الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠))

٧ إلى ١٠ ـ (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا) ... هذا خطاب لعباده المكلّفين بالطاعات يأمرهم فيه بالإيمان والتصديق بوحدانيّته سبحانه وبعبادته (وَ) ب (رَسُولِهِ) أي صدّقوا به واعترفوا بأنه نبيّ مرسل (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي ابذلوا في سبيل الله وفي الوجوه التي أمركم من المال الذي يسّره لكم بالميراث أو بالكسب وجعلكم ولاة عليه مدة حياتكم ، وقبل أن تموتوا وتزول ولايتكم عنه (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي للمؤمنين بالله وبرسوله وكتابه ، المنفقين في سبيله ، جزاء كبير وثواب عظيم. ثم أنكر سبحانه عليهم عدم امتثالهم ووبّخهم على عدم تصديقهم فقال : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) يعني ما الذي يمنعكم من التصديق به مع الدلائل الكثيرة الواضحة (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) ونبيّه (ص) ينذركم ويحذّركم ويطلب إليكم أن تؤمنوا بخالقكم (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) بما جعل سبحانه في عقولكم من التفكير الذي يمكن أن يوصل إلى الإيمان بالدلائل الواضحة ، والميثاق هو الأمر الذي يجب العمل بمقتضاه لأنه يؤكّد ذلك بين المواثقين ، فافعلوا ذلك (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إذا كنتم مصدّقين فعلا ، فلا عذر لكم في ترك الإيمان بعد إزاحة العلة ولزوم الحجة للعقول المنكرة والقلوب الواعية. ثم أخذ يشرح دلائله بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (آياتٍ بَيِّناتٍ) براهين واضحة (لِيُخْرِجَكُمْ) الله بتلك

١٠١

البراهين وبالقرآن (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من الكفر إلى الإيمان والهداية (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) وذلك بأنه رحمكم ومنّ عليكم بأن أرسل إليكم رسولا ونصب أدلّة ولم يترك مجالا لبقائكم على الضلال. ثم عاد يحثّ على الإنفاق في سبيله لأهمية هذا الإنفاق الذي يقرّب منه عزوجل فقال منكرا : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ما تنتظرون من وراء ترككم للإنفاق ، وأي شيء يتوفّر لكم بالبخل؟ (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكل ما فيهما يبقى له سبحانه بعد فناء من فيهما من الجنّ والإنس والملائكة ، فاستوفوا حظوظكم من الأموال التي استخلفكم عليها قبل أن تصير ميراثا لغيركم. ثم بيّن تعالى فضل السابقين للإنفاق في سبيله فقال : (لا يَسْتَوِي) أي لا يتساوى (مَنْ أَنْفَقَ) من ماله في سبيل الله (مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ ، وَقاتَلَ) الكفار ، فإن (أُولئِكَ) الفاعلين لذلك (أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) أي بعد فتح مكّة أعزها الله. فالنفقة على جيش الإسلام مع الجهاد قبل فتحها ، أعظم ثوابا عند الله من النفقة والجهاد بعده (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي وعد هؤلاء وهؤلاء بالجنّة وإن تفاضلوا في درجاتها (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي أنه عليم بكل ما تفعلونه ولا يخفى عليه شيء من حالكم ومقالكم وإنفاقكم وجهادكم ، بل هو أعلم بجميع تصرّفاتكم ونيّاتكم.

* * *

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ

١٠٢

لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))

١١ إلى ١٥ ـ (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ... القرض هو ما تعطيه لغيرك ليقضيك إياه حين توفّره لديه. فمن منكم أيها الناس ينفق من ماله في سبيل الله ثم يعتبره قرضا لله ودينا عليه سبحانه بطيبة نفس (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) أي يجعل له جزاء إقراضه هذا من سبعة إلى سبعين ضعفا ، بل إلى سبعمائة؟ وقد قالوا إن القرض الحسن يجب أن تتوفّر فيه عشر صفات ، هي : أن يكون من الحلال ، ومن أكرم ما يملكه صاحبه دون الرديء ، وأن يتصدق وهو يحب المال ويرجو الحياة ، وأن يكتمه ما أمكن ، وأن لا يتبعه المنّ والأذى ، وأن يقصد به وجه الله ولا يرائي بذلك ، وأن يستحقر ما يعطي وإن كثر ، وأن يكون من أحبّ ماله إليه ، وأن يضعه في الأحوج الأولى بأخذه (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي لهم ثواب وجزاء خالص كثير ، وقد وصف بالكريم لأنه يجرّ نفعا كثيرا ، وهو هنا الجنّة (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) يا محمد في ذلك اليوم (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي أن ضياءهم الذي خلعه عليهم ربّهم تبارك وتعالى لإيمانهم يضيء لهم طريق الصراط ويكون دليلهم إلى الجنّة. وعن قتادة كما في المجمع أن المؤمن يضيء له نور كما بين عدن إلى

١٠٣

صنعاء ، ودون ذلك ، حتى أن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلا موضع قدميه. (وَبِأَيْمانِهِمْ) يعني كتب أعمالهم يأخذونها بأيمانهم ثم يبشّرون فتقول لهم الملائكة : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) باقين مؤبّدا وقد مرّ تفسير مثلها (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي أن هذا هو الظّفر والنجاح والحصول على المطلوب على أكمل وجه يتمّناه الناس في الآخرة. وبعد هذا البيان لحال المؤمنين في يوم القيامة قال جلّ جلاله : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا) بعد أن يروا ما هم عليه من النور والبشرى والنعيم : (انْظُرُونا) أي اصبروا نلحق بكم و (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أي مهلا حتى نستضيء بنوركم ونتخلّص من هذه الظّلمات (قِيلَ) للكافرين : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) أي عودوا إلى المحشر حيث كنتم وحيث خلع الله تعالى علينا هذا النور وهذا البهاء (فَالْتَمِسُوا) هناك (نُوراً) تستضيئون به ، فيرجعون فلا يجدون شيئا. وقيل إن المراد من قول المؤمنين لهم (ارْجِعُوا) أي ارجعوا إلى الدنيا واعملوا بالطاعات كما عملنا ليحصل لكم مثل نورنا الذي حملناه بالإيمان (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) أي أقيم بين المؤمنين والكافرين سور ، أي جدار حاجز عال يحول بينهم. والباء في (بِسُورٍ) زائدة وهذا مثل قوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، أي ليس ظلاما. وذلك السور يقام بين الجنّة والنار يفصل بين الفريقين (لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) أي من جهة ذلك الظاهر العذاب أي جهنم كما أن الرحمة من جهة الجنّة (يُنادُونَهُمْ) أي أن المنافقين ينادون المؤمنين قائلين : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) ألم نكن سوية في الحياة الدنيا نفعل ما تفعلون من صيام وقيام وغيرهما؟ (قالُوا بَلى) هذا جواب المؤمنين ، أي : نعم كنتم كذلك (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي غششتم أنفسكم وأخذتم بفتنة النّفاق ورجعتم عن الإسلام (وَتَرَبَّصْتُمْ) أي انتظرتم بمحمد (ص) الموت حتى تخلصوا منه وتستريحوا ممّا جاءكم به من عند ربه ، أو تربّصتم به

١٠٤

(ص) وبالمؤمنين كلّ سوء (وَارْتَبْتُمْ) أي شككتم في أصل الدين (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) أي غشّتكم الآمال بأن تدور الدائرة بالمؤمنين فيهلكون (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) يعني غرّكم الشيطان فأطعتموه لأن الله أمهلكم ولم ينتقم منكم في الدنيا (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) أي لا يفيدكم أن تدفعوا بدلا تفدون به أنفسكم لتنجوا من العذاب (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الذين تظاهروا بالكفر الذي أبطنتموه (مَأْواكُمُ النَّارُ) أي مقرّكم الدائم الذي تأوون وتدخلون إليه (هِيَ مَوْلاكُمْ) يعني هي أولى بكم لكثرة ذنوبكم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وهي مصير بئيس تعيس.

* * *

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧))

١٦ و ١٧ ـ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ) ... أنى يأني إنّى يعني : حان وقته. والمعنى : ألم يحن ويجيء الوقت الذي تلين فيها قلوب المؤمنين (لِذِكْرِ اللهِ) فترقّ لما يسمعون من تذكيره سبحانه ووعظه لهم بالآيات البيّنات (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) أي وتلين أيضا للقرآن الذي جاء بالحق من عند الله (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي اليهود والنصارى (مِنْ قَبْلُ) أي من قبلهم (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) أي الزمان قد بعد بينهم وبين رسلهم فاغترّوا بالدنيا وفارقوا تعاليمهم (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) غلظت وصارت قاسية تقبل المعاصي دون وجل لأنهم تعوّدوا

١٠٥

عليها. وممّا روي عن عيسى عليه‌السلام أنه قال : لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسوا قلوبكم ، فإن القلب القاسي بعيد من الله ، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب ، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد. والناس رجلان : مبتلى ومعافى ، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) مارقون وخارجون عن إطاعة أوامر الله متمرّغون بمعاصيه (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يعني يحييها بالمطر فينبت النبات بعد يباسه وتخضرّ الأرض بعد جدوبتها ، وهو كذلك يحيي الكافر الميّت القلب بالإيمان والهدى إلى الحق ، ويليّن القلوب بعد قساوتها (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) أي أوضحنا لكم البراهين والحجج (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) بأمل أن ترجعوا إلى طاعتنا بعد التفكّر والتدبّر.

* * *

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠))

١٠٦

١٨ إلى ٢٠ ـ (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ ...) قد مرّ سابقا الاختلاف في قراءة (الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) و (الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) والحاصل أن المتصدقين والمحسنين إلى الفقراء والمساكين ، من الرجال والنساء (وَ) الذين (أَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي بذلوا في سبل الخير ، فأولئك (يُضاعَفُ لَهُمْ) ما بذلوه من قرض لله عزوجل (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) مرّ تفسيره في هذه السورة المباركة (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) يعني صدقوا بهم فوحّدوا الله واعترفوا بنبوّة أنبيائه (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) أي شديد والتصديق بحقّ وحقيقة. وعن مجاهد أن كلّ من آمن بالله ورسله فهو صدّيق وشهيد. فهم الصدّيقون (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي وأولئك هم كذلك ، و (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أي ثوابهم محفوظ لهم ، وكذلك نورهم الذي يهتدون به إلى طريق الجنّة. وفي العياشي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أن منهال القصّاب قال له : ادع الله أن يرزقني الشهادة. فقال له : إن المؤمن شهيد ، وقرأ هذه الآية. وعن الباقر عليه‌السلام أنه قال : العارف منكم هذا الأمر ، المنتظر له ، المحتسب فيه الخير ، كمن جاهد والله مع قائم آل محمد عليه‌السلام بسيفه. ثم قال : بل والله كمن جاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بسيفه. ثم قال : ثالثا : بل والله كمن استشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في فسطاطه. ثم قرأ هذه الآية الكريمة وقال : صرتم والله صادقين شهداء عند ربّكم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي في النار يبقون فيها دائما وأبدا فكأنهم ملكوها وصاروا أصحابها (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي أنها بمنزلة اللهو الذي لا بقاء له مهما طال وقته. وقيل إن اللعب ما رغّب في الدنيا ، واللهو ما ألهى عن الآخرة. فهي كذلك ، وهي (زِينَةٌ) يتزيّن أهلها بها فتحلو في أعينهم ، وهي (تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) يفاخر بعضكم بعضا بزخرفها (وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) بحيث تجمعون منها ما يحلّ وما لا يحل

١٠٧

وتفنون أعماركم في كنز المال وذلك (كَمَثَلِ غَيْثٍ) أي مثل مطر (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) أي أعجب الزارعين ما ينبت فيها من ذلك المطر ، وقد ذكر إعجاب الكفّار دون غيرهم لأنهم أكثر إعجابا بمفاتن الدنيا وملاذّها (ثُمَّ يَهِيجُ) ذلك النبات أي يصيبه اليباس (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) قد ضرب إلى الصّفرة وبلغ غايتها (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) مهشّما مكسّرا قشّه ، وقد عرضنا الشرح ذلك المظهر في سورة يونس (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) مخصوص بأعدائه سبحانه وتعالى (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) للمؤمنين به ولأهل طاعته (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي أنها سبب غرور لمن اغترّ بها واشتغل بطلبها ، والمتاع يستهلك ويزول ويفنى ، والدنيا كذلك فلا تغترّوا بها.

* * *

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤))

٢١ إلى ٢٤ ـ (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ... هذا ترغيب منه

١٠٨

سبحانه في المسابقة إلى الرغبة في الجنّة والرضوان ، يعني بادروا إلى صالح الأعمال والتوبة وطلب المغفرة (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فسابقوا إلى جنّة هذا وصفها. وقد ذكر سبحانه عرضها ولم يذكر طولها لأن هذا العرض الهائل لا بدّ له من طول أعظم ، ولأن الطول قد يكون بعرض قليل ولا يصح عرض كبير بطول أصغر منه ،! ولأن عرضها هكذا ، فإن طولها لا يعلمه غير خالقها جلّ وعلا ، فسبحانه أين خلقها وأين وضعها بهذه السعة العجيبة؟ وقد (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي هيّئت لهم لأنهم صدقوا (بِاللهِ وَرُسُلِهِ) وآمنوا بما جاء به رسله الكرام (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي أنها تفضّل منه تعالى على المؤمنين وإن كانوا لا يستحقونها كما هي فقد أعطاهم منها ما يستحقونه مع زيادة تفضليّة (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي هو سبحانه صاحب الإحسان الجسيم إلى عباده المطيعين في الآخرة. ثم انتقل إلى معنى آخر يبيّن عظمته جلّ وعلا فقال : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) كالقحط وقلة المطر ونقص الإنتاج وغيره (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) من مرض أو غيره ، ما من شيء من ذلك (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي أنه مثبت مذكور في اللوح المحفوظ (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) يعني من قبل أن نخلقها ونوجدها ليستدل ملائكته وسائر عباده أنه سبحانه عالم لذاته يعرف جميع الأشياء بمجملها ومفصّلها (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي سهل هيّن بالرغم من كثرته. وقد أخبر بذلك وبيّن أنه عالم بما كان وبما يكون (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) أي حتى لا تحزنوا على ما لا تصيبونه من نعيم الدنيا وملذّاتها (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي لا تسرّوا كثيرا بما منحكم الله من عطاءاتها ، ذلك أنه تعالى ضمن لعبده الصالح عوض ما فاته منها ، وكلّفه بالشكر على ما ناله فيها ، فيصرف تفكيره لما ينال به رضا الله تعالى في الآخرة الباقية الدائمة (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي يكره كل متكبّر يتعاظم على الناس. و (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بأداء ما كلّفوا به من الواجبات (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ)

١٠٩

يحثونهم عليه (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي يعرض وينصرف عمّا ندبه الله تعالى إليه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عنه وعن طاعاته وصدقاته وإحسانه ، وهو (الْحَمِيدُ) أي أهل الحمد والشكر على نعمه الجزيلة وفضله العميم.

* * *

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧))

٢٥ إلى ٢٧ ـ (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) ... أي بعثناهم بالبراهين والمعجزات والدلائل (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي الكتب السماويّة المتضمّنة للأحكام ولكل ما يحتاج إليه الخلق (وَ) أنزلنا كذلك (الْمِيزانَ) إمّا ذا الكفّتين الذي نزن به الأشياء ، وإمّا صفة الميزان الذي يحقّق العدل في المعاملات (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي ليتعاملوا فيما بينهم

١١٠

بالعدل (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) كذلك لفائدتكم. وفي المجمع روى ابن عمران النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض ، أنزل الحديد ، والنار ، والماء ، والملح أما معنى (أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) فهو : أحدثنا وجوده في الأرض وأنشأناه ، أي أنعمنا به عليكم و (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) أي قوّة لأنه يستعمل في الحرب وفي كثير من الصناعات (وَ) له (مَنافِعُ لِلنَّاسِ) فوائد ينتفعون بها في معاشهم كالسكين والفأس والإبرة (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) هذا عطف على قوله (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي ليعرف الله نصرة من ينصره وجهاد من يجاهد مع رسوله الكريم (ص) و (بِالْغَيْبِ) يعني في الواقع من غير مشاهدة بالعين (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) يغلب أعداءه ويقهرهم (عَزِيزٌ) منيع من أن يعترض عليه معترض من سائر خلقه. ثم أتى سبحانه على ذكر بعض الأنبياء وهو يتحدث عن رسله فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) فخصّهما بالذكر لأنهما أبوا الأنبياء المتأخرين عنهما ولفضلهما أيضا (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) فالأنبياء المتأخرون عنهم كلّهم من نسلهما. ثم تكلّم عن نسلهما إجمالا فقال : (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) إلى الحق وطريق الهدى (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن طاعة الله متّبعون لمعصيته (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أي أتبعناهم برسل آخرين إلى أمم أخرى واحدا بعد واحد (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) من بعدهم أيضا (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في دينه ، وهم الحواريّون ومن اتّبع عيسى عليه‌السلام رأفة هي أشد الرحمة والرقّة فيها (وَرَحْمَةً) عطفا وشفقة (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) وهي طريقة العبادة في الكنيسة أو في محلّ منفرد عن الناس والتنسّك الدائم والانقطاع عن الدنيا ، وهذا شيء لم نكلّفهم ولكنهم ابتدعوا ما فيها من رفض النساء واتّخاذ الصوامع رغم أننا لم نكتبها عليهم فلم يتّبعوها (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) أي رغبة في رضاه ، ولكن (فَما رَعَوْها حَقَ

١١١

رِعايَتِها) أي ما حفظوها بحسب الأصول التي وضعوها لها. وفي المجمع في الخبر المرفوع عن النبيّ (ص) فما رعاها الذين بعدهم حقّ رعايتها وذلك لتكذيبهم بمحمد (ص) (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) أي أعطيناهم ثواب طاعتهم وتصديقهم وهم الذي آمنوا بالنبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي كافرون ، وقد قال رسول الله (ص): من آمن بي وصدّقني واتّبعني فقد رعاها حق رعايتها ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

٢٨ و ٢٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) ... قال ابن عباس : يا أيها الذين (آمَنُوا) ظاهرا (آمَنُوا) باطنا (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) أي نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) من عفوه ولطفه ، لإيمانكم بمن قبل نبيّكم ، ولإيمانكم به صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) يعني يجعل لكم هدى ، أو هو نور القرآن المحتوي للأدلة والبراهين الساطعة التي هو نور يمشي به الإنسان في يوم القيامة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) يعفو عن ذنوبكم ويسترها عليكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مرّ تفسيره (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وحسدوا من آمن منهم (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ) ألّا : هي (أن) المخفّفة و (لا)

١١٢

والتقدير : أنهم لا (يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) من أهل الاستحقاق (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يمنّ على من يشاء من عباده الصالحين. وقيل ان المقصود هنا هو النبوّة ، أي أنهم لا يقدرون على فرض نبوّة الأنبياء ولا على صرفها عمّن يشاء من مستحقّيها. والحاصل أن المعنى هو : إن الله يفعل بكم هذه الأشياء ليتبيّن جهل أهل الكتاب وأنهم لا يعلمون ما يؤتيكم الله من فضله ، ولا يقدرون على تغيير شيء.

* * *

١١٣

سورة المجادلة

مدنية وآياتها ٢٢ نزلت بعد المنافقين.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤))

١١٤

١ ـ (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) ... هذه الآية وما بعدها نزلت في امرأة من الأنصار اسمها خولة بنت خويلد واسم زوجها أوس بن الصامت وكانت وسيمة جميلة القوام والهيئة رآها زوجها وهي ساجدة في صلاتها فلما انصرفت منها أرادها بعد الصلاة بلا فصل فلم تستجب له ، فغضب لسرعة فيه وقال لها : أنت عليّ كظهر أمي. وكان هذا القول يعتبر محرّما للمرأة على زوجها بحسب عرفهم وهو الظهار الذي كان يعدّ طلاقا في الجاهلية. وقد ندم الزوج بعد قوله هذا وقال ما أظنك إلّا حرمت عليّ. فقالت : لا تقل هذا واذهب إلى النبىّ (ص) فاسأله عن حكم الظهار في الإسلام. قال : إن أخجل من سؤاله ، فقالت : دعني أنا أسأله. وأتت النبيّ (ص) وقصّت عليه ما جرى وقالت هل من شيء يجمعني به؟ فإنه لم يذكر طلاقا وهو أبو ولدي وأحبّ الناس إليّ. فقال (ص) : ما أراك إلّا حرمت عليه ولم أؤمر في شأنك بشيء. فقالت : أشكو إلى الله فاقتي وشدّة حالي. اللهم فأنزل شيئا على لسان نبيّك (ص). وما كان أسرع من أن أخذه مثل السّبات إلى أن قضي الوحي فأفاق وقال : ادعي زوجك ، فدعته فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ، إلى آخر الآيات. فسبحان من هو أسمع السامعين وأبصر الناظرين الذي سمع يا محمد مجادلة هذه الزوجة التي تراجعك بشأن زوجها وقد سمع حوار كما وما أظهرته من شكوى ومكروه (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) شديد السمع ، (بَصِيرٌ) شديد البصر ، يسمع السرّ وأخفى ويعلم وساوس الصدور.

٢ إلى ٤ ـ (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ...) أي هذا حكم الرجال الذين يقولون لنسائهم : أنتنّ كظهور أمّهاتنا : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) يعني لسن بأمّهاتهم ولا يصرن أمّهاتهم بهذا القول (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) وليس أمهاتهم إلّا الوالدات لهن من بطونهنّ (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) أي أن المظاهرين لا يعرفون الحكم الشرعي وقولهم

١١٥

خلاف الشرع يقولونه هجرا (وَزُوراً) أي كذبا لأن المظاهر منها لا تصير أمّا ولا يجري عليها حكم الأم (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) يعفو عمّن يقول ذلك ولكنه يأمرهم بالتكفير عن هذا المنكر وهذا بيان حكمهم : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) يعني يفعلون ما ذكرناه من الظهار (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) أي يرجعون في القول ويرغبون في استحلالهنّ ونكاحهنّ بعد أن ظنوا حرمتهنّ عليهم وندموا على ما قالوا (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فعليهم عتق رقبة قبل أن يجامعوا نساءهم اللاتي ظاهروا منهنّ (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) أي هذه الصعوبة في الحكم هي وعظ لكم لتتركوا الظهار (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عالم بأعمالكم فاحذروا من عدم الاتّعاظ وكفّروا عن خطئكم قبل وطئهنّ (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي فمن لم يجد رقبة يعتقها (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فعليهم صيام شهرين متّصلين قبل الجماع. والتتابع أن يوالي بين أيام الشهرين الهلاليّين أو صيام ستين يوما دفعة واحدة والتفصيل في كتب الفقه (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أي لم يقدر على عتق الرقبة ولا قوي على الصوم (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) أي أن يطعم ستين فقيرا لكل واحد نصف صاع فإن لم يقدر فمدّ من طعام (ذلِكَ) أي ذلك الفرض عليكم (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) لتصدقوا بما أمر به الله وبلّغه رسوله (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي ما ذكره من الكفّارات في الظهار هي أحكام الله عزوجل (وَلِلْكافِرِينَ) أي الجاحدين بها (عَذابٌ أَلِيمٌ) عذاب موجع في الآخرة.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا

١١٦

أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦))

٥ و ٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) أي الذين يعادون الله ورسوله ويخالفونهما (كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي ذلّوا وأخزاهم الله كما أخزى وأذلّ من سبقهم من المشركين (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) أي دلائل وحججا واضحات في القرآن الكريم (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) يعني وللجاحدين ما أنزلناه فيه على رسولنا عذاب فيه إهانة لهم وخزي وذل (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي يجمعهم ويحشرهم إليه بعد أن يحييهم للحساب (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي يخبرهم بأفعالهم ومعاصيهم التي أثبتها في كتب أعمالهم (وَنَسُوهُ) وذهب عن بالهم كأنهم لم يفعلوه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي أنه سبحانه يعلم كل شيء من جميع وجوهه ويراه ولا تخفى عليه خافية ، والشهادة هنا العلم ، وهو كقوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، أي علم.

* * *

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ

١١٧

حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

٧ و ٨ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمقصود به سائر المكلّفين. وفيه استفهام يفيد التقرير أي اعلموا أن الله محيط بجميع المعلومات في السماوات والأرض ولا يفوته شيء مما يجري فيهما لأنه صدر عن تقديره وبعلمه ، ولذلك (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) يعني أن نجواهم معلومة عنده كأنه كان رابعا لهم حين المناجاة (وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) أي حين يتناجى خمسة يعرف نجواهم كأنه سادس المتناجين يعرف سرّهم وما قالوه (وَلا أَدْنى) أقل ممّا ذكر (مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) يعني أنه مطّلع على تصرفات الكلّ فرادى ومجتمعين كأنما هو معهم وشاهد لهم فهو مع الإنسان أينما كان ولا يخفى عليه أمر من أموره (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لأنه شاهد ومشاهد لكل ما يخصّه. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) أي ألم تعرف حال هؤلاء الذين يتحدّثون سرّا بما يؤذي المسلمين ويجلب لهم الغمّ والحزن وهم المنافقون واليهود وأعداء الذين (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) أي يرجعون إلى ما كانوا عليه من المناجاة رغم نهيهم عنها (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) أي يتسارّون فيما بينهم بما يخالفون به رسولنا (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) الذي نهاهم عن مثل هذه النجوى فعصوه

١١٨

وفعلوها مكرّرا (وَإِذا جاؤُكَ) يعني إذا أتوا إلى عندك وترددوا عليك (حَيَّوْكَ) سلّموا عليك (بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) بغير التحية التي حيّاك بها ربّك ، لأن اليهود كانوا يقولون له (ص) : السام عليك ، والسام هو الموت بلغتهم ، وهم يوهمون أنهم يقولون : السلام عليك. وكان النبيّ (ص) يعرف ذلك منهم ويجيبهم قائلا : وعليك. (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي فيما بينهم وبين بعضهم (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) يعني إذا كان هذا نبيّا حقّا فهلّا يعذّبنا الله بقولنا له كذلك؟ وقد أجاب سبحانه على تساؤلهم : (حَسْبُهُمْ) أي تكفيهم (جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها) النار يحترقون فيها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فبئس المآل مآلهم في جهنم.

٩ و ١٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ ...) أي تساررتم فيما بينكم (فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) يعني لا تفعلوا مثل فعل اليهود والمشركين الذين يتهامسون فيما يؤذي النبيّ والمسلمين (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي بفعل الخير وتجنّب ما يغضب الله وترك معاصيه (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون إليه يوم القيامة ليثيبكم على إيمانكم وطاعاتكم (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) يعني نجوى الكافرين والمنافقين بما يسوء المؤمنين هي نجوى تنبعث عن وسوسة الشيطان اللعين وبإغوائه (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ليجلب لهم الحزن (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً) فهو لا يجلب عليهم ضررا ولا سوءا (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) يعني بعلمه بحيث يكون سببا لإيلامهم وحزنهم وكربهم ، وقيل إنه يضرهم بأن يحزنهم في اليقظة وفي الأحلام. وروى ابن مسعود أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما ، فإن ذلك يحزنه.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا

١١٩

يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١))

١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ ...) التفسّح هو التوسيع في المجلس أو المكان ، وهذا يعني أن عليكم أيّها المؤمنون أن تتّسعوا في مجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي جميع مجالس الذكر بحيث يفسح كل واحد لأخيه كي يجلس ويجد مكانا له (فَافْسَحُوا) توسّعوا (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي يوسّع الله تعالى لكم المجالس في الجنّة (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) أي قوموا واتركوا المكان لإخوانكم (فَانْشُزُوا) قوموا وانهضوا. وقيل معناه انهضوا إلى الصلاة والجهاد فلا تقصّروا في ذلك. وقيل إنها نزلت في جماعة كانوا يطيلون المكث في مجلس رسول الله (ص) ولا يتركون المجالس لغيرهم فأمروا بذلك. فان تفعلوا ذلك (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي يرفع المؤمنين على غيرهم بطاعتهم للنبيّ (ص) ثم يرفع الذين أوتوا العلم منهم على الذين لم يؤتوا العلم درجات بفضل علمهم وسابقتهم في الجنّة. وفي هذه الآية الكريمة دلالة على فضل العلم وجلالة أهله. وفي الحديث أنه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة ، وفضل النبيّ على العالم درجة ، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ، وفضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم (بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عليم كما سبق وقلنا.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ

١٢٠