الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

سورة المنافقون

مدنية وهي ١١ آية مدنية نزلت بعد الحج.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣))

١ إلى ٣ ـ (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ...) الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والسورة كلّها وصف للمنافقين الذين كانوا من حوله يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ،! وقد قال سبحانه له (إِذا جاءَكَ) يا محمد (الْمُنافِقُونَ) المذكورة صفاتهم (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ

١٦١

لَرَسُولُ اللهِ) أي اعترفوا أمامك بأنهم يعتقدون كونك رسولا لله (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) حقّا وحقيقة وعلمه كاف واف لا يلزمه دعم شهادتهم وكفى به شهيدا (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) فهو سبحانه كما شهدوا لك بالرسالة تمويها وكذبا يشهد لك بذلك من جهة ، ثم يشهد بأنهم كاذبون في قولهم فإنهم لا يعتقدون ذلك في قلوبهم ، فإن كلّ من قال قولا وأضمر خلافه فهو كاذب كمثل هؤلاء الذين (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي استتروا بحلف الإيمان التي كانوا يقسمونها بأنهم مؤمنون حتى يدفعوا عن أنفسهم القتل (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فتوصلوا بالدخول بينكم إلى صدّ غيرهم عن الحقّ وأسرّوا لهم بالبقاء على الكفر وأنهم مثلهم حربا لله ورسوله (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس ما عملوه من إظهار الإيمان وإبطان الكفر والصدّ عن سبيل الله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) أي بسبب إيمانهم بألسنتهم حين نطقوا بالشهادتين (ثُمَّ كَفَرُوا) بقلوبهم وكانوا يخلون بالمشركين وينقلون إليهم أسراركم (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) ختم عليها وطمس فلا يدخلها الإيمان ، فوسمت بسمة تعرفها الملائكة وتميّزها من قلوب المؤمنين (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يعقلون الحق ولا يميّزونه من الباطل.

* * *

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ

١٦٢

تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦))

٤ إلى ٦ ـ (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ ...) أي إذا نظرت إليهم يا محمد يعجبك حسنهم وجمالهم وتمام خلقتهم (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) وأنت تصغي لأقوالهم لأنهم يستعملون حسن المنطق والفصاحة والبلاغة (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي كأنهم تماثيل حسنة الصنع وأشباح حسنة الصّقل ولكنهم خالون من العقول والأفهام وقد شبههم لذلك بالخشب التي لا روح فيها ، فهم مظاهر معجبة ولكنها فارغة من الجوهر (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي يظنّون كل صرخة مهلكة تكون موجهة إليهم لأنهم يعرفون أنفسهم ويخشون أن يكون قد انكشف أمرهم ، وقيل إنهم كلّما نزلت آية خافوا أن تكشف حالهم لما علموا من نفاقهم وغشّ قلوبهم ، ولذلك قال سبحانه لرسوله (ص) : (هُمُ الْعَدُوُّ) أي هم أعداؤك وأعداء المؤمنين حقيقة (فَاحْذَرْهُمْ) احترس من أن تأمنهم على سرّ من أسرارك وتجنّبهم (قاتَلَهُمُ اللهُ) يعني أخزاهم وحرمهم من مرضاته ولعنهم. وقيل إنه دعاء عليهم بالقتل (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي أنّى ينحرفون عن الحق ويتّبعون الإفك والكذب (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) أي هلمّوا إلى رسول الله تائبين ممّا أنتم عليه (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي حرّكوها هزءا وسخرية من هذا القول مستخفّين بهذا القول ومعرضين عن الحق لشدّة كرههم للنبيّ (ص) كفرا واستكبارا وعنجهية (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) أي رأيتهم يا محمد يمنعون الناس عن الحق (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) متعجرفين مستهزئين باستغفار النبي (ص).

ثم ذكر سبحانه أن استغفار رسوله (ص) لا ينفعهم شيئا لكفرهم وعنادهم وشركهم ، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به فقال لنبيّه (ص) : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي

١٦٣

يتساوى معهم استغفارك لهم وعدمه فإن الله تعالى لا يغفر لهم مطلقا (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي لا يوفّق الخارجين عن الإيمان إلى الهداية لطريق الحق ولا يمنحهم ألطافه التي خص بها المؤمنين من عباده.

* * *

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨))

٧ و ٨ ـ (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ...) أي لا تقدّموا معونة للمحتاجين من المؤمنين الموجودين عند رسول الله (حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي حتى يتفرّقوا عنه ويضعف أمره (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو سبحانه يملك الأموال والأرزاق ولو شاء لأغنى جميع الذين هم عند رسول الله من المؤمنين المحتاجين ، ولكنه لا يفعل إلّا ما فيه المصلحة والحكمة التي لا يعلم وجههما غيره ، وربما يكون قد أفقرهم ليتعبّدهم بالصبر وليجزل لهم الثواب (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) لا يعرفون وجه الحكمة ولا يدركون المصلحة (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) أي إذا عدنا من غزوة بني المصطلق ووصلنا إلى المدينة (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) يعني أنهم هم الأعزّة وسيخرجون منها النبيّ لأنه ذليل وأتباعه فقراء مساكين. فردّ سبحانه عليهم بقوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) فهو تعالى العزيز المنيع ، وكذلك رسوله فهو القوي العزيز المنتصر عليهم وسيعلي به كلمة الحق ويظهر دينه على الأديان كلّها ولو كره

١٦٤

المشركون والكافرون (وَ) كذلك فإن العزّة (لِلْمُؤْمِنِينَ) بأن يجعلهم سبحانه منصورين على أعدائهم متفوّقين عليهم ، وقد حقق تعالى ذلك بأن فتح عليهم مشارق الأرض ومغاربها (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) فهم جاهلون يظنون أنهم أعزّة ، وهم بالحقيقة أذلّة صاغرون. وقد نزلت هذه الآيات في عبد الله بن أبيّ المنافق الذي غضب بعد وقعة بني المصطلق وقال بعد خلاف مولى من المهاجرين مع مولى من الأنصار على الماء وكان قد انحاز لأحدهما وهو فقير ، قال : سمّن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ، يعني أنه هو الأعز ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الأذل. ثم التفت إلى قومه وقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام ، لم يركبوا رقابكم ولأوشكوا أن يتحوّلوا من بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم. فقال زيد بن أرقم : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ، ومحمّد (ص) في عزّة من الرّحمان ومودّة من المسلمين. ومشى زيد بن أرقم إلى رسول الله (ص) فأخبره بذلك ، فأرسل بطلب عبد الله بن أبي المنافق فقال : ما هذا الذي بلغني عنك؟ فقال : والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك قط ، وإن زيدا لكاذب. وقال من حضر من الأنصار : يا رسول الله ، شيخنا وكبيرنا لا تصدّق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار. فعذره رسول الله (ص) ولما عاد رسول الله لقيه أسيد بن الحضير فحيّا الرسول وسأله عن التبكير في العودة فقال : أوما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعزّ منها الأذل. فقال أسيد : فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت ، هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال : يا رسول ارفق به فو الله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه ملكا عليهم ، وإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه ، فأتى رسول الله وقال : قد بلغني أنك تريد قتل

١٦٥

أبي ، فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه. فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبرّ بوالديه منّي ، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي أن يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار.

ثم نزلت الآيات بتكذيب عبد الله بن أبي وتصديق زيد في نقله للنبيّ (ص). وعند ما أراد عبد الله بن أبي أن يدخل المدينة أخذ ابنه عليه الطريق وقال : والله لا تدخلها إلّا بإذن من رسول الله. وذكر أمره للنبيّ (ص) فأمر ابنه أن يخلّي سبيله ، فدخلها ثم اعتلّ أياما ومات. وكان قد قيل له : نزل فيك آي من القرآن فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك الله تعالى ، فلوّى برأسه وقال : أمرتموني أن أؤمن فآمنت ، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فأعطيت ، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمد .. ثم مات على كفره.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

٩ إلى ١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ ...) أي لا تنشغلوا بأموالكم عن الطاعات (وَلا) ب (أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) والذّكر هو الصلوات الخمس وسائر الطاعات حتى الشكر والتسبيح والصبر على البلاء

١٦٦

وما أشبه ذلك (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي من يتلهّى عن ذكر الله بما له وولده (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لثواب الله ورحمته ورضوانه ونعمه في الآخرة (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) أي اصرفوا في سبيل البرّ والخير وادمنوا الزكاة وجميع الحقوق الواجبة عليكم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي يفاجئه (فَيَقُولَ رَبِ) مستغيثا نادما حيث لا ينفع الندم : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي يا ليت لو فسحت بأجلي ولو لمدة قليلة وتبقيني في الدنيا. وقيل بل يقول ذلك إذا عاين أسباب الموت وشاهد علامات الآخرة ولم يبق من مجال للرجعة ، فلو أخّرتني يا ربّ (فَأَصَّدَّقَ) أي فأزكّي مالي وأتصدق وأنفق في سبيل الله (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين عملوا ما يرضيك (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) فالأجل محتوم وهو واقع لا محالة في حينه (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي عالم بأعمالكم ويجازيكم بحسبها ، وهو عالم أيضا بما تعملونه ولو بقيتم في الدنيا طويلا.

* * *

١٦٧

سورة التغابن

مدنية ، وآياتها ١٨ نزلت بعد التحريم.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤))

١ إلى ٤ ـ (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) قد مرّ تفسير مثلها وبيان أن تسبيح المكلّف يكون بالقول ، وتسبيح الكائنات الأخرى يكون بالدلالة والاستكانة ، فكل شيء يسبّحه سبحانه وتعالى ، و (لَهُ الْمُلْكُ) جميع الملك لا يشاركه فيه أحد ويتصرف بما يشاء كيف شاء (وَلَهُ الْحَمْدُ) أي الشكر على جميع نعمه من أصل الوجود فإلى سائر مننه

١٦٨

وأفضاله (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قادر على فعل ما يشاء ويحيي ويميت وبيده القدرة والاستطاعة اللتين لا حدود لهما ، و (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) أوجدكم من العدم (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) لم يعترف بخالقه ووحدانيّته وقدرته (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) مقرّ بذلك ، فالمكلّفون نوعان : كافر يدخل تحته سائر أنواع الكفر ، ومؤمن به تعالى وبرسله وكتبه ، ولكنه تعالى لم يخلقهم هكذا كافرين ومؤمنين بل الكفر والإيمان من فعلهم وبدافع اختيارهم ودلالاتهم العقلية إذ بعث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وأزاح العلة وأظهر آياته لكل ذي بصيرة ، والمولود إنما يولد على الفطرة كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال أيضا كما في المجمع حكاية عن الله تبارك وتعالى : خلقت عبادي كلّهم حنفاء (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) عالم بأعمالكم مطّلع على أحوالكم (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي أنشأهما وأوجدهما بإحكام الصنعة وأقامهما على الحق وصحة التقدير. وقيل يعني خلقهما للحق ولإظهاره وأوجد فيهما العقلاء المتدبّرين ليتعرّضوا إلى ثوابه بالعمل بطاعاته (وَصَوَّرَكُمْ) يعني خلق البشر على ما هم عليه من الهيئة (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) من حيث تمام الخلقة ، وهو كقوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ، وهذا لا يمنع أن يكون بينهم المشوّه بالعرض فأصل الخلقة حسن الصورة بالنسبة لبقية المخلوقات (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي إليه المرجع يوم القيامة (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كبيرا كان أم صغيرا ولا يفوت علمه شيء (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) ما تفعلون في سرّكم (وَما تُعْلِنُونَ) وما تظهرونه من غير فرق بين من يخفي في صدره ولا بين من يجهر ويفصح (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي عارف حقّ المعرفة بما يجري في بواطن الصدور ما تهمس به وما يدور في الخلد.

* * *

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ

١٦٩

وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦))

٥ و ٦ ـ (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي ألم يجئكم أخبار الكافرين (مِنْ قَبْلُ) يعني الكافرين الماضين الذين كانوا قبل هؤلاء (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي لقوا عاقبة كفرهم وخساره بما نالهم من الإهلاك بالآيات وبالقتل وغيره في الدنيا (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع في الآخرة فوق عذاب الدنيا الذي ذاقوه (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي ذلك الإهلاك والقتل والعذاب ، كان بسبب أنه جاءتهم الأنبياء بالمعجزات والحجج الباهرة الواضحة (فَقالُوا) للرّسل : (أَبَشَرٌ) مثلنا (يَهْدُونَنا) يرشدوننا إلى مصالحنا وإلى الحق ، فهل هم أعقل منّا وأعرف حتى يمتازوا علينا ويأمروننا؟ وقد قالوا هذا استكبارا (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) أي جحدوا وجود الله سبحانه ووحدانيّته وأنكروا رسله وأعرضوا عنهم (وَاسْتَغْنَى اللهُ) عنهم وعن أيمانهم لأنه غنيّ بملكه وسلطانه ولم يكلّفهم إلّا لنفعهم ولم يحتج لعبادتهم ولا لطاعتهم لأن ذلك لا يزيد في عظمته ولا ينقص من ربوبيّته (وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) مستغن عن طاعتكم وعبادتكم ، مستحق للحمد على ما أفاض من نعمه على خلقه ، وقيل معناه : محمود في كل أفعاله.

* * *

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

١٧٠

(٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠))

٧ إلى ١٠ ـ (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ...) أي ظنّوا ظنّا كاذبا بأنهم لا يعادون أحياء للحساب يوم القيامة وأنه لا بعث ولا نشور ، فأمر سبحانه رسوله بتكذيب زعمهم السخيف وقال له : (قُلْ) يا محمد لهم : (بَلى وَرَبِّي) أي : أجل وحقّ ربي ، وهذا قسم مؤكّد لبلى (لَتُبْعَثُنَ) أي لتحشرنّ وتعادنّ أحياء كما كنتم. فأصبح التأكيد لتكذيبهم في زعمهم ببلى ، وباليمين ، وباللام ، وبالنون ثم (لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) أي لتخبرنّ بأعمالكم وتحاسبون عليها وتثابون أو تعاقبون (وَذلِكَ) الأمر من البعث والحساب (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) سهل عليه وهيّن يتمّ بلا مشقّة ولا عناء (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) صدّقوا بهما أيها العقلاء من المكلّفين (وَ) آمنوا ب (النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) وهو القرآن الذي سمّاه نورا لأنه ينير طريق الناس بما فيه من دلائل وبراهين وبيان للحق من الباطل (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عالم بذلك كله (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) أي حين يحشركم ليوم القيامة والحساب (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) أي اليوم الذي يستعيض فيه المؤمن ما ترك من حظه في الدنيا وينال حظّه من الآخرة فيكون قد ترك ما هو شرّ وأخذ ما هو خير فكان غابنا ، وبعكسه الكافر الذي ترك حظّه من الآخرة وأخذ حظّه من الدنيا ، فأخذ بذلك الشرّ وترك الخير وكان مغبونا. فيوم التغابن هو يوم يغبن أهل الجنّة أهل النار. وقد روي أن النبيّ صلّى الله

١٧١

عليه وآله قال : ما من عبد مؤمن يدخل الجنّة إلّا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلّا أري مقعده في الجنّة لو أحسن ليزداد حسرة (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) أي يتجاوز عن معاصيه ويمحوها من صحيفة عمله (وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) باقيا فيها إلى الأبد لا يزول ما هو فيه من النعيم و (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الجزاء هو النجاح الأوفر الأكبر (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله تعالى (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بحججنا وبراهيننا (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) باقين فيها وهي بئس المرجع.

* * *

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣))

١١ إلى ١٣ ـ (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ...) أي أنها لا تقع مصيبة (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) إلّا برخصة منه وبعلمه عزّ وعلا. والمصائب بعضها فيه ظلم وهو سبحانه لا يأذن ولا يرخّص بالظّلم ، ولكنه تعالى يخلّي بينها وبين فاعلها لأنه خلق له التمكّن وجعل له الاختيار ، فهي تحدث بعلمه ، ولذلك قيل إن معنى (بِإِذْنِ اللهِ) هنا : بعلمه (وَمَنْ يُؤْمِنْ) يصدّق (بِاللهِ) ويرض بقضائه المقدّر (يَهْدِ قَلْبَهُ) للتسليم والإيمان فيعرف أن ما يصيبه هو بعلم الله فلا يستعظم ولا يجزع ليفوز بثواب الله

١٧٢

ورضاه. وعن مجاهد أن معنى (يَهْدِ قَلْبَهُ) : إن ابتلي صبر ، وإن أعطي شكر ، وإن ظلم غفر. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) خبير به بصير يجازي كل مكلّف بعمله (وَأَطِيعُوا اللهَ) فيما أمركم به (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما جاءكم به من الحق من أوامرنا ونواهينا (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي انصرفتم وأعرضتم عن ذلك (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي أنه هو مكلف بتبليغ الرّسالة وبيان الأحكام والطاعات ، وليس عليه أن يجبر أحدا على الإيمان ولا على العمل (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهو الربّ الذي لا ربّ غيره ولا تحق العبادة لغيره (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي أنهم يفوّضون أمرهم إليه ويرضون بقضائه وبتدبيره.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

١٤ إلى آخر السورة ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ ...) هذا خطاب للمؤمنين ينبّههم فيه سبحانه وتعالى إلى (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ

١٧٣

وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) أي أن بعضهم فقط فيهم هذه الصفة لأن (مِنْ) للتبعيض ، فقليل من الأزواج والأولاد يكونون أعداء لذويهم (فَاحْذَرُوهُمْ) أي فخذوا حذركم منهم ، ولا تطيعوهم في ما لا يرضي الله فبينهم من يتمنّى موت الزوج ، أو موت الأب أو الأم للإرث والاستقلال وغيره ، وهذه أكبر العداوة. والحاصل أن من كانت هذه صفتهم فلا تطيعوهم فيما يرضيهم ويغضب الله عزوجل (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) أي وإن تتركوا عقابهم وتتجاوزوا عنهم وتتناسوا ما فعلوه لتستروا عليهم ما يبدر منهم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عفوّ يتجاوز عن الذنوب ويرحم العباد (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي أنهم محنة لكم تمتحنون بها لأنهم قد يشغلونكم عن الطاعات فإن الأب قد يقع في الاجرام بدافع من زوجه أو من بنيه ، وقد يفعل بدوافعهم ما لا تحمد عقباه. وقد روى عبد الله بن بريدة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخطب فجاء الحسن والحسين عليهما‌السلام وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعشران ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر وقال : صدق الله عزوجل : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ). نظرت إلى هذين الصبيّين يمشيان ويعثران ، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما. (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي عنده ثواب كبير فلا تعصوه ولا تؤثروا طاعة أحد ولا طاعة نسائكم وأبنائكم على طاعته لأن من ثوابه الجزيل الجنّة والنعيم (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي تجنّبوا معاصيه وما يسخطه قدر طاقتكم واستطاعتكم (وَاسْمَعُوا) أوامر الله وما يقوله لكم رسوله الكريم (وَأَطِيعُوا) الله ورسوله (وَأَنْفِقُوا) من أموالكم الزكوات والصدقات (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أي قدّموا خيرا لأنفسكم من أموالكم كما قال الزجاج (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أي يخلص من بخل نفسه ويدفع حق الله تعالى من ماله (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فهم الفائزون بثواب الله ، وقد قال الصادق عليه‌السلام : من أدّى الزكاة فقد وفي شحّ نفسه

١٧٤

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قد مرّ تفسيره ، ولكن نشير إلى أنه سبحانه قد تلطّف في الدعوة لإخراج حقّ المال وسمّى ذلك إقراضا له وإقراضا حسنا فتبارك اسم ذلك المستقرض العظيم الذي إن أقرضه عبده وأنفق على عياله من الفقراء والمحتاجين (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) أي يعطيه بدل قرضه أضعاف ذلك الذي أعطاه حتى تصل الأضعاف إلى سبعمائة فما فوق (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) يمحوها ويتجاوز عنها (وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) أي مجاز على الشكر بثوابه الجزيل ، وهو رؤف لا يعاجل العباد بالعقوبة ، وهو (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي يعلم ما حضر وما غاب ويعلم السّر والجهر وما هو أخفى من السّر (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) القوي الممتنع القادر الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة.

١٧٥

سورة الطلاق

مدنية وآياتها ١٢ نزلت بعد الإنسان.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ

١٧٦

بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣))

١ إلى ٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ...) الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنشأه به سبحانه ليبيّن حكما ، بل أحكاما شرعيّة هي للمكلّفين وعليهم وهي لأمّة محمد (ص) إلى آخر الدهر ، ف (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) أي إذا أردتم طلاقهنّ لسبب مشروع (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي لوقت عدّتهن ، والعدّة هي الطّهر الذي لم يواقعها فيه زوجها ، وهذا يعني : طلّقوهنّ في الطّهر الذي يحصينه من عدّتهنّ لأنهنّ يعتددن بذلك الطّهر الذي يقع فيه الطلاق ، وتحصل في العدة عقيب الطلاق. فلا تطلّقوهنّ لحيضهنّ الذي لا يعتددن به من القرء. وقد قيل إن (اللام) للسبب الذي ذكرناه ، فكأنّه قال سبحانه : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) ، لأن هذا الحكم للمدخول بها بلا ريب ، ولأن المطلقة قبل المسيس بها وقبل مجامعتها لا عدّة لها ، وذلك قوله تعالى : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها). ونلفت النظر إلى أن ظاهر الشريفة يدل على أنه إذا طلّقها في الحيض ، أو في طهر واقعها فيه ، فلا يقع الطلاق ، لأن الأمر فيها ب (لِعِدَّتِهِنَ) يقتضي الإيجاب. وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر طلّق امرأته وهي حائض تطليقة واحدة ، فأمر رسول الله (ص) أن يراجعها ويمسكها حتى تطهر وتحيض عنده حيضة أخرى ، ثم يمهلها حتى تطهر من حيضها ، فإذا أراد أن يطلّقها فليطلّقها حين تطهر من قبل أن يجامعها. فتلك العدّة التي أمر الله تعالى أن يطلّق بها النساء (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي عدّوا الأقراء التي تعتدّ بها المطلّقة ، لأن لها فيها حقّ النفقة والسّكنى ، وللزوج فيها حقّ المراجعة ومنعها عن أن تتزوج بغيره ، لثبوت نسب الولد إذا حصل حمل. أما العدّة فهي قعود المرأة عن الزوج حتى تنقضي المدة المرتّبة بحسب الشرع (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) لا تدعوهن يغادرنّ بيوتهنّ التي هي بيوتكم ـ بيوت المطلّقين ـ فلا يجوز للزوج أن يخرج المطلّقة المعتدّة من منزله

١٧٧

الذي كان يضعها فيه قبل طلاقها (وَلا يَخْرُجْنَ) هنّ أيضا من ذلك المنزل إلّا لضرورة هامّة (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) أي إلّا إذا حصل منها زنى وهو فاحشة (مُبَيِّنَةٍ) ظاهرة ، فإنها تخرج لإقامة الحد عليها. وقيل هي أن يخرج البذاء منها على أهلها فيحلّ لهم إخراجها وهو المرويّ عن الصادقين عليهما‌السلام، كما أن في المرويّ عن الرضا عليه‌السلام أنه قال : الفاحشة أن تؤذي أهل زوجها وتسبّهم ، وعن ابن عباس أنه قال : كلّ معصية لله تعالى ظاهرة فهي فاحشة (وَتِلْكَ) أي ما ذكر هو (حُدُودُ اللهِ) أي أحكامه في الطلاق الصحيح وشرائطه (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) أي ومن يخالف أوامره هذه بأن يطلّق على غير هذه الشروط (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي أذنب وارتكب إثما وعصى الله سبحانه واستحق العذاب (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي لعلّه سبحانه يغيّر رأي الزوج في زوجته المطلّقة ويوقع حبّها في قلبه فيرجع إليها فيما بين الطلقة الأولى والثانية ، وفيما بين الطلقة الثانية والثالثة (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي كدن يصلن إليه وقاربنه ، وهو خروجهنّ من عدّتهنّ (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) يعني راجعوهن وقوموا لهنّ بالنفقة والمسكن وحسن الصحبة والمعاشرة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أو اتركوهن وتخلّوا عنهن بسهولة. وقد قلنا إن معنى (بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) كدن يصلن إليه لنلفت النظر إلى أن انقضاء أجل العدّة يحول بين الزّوج وبين حق الرجوع عن الطلاق ، ويجعل المطلّقة تملك نفسها لأنها تبين منه ويصير لها الحق بالزواج من غيره (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي وأشهدوا اثنين عدلين عند الطلاق لصيانة دينكم ، وقال المفسّرون : وعند الرجعة أيضا لئلا تجحد المرأة أن زوجها المطلّق راجعها ، والأول هو الأصحّ المرويّ عن أئمتنا عليهم‌السلام وهو من شرائط الطلاق (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) يعني : يا أيها الشهود اجعلوا شهادتكم قائمة لله سبحانه وأقيموها لوجهه (ذلِكُمْ) الأمر الذي قلناه لكم (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي

١٧٨

المؤمنون بالله وبأوامره ونواهيه لينتفعوا بالطاعة ويمتنعوا عن المعاصي ، فيستحقون الثواب (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) يعمل بما أمر وينتهي عمّا نهى (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من كروب الدنيا والآخرة (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي يعطيه الرزق من حيث لا يخطر له على بال ولا يضعه في حسابه. وروي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : ويرزقه من حيث لا يحتسب ، أي يبارك له فيما آتاه (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي من يجعل أمره بيد الله تعالى ويفوّضه إليه مع الثقة بحسن تقديره وتدبيره فإنه يكفيه أمر الدنيا ، ويعطيه ثوابا في الآخرة (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) أي أنها لا تكون إلا مشيئته لأنه يدبّر الأمور بحسب ما قدّر ، ويبلغ ما أراد ممّا قضى وقدّر (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي قضى بما يشاء في كل شيء ، وجعل لكل شيء مقدارا وأجلا لا يزيد ولا ينقص.

ثم أخذ سبحانه في بيان اختلاف العدّة باختلاف أحوال النساء اللواتي تلزمهن العدّة فقال عزوجل فيما يلي :

* * *

(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥))

٤ و ٥ ـ (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ...) أي اللواتي لا يحضن (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي إذا شككتم بهنّ فلا تعرفون هل ارتفع حيضهن لكبر السنّ أم لعارض صحيّ آخر (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) وهؤلاء هن

١٧٩

اللواتي تحيض من كانت مثلهنّ ، لأنهن لو كنّ في سنّ من لا تحيض من كبيرات السنّ لكان لا ينبغي الارتياب بشأنهنّ. وهذا المعنى هو المرويّ عن أئمتنا عليهم‌السلام. وقيل إن معناه : إن ارتبتم فلم تعرفوا أن دمهنّ دم حيض أو استحاضة ، فعدتهنّ ثلاثة أشهر كما عن مجاهد والزهري وغيرهما ، كما قيل معناه : إن ارتبتم في حكمهن فلم تدروا ما الحكم فيهنّ (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) أي إن ارتبتم بحيضهنّ فعدتهنّ ثلاثة أشهر أيضا ، وهن اللواتي لم يبلغن المحيض في حين أن مثلهنّ تحيض عادة (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) أي الحوامل ، الحبالى ، إذا طلّقتموهنّ ف (أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) أي تنتهي عدتهنّ بالولادة ، وهي في المطلّقات خاصة كما هو المرويّ عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، لأن المتوفّى عنها زوجها إذا كانت حاملا فعدتها أبعد الأجلين ،! فإذا مضت عليها أربعة أشهر وعشر انتظرت وضع حملها ، أمّا إذا توفّي عنها زوجها ووضعت قبل الأشهر الأربعة وعشر فيجب عليها أن تستوفي هذه المدة (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) فيما أمره به (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) فيسهّل له أمر دينه ودنياه وآخرته (ذلِكَ) يعني المذكور سابقا في أمور العدّة والطلاق (أَمْرُ اللهِ) لكم (أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) لتعملوا به وتطيعوه (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) بطاعة أوامره واجتناب نواهيه (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) يمحوها عنه ويتجاوز عنها (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي يزيد له في ثوابه في الآخرة.

* * *

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ

١٨٠