليك بالانقياد لحكمه والاستسلام للتبعة فيه فإنه لا يمكنك إنكاره (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) ولو أنكرت ، أي علينا بيان ما أخبرناك عنه في الآخرة.

٢٠ ـ ٢٥ ـ (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ...) أي أنكم أيّها الكفار تختارون حبّ الدنيا وتعملون لها وتفضلّونها على الآخرة التي تذرونها : تتركونها ولا تعملون لعقباكم لجهلكم وسوء اختياركم ، ف (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (ناضِرَةٌ) حسنة البهجة ناعمة المنظر مضيئة بالسرور يعلوها نور الإيمان وتبدو عليها نعمة الرضى من الله تعالى ، وهي وجوه أهل الإيمان والطاعة الفائزين بالثواب وحسن المآب ، وتكون (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أن ناظرة إلى نعمة ربّها وثوابها على ما عملته في الدنيا وهذا كقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) ، أي : جاء أمر ربّك بحضور الملائكة فإن الله تعالى سبحانه عن الرؤية بالحاسّة. وقيل معناه : منتظرة لرحمة ربّها وغفرانه مؤمّلة بكرمه ومنّه (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) أي عابسة مقطّبة كالحة من خوف المصير وهي وجوه أهل الكفر والمعاصي (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي تعتقد أنها ستحلّ بها داهية تكسر فقرات ظهورها لأنها لم تقم بالطاعات ولم تعمل شيئا من الصالحات ، أعاذنا الله من سوء المصير بمحمد وآله الطاهرين.

* * *

(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦)

٢٧٧

أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

٢٦ ـ ٣٠ ـ (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ ...) أي حقا ما قلناه سابقا من شأن وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين ، فإذا بلغت روح المحتضر التراقي وهي العظام المحيطة بالحلق عظما الترقوة وما يليهما وكنّى بذلك عن الإشراف على الموت ، فإذا صارت الروح قرب اللهاة وحصل اليأس من المحتضر (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) أي وقال أهل المحتضر هل من أحد يرقي هذا المريض وهل من طبيب يشفيه؟ وقيل معناه : لو التمستم له الأطبّاء والرّقاة فلن يجيروه من عذاب الله ، كما قيل ان الملائكة يقولون : من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب لأن الأهل يجهّزون جسد الميّت والملائكة يجهّزون روحه (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) أي علم ذاك الذي بلغت روحه تراقيه أنه مفارق لأهله ودنياه (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) أي امتدّت ساقاه عند الموت لأنه ييبس بعد الموت ويلتفّ بعضه ببعض ، وقيل هو التفافهما في الكفن ، كما قيل هو التفاف أمر الدنيا بأمر الآخرة ، والأول أقرب إلى الصواب (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي أن المساق بعد هذه الحالة يكون إلى الله لجميع الخلائق بعد وفاتهم إذ له الأمر والنهي ، فمن كان من أهل الجنة فإلى الجنة ، وإن كان من أهل النار فإلى النار.

٣١ ـ إلى آخر السورة ـ (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ...) أي لم يصدّق بالله ولا بأوامره ولا بنواهيه التي نقلها رسله إلى العباد ، ولا صلّى لربّه الصلاة المفروضة (وَلكِنْ كَذَّبَ) أنكر ذلك كلّه واعتبره كذبا (وَتَوَلَّى) أعرض عن الإيمان والطاعة والعمل (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي أنه بعد سماع الدعوة إلى الإيمان عاد إلى أهله يتبختر في مشيته ويختال في خطراته متمرّدا على ما سمعه ، وقيل إن هذا نزل في أبي جهل (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي وليك المكروه والشرّ يا أبا جهل ولفظة (أَوْلى) مبتدأ وخبره (لَكَ)

٢٧٨

وقيل إنه خبر لمبتدأ محذوف بتقدير : الشّر أولى لك من الخير يا أبا جهل لشدة عنادك ، وفي المجمع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ بيد أبي جهل وقال له : أولى ، لك فأولى ، ثم أولى لك فأولى. فقال أبو جهل : بأيّ شيء تهدّدني؟ لا تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئا ، وإني لأعزّ أهل هذا الوادي ، فأنزل الله تعالى ذمه كما قال رسوله (ص) وذلك بمعنى : الويل لك من الله وهو وعيد شديد ، وإن تكراره مرّتين للتأكيد من جهة ولبيان حرمانه من خير الدنيا والآخرة من جهة ثانية ، لأنه رأى أول الويلين يوم بدر حيث قتل وعاين عذاب الدنيا ، ويوم القيامة يعاين الويل الثاني بعذاب الآخرة (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) يعني أيظن أبو جهل وكلّ إنسان (أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أن يهمل؟ وهذا استفهام إنكاري يعني أنه لا ينبغي للإنسان أن يظنّ أنه مهمل في دنياه أو في آخرته (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) أي كان نطفة منيّ ثم تنقّل من حال إلى حال تدل كل حال منها على أنه له خالقا مدبّرا حكيما لم يهمله في طور من أطوار حياته ، بل شملته عنايته حتى بلغ مرتبة وهبه فيها عقلا وقدرة ، ثم كلّفه بما فيه صلاحه في الدارين ليختبره أيشكر أم يكفر (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً) بعد أن كان نطفة من منيّ (فَخَلَقَ) منها سبحانه خلقا في الرحم (فَسَوَّى) هيئته وأعضاءه جميعا في بطن أمه ، وقدّر لكل جارحة عملها الخاصّ بها (فَجَعَلَ مِنْهُ) أي من ذلك الإنسان (الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) ليتزاوجا ولتتمّ سنة الحياة (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) أي أليس فاعل ذلك كلّه مستطيعا لأن يعيد الموتى بعد فنائهم بعد أن كان خلقهم بهذه الكيفية العجيبة وأوجدهم من كتم العدم؟ وتتجلّى في هذه الآية الكريمة صحة القياس العقلي لأن الله تعالى قرّر النشأة الثانية بالنشأة الأولى واعتبرها بها ، وقد قال البراء بن عازب : لمّا نزلت هذه الآية : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سبحانك اللهم وبلى.

* * *

٢٧٩

سورة الإنسان

مكيّة وآياتها ٣١ ، نزلت بعد الرحمن.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤))

١ ـ ٤ ـ (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ...) أي ألم يأت على الإنسان وقت من الدهر الذي هو مرور الليل والنهار وقد كان شيئا ، ولكنه (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) لأنه كان لا يزال ترابا قبل أن تنفخ فيه الروح. ومعنى هذا الاستفهام التقرير ، يعني أنه قد أتى على الإنسان ذلك ، وكل إنسان يعرف أنه كان غير موجود ثم وجد ، فما أولى المفكرين بالتفكّر والتدبّر لمعرفة الصانع العظيم جلّت قدرته! والمراد بالإنسان هنا آدم عليه‌السلام لأنه أول مخلوق وجد ودعي بهذا الاسم ، وقيل إنه أتى عليه أربعون

٢٨٠