الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

سورة الماعون

الآيات الثلاث الأولى مكيّة ، والباقي مدنيّة. آياتها ٧ نزلت بعد التكاثر.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

١ ـ آخر السورة ـ (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ...) يعني هل نظرت فعلمت يا محمد هذا الكافر المنكر للتوحيد والنبوّة والبعث والجزاء مع وضوح الدلالات على ذلك وقيام الحجج الظاهرة على ذلك. وقد أورد سبحانه وتعالى ذلك بصيغة الاستفهام ليبالغ في أهمية الأمر وطريقة إفهامه للسامع كما هو المألوف في لغة العرب ، فعن السدّي أنها نزلت في الوليد ابن المغيرة ، وعن الكلبي أنها نزلت في العاص بن وائل السهمي ، بل قيل أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب الذي كان ينحر جزورين في كل أسبوع فأتاه يتيم فسأله أن يعطيه شيئا فضربه بعصاه وطرده ، ولذلك قال سبحانه : (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي يدفعه بعنف وجفوة ، وإهانة.

٤٢١

والدعّ لغة هو الدفع بشدة. فذلك هو الذي يكذّب بالدين (وَلا يَحُضُ) أي لا يدعو غيره ولا يشجع أحدا (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ولا يطعمه ولا يأمر بذلك لأنه لا يؤمن بدين ولا بخلق (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أي الويل لمن يؤخّرون الصلاة عن وقتها ، أو هم الذين أسلموا أو أبطنوا النّفاق وكانوا لا يرون ثوابا للصلاة ولا يخافون العقاب على تركها ، وهم يتغافلون عنها حتى يذهب وقتها لعدم اهتمامهم بها ، فإذا كانوا مع المؤمنين صلّوها في وقتها رياء ، وإذا كانوا وحدهم أهملوها ولم يعتنوا بها ولم يندموا على تركها. وفي العياشي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل : عن قوله : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ، أهي وسوسة الشيطان؟ فقال : لا ، كلّ أحد يصيبه هذا ، ولكن أن يغفلها ويدع أن يصلي في أول وقتها. وفي حديث آخر قال عليه‌السلام : هو التّرك لها والتواني عنها. وفي رواية لمحمد بن فضيل عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : هو التضييع لها. وقيل : هم (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) يفعلونها رياء أمام الناس ولا إخلاص لله عندهم في إقامتها (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) الماعون لغة هو كلّ ما فيه منفعة ، وقد روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ كما في المجمع ـ أنه القرض تقرضه ، والمعروف تصنعه ، ومتاع البيت تعيره ، ومنه الزكاة.

* * *

٤٢٢

سورة الكوثر

مكيّة ، وآياتها ٣ نزلت بعد العاديات.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

١ ـ آخر السورة ـ (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ...) الكوثر من الكثرة وهو على وزن : فوعل ، وهو يعني الخير الكثير ، والشيء الكثير. وهذا خطاب منه سبحانه لنبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أورد في مجال تعداد النّعم التي أنعم سبحانه بها عليه. وقد قيل في الكوثر أنه نهر في الجنّة أعطاه الله تعالى لرسوله (ص) وهو أشدّ بياضا من اللبن حافتاه قباب الدّر والياقوت.

فعن أنس قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم بين أظهرنا إذا أغفى إغفاء ثم رفع رأسه مبتسما ، فقلت : ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : نزلت عليّ آنفا سورة ، فقرأ سورة الكوثر ثم قال : أتدرون ما الكوثر؟ قلنا : الله ورسوله أعلم. قال : فإنه نهر وعدني عليه ربّي خيرا كثيرا. هو حوضي ترد عليه أمتي يوم القيامة. آنيته عدد نجوم السماء ، فيختلج القرن منهم فأقول : يا ربّ إنهم من أمتي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. وقد أورده مسلم في صحيحة. وقيل أيضا إن الكوثر

٤٢٣

هنا هو كثرة النّسل والذرّية وهو يحتمل جميع ما يذكر من الخير الكثير لأن الله سبحانه وتعالى قد أعطى رسوله (ص) خير الدنيا والآخرة ، ولكن كثرة النسل ربما كانت هي المقصودة في هذه السورة بالذات باعتبار ما ختم سبحانه به السورة إذ قال جلّ وعلا (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أي اشكر ربّك علي نعمه الجزيلة وصلّ صلاة العيد لأنه عقّبها بنحر الأضحية والهدي. وقيل : يعني صلّ صلاة الغداة المفروضة بجمع ، وانحر البدن بمنى. ثم قيل إن معناه : صلّ لربّك الصلاة المكتوبة واستقبل القبلة بنحرك. أمّا العترة الطاهرة من أهل البيت عليهم‌السلام فرووا في قوله : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) : وهو رفع يديك حذاء وجهك .. أثناء الصلاة للتكبير ـ وأبو عبد الله عليه‌السلام قال لجميل بن دراج : يعني استقبل بيديه حذو وجهه القبلة في افتتاح الصلاة. وعن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : لمّا نزلت هذه السورة قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لجبرائيل عليه‌السلام : ما هذه النّحيرة التي أمرني بها ربّي. قال : ليست بنحيرة ، ولكنه يأمرك إذا تحرّمت للصلاة ، أن ترفع يديك إذا كبّرت ، وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ، وإذا سجدت ، فإنه صلاتنا وصلاة الملائكة في السماوات السبع. فإن لكل شيء زينة ، وإن زينة الصلاة رفع الأيدي عند كل تكبيرة. وقد قال رسول الله (ص): رفع الأيدي من الاستكانة (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي : إن مبغضك يا رسول الله هو المنقطع عن الخير ، أو منقطع النسل. وقيل إن الآية الكريمة نزلت في العاص بن وائل السهمي الذي التقى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخرج من المسجد عند باب بني سهم متحدّثا قليلا على مرأى من جبابرة قريش الذين كانوا يجلسون في المسجد ، فلما دخل العاص عليهم سألوه عمّن كان يتحدّث معه ، فقال : ذلك الأبتر ـ أي الذي لا عقب له ولا ولد ـ إذ كان قد توفّي عبد الله بن رسول الله (ص) الذي هو من خديجة في ذلك الوقت. وقد كانوا يسمّون من لا عقب له ولا ولد :

٤٢٤

الأبتر. ونزلت هذه الآية الشريفة لتطييب قلب النبي ولإعلامه بأن الذي عابه بقلة النسل ، سيكون منقطع النسل ، وبأنك يا محمد ستكون ذا نسل كثير يملأ الدنيا ، أما قريش التي أمّلت ان تبقى بدون ذرّية فتموت فيموت ذكرك وينقطع نسلك ويموت دينك ، فبئس ما أمّلت وتعسا لما قالته فهي قليلة الخير منقطعة عنه. وفي هذه السورة دلالات على صدق الوحي وصدق نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنه أخبر عمّا دار بينهم سرّا ، ولأن دين محمد (ص) قد انتشر رغما عنهم وعلا ذكره وقوي أمره ، ولأن ذرّيته (ص) هي اليوم أكثر من ذرّية أي إنسان على وجه البسيطة في حين أن نسل الذين عابوه قد انقطع أو كاد أن ينقطع والحمد لله.

* * *

٤٢٥

سورة الكافرون

مكيّة ، وآياتها ٦ نزلت بعد الماعون.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

١ ـ آخر السورة ـ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ...) الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمره فيه ربّه أن (قُلْ) يا محمد : (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) المنكرون لله ولرسوله وأوامره ونواهيه : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) أي لا أقدّس آلهتكم ولا أعبد أصنامكم التي تعبدونها. ويلاحظ أن الألف واللام في (الْكافِرُونَ) هي للعهد ، فالكافرون هنا إذن قوم معروفون كانوا يناوئون محمدا (ص) ويقفون بوجه دعوته ، وقد نزلت السورة فيهم ، وقيل إنهم نفر من قريش ، منهم الحارث بن قيس السهمي ، والعاص بن أبي وائل ، والوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، والأسود بن المطّلب بن أسد ، وأميّة بن خلف الذين قالوا : هلمّ يا محمد فاتّبع ديننا نتّبع دينك ونشركك في أمرنا كلّه ، تعبد

٤٢٦

آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، فإن كان الذي جئت به خيرا ممّا بأيدينا كنّا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيرا ممّا في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظّك منه. فقال (ص): معاذ الله أن أشرك به غيره. قالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك. فقال : حتى أنظر ما يأتي من عند ربّي ، فنزل عليه : قل يا أيّها الكافرون ... فعدل إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم قرأ السورة عليهم فأيسوا منه عند ذلك وأخذوا يؤذونه ، ويؤذون أصحابه ... فلا أعبد ما تعبدون من الأصنام (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) وهو الله عزّ وعلا ، في هذا اليوم وفي هذه الحال التي بيننا (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) فيما بعد اليوم وإلى الأبد (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) في المستقبل وفيما بعد اليوم. وقد أعلمه الله سبحانه أنهم لا يؤمنون به لشدة عنادهم. وهذا كقوله تعالى لنوح عليه‌السلام : إنه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن. وبهذا التكرير للآيات حسم سبحانه ما عندهم من أطماع ، فاعبدوا ما شئتم بعد أن دعوتكم فلم تمتثلوا (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أي لكم كفركم الذي قنعتم به وسيوردكم موارد الهلاك ، ولي دين التوحيد والإخلاص الذي به النجاة والفوز. وفي ظاهر الآيات إباحة لأن يختار كل امرئ ما شاء في عبادته وعقيدته ، ولكن الكلام ينطوي على تهديد ووعيد لمن اختار الكفر ، كما أنه ينطوي على زجر عن الشّرك وعبادة غير الله ، وهو كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ). وعن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنه قال : إذا قرأت قل يا أيّها الكافرون فقل : أيّها الكافرون ، وإذا قلت : لا أعبد ما تعبدون فقل : أعبد الله وحده ، وإذا قلت : لكم دينكم ولي دين فقل : ربيّ الله وديني الإسلام.

* * *

٤٢٧

سورة النّصر

نزلت في حجة الوداع ، وهي آخر ما نزل من السور وتعد مدنيّة ، وآياتها ٣ نزلت بعد التوبة.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

١ ـ آخر السورة ـ (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ...) أي إذا (جاءَ) ك يا محمد نصر الله على من قاومك وعادى رسالتك ، وهم القرشيّون وأشباههم. وفاعل جاء هو : نصر الله ، ومفعول جاء محذوف تقديره : ك ـ جاءك. فإذا جاءك الظّفر بهم والنّصر عليهم (وَالْفَتْحُ) أي فتح مكة الذي نعدك به قبل وقوعه. وهذه بشارة منه سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك. فإذا كان ذلك لك (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) أي رأيتهم يسلمون ويسلّمون لك جماعة بعد جماعة وفرقة بعد فرقة ، ويلتزمون بدينك وبأمرك ويعتقدون صحته ويقيمون أحكامه ، يوم ترى كل قبيلة تدخل في الدين دفعة واحدة بعد أن كان يدخل فيه الواحد

٤٢٨

والاثنان ، عند ذلك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) أي نزّهه عمّا لا يليق به من الصفات القبيحة التي لا يجوز أن يوصف بها ، واطلب رحمته ومغفرته حين يوليك هذه النّعمة العظيمة مع ماله من نعم جسيمة عليك ، واحمده واشكره على ذلك (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) أي : إنه كان منذ كان ، يقبل التوبة ولو أذنب الإنسان وتاب ، ثم عاد للذنب وعاد للتوبة ، فإنه تعالى كثير القبول لتوبة التائبين متجاوز عن المذنبين. وعن مقاتل أنه لمّا نزلت هذه السورة قرأها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على أصحابه ففرحوا واستبشروا ، وسمعها العباس فبكى ، فقال (ص) : ما يبكيك يا عمّ؟ فقال : أظن أنه قد نعيت إليك نفسك يا رسول الله ، فقال : إنه لكما تقول. فعاش (ص) بعدها سنتين ما رؤي فيهما ضاحكا مستبشرا. وقيل إنهم استنتجوا نعي نفسه (ص) إليه من الأمر بتجديد التوحيد واستدراك الفائت بالاستغفار ، وعن أمّ سلمة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالآخرة لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلّا قال : سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه. فسألناه عن ذلك فقال : إنّي أمرت بها ، ثم قرأ : إذا جاء نصر الله والفتح.

أما قصة فتح مكة فقد مرّ أنه كان من شروط عهد الحديبية الذي مرّ ذكره وفيه أن من أحبّ أن يدخل في عهد رسول الله (ص) دخل فيه ، فدخلت خزاعة فيه ، وبمقابلها دخلت بنو بكر في عقد قريش لأنه كان بين القبيلتين شرّ قديم. وبعدها وقع قتال بين خزاعة وبني بكر فساعدت قريش بني بكر بالسلاح وبالرجال ، فقصد عمرو بن سالم الخزاعي رسول الله (ص) ليخبره بما حصل. ولما وصل التي المدينة وقف بين يديه وهو في المسجد وقال :

لا همّ إنّي ناشد محمدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

إنّ قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكّدا

وقتلونا ركّعا وسجّدا

٤٢٩

فقال (ص): حسبك يا عمرو. ثم قام ودخل دار ميمونة وقال اسكبي لي ماء فجعل يغتسل وهو يقول : لا نصرت إن لم أنصر بني كعب. وتوالت عليه (ص) الأنباء ، فكان ذلك ممّا أهاج فتح مكة ، فأمر من جاء بالأخبار أن يعودوا إلى ديارهم وقال (ص) لأصحابه : كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشدّد العقد ويزيد في المدة ـ أي في مدة عهد الحديبية ـ وقد كان ذلك وجاء أبو سفيان حتى قدم على رسول الله (ص) فقال : يا محمد احقن دم قومك وأجر بين قريش وزدنا في المدّة. فقال (ص): أغدرتم يا أبا سفيان؟ قال : لا. قال (ص) : فنحن على ما كنّا عليه. فخرج فلقي أبا بكر فقال : أجر بين قريش. قال : ويحك ، وأحد يجير على رسول الله (ص)؟ ولقي عمر بن الخطاب فقال له مثل ذلك ، ثم خرج فدخل على أم حبيبة ـ بنته ، وزوجة الرسول (ص) ـ فذهب ليجلس على الفراش فأهوت إلى الفراش فطوته. فقال : يا بنيّة ، أرغبت بهذا الفراش عنّي؟ فقالت : نعم ، هذا فراش رسول الله (ص) ما كنت لتجلس عليه وأنت رجس مشرك. ثم خرج فدخل على فاطمة عليها‌السلام فقال : يا بنت سيد العرب ، تجيرين بين قريش وتزيدني في المدة فتكونين أكرم سيّدة في الناس؟ فقالت عليها‌السلام : جواري جوار رسول الله (ص). قال : أتأمرين ابنيك ـ أي الحسن والحسين عليهما‌السلام ـ أن يجيرا بين الناس؟ قالت : والله ما بلغ ابناي أن يجيرا بين الناس وما يجير على رسول الله (ص) أحد. فقال : يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدّت عليّ فانصحني. فقال عليّ عليه‌السلام : إنك شيخ قريش ، فقم على باب المسجد وأجر بين قريش ثم الحق بأرضك. قال : وترى ذلك مغنيا عنّي شيئا؟ قال : لا والله ما أظنّ ذلك ، ولكن لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد فقال : يا أيها الناس إني قد أجرت بين قريش ، ثم ركب بعيره ، فانطلق إلى أن بلغ مكة ، فقالوا : ما وراءك؟ فأخبرهم بما جرى له. فقالوا : والله إن زاد

٤٣٠

علي بن أبي طالب على أن لعب بك ، فما يغني عنّا ما قلت. قال : لا والله ما وجدت غير ذلك.

ثم أمر رسول الله (ص) بالتجهيز لدخول مكة وقال : اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. وكان من أمر كتاب حاطب لقريش ما كان ، ومن أمر المرأة التي حملت الكتاب وأخذه منها عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كما ذكرنا في سورة الممتحنة .. ثم استخلف النبيّ (ص) أبا ذرّ الغفاري على المدينة وخرج قاصدا مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان ، في عشرة آلاف من المسلمين ، ونحو أربعمائة فارس ، ولم يتخلف من المهاجرين والأنصار أحد ، ثم مضى حتى نزل مرّ الظهران وغمّت الأخبار عن قريش فلم يعرفوا عن رسول الله (ص) ومن معه خبرا. وفي تلك الليلة خرج أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء يتجسّسون الأخبار. وكان العباس قد قال وقتئذ : يا سوء صباح قريش ، والله لئن بغتها رسول الله فدخل مكة عنوة إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر ، فخرج على بغلة رسول الله (ص) وقال : أخرج إلى الأراك لعليّ أرى أحدا يدخل مكة فنخبرهم بمكان رسول الله (ص) فيأتونه فيستأمنونه. وفيما هو كذلك إذ سمع صوت أبي سفيان ومن معه ، وكان أبو سفيان يقول : والله ما رأيت كالليلة نيرانا ، فيقول بديل : هذه نيران خزاعة. فيجيب أبو سفيان قائلا : خزاعة الأم من ذلك. فناداه العباس باسمه فعرفه وقال : لبّيك فداك أبي وأمّي ، ما وراءك؟ فقال : هذا رسول الله (ص) قد جاء بما لا قبل لكم به ، قال : فما تأمرني؟ قال : تركب عجز هذه البغلة فأستأمن لك من رسول الله (ص) فو الله لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك. ثم أردفه وراءه ودخل بين المسلمين فكان كلما اجتاز نارا قالوا : هذا عم رسول الله (ص) على بغلة رسول الله ، حتى اشتدّ به نحو رسول الله (ص) ودخل عليه به وقال : إني قد أجرته ، ثم دنا من رسول الله (ص) وناجاه قليلا فقال (ص): اذهب

٤٣١

فقد أمّنّاه حتى تغدو به عليّ في الغداة. ورجع به صباحا فقال له النبيّ (ص) : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله؟ فقال : بأبي أنت وأمّي ما أوصلك وأكرمك وأرحمك وأحلمك! والله لقد ظننت أن لو كان معه إله لأغنى يوم بدر ويوم أحد. فقال (ص) : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ فقال : بأبي أنت وأمي أمّا هذه فإن في النفس منها شيئا. عندها قال له العباس : ويحك ، اشهد بشهادة الحق قبل أن أضرب عنقك. فقال (ص) للعباس : انصرف به فاحبسه عند مضيق الوادي حتى تمرّ عليه جنود الله. فأخذه وحبسه هناك فمرّت عليه القبائل واحدة واحدة وهو يسأل عنها والعباس يجيبه حتى مرّ رسول الله (ص) في الكتيبة الخضراء من المهاجرين والأنصار في الحديد لا يرى منهم إلّا الحدق. فقال : من هؤلاء يا أبا الفضل : قال : هذا رسول الله (ص) في المهاجرين والأنصار. فقال لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. فقال العباس : ويحك إنها النبوّة. ثم جاء حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فأسلما وبايعا رسول الله (ص) فبعثهما بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام وقال (ص) : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل دار حكيم فهو آمن ، ومن أغلق بابه وكفّ يده فهو آمن. ولما خرج أبو سفيان ومن معه إلى مكة بعث في إثرهم الزبير بن العوّام وأمرّه على الخيل وأمره أن يغرز رايته بأعلى مكة بالحجون وقال له : لا تبرح حتى نأتيك. ثم دخل رسول الله (ص) مكة وضربت هناك خيمته وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمته وبعث خالد بن الوليد في من كان أسلم من قضاعة وبني سليم وأمره أن يدخل أسفل مكة ويغرز رايته دون البيوت. وأمرهم رسول الله (ص) أن يكفّوا أيديهم ولا يقاتلوا إلّا من قاتلهم ، كما أنه أمرهم بقتل أربعة هم : عبد الله بن سعد ابن أبي سرح ، والحويرث بن نفيل ، وابن خطل ، ومقبس بن ضبابة ، وبقتل قينتين كانتا تغنّيان بهجائه (ص) وقال : اقتلوهم ولو وجدتموهم

٤٣٢

متعلّقين بأستار الكعبة. وسمع رسول الله (ص) سعدا يقول : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تسبى الحرمة ، فقال (ص) : لعليّ : أدركه فخذ الراية منه وكن أنت الذي يدخل بها ، وأدخلها : إدخالا رفيقا. فأخذها عليّ عليه‌السلام ودخل كما أمره رسول الله (ص) ودخلها النبيّ (ص) في حين اجتمع عتاة قريش في الكعبة وهم يظنّون القتل واقعا بهم. فأتى رسول الله (ص) وقام على باب الكعبة وقال :

لا إله إلّا الله وحده وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا إنّ كلّ مال أو مأثرة ودم تدّعى ، فهو تحت قدميّ هاتين ، إلّا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما. ألا إن مكة محرّمة بتحريم الله ، لم تحلّ لأحد كان قبلي ، ولم تحلّ لي إلّا ساعة من نهار ، وهي محرّمة إلى أن تقوم الساعة.

ثم قال (ص) : ألا لبئس جيران النبيّ كنتم ، لقد كذّبتم ، وطردتم ، وأخرجتم ، وآذيتم ، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني! اذهبوا فأنتم الطّلقاء. فخرجوا كمن يخرج من القبور ودخلوا في الإسلام أفواجا ، والحمد لله رب العالمين ... وروى ابن مسعود أن النبيّ (ص) دخل مكة يوم الفتح وحول الكعبة ثلاثمئة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : جاء الحق ، وما يبدئ الباطل وما يعيد. جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا.

* * *

٤٣٣

سورة المسد

مكيّة ، وآياتها ٥ نزلت بعد الفاتحة.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥))

١ ـ آخر السورة ـ (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ ...) تبّت : من التّباب أو التّب وهو الخسران المؤدي للهلاك. فالمعنى : خسرت يدا أبي لهب ، أي : خسر هو نفسه. وقد عبّر باليدين لأنهما يكون العمل بهما. وتبّ عطف عليه ، وقد خسر خسرانا أكيدا ولا ينال خيرا لأن مصيره إلى النار بتكذيبه للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وعن الفرّاء أن العبارة الأولى دعاء عليه ، والثانية خبر ، وهذا مثل قولهم : أهلكه الله ، وقد هلك. أمّا أبو لهب الذي خلد ذكره السيء في القرآن الكريم فهو ابن عبد المطّلب ، عمّ النبيّ (ص) وقد كذّب الرسول وعاداه كفرا وبغيا وآذاه كثيرا. فعن طارق المحاربي أنه قال : بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا بشاب يقول : أيها الناس قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا ، وإذا برجل يرميه قد أدمى

٤٣٤

ساقية وعرقوبيه ويقول : يا أيّها الناس إنه كذّاب فلا تصدّقوه. فقلت : من هذا؟ فقالوا : هذا محمد يزعم أنه نبيّ ، وهذا عمّه أبو لهب يزعم أنه كذّاب. وأما اسمه فهو عبد العزى ، وقد ذكر الله سبحانه كنيته لأنه كره أن ينسبه إلى العزى التي هي صنم ، وقيل إنه كان يكنّى بذلك لحسن وجهه ـ قبّحه الله ـ واشراق منظره وأن وجنّتيه كانتا كأنهما تلتهبان فأبو لهب هذا مصيره إلى التباب والهلاك في جهنم في الآخرة ، وليس يغني عنه ماله ولا كسبه ، ولا يدفع ذلك عنه عذابا ولا ينفعه في تخفيف ألم. وقيل إنه سبحانه ذكر ماله وما كسب ، لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنذره بالنار إن بقي على كفره وعناده ، فقال له : إن كان ما تقول حقّا فإني أفتدي بمالي وولدي ، ومن أجل ذلك أكدّ سبحانه بقوله : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) أي سيدخل نارا ذات اشتعال واتّقاد شديد ، وهي نار جهنّم. وفي هذه الآية الشريفة دلالة واضحة على صدق الوحي ، وعلى صدق نبوّة سيّدنا ونبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لأن أبا لهب مات على كفره وعناده وكان كما قال الوحي وكما قال محمد (ص) ولو لا صدق ذلك لكان ربّما تغيرت حاله فخاف وتاب وأناب ، ولكنّ صدق الله ورسوله فقد خسر هو (وَامْرَأَتُهُ) التي هم أم جميل بنت حرب ، أخت أبي سفيان رأس الشّقاق والنّفاق ، فلا غرو أن تكون مثله ، وقد ذمّها سبحانه بأن وصف كونها (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) بسبب أنها كانت تحمل الشوك فتطرحه في طريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا خرج الى الصلاة ليعقر رجليه الشريفتين إلى جانب أنها كانت تمشي بين الناس بالنميمة وتوقع بينهم الفتن وتبثّ الضغائن وتحتطب بذلك السيئات وتحمل وزر العداوة التي تلقيها بين الناس وتشعل نارها كما توقّد النار بالحطب ، فهي حمّالة خطايا كما أنها حمالة حطب شائك تؤذي به الرسول (ص) ولذلك فإنها من أهل النار حيث يكون (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي يكون في عنقها حبل كحبل الليف ولكنه من سلاسل النار إذلالا لها وخزيا لصنيعها في دار الدنيا. وقد وصفها جلّ وعلا بذلك

٤٣٥

انتقاصا لها لأنها أهل للانتقاص ، وتحقيرا لها ، وسيكون طول السلسلة المحماة بالنار التي تلف عنقها وتغل يديها سبعين ذراعا ، وقد سمّيت هذه السلسلة (مسدا) لأنها تكون ممسودة في عنقها ، أي مفتولة فتلا جيدا. وقيل إنه سبحانه ذكر هذه الخصوصية من ألوان عذابها ـ قبّح الله وجهها ـ لأنها كانت لها في جيدها قلادة من الجوهر الثمين وأنها قالت : لأنفقنّ هذه القلادة في عداوة محمد ، فجعل الله تعالى ثمن قولها عذابا لها في نار جهنم بهذا الشكل. ولمّا نزلت هذه السورة المباركة التي أخزتها وأخزت زوجها إلى أبد الآبدين خرجت تولول وتصرخ بجنون وبيدها حجر ملء كفّها تريد أن ترمي به محمدا (ص) وكانت تقول : مذمّما أبينا ، ودينه قلينا ، وأمره عصينا ، واتّجهت نحو المسجد لترشقه (ص) بالحجر فردها أبو بكر فقال : يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك. فقال (ص): إنها لن تراني ، ثم قرأ قرآنا فاعتصم به وكان بينه وبينها ستر مصداقا لقوله تبارك وتعالى : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) ، فشاهدت أبا بكر ولم تر النبيّ (ص) فقالت : يا أبا بكر أخبرت أن صاحبك هجاني ، فقال : لا وربّ البيت ما هجاك ، فرجعت وهي تقول : قريش تعلم أني بنت سيّدها ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : صرف الله سبحانه عنّي ، إنهم يذمّون مذمما وأنا محمّد.

وقيل في سبب افتتاح هذه السورة المباركة بتباب يدي أبي لهب ـ كما عن ابن عباس ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صعد يوما على الصّفا وقال : يا صباحاه! فأقبلت قريش إليه وقالوا : مالك؟ فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أن العدوّ مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدّقوني؟ قالوا : بلى ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب : تبّا لك ، لهذا دعوتنا جميعا؟ فأنزل الله تعالى هذه السورة مفتتحة ب : تبّت يدا أبي لهب.

* * *

٤٣٦

سورة الإخلاص

مكيّة ، وآياتها ٤ نزلت بعد الناس وقيل إنها مدنيّة أيضا.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤))

١ ـ آخر السورة ـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ ...) أي : قل يا محمد : الله أحد. و (أَحَدٌ) أصله : وحد ، وقد قلبت الواو همزة. وقيل إنه اسم كأحد وعشرين ، كما قيل إنه صفة كربّ أحد. وأحد : يجمع على أحدان كما يجمع الواحد على وحدان.

أما معنى الأحد فهو يختلف عن الواحد الذي يدخل في الحساب ويضمّ إليه ثان وثالث إلخ ... فإن الأحد متفرّد عن الشّبه والمثل لا يدخل في الحساب ولا يكون مجموعا لثان مثله. فكونه سبحانه أحدا يجعله متصفا بصفة لا يشاركه فيها أحد يجيز تعداد أحدّيته وإضافتها إلى غيره ممن يمكن أن يكون مثله ، فتعالى عن الشبيه وجلّ وسما عن المثيل ، وليس كمثله شيء حتى يكون «أحدا» ويشاركه في أحديّته.

أما من حيث الإعراب فيجوز ان يكون (اللهُ) خبر مبتدأ على قول

٤٣٧

من قال إن (هُوَ) كناية عن اسم الله تعالى ، والتقدير : هو الله. كما أنه يجوز أن يكون مبتدأ و (أَحَدٌ) خبره (اللهُ أَحَدٌ) ومعنى (اللهُ الصَّمَدُ) أنه السيد المعظّم الذي يصمد إليه في الحوائج ، أي أنه المقصود. و (اللهُ) معناه ـ كما عن الباقر عليه‌السلام ـ : المعبود الذي أله الخلق عن إدراك ماهيّته والإحاطة بكيفيته. وذلك أنهم تحيّروا فلم يحيطوا به علما ، وولهوا إليه أي فزعوا إليه في حاجاتهم وطلباتهم. وقد قال الإمام الباقر عليه‌السلام : حدثني أبي زين العابدين عليه‌السلام عن أبيه الحسين ابن عليّ عليه‌السلام أنه قال : الصّمد الذي قد انتهى سؤدده ، والصمد الدائم الذي لم يزل ولا يزال ، والصمد الذي لا جوف له ، والصمد الذي لا يأكل ولا يشرب ، والصمد الذي لا ينام ، وعنه عليه‌السلام : والصمد السيد المطاع الذي ليس فوقه آمر ولا ناه. أما محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه فقال : الصمد القائم بنفسه الغنيّ عن غيره. وسئل عليّ بن الحسين عليه‌السلام عن الصمد فقال : الصمد الذي لا شريك له ، ولا يؤوده حفظ شيء ولا يعزب عنه شيء. ثم فسّر سبحانه الصمد فقال عزّ من قائل : (لَمْ يَلِدْ) أي لم يخرج منه ولد ، أي لم يخرج منه شيء كثيف كالولد وغيره ، ولا شيء لطيف كالنّفس (وَلَمْ يُولَدْ) يعني لم يتولّد ـ هو نفسه تعالى ـ من شيء آخر ولده كما هي العادة ، ولا كان لطيفا خرج من لطيف غيره كما يخرج البصر من العين ، والسمع من الأذن وغير ذلك أو كما يخرج الإدراك من القلب والعقل ، بل هو الله تعالى الذي كان لا من شيء ، بل هو مبتدع الأشياء كبيرها وصغيرها ، ومنشئها بقدرته (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ليس كمثله شيء يكون عديلا له ونظيرا فيشاكله ويكون ندا له. وفي المجمع أن رجلا سأل عليّا أمير المؤمنين عليه‌السلام عن تفسير هذه السورة فقال : قل هو الله أحد : بلا تأويل عدد ، الصمد : بلا تبعيض بدد ، لم يلد : فيكون موروثا هالكا ، ولم يولد : فيكون إلها مشاركا ، ولم يكن له : من خلقه ، كفوا أحد. وعن الفضيل

* * *

٤٣٨

ابن يسار قال : أمرني أبو جعفر أن اقرأ قل هو الله أحد وأقول إذا فرغت منها : كذلك الله ربّي ، ثلاثا. وذلك أن السورة المباركة هي نسبة الله تعالى ، فقد قيل في سبب نزولها أن جماعة سألوا النبيّ (ص) : إلى ما تدعونا يا محمد؟ فقال : إلى الله فقالوا : صفه لنا فنزلت السورة المباركة التي هي نسبة الله تعالى خاصته.

* * *

٤٣٩

سورة الفلق

مكيّة وآياتها ٥ نزلت بعد الفيل.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥))

١ ـ آخر السورة ـ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ ...) هذا خطاب من الله سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمره فيه بأن يستعيذ برب (الْفَلَقِ) الذي هو الفرق الواسع لغة ، وذلك من قولهم : فلق رأسه بالسيف أي جعله قسمين وفرق ما بينهما. وكقولهم هذا واضح كفلق الصبح ، لأن عمود الصبح ينفلق بالضياء.

فاستعذ يا محمد واعتصم ، وليستعذ كل واحد من أمّته وليعتصم ، بربّ الصبح الذي ينبلج ضياؤه فيبدّد الظّلمة بقدرة خالقه ومطلعه (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) أي استعذ من الإنس والجن وسائر الحيوانات التي قد تؤذي. وتقديره : استعذ من شرّ جميع ما خلق الله تعالى ويمكن أن يحصل منه شر كالناس والشياطين والسّباع والهوامّ وغيرها من الأشياء (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ

٤٤٠