الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

الوحي أربعين يوما فقال المسلمون : ما ينزل عليك الوحي يا رسول الله؟ فقال : وكيف ينزل عليّ الوحي ، وأنتم لا تنقّون براجمكم ـ أي لا تنظّفون عقد أصابعكم التي يجتمع فيها الوسخ ـ ولا تقلّمون أظفاركم؟ ولمّا نزلت السورة الشريفة قال النبيّ (ص) لجبرائيل (ع) : ما جئت حتى اشتقت إليك؟ فقال جبرائيل (ع) : وأنا كنت أشد إليك شوقا ولكنّي عبد مأمور ، وما نتنزّل إلّا بأمر ربّك. وقيل إن اليهود سألوا رسول الله (ص) في هذه الفترة عن ذي القرنين وعن أصحاب الكهف وعن الروح ، فقال سأخبركم غدا ، ولم يقل إن شاء الله فاحتبس عنه الوحي هذه الأيام فاغتمّ لشماتة الأعداء ، فنزلت السورة تسلية لقلبه وقال سبحانه فيها : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) أي أن ثواب الآخرة المعدّ لك خير ممّا في الدنيا الزائلة والحياة فيها ، ففي المجمع ان ابن عباس : أن له في الجنّة ألف ألف قصر من اللؤلؤ ، ترابه من المسك ، وفي كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم على أتمّ الوصف (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) أي سيمنحك من الشفاعة وأنواع الكرامة ما ترضى به. فعن محمد بن الحنفية أنه قال : يا أهل العراق تزعمون أن أرجى آية في كتاب الله عزوجل : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) إلخ ... وإنّا أهل البيت نقول : أرجى آية في كتاب الله : ولسوف يعطيك ربّك فترضى ، وهي والله الشفاعة ليعطينها في أهل لا إله إلّا الله حتى يقول : ربّ رضيت. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : أن رسول الله (ص) دخل على فاطمة عليها‌السلام وعليها كساء من ثلة الإبل وهي تطحن بيدها وترضع ولدها فدمعت عينا رسول الله (ص) لمّا أبصرها ، فقال : يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة فقد أنزل الله عليّ : ولسوف يعطيك ربّك فترضى. وقال الصادق عليه‌السلام أيضا : رضا جدّي أن لا يبقى في النار موحّد.

* * *

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧)

٣٨١

وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

٦ ـ آخر السورة ـ (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ...) بعد تطمين قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن الله تبارك وتعالى لم يهجره ولا قلاه ، أخذ يعدّد نعمه سبحانه عليه في الدنيا فقال : ألم تكن يتيم الأب والأم فآويتك إلى كنف عبد المطّلب وسخّرته لتربيتك وتعهّدك ، ثم عند ما مات آويتك إلى ظل أبي طالب فحماك وقدّمك على أولاده ودافع عنك؟ فقد مات أبوه (ص) وهو في بطن أمّه ، ثم ماتت أمّه وهو ابن سنتين ، ومات جدّه عبد المطلب وهو ابن ثماني سنين ، فأخذه أبو طالب وبقي في حماه لما بعد البعثة. وقد سئل الإمام الصادق عليه‌السلام : لم أوتم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أبويه؟ فقال : لئلّا يكون لمخلوق عليه حق. فقد آواك ربّك يا محمد بعد اليتم وحماك (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) أي غائب الفكر عمّا أنت فيه الآن من النبوّة والرسالة فهداك. وهذا مثل قوله تعالى : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، ومثل قوله أيضا : وإن كنت من قبله لمن الغافلين فالضلال هنا عدم العلم بالشيء وانصراف الذهن عنه. وقيل في معناه : وجدك متحيّرا في معاشك فهداك إلى ذلك ، ففي الحديث عن أبي مسلم : نصرت بالرّعب ، وجعل رزقي في ظلّ رمحي ، أي في جهاد الكفّار. وقيل أيضا : وجدك مضلولا عنك فهدى قومك إلى معرفتك وأرشدهم إلى أمرك (وَوَجَدَكَ عائِلاً) أي فقيرا لا تملك مالا (فَأَغْنى) فأغناك بمال خديجة وبالغنائم وبالقناعة والرضى بما أعطاك فصرت غنيّ النفس. وفي العياشي عن الإمام الرضا عليه‌السلام في قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) ، قال : فردا لا مثل لك في المخلوقين فآوى الناس إليك. (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) ، أي ضالّة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك. ووجد له عائلا : تعول أقواما بالعلم فأغناهم بك .. ثم أوصاه سبحانه قائلا :

٣٨٢

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي لا تذهب بحقه لضعفه ولا تقهره بماله كما يفعل العرب وسائر الناس باليتامى ، فلا تحتقره واحفظ كرامته وحقّه. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يلي أحد منكم يتيما فيحسن ولايته ووضع يده على رأسه إلّا كتب الله له بكل شعرة. حسنة ، ومحا عنه بكل شعرة سيئة ، ورفع له بكل شعرة درجة. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتّقى الله عزوجل ، وأشار بالسّبابة والوسطى ... (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) أي لا تردّ السائل إذا أتاك وطلب منك صدقة ، حتى ولو كنت فقيرا فخاطبه خطابا ليّنا وردّه ردّا جميلا. وقيل إن المراد بالسائل هو طالب العلم ، ومعناه : علّم من يسألك الشرائع ولا تزجره ولا تمنعه من معرفة شرائع ربّه وأمور دينه (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي اذكر نعم ربّك وأفضاله بشكرها. وقد قيل : التحدّث بنعمة الله شكر ، وتركه كفر. وقيل إن نعمة الله هنا هي القرآن الذي هو من أعظم نعم الله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمره بقراءته ، وقيل بل هي النبوّة والرسالة فبلّغ ما أرسلت به وأخبر الناس به. وقد قال الإمام الصادق عليه‌السلام : معناه : فحدّث بما أعطاك الله وفضّلك ورزقك وأحسن إليك وهداك.

* * *

٣٨٣

سورة الانشراح

مكية وآياتها ٨ نزلت بعد الضحى.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

١ ـ آخر السورة ـ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ...) شرح الصدر هو التوسعة والتعبير عن سعة القلب والسرور والانبساط. وفي هذه السورة يكمل سبحانه تعداد نعمه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن الخطاب له خاصة وهو يعني ألم نفتح صدرك ونوسّع قلبك بالعلم وبالنبوّة حتى قدرت على القيام بأداء الرسالة؟. فقد شرح سبحانه صدره بأن ملأه علما وحكمة. وقد سئل (ص) : أينشرح الصدر؟ قال : نعم. قالوا : يا رسول الله وهل لذلك علامة يعرف بها؟ قال : نعم ، التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والإعداد للموت قبل نزول الموت. أما معنى الاستفهام في الآية فهو التقرير ، يعني أننا قد فعلنا ذلك وشرحنا

٣٨٤

صدرك (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) أي حططنا وأنزلنا عنك الثقل (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) أي الذي أثقله حتى كان له نقيض أي صوت تعب. وقالوا أراد بذلك تخفيف عبء النبوّة التي يثقل القيام بها فقد سهّل الله تعالى له أمرها. وكلّ شيء أثقل الإنسان وغمّه وأتعبه يمكن أن يسمى وزرا ، ولذلك تسمى الذنوب أوزارا لأنها تغم صاحبها وتثقل كاهله. ثم وعد سبحانه وتعالى نبيّه (ص) بالرّخاء بعد الشدّة فقال : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) أي إن مع الفقر سعة وغنى أو إن مع الشدة والضّيق فرجا ، وذلك بأن يظهرك الله تعالى على المعاندين والكافرين وعلى أعدائك من المشركين وينصرك عليهم فتقتل جبابرتهم وينقاد بعضهم للحق طوعا أو كرها (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) كرّرها سبحانه للتأكيد على ذلك. وقد قال الزّجاج : إنه ذكر العسر مع الألف واللام ثم ثنّى ذكره فصار المعنى : إن مع العسر يسرين ، وقال الفرّاء : إن العرب تقول : إذا ذكرت نكرة ثم أعدتها نكرة مثلها ، صارتا اثنتين ، كقولك إذا كسبت درهما فأنفق درهما ، فالثاني غير الأول ، فإن مع العسر يسرين فلا يحزنك ما يقوله الكافرون والمشركون ، فإنك منتصر عليهم وأنا منجز لك ما وعدتك ، وهذا الذي كان بالضبط ، فقد فتح الله تعالى عليه الحجاز واليمن وصار يعطي العطيّات ويهب الهبات ويعطي فيغني (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) أي إذا انتهيت من أمر الصلاة المكتوبة فانصب وأتعب نفسك بالدّعاء والتضرّع إلى الله تعالى (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أي أقبل عليه وأطمع فيما عنده من الرحمة. وقد قال الإمام الصادق عليه‌السلام : هو الدعاء في دبر الصلاة وأنت جالس. وقيل في معناه أيضا : إذا فرغت من أمور الدنيا ، فانصب في عبادة ربّك ، كما أنه قيل : فإذا فرغت من جهاد أعداء الله فانصب بالعبادة لربّك ، وارفع حوائجك إلى الله وحده ولا ترفعها لأحد من خلقه وارغب إليه بطلباتك.

* * *

٣٨٥

سورة التين

مكيّة وآياتها ٨ نزلت بعد البروج.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

١ ـ السورة بكاملها ـ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ، وَطُورِ سِينِينَ ...) إنه كغيره ممّا سبق ، قسم بالتين الذي نأكله أخضر ويابسا ، وبالزيتون الذي نأكله ونعصر منه الزيت ، واختارهما سبحانه لأنهما فاكهتان ضروريّتان للحياة ولأنهما غنيّتان بالمواد الغذائية مفيدتان أعظم فائدة في قوام الجسم مخلصتان من شوائب التنغيص سائغتان في الطعم ، فضلا عن أن الزيت يدخل في كثير من الأطعمة. وقد روى أبو ذرّ رضوان الله عليه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال في التين لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه هي لأن فاكهة

٣٨٦

الجنة بلا عجم. فكلوها فانها تقطع البواسير وتنفع من النقرس. وقد قيل إن التين هو الجبل الذي عليه دمشق ، وان الزيتون هو الجبل الذي عليه القدس ، وقال عكرمة : هما جبلان سميّا بذلك لأن التين والزيتون ينبتان فيهما (وَطُورِ سِينِينَ) أي الجبل ـ الطور ـ الذي كلّم الله عليه موسى عليه‌السلام ، وسينين وسيناء واحد. وقيل إن كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسيناء ، بلغة النبط (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) أي مكة المكرّمة والبلد الحرام ، أقسم بها أيضا لأنها مقدّسة يأمن بها الخائف ويستجر بحرمها (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) هذا جواب القسم السابق ، وربما أراد سبحانه جنس الإنسان الذي هو آدم عليه‌السلام وذريته ، فقد جعلهم على أحسن تقويم واعتدال في الخلقة ، فهم منتصبوا القامة في حين أن الحيوان مكب على وجهه ، كما أنهم في كمال في أجسامهم وجوارحهم وأنفسهم ، وقد ميزّهم عن غيرهم بالعقل والنطق والتمييز والاختيار والتدبير ، فجعل الإنسان منهم كذلك تامّ الخلقة من مبدأ حياته إلى شباب فهرمه (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي أرجعناه إلى أرذل العمر والخرف ونقصان العقل. أمّا السافلون فهم : الضعفاء والزمنى ، والأطفال والشيخ أسفل هؤلاء جميعا كما عن قتادة وابن عباس وغيرهما. وقد يراد بالإنسان الكفّار ، أي بعد أن خلقناهم في أحسن تقويم ، رددناهم إلى أسفل سافلين من جهنّم لأنهم كافرون ، ذلك أننا جعلناهم عقلاء مكلّفين فاختاروا الكفر على الإيمان ، فرددناهم إلى النار على أقبح صور الكفّار ، واستثنى سبحانه من الناس (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الذين صدّقوا بوحدانيّة الله وصدّقوا ما جاء به رسله الكرام ، وقاموا بالطاعات والواجبات ، وأخلصوا في عملهم ، هؤلاء (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي أجر يستحقونه ولا منة عليهم به ، وقيل إنه أجر غير مقطوع ، وقيل : غير محسوب ، وقيل : غير مكدّر بأذية أو بغمّ (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) أي أيّ شيء بعد هذه الحجج يجعلك

٣٨٧

أيها الإنسان تكذّب بالدّين ، يعني بالحساب والثواب والجزاء ، وأنت تمرّ في هذه الأدوار وتتطوّر بتلك الأطوار حتى تصل إلى الموت الذي ينتظرك ، أفلا تعتبر بما بين ولادتك وشبابك وهرمك لتستدل على أن الله الذي فعل ذلك بك قادر على بعثك وحسابك وجزائك (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) هذا سؤال يحمل معنى التقرير ، يعني : إن الله تعالى أحكم الحاكمين في صنعه وفعله وتدبيره وحكمته التي لا خلل فيها ، فإنه أقضى من يقضي بأمر الخلق ، وسيحكم كذلك فيما بينك وبين الذين كذّبوك يا محمد فطب نفسا لأن ربّك أحكم الحاكمين. وقال قتادة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ختم هذه لسورة قال : بلى ، وانا على ذلك من الشاهدين. ونحن من الشاهدين على أن الله أحكم الحاكمين ، وعلى أن رسوله الأمين أصدق القائلين بعد ربّ العالمين.

* * *

٣٨٨

سورة العلق

مكيّة وآياتها ١٩ وهي أول ما نزل من القرآن.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥))

١ ـ ٥ ـ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ...) الخطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يأمره فيه ربّه بأن يقرأ باسمه وأن يدعوه به لأن في تعظيم الاسم تعظيم المسمّى ، ولذا قال تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ، أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). ولذا قال أيضا : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ). فالباء هنا زائدة ، والتقدير : اقرأ باسم ربّك. وعند جميع المفسّرين أن هذه السورة الشريفة هي أول ما نزل من القرآن الكريم ، وكان ذلك في أول يوم نزل فيه جبرائيل عليه‌السلام على نبيّنا رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو قائم على غار حراء ، علّمه هذه

٣٨٩

الآيات الخمس من أول هذه السورة. وقد كنّا ذكرنا ذلك في سورة المدثّر ونزيدها هنا ـ كما عن أبي ميسرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لخديجة عليها‌السلام : إنّي إذا خلوت وحدي سمعت نداء. فقالت : ما يفعل الله بك إلّا خيرا. فو الله إنك لتؤدّي الأمانة ، وتصل الرحم ، وتصدق الحديث. ثم قالت خديجة : فانطلقنا إلى ورقة بن نوفل ـ ابن عمّها ـ فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما رأى ، فقال له ورقة : إذا أتاك فاثبت له حتى تسمع ما يقول ، ثم ائتني فأخبرني. فلمّا خلا ناداه : يا محمد ، قل : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، الحمد لله رب العالمين ، حتى بلغ : ولا الضالّين ، قل : لا إله إلّا الله. فأتى ورقة فذكر له ذلك ، فقال له : أبشر ثم أبشر ، فأنا أشهد أنك الذي بشّر به ابن مريم ، وانك على مثل ناموس موسى ، وأنك نبيّ مرسل ، وأنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا. ولئن أدركني ذلك لأجاهدنّ معك. فلمّا توفي ورقة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لقد رأيت القسّ في الجنّة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني .. ثم بعد أن أمره بقراءة اسم ربّه ، وصف سبحانه ذلك الربّ ـ أي نفسه القدسية عزّ وعلا ـ فقال (الَّذِي خَلَقَ) يعني ابتدع وأوجد جميع المخلوقات على مقتضى حكمته ، فأخرجها من العدم إلى الوجود بقدرته الكاملة ، وقد خصّ الإنسان بالذكر تشريفا للإنسان لأنه أكمل المخلوقات فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) الإنسان هو الجنس من بني آدم ، يعني خلقهم من قطعة دم جامدة بعد النّطفة ، وهذا يعني أنه خلقه من شيء مهين حقير ثم بلغ به الغاية من الكمال بقدرته وحكمته وتدبيره فجعله بشرا سويّا عاقلا مفكّرا مختارا ، قد نقله من مرتبة الجهالة الى مرتبة العلم والمعرفة ، بل قد أوصل بعضه الى مرتبة النبوّة والرسالة ... ثم أعاد أمره سبحانه لنبيّه فقال : (اقْرَأْ) يا محمد ما نوحيه إليك (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أي الأعظم كرما من كلّ كريم لأنه يهب ما لا يقدر عليه غيره ، وهو (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي علّم الكاتب أن يكتب بالقلم

٣٩٠

ليرسم ما يدور في فكره على القرطاس ممّا ينتفع به هو أو غيره. قال قتادة : القلم نعمة من الله عظيمة ، لولاه لم يقم دين ولم يصلح عيش ، وقيل إنه أراد هنا آدم عليه‌السلام لأنه أول من كتب بالقلم كما عن كعب ، ولكن الضحاك قال : أول من كتب بالقلم إدريس. وقيل أراد كلّ نبيّ كتب بالقلم ، فالله (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) فقهّه وفهمّه أنواع الهدايات ، وأبان له أمور الدين والأحكام والشرائع ، فصار كل ما يتعلّمه الإنسان آتيا من جهته تعالى لأنه هو الهادي والدليل وهو العالم بذاته المعلّم لغيره.

* * *

(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

٦ ـ آخر السورة ـ (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ...) كلّا : معناها هنا : حقّا إن الإنسان ليطغى : ليتجاوز حدّه في ظلم نفسه حين يستكبر على خالقه ولا يعترف بوجوده لمجرّد (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أي لأنه رأى نفسه غنيّا بقومه أو بماله أو بقوّته ، فقد تعدّى طوره وظنّ أنه بغنى عن ربّه لمّا رأى أولاده كثيرين وأمواله وافرة وأموره ميسّرة فحسب أنه إنما يحصل له ذلك بحسن تدبيره. وقيل إن هذه الآية وما يليها إلى آخر السورة المباركة قد نزلت في أبي جهل لعنه الله ، وقد تهدّده سبحانه قائلا :

٣٩١

(إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) أي إليه مرجع جميع المخلوقات بما في ذلك هذا الطاغية الذي غرّته أمواله وأولاده وحياته الدنيا ، والله قادر على إهلاكه كغيره من الناس وسيجازيه إذا رجع إليه ، وقد خاطب سبحانه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ليطيّب نفسه لكثرة ما رأى من أذى هذا العدوّ الضالّ ، وقال : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) معناه : ألا ترى هذا الكافر الذي ينهاك عن صلاتك ويعاديك من أجل دعوتك الناس إلى توحيد ربّك وعبادته؟ انتظر ما سنفعله به لأنه ينهاك عن الصّلاة ويقف في وجهك ليعطّل مسيرة أداء رسالتك.

ففي الأخبار أن أبا جهل قاتله الله قال للناس : هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم ، قال : فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته. فقيل له : ها هو ذاك يصلّي. فانطلق ليطأ على رقبته فما فجأهم إلّا وهو ينكص على عقبيه ويتّقي بيديه؟ .. فقالوا : مالك يا أبا الحكم؟ ... قال : إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة ... وقال نبيّ الله : والذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ... وهكذا رجع خاسئا مخزيّا ، وأنزل الله تبارك وتعالى : أرأيت يا محمد ما ذا يصيب من يريد أن ينهاك عن صلاتك وما ذا يكون جزاؤه ، وما الذي يستحقه من العذاب؟ وهذا كله محذوف يدلّ عليه القول ولسان الحال. وقد كرر استفهامه التقريريّ بقوله عزّ من قائل : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) أي إذا كان العبد المصلّي على هدى ونهي عن صلاته (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أي أمر الآخرين بتقوى الله ومخافته ولزوم طاعته. وهنا يوجد حذف آخر هو : ألا ترى إلى العبد المهتدي المنهيّ عن الصلاة الذي يأمر الناس بالتقوى كيف تكون حال من يمنعه عن ذلك؟. (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ) هذا الضالّ الكافر أبو جهل (وَتَوَلَّى) الصرف عن تصديقك وعن الإيمان وأعرض عن دعوتك ولم يسمع لكلامك (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) فهل غفل عن أن الله تعالى يراه ويرى ما يصنعه معك ولا تخفى

٣٩٢

عليه خافية منه ولا من غيره؟ (كَلَّا) يعني : لا يعلم ذلك ولا يصدّقه لأنه كافر بوجود ربّه. ثم هدّده سبحانه قائلا : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) إذا لم يمتنع أبو جهل قبّحه الله عن تكذيبك والوقوف بوجه رسالتك وإيذائك المستمرّ (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) أي لنسحبنّه بناصيته ولنجرّنه بها إلى النار. والناصية هي الرأس أو مقدّمتها ، وهذا يعني لنأخذنّ برأسه ولنرمينّه في جهنم. وهذا كقوله تعالى : (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) ، وصفا لأخذ الكفّار يوم القيامة لإذلالهم وإهانتهم فإن الأخذ بالناصية فيه منتهى الذل والإهانة والاستخفاف ، فلتأخذنّ هذا العدوّ بناصيته خصوصا وهو ذو (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) وصفها سبحانه بالكذب والخطأ لأن صاحبها كاذب في ما يقوله في محمد ، وخاطئ في فعله معه (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) أي ليصرخ بأهل ناديه ، أي بعشيرته وأهل مجلسه لينصروه منّا ويخلّصوه من غضبنا ، فقد قيل إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله انتهره لمّا تقدّم منه ، فقال أبو جهل : أتنتهرني يا محمد؟ فو الله لقد علمت ما بها ـ أي بمكة ـ أحد أكثر ناديا ـ أي مجلسا ـ منّي ، فأنزل الله سبحانه : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) ، فليأت بجلسائه ليخلّصوه ممّا يقع فيه. أمّا نحن ف (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) يعني سننتدب لعذابه ملائكة العذاب الموكّلين بالنار فهم غلاظ شداد لا يعصون ما نأمرهم به (كَلَّا) أي ليس الأمر كما يشاء أبو جهل ولا بحسب ما يريد ، فانتظر به قليلا لتراه مقتولا مجندلا في بدر قبل أن ندعو الزبانية لأخذه معاينة وعلى مرأى من الناس ف (لا تُطِعْهُ) إذا نهاك عن الصلاة (وَاسْجُدْ) لربّك (وَاقْتَرِبْ) إليه بالثواب الذي أعدّه لك بطاعتك ، أو اسجد له متقرّبا إليه بالطاعة ، فعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجدا. والسجود هنا فرض لأن عبد الله بن سنان روى أن أبا عبد الله عليه‌السلام قال : العزائم : ألم تنزيل ، وحم السجدة ، والنّجم إذا هوى ، واقرأ باسم ربّك. وما عداها في جميع القرآن مسنون وليس بمفروض.

* * *

٣٩٣

سورة القدر

مكيّة وآياتها ٥ نزلت بعد عبس.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

١ ـ السورة بكاملها ـ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ...) القدر هو كون الشيء مساويا لغيره دون زيادة أو نقصان. وقدر الله الأمر : جعله على مقدار ما تدعو إليه الحكمة. والهاء في (أَنْزَلْناهُ) تعني القرآن الكريم وإن لم يرد له ذكر لأنه لا يشتبه الحال فيه هنا. والمعنى أننا أنزلنا القرآن في ليلة القدر ، فعن ابن عباس قال : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثم كان ينزله جبرائيل عليه‌السلام على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله نجوما ، وكان من أوله إلى آخره ثلاث وعشرون سنة. فقد ابتدأ سبحانه بإنزاله في ليلة القدر التي اختلفت

٣٩٤

أقوال العلماء فيها ، والتي سمّيت ليلة القدر لأنها يحكم الله فيها ويقضي ويقدّر ما يكون في السنة بكاملها من كل امر ، وهي الليلة المباركة التي قال فيها : إنّا أنزلناه في ليلة مباركة ، لأنه سبحانه ينزل فيها الخير والمغفرة ، فهي من أشرف الليالي وأعظمها ويستحبّ إحياؤها في الصلاة والدعاء والطاعة لأن ثواب إحيائها جزيل إذ أنزل فيها كتاب ذو قدر عظيم على رسول ذي قدر عظيم على يدي ملك ذي قدر عظيم ولأمّة ذات قدر عظيم إن هي عملت بما في هذا القرآن. أما متى تكون ليلة القدر فقد روي مرفوعا أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : التمسوها في العشر الأواخر ، يعني من شهر رمضان المبارك ، وعن عليّ عليه‌السلام أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من شهر رمضان ، قال : وكان إذا دخل العشر الأواخر دأب وأدأب أهله. أي داوم العمل بالطاعات. وعن أبي جعفر عليه‌السلام ـ كما في المجمع وغيره أنها في ليلتين : ليلة ثلاث وعشرين ، وليلة إحدى وعشرين. فقيل له : أفرد إحداهما ، فقال : وما عليك أن تعمل في ليلتين هي إحداهما؟ وتكررت الروايات عن المعصومين سلام الله عليهم بهذا المعنى. فقد أنزلنا القرآن عليك يا محمد في ليلة القدر (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أي وما علمك يا محمد بخطر هذه الليلة وحرمتها؟ وهذا تحريض على العبادة والدعاء والطاعات فيها إذ بيّن سبحانه أهمّيتها بقوله الكريم : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أي أن قيامها والعبادة فيها خير من القيام والعبادة في ألف شهر ، والأوقات إنما تتفاضل بمقدار ما يكون فيها من أعمال الخير والبركة (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) أي تتنزل فيها من السماء (وَالرُّوحُ) أي جبرائيل عليه‌السلام (فِيها) في ليلة القدر ، ينزلون إلى الأرض ليسمعوا قراءة القرآن ، والثناء على الله سبحانه وتعالى ، وليروا الطاعات والعبادات. وقيل ليسلّموا على المسلمين (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بأمره ينزلون. وهذا كقوله : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ)(مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي بكل أمر يأتيهم من عندنا فيه خير لهم وبركة ورزق

٣٩٥

من هذا العام إلى العام المقبل. فهذه الليلة هي خير وبركة و (سَلامٌ هِيَ) أي سلامة من الشرور والبلايا ومن همزات الشياطين (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) تبقى كذلك ليلة مباركة يفوز من يحييها بالطاعة والعبادة لأنها تمتد إلى وقت طلوع الفجر في صبيحتها.

* * *

٣٩٦

سورة البيّنة

مكيّة وآياتها ٨ نزلت بعد الطلاق.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥))

١ ـ ٥ ـ (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ ...) الذين كفروا من أهل الكتاب هم اليهود والنصارى لأنهم أصحاب كتاب سماويّ كفروا برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. والمشركون هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم ممّن ليس له كتاب. والمعنى أن الكافرين من أهل الكتاب ، والكافرين من المشركين ، ليسوا (مُنْفَكِّينَ) منتهين عن كفرهم ولا تاركين له (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) حتى يجيئهم البيان الواضح الذي هو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهذا إخبار منه تعالى عن الكفار بأنهم لا ينتهون

٣٩٧

عمّا هم فيه من الكفر والشّرك بالله حتى جاءهم محمد (ص) فبيّن لهم ضلالهم عن الحق ودعاهم إلى الإيمان فقامت عليهم الحجة وأصبحوا غير معذورين في عدم الإذعان ، فالبيّنة التي جاءتهم هي (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) فرسول من الله بدل من (الْبَيِّنَةُ) التي قبله ، والعبارة بيان لها وتفسير أي ان البيّنة كانت الرسول من الله الذي (يَتْلُوا) يقرأ عليهم (صحفه المطهرة) المنزلة من السماء التي لا يمسّها إلّا الملائكة المطهّرون. وهذه الصّحف (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) ذات قيمة ، مستقيمة عادلة ليس فيها عوج ، لأنها تظهر الحق من الباطل ، وهي تعني القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فالقرآن ـ بما فيه ـ يحتوي على معاني الكتب السماوية المتقدّمة له ، ومن تلاه كأنه تلا جميع الكتب السماوية ، وقيل : بل لأن في القرآن تبيان كلّ شيء لأنه يحتوي كثيرا من العلوم إلى جانب ما فيه من التاريخ والوعظ والإرشاد ، وإلى جانب كونه دستورا حافلا بأحكام المعاش والمعاد (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي ولم يختلف هؤلاء اليهود والنصارى في محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا بعد مجيء البشارة به في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم فصارت الحجة قائمة عليهم. وقيل معناها : أنّ أهل الكتاب ظلّوا مجتمعين على تصديق البشارة بمحمد (ص) حتى بعثه الله تعالى ، وعندئذ تفرّقوا واختلفوا في أمره فآمن بعض وكفر آخرون (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) أي لم يأمرهم ربّهم ولا أمرهم رسلهم إلّا بتوحيد الله وعبادته ، فإن ذلك ممّا لا تختلف فيه الأديان ، وأن يكونوا (حُنَفاءَ) مائلين عن جميع العقائد إلى عقيدة الإسلام ، مؤمنين بالرّسل وبما جاؤوا به وبما بشّروهم به ، فأمروا بذلك (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) فيداومون على إقامة الصلاة ويدفعون زكاة أموالهم لمستحقّيها (وَذلِكَ) الدين الذي تقدّم ذكره وفرض هذه الأشياء هو (دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي دين الكتب القيّمة الرفيعة

٣٩٨

القدر التي مرّ ذكرها.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

٦ ـ آخر السورة ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ ...) بدأ سبحانه بذكر الفريقين من المكذّبين للرسول (ص) والمصدّقين له في دعوته ، فقال : إن من جحد توحيد الله وأنكر نبوّة محمد (ص) ومن أشرك مع الله إلها آخر في العبادة ، أولئك جميعا (فِي نارِ جَهَنَّمَ) فهي مقرّهم في الآخرة ويكونون (خالِدِينَ فِيها) لا ينتهي عقابهم لا يخفّف عنهم (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) فهم أسوأ الخليقة وشرّها. ثم بيّن سبحانه حال المؤمنين المصدّقين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) صدّقوا رسولنا وعملوا بأمره الذي هو أمرنا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وقاموا بالطاعات وسائر الأعمال الحسنة (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أي أحسن الخليقة وخيرها ، و (جَزاؤُهُمْ) ثوابهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يوم القيامة (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) مرّ تفسير مثله (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) فارتضى عملهم وما قاموا به من طاعات (وَرَضُوا عَنْهُ) بما أعطاهم من ثواب. وقيل : رضي عنهم لتوحيده وتنزيهه عمّا لا يليق به وأطاعوا أوامره ، ورضوا عنه إذ أعطاهم ما كانوا يطمعون به من الرحمة والثواب ، و (ذلِكَ) الرضا والثواب يكون (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي لمن خاف منه فعمل بأوامره وامتنع عن نواهيه. وفي المجمع نقلا عن شواهد التنزيل للحافظ الحسكاني مرفوعا إلى يزيد بن شراحيل الأنصاري ـ كاتب عليّ عليه

٣٩٩

السلام ـ قال : سمعت عليّا عليه‌السلام يقول : قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا مسنده إلى صدري ، فقال : يا عليّ ألم تسمع قول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)؟ هم شيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض إذا اجتمعت الأمم للحساب ، يدعون غرّا محجّلين. وعن ابن عباس في قوله : (هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) ، قال : نزلت في عليّ وأهل بيته عليهم‌السلام.

* * *

٤٠٠