الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدّمة

الحمد لله الواحد الأحد ، الفرد الصّمد ، الّذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفؤا أحد ، وصلّى الله على رسوله الكريم سيّدنا ونبيّنا محمد ، وعلى آله الأطهار المنتجبين ، شفعاء خلقه في يوم الدين.

وبعد :

فهذا هو الجزء الثالث من «الجديد ، في تفسير القرآن المجيد» نفتتحه بسورة الأنعام المباركة التي نزلت على النبيّ (ص) جملة واحدة ، يشيّعها سبعون ألف ملك ـ كما في الأخبار المقدسة ـ يهلّلون ويكبّرون ، ومن قرأها ردّوا عنه كيد الشيطان. ونسأل الله من فضله أن يسددنا ويوفقنا لقول ما يرضيه في بيان فرقانه الكريم وكتابه العظيم ، إنه الحليم الكريم الرحمان الرحيم ..

المؤلف

في شهر شوالل سنة ١٤٠٣ ه‍.

الموافق تموز سنة ١٩٨٣ م.

٥
٦

سورة الأنعام

مكية وهي مائة وخمس وستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥))

١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي الشكر لله الخالق الذي ابتدع السماوات والأرض وأنشأهما بما اشتملا عليه من بدائع الصنع وعجائب الموجودات ، مما يحيّر العقول وتكلّ دونه الأفهام ، لما أوجد فيهما من أنواع النّعم وسائر المخلوقات. والله سبحانه أتى بصيغة الجمع عند ذكر «السماوات» وأبقى الأرض بصيغة المفرد ، إمّا لجهة أنّ السماوات سبع والأرض واحدة إذ لم يرد ذكر سبع أرضين إلّا

٧

في آية : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) ، وإما لجهة أن السماء أشرف من الأرض بعددها ، وبطبقاتها ، ولأن فوقها العرش وما حوله ، واللوح والقلم ، ودونها الشمس والقمر والكواكب وسائر المجرّات ، وفيها الملائكة المقرّبون ، ومنها تنزل الرحمة الإلهية بأنواعها ، وتهطل الأمطار في أوقاتها ، وتجري الفيوضات الربّانية والخيرات التي لا تحصى. فاقتضت هذه المذكورات وغيرها جمع لفظ : السماء من جهة ، وتقديم ذكرها على الأرض من جهة ثانية. فالحمد لهذا الرب القادر الذي اخترع ذلك كلّه على غير مثال سبقه (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي صيّرهما موجودين. والفرق بين الخلق والجعل أن الأول اختراع وإيجاد لا من شيء كان قبله بل بكلمة : كن ، والثاني هو التصيير : أي إيجاد الشيء من شيء بحسب المشهور بين أعلام الكلام ، وقد يكون الحق خلاف ذلك أعني أن الخلق يجيء أيضا بمعنى التصيير نحو قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) ، أو : من منيّ يمنى ، أو : من ذكر وأنثى. ففي جميع ذلك تدل لفظة : من ، على إنشاء شيء من شيء ، لا على إيجاد ذلك الشيء فقط بكلمة : كن التكوينية ، حتى أن آدم أبا البشر (ع) قد «خلقه» الله تعالى ، من ماء وطين ، أي صيّره كائنا من ذلك. فالخلق أعمّ على كل حال.

وقد جمع جلّ شأنه الظلمات دون النور لأن الأجرام الفضائية تكاد لا تعدّ ولا تحصى لكثرتها ، ولكلّ جرم منها ظلّ ، فأشار سبحانه إلى جميع تلك الظلال «الظلمات» الكثيرة للأسباب التي ذكرناها ، بخلاف النور الذي له سبب واحد وهو عدم وجود الظّل ، لأنهما ضدّان لا ثالث لهما ، ويكون أحدهما إذا انعدم الثاني بتقدير العزيز الحكيم (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي بعد هذه القدرة الكاملة من خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، بقيت طائفة من الناس كفروا بخالق ذلك كله وعدلوا : أي مالوا عن المحجة البيضاء وابتعدوا غاية البعد عن الحق مع أن الحجة في غاية القوة والظهور ، وعدولهم عن جادة الصواب غير عقلائية لأن كل آية من هذه الآيات تكفي وحدها للإيمان به سبحانه ،

٨

ومن لا تكفيه هذه البراهين العجيبة وهذه الدلائل العظيمة يكن أمره غريبا ومستهجنا. وقد قيل أيضا في معنى يعدلون : أن الكافرين يساوون بينه جلّ شأنه وبين الأوثان التي يعبدونها من دونه رغم هذه الآيات البيّنات. وفي الاحتجاج عن الصادق عليه‌السلام «في حديث له حول نزول هذه الآية الكريمة» أنها ردّ على ثلاثة أصناف :

«فلما قال سبحانه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، كان رداّ على الدهرية» الذين قالوا إن الأشياء لا بدو لها وهي قائمة ولا تزال ثابتة. «ولما قال : (جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ، كان رداّ على الثنوية» الذين زعموا أن النور والظلمة هما المدبّران للعوالم. ثم قال تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) فكان رداّ على مشركي العرب الذين اتخذوا من أوثانهم آلهة.

٢ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ...) يستفاد من لفظة : من ، أنه تعالى يشير إلى بدء خلقنا ، فنحن من آدم عليه‌السلام وآدم من طين ونحن كذلك بواسطته بحسب قياس المساواة ، فتساوينا معه. غاية الفرق أنه عليه‌السلام قد خلق من طين أولا وبالذات ، وأننا ـ نحن ـ خلقنا كذلك ثانيا وبالعرض (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي حتم وقتا معيّنا. فعن ابن عباس أن الأجل هو من مولد الإنسان إلى موته (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) قيل إنه وقت ما بين الممات إلى البعث فإنه لا يعلم ميقاته أحد سواه. ومعنى : مسمّى أنه معلوم عنده لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ في السماء. ولا يملك أمر الخلق والحكم إلّا هو جلّ وعلا (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) أي تشكّون ولا تجزمون وتقطعون بأن الله تعالى إلهكم وخالقكم وباعثكم غدا من قبوركم بعد أن توفاكم وعيّن ميقات بعثكم. أفي الله شكّ فاطر السموات والأرض ، وهو بارئكم من بدء خلقكم ، ورازقكم وكافل حياتكم؟. فالله سبحانه يتعجب من إنكارهم لربوبيّته وللبعث ، ومع وضوح دلائل وجوده ووحدانيته ، ومع ظهور أمر البعث إذ لا تصعب الإعادة على من قدر على الابتداء والإيجاد من العدم وإنكارهم يكشف عن قلة تدبّرهم وضعف

٩

إدراكهم. والآية الأولى : هو الذي خلقكم ، دليل على التوحيد ، والآية الثانية : ثم قضى أجلا ، دليل على البعث كما لا يخفى.

٣ ـ (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ...) هو مبتدأ ، والله خبره. وهذا الضمير عائد لذاته المقدّسة ، ولفظة الجلالة بيان لها. وحاصل ذلك أن المعبود في جميع الكائنات ليس إلّا الله تعالى ، سواء أكان ذلك في السماوات أم في الأرض. وفي كتاب التوحيد عن الصادق عليه‌السلام : كذلك هو في كل مكان .. إلى أن قال : ولكن هو بائن عن خلقه ، محيط بما خلق علما وإحاطة وقدرة وسلطانا وملكا. وليس علمه بما في الأرض بأقلّ مما في السماء ، لا يبعد عنه شيء ، والأشياء عنده سواء (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) ففي تفسير القمي : السر ما أسرّ في نفسه ، والجهر ما أظهره (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) أي ما تجنون من خير أو شر ، فتثابون على الخير ، وتعاقبون على الشر.

٤ ـ (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ ...) أي ما جاءتهم حجة من حجج الله تعالى ، وبانت لهم حقيقتها الدالّة على أنها معجزة من معجزاته جلّ وعلا كآيات القرآن وغيرها ممّا ذكره القرآن الكريم وممّا يعجز البشر عن الإتيان بمثله ، (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي منصرفين رغم ظهورها لأنهم لا يتأملون ولا يتفكرون بآيات الله عزوجل مع وضوحها ودلالتها. ولفظة : «من» الأولى : مزيدة ، و «من» الثانية : للتبعيض.

٥ ـ (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ...) أي كذّبوا بما جاءهم به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الحق من ربهم ، وهو القرآن الذي قالوا إنه من عند محمد واستهزءوا به ، فتربّص بهم (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يعني أن تكذيبهم بالحق وإعراضهم عن آيات الله لن يحول دون مجيء أنباء : أي أخبار ما استهزءوا به من نزول العذاب عليهم في الدنيا وفي الآخرة. فألفت نظرهم يا محمد ، وقل لهم :

١٠

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩))

٦ ـ (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ...) ألم ينظروا إلى ما أفنيناه قبلهم من الناس؟. والقرن : أهل عصر واحد ، ويطلق على مائة سنة ، وله معان أخرى لا تناسب المقام .. فقد كنّا (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي جعلنا لهم مكنة ورفعة بحيث كان لهم سلطان على الآخرين (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) يعني أعطيناهم من القوة ما لم نعطكم يا أهل مكة ، وفي الجملة التفات عن الغيبة للتنبيه (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) أي كنّا نمطرهم بغزارة ونرسل لهم بركات السماء وخيراتها (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أي تسير تحت غرفهم ومنازلهم ، وماؤها يصلهم مع خيراته بسهولة فعاشوا في نعيم ورفاهية وخصب ، ونسوا ذكر الله وارتكبوا الكفر والمعاصي (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي دمّرناهم لعدم إيمانهم وأفنيناهم (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي خلقنا وتعهّدنا أجيالا غيرهم وأقمناها بدلا عنهم. والقادر على ذلك قادر على أن يفعله بكم يا أهل مكة الذين خاطبناكم.

٧ ـ (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) : يعني لو أننا استجبنا لطلبهم

١١

وأنزلنا عليك سور القرآن وآيات الوحي مكتوبة في قرطاس : أي ورق ، كما اقترحوا عليك (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) يعني تحسّسوا الورق وأمسكوه بأيديهم ، وقد ذكر الأيدي للتأكيد ولأن اللمس غالبا ما يكون بالأيدي ، وقد قال سبحانه : لمسوه ، ولم يقل : عاينوه ، لأن اللمس أبلغ في نفي الرّيب والشك. ولذلك ترى الذي يشاهد السحر يحاول أن يمسك الشيء المسحور ويلمسه بيده ليتأكد مما يراه بعينه. فلو أن هؤلاء المنكرين لمسوا القرطاس الذي ننزّله عليك مكتوبا من عندنا (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) عنادا وتعنتا : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) مؤكّدين أنه سحر ، لقسوة قلوبهم وشدة كفرهم.

٨ ـ (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ...) أي : هلّا نزل عليه : على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ملك من الملائكة نعاينه ونراه ، ويصدّق على أقوال محمد ، فنصدّقه في مدّعاه؟. وقد أجابهم الله سبحانه : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) يعني لو نزّلنا الملك كما طلبوا لقضي الأمر بهلاكهم على يد ذلك الملك الذي نرسله بعد أن كفروا برسالة رسولنا. فإن سنّة الله جرت بذلك من إهلاك من سبقهم على يد ملك من عندنا تقتضي حكمتنا إنزاله على المنكرين. فلو شئنا إجابة طلبهم وأرسلنا ملكا من عندنا لقضينا بعذابهم (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون ولا يرفق بهم طرفة عين.

٩ ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ...) أي لو جعلنا الرسول ملكا يعاين ويرى ويتكلم معه لجعلناه رجلا : مثّلناه بصورة رجل ليكون من جنسكم كما مثّلنا جبرائيل عليه‌السلام بصورة دحية الكلبي ، أي الرجل المحبوب الصورة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن الملك لا تشاهده حواسّ البشر إذ هو مخلوق روحاني غير مادي ، ومهما زيد في حواسّ الناس فإنهم سيرونه رجلا ممثّلا بالصورة البشرية فلا يغني هذا التمثيل شيئا لأنه لا يرى بصورته الملكية (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي أن الأمر يلتبس عليهم ويظنون الملك رجلا مثلهم ، فيبقى الإشكال قائما

١٢

عندهم ولا يحصل لهم اليقين إذ يعتقدون أن المرئيّ رجل فلا يؤمنون برسالته ولا يستمعون إلى قوله ، وتكون النتيجة أن يهلكوا في كل حال.

* * *

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣))

١٠ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ...) في هذا القول تسرية عن قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإزالة لهمّه وكشف لغمّه إذ ذكر له سبحانه أن الرّسل من قبله قد استهزأ بهم الناس وسخروا من دعوتهم إلى الله تبارك وتعالى (فَحاقَ) أي أحاط (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) استهزءوا من دعوتهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو العذاب الذي هدّدهم به الرّسل فلم يصدّقوا به فأنزله الله عليهم حين استحقوه جزاء استهزائهم.

١١ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) أي قل لهم يا محمد : اذهبوا في الأرض وتتّبعوا ما أصاب الأمم من قبلكم ، واختبروا واعتبروا (ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) وتأمّلوا بمصائر الذين كذّبوا الرّسل ولم يصدّقوهم فأهلكهم الله بالعذاب والاستئصال جزاء عنادهم وكفرهم.

١٢ ـ (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي اسأل يا محمد

١٣

من يعاندك : من هو المالك لما في السماوات والأرض؟. فإن هذا السؤال سؤال تعجيز للمسؤول ولا بد له بالإقرار عن المسؤول عنه وقول الحق الذي هو ظاهر غاية الظهور ، وهو ما علّمه الله لنبيّه بقوله عزوجل : (قُلْ لِلَّهِ) وهو تقرير لا مفرّ منه ولا جواب غيره لدى الجن والإنس ولا محيد عنه ، وهو سبحانه الذي (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي اللطف بعباده والرأفة بهم في دار الدنيا ، وذلك بأن نصب لهم الدلائل وأقام الحجج الدالة على وحدانيته وربوبيّته ليوحّده ويعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وإنه (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) قرنا بعد قرن يأخذكم ويجمعكم ليوم الحساب. واللام لام القسم ، وإلى : بمعنى : في ، فو الله إن موعدكم في يوم القيامة. ونحن نقول : إن : إلى ، هنا لإنشاء الغاية فيما له استمرار ، فإن اجتماع الأمم يكون بمرور الأيام ، ثم يمكن أن يحصل بغتة لأنه رهن بإرادة قادر مطلق. فكأنه سبحانه قد أراد أن يقول : إن العباد منذ خلقوا لا زالوا في مسيرة للتجمع إلى يوم القيامة ، ونحن لسنا غافلين عنهم في سائر عوالمهم وفي عالم حشرهم. ويوم القيامة (لا رَيْبَ فِيهِ) ولا شك ، وهذا تأكيد لحصوله وتوعد للغافلين عنه (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) وضيّعوها بأن ضلّوا فأهلكوها في عذاب يومئذ (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون لأنهم مغمورون بالضلالة تائهون في الجهالة قد استحال عليهم أن يتنسّموا روح الإيمان.

١٣ ـ (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...) أي لله جلّ وعلا ما سكن : هدأ في الليل ، وتحرّك في النهار. وقد اكتفى بإيراد الفعل : سكن ، فقط ، للبلاغة في القول. فهو سبحانه مالك السماوات والأرض وما فيهن طرّا ، ما سكن وما تحرّك (وَهُوَ السَّمِيعُ) العظيم السمع (الْعَلِيمُ) العارف أشد المعرفة بكل ما يملكه بحذافيره ، يسمع ويحس الحركات ، ويعلم ويدرك ما يجري في السّكنات ، ولا يشغله صوت عن صوت ولا شيء عن شيء ، يسمع تسبيح الأشياء التي لا نفقه تسبيحها ، ويعلم وساوس الصدور التي نظنّها ساكنة هادئة ، ولا تخفى عليه خافية

١٤

في الأرض ولا في السماء

* * *

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨))

١٤ ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ...) قل يا محمد للمعاندين : لا يجوز أن أتخذ وليّا غير الله لتكون مقاليد أموري بيده ويكون أولى منّي بنفسي. والسؤال استفهاميّ إنكاريّ لأن الله تعالى هو وليّ كل وليّ ، وهو ولي من لا وليّ له. فالكلام يدل على نفي اتخاذ غير الله وليّا مطلقا ، إلّا من ولّاه الله تعالى أمور الناس كالنبيّ وأوصياء النبيّ ، وإن كانت لفظة الولي ذات معان كثيرة لأنها تدل على النصير والصديق والحافظ ، كما تدل على من يلي أمر الإنسان في حياته الدنيوية ويتكفل بإدارة شؤونه وتدبير سائر أموره. فقل يا محمد : لا أتّخذ وليّا غير الله (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما وموجدهما من كتم العدم إلى حيّز الإمكان. وهذه العبارة تعليل لعدم جواز اتخاذ وليّ غيره سبحانه وتعالى ، لأن من كان بهذه المثابة من القدرة والعظمة بحيث فطر السماوات والأرض وخلق ما فيهما ، كيف نخلّيه ونتمسّك بولاية غيره ، وننكر عليه نعمة وجودنا وسائر

١٥

ألطافه بنا إلى جانب حفظنا ورزقنا وهدايتنا ، إلى سبل الخير ، فكيف نترك ولايته (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) أي يرزق ولا يرزق. وقد اختص الطعام بالذكر لغاية الحاجة إليه ، وعنى مطلق ما يحتاج إليه البشر (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي أمرني ربّي بذلك. ومن هذه الشريفة نفهم أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أول من أسلم لله عزوجل ، بل القاعدة العقلائية تحكم بأنّ من أمر بشيء عامّ من عند مولى واجب الإطاعة لا بد وأن يكون هو أول المأمورين به وأول المصدّقين ، وإلّا فإن أمره لا يؤثّر في الناس بل يكون عدم تصديقه وائتماره به حجة عليه فكن كذلك يا محمد (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وقل لمن يؤمن بك وبرسالتك لا تكوننّ من المشركين. والجملة معطوفة على ما قبلها.

١٥ ـ (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : وهذا القول من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تعريض بالكفّار وتوبيخ لهم على معصيتهم ، لأن الرسول الأعظم يخاف معصية ربّه فكيف بهم؟ فيلزم أن يحذروا عصيانه بوجه أولى. وفي العياشي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : ما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قول : إني أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم عظيم ، حتى نزلت سورة الفتح فلم يعد إلى ذلك الكلام.

١٦ ـ (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ ...) أي من ما لا يناله العذاب وينحرف عنه وينجيه الله تعالى منه (يَوْمَئِذٍ) في يوم القيامة (فَقَدْ رَحِمَهُ) أي أشفق عليه الله سبحانه وتفضّل عليه بالعفو والمغفرة. وفي المجمع عن النبّي صلى‌الله‌عليه‌وآله : والّذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله. قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟. قال : ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي شمول الرحمة والفضل للعباد هو الفوز والنصر والربح يوم القيامة.

١٧ ـ (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ ...) يمسسك : أي يصيبك ، والضرّ هو الضرر النفسي من مرض وهزال كالذي أصاب بعض أولياء الله ممّن

١٦

قالوا : ربّ مسّني الضّر وأنت أرحم الراحمين. والضّر ـ بالفتح ـ هو ضد النفع مطلقا. فإن أصابك ـ يا محمد ـ شيء من الضّر (فَلا كاشِفَ لَهُ) أي لا رافع ولا مزيل له (إِلَّا هُوَ) سبحانه وتعالى لأنه الواحد الأحد المستطيع لذلك (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) أي إن يصبك بنعمة وفضل وأمن وإيمان ورزق ومال وغيره من أفضاله (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي مستطيع قادر على إعطاء النّعم الظاهرة والباطنة ، الدائمة والمؤقّتة ، الكثيرة والقليلة.

١٨ ـ (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ...) أي أنه سبحانه هو المتسلّط الذي يقهر عباده ويقدر على إحيائهم وإماتتهم ورزقهم وحرمانهم ، بجميع معاني القهر المتصوّرة وغير المتصوّرة ، وبأعظم معاني القدرة عليهم (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) الذي يفعل بهم ما تقتضيه الحكمة وحسن التدبير في جميع أمورهم ، لأنه خبير عليم عارف بجميع حالاتهم وما يليق بهم.

* * *

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١))

١٩ ـ (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً ...) لفظ : شهادة ، تمييز. وقد نزلت هذه المباركة حين قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ أهل الكتاب أنكروك ، فأتنا بمن يشهد بصدق رسالتك. فيا محمد قل : أي شهادة هي

١٧

أكبر عند سائر العالمين؟ ف (قُلِ اللهُ) أكبر شاهد ، وهو (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فهل تتصوّرون أكبر من هذا الشاهد بصدق رسالتي؟. وقوله تعالى : قل الله مع تاليه المقدّر الذي أشرنا إليه جواب. ويمكن أن تكون لفظة : شهيد ، مستأنفة بتقدير كلمة : هو ، التي أوردناها والله أعلم.

وفي القمي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أن مشركي أهل مكة قالوا يا محمد ما وجد الله رسولا يرسله غيرك؟ ما نرى أحدا يصدّقك بالّذي تقول. وذلك في أول ما دعاهم وهو يومئذ بمكة. قالوا : ولقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أنه ليس لك ذكر عندهم ، فأتنا بأمر يشهد أنك رسول الله. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله شهيد بيني وبينكم ... (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) نزل بطريقة الوحي (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) والخطاب هنا لأهل مكة ونواحيها من جزيرة العرب ولسائر من بلغه ذلك من غيرهم ولمن علم به من الناس إلى يوم الوقت المعلوم. فالقرآن الكريم إنذار لكلّ من سمع به يخوّفه عاقبة الكفر والإصرار على العناد (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) والهمزة الأولى للاستفهام الإنكاريّ الاستبعادي ، لأنهم يشركون مع الله غيره (قُلْ) يا محمد : (لا أَشْهَدُ) بما تشهدون به ولا أقول ما تقولونه (قُلْ : إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أحد لا إله معه ولا شريك (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أتبرّأ من أصنامكم التي تعبدونها من دون الله ومن جميع أوثانكم.

٢٠ ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ ...) وهم اليهود الذين يعرفون توراتهم مثلما يعرفون أولادهم ، ويعرفون ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في التوراة ، والنصارى الذين يعرفون إنجيلهم حق المعرفة وكمعرفتهم لأولادهم ، ويعرفون ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله والبشارة به فيه. فكيف ينكر علماء اليهود وأحبار النصارى ذكره في كتبهم مع علمهم الأكيد به وبأوصافه المميّزة المدرجة في التوراة والإنجيل؟ (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من هؤلاء المنكرين الجاحدين لما ورد في كتبهم ، ومن مشركي العرب أيضا (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وهذا إخبار بالغيب

١٨

من لدنه تعالى ، فاطمئنّ بالا يا محمد ، لأنهم معاندون قد تعمّدوا البقاء ورفضوا الإيمان وضيّعوا الفرصة التي كان يمكن أن يحصّلوا فيها الإيمان بك بعد أن رأوا صفاتك عندهم ، ولمسوا دلائلك الواضحة التي لا شك فيها ولا ريب.

٢١ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ...) أي لا أحد أعظم ظلما ممّن يتعمّد الكذب والافتراء على الله تبارك وتعالى ، كمن قالوا إن الملائكة بنات الله وأمثال ذلك من الأكاذيب (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) كمن كذّب بالقرآن العظيم وبمعجزات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حين قالوا إن ذلك سحر ، فظلموا بذلك الحق ، بل ظلموا أنفسهم (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا ينجح هؤلاء المكذبون ولا يصيبون الفلاح بمزاعمهم التي تؤدي بهم إلى النار وغضب الجبّار.

* * *

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦))

١٩

٢٢ ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ...) قوله تعالى : جميعا تأكيد وتهويل من ذلك اليوم ـ يوم الحشر ـ والعياذ بالله من أهواله وشروره. فقد قال سبحانه سنحشرهم في ذلك اليوم (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا : أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ؟) يعني أين آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله؟ وهذا السؤال خطاب توبيخيّ ، بل توهين للمشركين وتعجيز لهم حيث إنهم غير قادرين على إيجاد الشريك لله تعالى في ذلك اليوم ، لأنه لا شريك له في كل حال فكيف يجدون الشريك فيأتون به؟. إن إيجاد المحال محال بقانون التساوي بين نفس الشيء وإيجاده. فيا أيها المشركون أين شركاؤكم (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) وتظنون غرورا أنهم شركاء لله جلّ وعلا؟. الأمر الذي يبهتهم ويجعلهم خاضعين للأمر الواقع باخعين للحجة الدامغة التي تلزمهم بعد عبادة الأصنام والأوثان من دون الله عزّ اسمه.

٢٣ ـ (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ...) أي اختبارهم ـ بالمعنى اللغوي ـ ولكن جاء في المجمع عن الإمام الصادق عليه‌السلام : ثم لم تكن معذرتهم التي يتوهّمون التخلص بها من عذاب الله. فإن عذاب الفتنة أشد من عذاب القتل وخصوصا حين تكون المعذرة غير ميسّرة ، فلا يكون منهم (إِلَّا أَنْ قالُوا : وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فهم يحلفون بالله كذبا لشدة دهشتهم وحيرتهم أمام هذا السؤال المفاجئ منه سبحانه عن الشركاء التي نصبوها له.

وإن أيمانهم لا تنفعهم في ذلك اليوم لأنها أيمان كاذبة تكشف عن تعمّدهم الكذب حين يحلفون ، إذ لو كانوا يعتقدون أن الله وحده هو ربّهم لما أشركوا معه معبودا ولا صنما ، فكيف يقسمون به ويقولون إنه ربّهم؟ ... وفي الكافي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أن الآية تعني السؤال عن ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

٢٠