الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

١
٢

٣
٤

سورة ق

مكيّة إلّا الآية ٣٨ فمدنيّة ، وآياتها ٤٥ نزلت بعد المرسلات.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥))

١ ـ (ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ .. ق) عن الصّادق عليه‌السلام : هو جبل محيط بالأرض ، وخضرة السّماء منه ، وبه يمسك الله الأرض أن تميد بأهلها. وفي القمّي (ق) جبل محيط بالدّنيا من وراء يأجوج ومأجوج وهو في المقام قسم. (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) وهو مثله قسم ، بل الشاهد على كونه في مقام القسم عطف (الْقُرْآنِ) عليه فإ نه في مقام القسم أيضا. وقيل إن المجيد والمجد لا يوصف بهما غير الله تعالى فإنهما يدلّان على صفة

٥

لا يوصف بها غير الله سبحانه. لكنّ هذا غير مسموع من القائل لأن العرش قد يوصف بالمجيد على ما ببالي وكذا غير العرش.

٢ ـ (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ...) المراد بالمنذر محمّد (ص) والذي تعجّبوا هم قريش وهو منهم. ولذا جاء ينظرهم عجيبا (فَقالَ الْكافِرُونَ) من قريش وغيرهم من المعاندين والضالّين : (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) أي كيف يكون ذلك ، ويكون محمد الذي هو منّا ونعرفه جيّدا فيصير نبيّا منذرا؟

٣ ـ (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ...) أي هل إذا جاءنا الموت وفنيت أجسادنا نعود ونرجع ونصير أحياء كما كنّا ونسأل عمّا فعلناه (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) اي هذا الأمر محال فلا يعقل رجوعنا ووقوعه أمر محال عقلا. والقمّي قال : نزلت في أبيّ بن خلف الذي قال لأبي جهل تعالى معي لأجعلك تتعجّب من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم أخذ عظما ففتّه ثم قال : يا محمد تزعم أنّ هذا يحيا بعد أن يبلى؟ فنزلت :

٤ ـ (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ...) أي ما تأكل الأرض من أجسادهم بالموت فينقص عدد الأحياء (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أي حافظ لتفاصيل الأشياء كلّها ، ومحفوظ عن التّغيير والتبديل.

٥ ـ (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ...) يقال مرج البحرين أي خلّاهما لا يلتبس أحدهما بالآخر ولا يختلط كما تقول : مرجت الدابّة أي خلّيتها ترعى. والحاصل أن المراد بالمرج هو الأمر الذي يوجب للبهت والتخليط والتحيّر مثل أنّ ماءين يكونان في محلّ واحد ولا تمتزج أحدهما بالآخر بلا حاجز ولا مانع إلّا إرادة الله بعدم اختلاطهما وامتزاجهما. وهذا يكشف عن كمال قدرة الله حيث إن من شأن الماء هو الاختلاط بجسم سائل آخر ماء كان أو غيره ، إلّا أن يكون هناك مانع إلهيّ يمنع عن الاختلاط مثل ما نحن فيه وقد عميت عين لا تراك يا ربّ ،

٦

ففي كلّ شيء لك آية تدلّ على أنّك واحد ليس كمثلك شيء وليس لك في جميع عوالم الكون ثان ولا مثل ولا شبيه ، ولكن الهياكل التي في صور الإنسان ضلّوا عن معرفته تعالى ولم يقبلوه ربّا ومعبودا ، بل هم ينكرونه سبحانه عزوجل.

* * *

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١))

٦ ـ (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها ...) أي كيف لا ينظر من كفر بالبعث والنشور إلى السماء كيف رفعناها فوقهم بلا عمد ولا شيء آخر تعتمد عليه وتتّكئ؟ وهذا ليس إلّا من كمال قدرتنا الكاملة حيث قلنا لها كوني فكانت (وَزَيَّنَّاها) بالشمس والقمر والنّجوم وجعلناها مهابط وحينا ومساكن ملائكتنا ونزول بركاتنا وغيرها ممّا هو موجب لشرفها على غيرها من المخلوقات (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي ليس فيها شقوق بل هي متلاصقة الطّباق شديدة البناء والسّمك.

٧ ـ (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ...) أي بسطناها وأوسعناها يمنة ويسرة وفي جميع جوانبها حسب استعدادها وتمكنها (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي جبالا مستقرّة ثوابت لو خلّيت وطبعها لمادت بأهلها ولكن الجبال جعلت لها

٧

أوتادا لتبقى ثابتة. والجبال فيها كنوز مستورة من المعادن المختلفة بأنواعها تتحيّر منها العقول ، وفيها النّباتات التي تفيد للأدوية وغيرها ممّا لم يصل إلى معرفته البشر حتى اليوم ولا يزال يستكشف فيها ما تتحيّر منه العقول (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي أخرجنا من الجبال والسهول وجميع منافق الأرض بحسب أقسامها وأنواعها أصنافا بهيجة مسرّة من النباتات والأشجار المختلفة التي تبهج النظر.

٨ ـ (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ...) أي ما ذكر لمزيد البصيرة لكلّ عبد راجع إلى ربه يتفكر في بدائع صنعه.

٩ ـ (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً ...) أي كثير الخير والبركة بحيث لا تحصى ولا تعتد منافعه. وعن الباقر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلوات الله عليه وآله في هذه الآية : ليس من ماء في الأرض إلّا وقد خالطه ماء السماء (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) ذات أشجار وثمار (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) كالزرع الذي هو قائم على ساقه فيحصد في أوان حصاده ، وكحبّ الزّرع الذي من شأنه أن يحصد كالبرّ والشعير.

١٠ ـ (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ ...) أي طوالا مرتفعات بحيث يصعب على كلّ إنسان طويل أن يجني ما عليها إلّا بواسطة هيّئت له (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) الطّلع ما يخرج من النّخلة في أكمامها منضود بعضه أي ملتصق بعضه ببعض.

١١ ـ (رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ...) قوله : رزقا للعباد بالأوّل لكونه رزقا ونعمة في النتيجة. وإلّا فبالفعل هو غير قابل للاستفادة أولا. وقوله (وَأَحْيَيْنا بِهِ) الضّمير فيه راجع إلى الماء. نعم قال سبحانه عزّ من قائل في مورد آخر (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) وما نحن فيه فرد من ذلك المورد ولذا عبّر فيما نحن فيه بوصفه بالمبارك لأنه يحيي الأشياء بعد موتها فإنه حياة الكائنات وروحها. وقد أفرد النخل بالذّكر مع أن

٨

الأشجار كثيرة وسكت عنها سبحانه لأنّه ليس في الأشجار شجر أكثر بركة من النّخل وأكثر فائدة منه وتترتّب عليه بركات وفوائد عظيمة في الجامعة البشريّة من حيث أعواد النخلة وثمارها وأليافها ونواة ثمرتها ، وكم من فوائد أخر تترتّب عليها بحيث يجرّ إحصائها بتمامها إلى الملال ، وإجمالها ما من شجر من الأشجار الّتي خلقها الله جلّ وعلا أكثر نفعا وبركة من النخل إذ لا يرمى شيء منها وليس شجر من الأشجار مثله على ما ببالي ، وهذا شأن اختصاصها بالذّكر دون غيرها والله أعلم. وقوله تعالى (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي جدبا خلاف الخصب وبمعنى القحط أي يظهر فيه عدم الأرزاق أو قلّتها وهذا القحط غالبا ما يكون في البلاد الّتي لا تمطر فيها ولا يوجد الماء إلّا قليلا فيقع في البلد قحط وغلاء ، ذلك أن الماء هو سبب كلّ خصب وازدهار ونعيم ، وهو نعمة من الله تنعش العباد وتحيي البلاد. (كذلك الخروج) أي كما أنزلنا الماء من السّماء وأخرجنا به النّبات من الأرض وأحيينا به البلدة الميّتة يكون خروجكم أحياء بعد موتكم. وهو جواب لقولهم (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ).

* * *

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥))

١٢ إلى ١٤ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ ...) الذين رسّوا نبيّهم في الأرض أي حفروا له فيها. وقيل هو اسم نهر في بلاد الشرق واسمه كان (رسّ) وقد قتلوا نبيّهم ودفنوه في ذلك النهر ، وذلك

٩

بعد سليمان بن داود وكانوا يعبدون شجرة يقال لها شاه درخت. وجاء الرسّ بمعنى الدّفن وبمعنى الحفر (وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ) ثمود قبيلة من العرب الأولى وهم قوم صالح. وصالح من ولد ثمود ، وقد سمّوا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عاثر بن آدم بن سام بن نوح. والمراد بفرعون هو وقومه الذين كانوا يخالفون موسى عليه‌السلام ومتابعيه ليطابق ما قبله وما بعده (وَإِخْوانُ لُوطٍ) أي متابعوه عليه‌السلام (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) الأيكة واحدة الأيك ، وهو الشّجر الملتفّ و (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) أصحاب الشجر الملتفّ وكان وظنهم مزدهرا بالأشجار وحياتهم في نعيم فكفروا بربّهم وأنكروا البعث والنشور كغيرهم. (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) تبّع بضمّ التاء وفتح الباء المشدّد أحد التابعة من ملوك حمير سمّي به لكثرة أتباعه وهم سبعون تبّعا ملكوا جميع الأرض ومن فيها من العرب والعجم. وكان تبّع ابن تبّع الأكبر ابن تبع الأقرن وهو ذو القرنين. وفي بعض الأخبار أنّ تبّع لم يكن مؤمنا ولا كافرا ولكن كان يطلب الدّين الحنيف إلى آخره (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) أي ثبت ووجب وعده تعالى للمكذّبين للرّسل. بالانتقام. وفي الشريفة تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتخويف للمنافقين والمشركين لعنهم الله جميعا.

١٥ ـ (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ...) عجزنا عن أن نأتي بمثل ما خلقنا أولا؟ يعني ما عجزنا أن نأتي بمثلكم وأحسن بألف مرّة ، أي كلّ شيء أردناه فهو تحت قدرتنا لأننا إذا أردنا شيئا نقوله له كن فيكون. وبعبارة اخرى : أفعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة؟ وهكذا تقرير لهم لأنهم اعترفوا بأنه هو الخالق للعالم ثم أنكروا البعث والنّشر ثانيا ، ويقال لكلّ من عجز عن شيء : عيّ به ، يعني لم يقدر عليه (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي أنهم لا ينكرون قدرتنا عن الخلق الأول بل ينكرون الثاني لشبهة حصلت فيه مثلا كشبهة الآكل والمأكول الّتي لا يقدر الإنسان على دفعها ، أي الإنسان الذي لا وسع له في العلم ولا سيّما في المعقول

١٠

الذي هو الباب لفتح تلك الشبهات في التوحيد. وعن الباقر عليه‌السلام أنه سئل عن هذه الآية فقال : ذلك أن الله تعالى إذا أتى بهذا الخلق وهذا العالم وسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النّار جدّد الله عالما غير هذا العالم وجدّد خلقا من غير فحولة ولا إناث يعبدونه ويوحّدونه ، وخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم ، وسماء غير هذه السّماء تظلّهم. لعلّك ترى أن الله تعالى إنّما خلق هذا العالم الواحد ، وترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم؟ بلى والله لقد خلق ألف ألف عالم وألف ألف آدم وأنت في آخر تلك العوالم الآدميّين.

* * *

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١))

١٦ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ...) أي ما تحدّثه به نفسه ، وهو ما يخطر بالبال والوسوسة الصوت الخفيّ (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) أي نعلم صوت أموره الخفيّة الّتي ليس لها صوت بل تخطر على البال فقط فكأننا أقرب إليه من شرايين دمه. وفي قوله (حَبْلِ الْوَرِيدِ) المراد بالحبل هنا العرق ، وإضافته إلى الوريد بيانيّة. والوريد هو العرق المكتنف بصفحة العنق وفي مقدّمها متّصل بالوتين ، والوتين عرق يتعلّق بالقلب إذا قطع مات صاحبه. و (حَبْلِ

١١

الْوَرِيدِ) مثل في القرب غايته الإشعار بأنه غنيّ عن استحفاظ الملكين فإنهما أعلم منها ومطلع على ما يخفى عليهما لأنه أقرب إليه منهما.

١٧ و ١٨ ـ (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ ...) هما الملكان الحافظان يأخذان ما يتلفّظ به وقال تعالى (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي لا يتلقّى أحدهما عن الآخر بل كلاهما لا بدّ منهما ، كاتب للحسنات على يمينه ، وكاتب للسيّئات على يساره ، وصاحب الحسنات أمير على صاحب السّيئات ، وإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب اليسار رعه سبع ساعات لعلّه يندم فيستغفر ويتوب (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أصل الرّقيب من الترقّب وهو الانتظار ، وعتيد هو الحاضر المهيّأ. والرقيب والعتيد هما ملكان الأوّل على يمين كلّ إنسان مكلّف سواء كان ذكرا أو أنثى ، والثاني على اليسار والأوّل مأمور من طرف الربّ عزوجل أن يكتب الحسنات والثاني يكتب السيّئات كما قلنا.

١٩ ـ (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ...) أي شدّته التي تغيّر وضع الإنسان وعقله بحيث لا يفهم شيئا كالسّكر من الشراب ، ولذا منع السكران من الصّلاة لأنه في تلك الحالة لا يعرف شيئا ولا يدري في أية حالة هو من أحواله. فالموت والسّكر إذا عرضا للإنسان واحد في عدم وعي الإنسان شيئا ، غاية الفرق أن الميت لا يتحرّك والسكران في بعض الأحيان له حركة كحركة المتقلّص لأنهما فاقدان للعقل والرّشد. والباء في قوله تعالى (بِالْحَقِ) إمّا للقسم والمراد من الحق هو الله تعالى ، وإمّا للتّأكيد ، أي مجيء سكرة الموت حقّ ثابت لا شبهة فيه والمورد يحتاج إلى التأكيد لاستبعادهم سكرات الموت وأهوال البرزخ. وسكرة الموت شدائده الّتي تذهب بالعقل (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي تميل عنه يمنة ويسرة والمخاطب في الشريفة هو الإنسان الذي يخشى الموت ويتّقي سكراته. وحاصل معنى الشريفة أيها الإنسان إن الموت الذي يفرّ منه لا بد أنه

١٢

ملاقيك وستعالج سكرته بلا ريب.

٢٠ ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ...) أي نفخة البعث (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي يوم وقوعه وتحقّقه.

٢١ ـ (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ...) أي سائق يسوقها إلى محشرها وشاهد يشهد عليها بعملها الّذي عملته في دار الدّنيا. والمراد بالسّائق والشاهد هما الملكان اللّذان كانا معها في دار الدّنيا وكانا يكتبان أعمال خيرها وشرها واحد على يسارها على ما قدّمناه.

٢٢ ـ (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا ...) الكلام على إضمار القول وتقديره والقائل المقدّر هو الله سبحانه ، يخاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بانّه إذا كان يوم القيامة تحضر كلّ نفس وكأنه يقال لها بلسان الحال بأمر منه تعالى (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) أي أزلنا ونزعنا الحاجب لأمور المعاد حيث كنتم منهمكا في المحسوسات والألفة لها وحصر النّظر فيها وكنت لا تتصور يوم القيامة ولا شيئا من المغيّبات ، لأنّ من كان في دار الدنيا كان هكذا لو خلّي وطبعه لا ينظر إلى غير ما حوله من المرئيّات ويوم القيامة تنكشف وأمام عينه بقدرة الله سبحانه وتعالى إذ أزمة الأمور كلّها بيده ، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي نظرك في دار البقاء في غاية الشدّة والحدّة فينفذ بحيث تزول الموانع للأبصار.

* * *

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ

١٣

فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩))

٢٣ ـ (وَقالَ قَرِينُهُ ...) أي الملك الموكّل به ، وفي المجمع عنهما عليهما‌السلام : هو الملك الشهيد عليه فإنه يقول له : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي هذا هو الحاضر المهيّأ. ويقال : عتد الشيء عتادا أي حضر وتهيّأ أي يقول قرينه عنه هذا هو المعدّ عند لإلقائه في جهنّم وبئس المصير.

٢٤ إلى ٢٦ ـ (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ :) الخطاب في هذه الآية الشريفة للملكين السّائق والشاهد. والغيد الباغي الذي يردّ الحق مع العلم به ومع ذلك ينكره ويعاتده. وهذا يكشف عن غاية خباثته وعتوّه مع الحق والحقيقة. ولذا حكم عليه بكفره بصيغة المبالغة فقال تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) قال الشاعر العربي :

مفعال أو فعّال أو فعيل

بكثرة عن فاعل بديل

فالكفّار والعنيد كلاهما صيغتا مبالغة. ويقال إن الخطاب يوم القيامة يوجّه إلى محمد وعليّ عليهما صلوات الله وسلامه وهما المنجيان لمحبّتهم من النّار ، فعن السّجاد عن أبيه عن جدّه أمير المؤمنين عليهم‌السلام جميعا ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله إذا جمع النّاس يوم القيامة في صعيد واحد ، كنت أنا وأنت يومئذ عن يمين العرش ثم يقول الله تبارك وتعالى لي ولك : قوما فألقيا من أبغضكما وكذّبكما في النّار. وفي المجمع والأمالي من طريق إخواننا العامة مثله (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي كثير المنع والبخل عن الإنفاق وصلة الأرحام وسائر الأمور الخيريّة وأعمال البرّ

١٤

(مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) شاكّ في الله وفي دينه ومتعدّ على حرماته جلّ وعلا. (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) أي ارمياه في نار جهنم فإن النّار أشدّ عذابه أعاذنا الله تعالى منها فإنها من شدّة حرارتها صارت سودّة ومن هول أصواتها تتقطّع الأفئدة.

٢٧ ـ (قالَ قَرِينُهُ ...) قرينه هو شيطان لأن كلّ إنسان يولد يولد معه شيطان أو يوجد ويخلق بإذن من الله ويكون قرينه دائما وهو يوسوس له. فقال قرينه : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي ما أنا الذي جعلته طاغيا باغيا متمرّدا على الدّين ومصرّا على الكفر ، ولكنه هو اختاره ، فإن إغواء الشيطان إنما يؤثّر في من كان مختل العقيدة والرّأي مائلا إلى الفجور كما قال (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ، فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) وقوله (فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي في ضلالة بعيدة عن الحق والحقيقة وعن الرّشاد والهداية. والرّشد خلاف الغيّ والضّلال.

٢٨ ـ (قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ...) أي لا تتنازعوا أمامي في موقف الحساب فان ذلك غير مفيدة لأنّي أتممت الحجة عليكم برسلي وبما قرّرت في كتبهم وهم قرءوها عليكم وبلّغوها إليكم (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) فما بقي لكم بعد من قول مسموع.

٢٩ ـ (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ...) أي تبديل القول وخلفه لا يجوز عندنا سواء كان القول منّا أو منكم ، فنعمل على طبق جزائه سواء كان خيرا أو شرّا. وأمّا العفو عن بعض المذنبين لبعض الأسباب فليس من التبديل ، لأنه إنما يكون عمّى قضي بالعفو عنه لأنه لم يرتكب كبائر توجب النار ، فهو أيضا مما لا يبدّل القول فيه (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فاعذّب من ليس لي تعذيبه.

* * *

١٥

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥))

٣٠ ـ (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ...) وهذا السّؤال والجواب باعتبار ما يأتي فلا بعد فيه ، ألا ولسان الحال. وعلى التصوّرين لا معنى لحملهما على التخييل والتّصوير كما قيل بل نقول إنّ جهنّم بل ونارها قابلان للمآل للسؤال والجواب لأنّ كلّ شيء من الأشياء الدنيويّة ، أو الأخرويّة له حياة بمقتضى الآية الشريفة : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) وهذه الشريفة دالّة بظاهرها على حياة الأشياء في الدّنيا وبطريق أولى تدل على حياة بعض الأشياء في الآخرة لأنّها دار حياة كلّ شيء فيها حتى حجرها ومدرها. والمدر هو الطين اليابس. والحاصل أن الآية الشريفة تدلّ على أن جهنّم تتسع لأهلها وتزيد فتطلب الزيادة لتنتقم من الظالمين ولأنها حريصة على تعذيب أهلها بحيث كلّما ألقي فيها قوم فإنها لا تشبع منهم وتصيح : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) فتطرح فيها الجنّة والنّاس فوجا فوجا حتى تمتلئ. وقال القمّي : هو استفهام حقيقة يكشف عن غاية ميلها لتحريق العصاة أعاذنا الله منها فإنها تسأل : هل من مزيد. والحاصل فإن الجنة تقول : ربّ وعدت النّار أن تملأها ووعدتني أن تملأني فلم أمتلئ وقد ملئت النّار. وقيل فيخلق الله يومئذ خلقا ، فيملأ بهم الجنّة. وقد قال أبو عبد الله عليه‌السلام : طوبى لهم لم يروا غموم الدّنيا وهمومها.

٣١ إلى ٣٤ ـ (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ...) أي دنت وقربت الجنّة لهم. وفسّرت المباركة بزيّنت. وهذا التفسير قريب للموضوع ومناسب للمقام

١٦

(غَيْرَ بَعِيدٍ) أي لا بعد فيه بينها وبين أهلها (هذا ما تُوعَدُونَ) أي ينادي المنادي من فوق العرش بهذا النداء (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) يعني لكلّ من يسبّح له سبحانه حافظ يحفظه من كل آفة وعاهة. وهو (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) أي بقلب راجع إليه تعالى بالتّوبة والانابة ومنه قوله سبحانه وتعالى (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي راجعين إليه جلّ وعلا. وخشية الله هي الخوف من عقابه ، وخشيته بالغيب خاصة هي دوام الخوف منه حتى في الخلوات التي لا يراه فيها غير الله سبحانه وتعالى. (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) يقال لأهل الجنة ادخلوها بسلامة من العذاب والغم ومسلّما عليكم من الله (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) أي يوم الإقامة الدائمة في الجنّة إلى أبد الأبد.

٣٥ ـ (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ ...) هو ما لا رأت عين ولا سمعت أذن بل ولا خطر على قلب بشر من النّعم التي أعدّها الله لعباده الصالحين ، بل عند سبحانه مزيد من تلك النّعم يفيضها حين يشاء على المؤمنين به وبرسله.

* * *

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠))

١٧

٣٦ و ٣٧ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ...) أي كم دمّرنا من قوم وأمة قبل قومك في الأزمنة القديمة الماضية (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) البطش الأخذ بسرعة أو بعنف وسطوة وقوّة (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) تفحّصوا في البلاد وتجسّسوا فيها لتحصيل الأخبار وما يجري في البلاد ليطّلع عليها رأس القوم ورئيس العشيرة ، أو جالوا في الأرض. وأصل النّقيب التّنقير في الشيء والبحث عنه (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) يعني هل من مفرّ لهم من الله أو من الموت؟ أعني ليس لهم من محيص والمحيص المختبر المطهّر من الذنوب. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي عقل يتعقّل به ويتفكّر فيما يقال له من عنده تعالى بواسطة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَهُوَ شَهِيدٌ) الواو حاليّة ، والشهيد صيغة مبالغة أي في حال هو حاضر بجميع مراتب الحضور حتى يفهم معانيه. وفي تنكير القلب وإبهامه تفخيم وإشعار بأن ليس كلّ قلب له قابليّة التدبّر والتفكّر بل ذاك لصاحب القلب المتدبر في الحقائق. وفي المعاني عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال بصوت عال : أنا ذو القلب ، ثم تلا هذه الآية.

٣٨ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ...) أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي ما أصابنا من تعب ولا عياء. وهذه الشريفة ردّ لقول اليهود أن الله استراح يوم السّبت ، فعلى قولهم شرع يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش أي نام على قفاه على سريره مستريحا ، تعالى الله عن التجسيم وعن أن يحتويه مكان أو أن يحدّ بحدّ.

٣٩ و ٤٠ ـ (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ...) أي اصبر على ما يقوله المشركون من تكذيبك فإنهم لا يعجزون الله (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي نزّهه عمّا يقول الكافرون من اليهود وعمّا لا يليق به (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) أي عند الفجر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي فسبّحه

١٨

بعض اللّيل (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) أي في عقيب الصّلاة. وعن الصّادق عليه‌السلام هو الوتر آخر اللّيل.

* * *

(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

٤١ و ٤٢ ـ (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ...) أي انتظر بهم إلى اليوم الذي ينادي فيه إسرافيل عليه‌السلام بصيحته التي توقظ الأموات ويحيي الله تعالى الأجساد للبعث والنشور ، فيسمع الكلّ على حدّ سواء ، وذلك (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ) أي تلك النّفخة الثانية في الصور (بِالْحَقِ) أي بالوعد الحقّ الذي لا خلف فيه (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) أي يوم الرجعة والبعث للحساب والخروج من الأجداث. وفي القمّي : الآية الكريمة تعني الصيحة باسم القائم عجّل الله تعالى فرجه وباسم أبيه ، وذلك يوم خروجه المبارك ليطهّر الأرض من الظالمين.

٤٣ و ٤٤ ـ (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ...) أي نحيي الأحياء في الدنيا ، ثم نميتهم بقدرتنا ومشيئتنا ، وإلينا مصيرهم وما لهم في الآخرة (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ) تنفتح عنهم قبورهم والأماكن التي ابتلعت رفاتهم من الأرض (سِراعاً) فيأتوننا مسرعين لأن (ذلِكَ) الأمر (حَشْرٌ) جمع (عَلَيْنا يَسِيرٌ) سهل يتم بكامل السرعة والسهولة.

١٩

٤٥ ـ (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ...) أي نحن أدرى بقولهم كلّه. وهذا تهديد لهم من جهة ، وتسلية لقلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة أخرى ، ولذلك قال سبحانه له : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي لست عليهم بمتسلّط لتقهرهم وتجبرهم بالإيمان (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) أي حذّر ونبّه به من يخشى تهديدنا ويخاف وعيدنا فإنه لا ينتفع بالقرآن غيره. وفي ثواب الأعمال والمجمع عن الإمام الباقر عليه‌السلام : من أدمن في فرائضه ونوافله سورة ق وسّع الله عليه في رزقه ، وأعطاه كتابه بيمينه ، وحاسبه حسابا يسيرا.

* * *

٢٠