الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

١
٢

٣

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدّمة

وهذا هو الجزء الرابع من كتابنا «الجديد في تفسير القرآن المجيد» نضعه بين أيدي القراء الأفاضل راجين من الله سبحانه وتعالى أن يقبل ما مضى منه وأن يوفّق لما بقي ، وأن لا يؤاخذنا بما أخطأنا أو نسينا فإن كتابه الكريم معجزة الدهر التي تبقى إلى يوم الحشر تتحدّى القرائح والعبقريّات ، إذ يبدو لمجيل الفكر فيها كلّ يوم شيء جديد ، وينكشف له في كلّ مرة عجب عجيب ، ولا غرور فالقرآن لا تنقضي عجائبه ، ولا يعلم تفسيره ولا تأويله إلا الله تعالى والراسخون في العلم كنبيّنا وأهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

أما نحن ، فنحاول كما حاول غيرنا ، راجين الفائدة وتعميم النّفع ، ولم نأت ببدع ما سبقنا إليه أحد ، ولكننا بذلنا الطاقة وغاية المجهود بقصد تقريب فهمّ ما استعصى من آياته الكريمات ، وجلاء شيء من المبهمات التي لا تحيط بها العقول القاصرة ، وقد اعتمدنا السهولة في الأسلوب ، والتبسيط في التعبير ، وتقسيم الآيات بحسب مواضيعها ، ليبقى القارئ مع كل موضوع في جوّه ، ومع كل قصة في مسارها ، وليتمكّن من الإلمام

٥

بالمعاني إلماما مفيدا رشيدا ، وليحصل على الفائدة التي يتوخّاها من قراءة التفسير.

العصمة لله وحده سبحانه ، ونحن نعتذر عن كل زلل أو سهو ، ونسأل الله من فضله أن يتقبّل هذا العمل بقبول حسن ، وأن يتجاوز عن التقصير الذي ينشأ من القصور حين الوقوف أمام آياته البيّنات ، ومنه عزّ وعلا نستمد العون والتوفيق.

المؤلف

٦

سورة يوسف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢))

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ : الر : قد سبق تفسيرها في أول سورة البقرة ، واخترنا هنا ما قيل من أن هذه الحروف المقطّعة في أوائل السّور ، أسماء للنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على ما نصّ عليه في بعض الأدعية الواردة عن مولانا الإمام عليّ بن الحسين عليهما‌السلام. والحق أن جميع ما ذكر في هذا الصّدد لا يرتاح إليه الضمير ، والله تعالى أعلم بما يريد ، وما يعلم تأويله إلّا الله والراسخون في العلم .. (تِلْكَ) إشارة إلى الآيات التي سيأتي ذكرها فيما بعد ، أو إشارة إلى سورة يوسف ، أو هي (آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي آيات القرآن الظاهر أمره في الإعجاز مع ظهور معانيه للمتأمّل والمتدبّر.

٢ ـ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) : الهاء : في أنزلناه ، ضمير عائد للكتاب الذي هو القرآن. وقد احتجّوا بحدوث الكلام بهذه الآية بوجوه :

الأول : قوله : إنّا أنزلناه ، فذلك يدل على الحدوث ، حيث إن القديم لا يجوز إنزاله وتحويله من حال إلى حال.

٧

الثاني : وصفه بكونه عربيّا ، والقديم لا يكون عربيّا ولا عجميّا.

الثالث : وصف القرآن بكونه عربيّا يدل على أنه قادر على أن ينزله غير عربيّ ، وذلك يدل على حدوثه.

الرابع : أن قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) يدل على أنه مركّب من الآيات والكلمات. وكل ما كان مركّبا كان محدثا على ما قرّر في الكلام.

وعلى كل حال فقد أنزله سبحانه وتعالى قرآنا عربيّا (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أيها الناس عامة ، وأيها العرب خاصة. أي من أجل أن تعقلوا معانيه وتتفهّموا منها أمور الدّين ، وتعلموا أنه من عند ربّ العالمين إذ هو عربي وقد عجزتم عن الإتيان بمثله. وكلمة : لعلّ ، هنا يجب أن تحمل على معنى الجزم ، يعني أنه أنزله بلسانكم لتعقلوه ولكي لا تتماروا في معانيه وأوامره ونواهيه.

* * *

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ

٨

رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))

٣ ـ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ... إمّا أن يكون المراد بأحسن القصص جميع القصص التي في القرآن لأنه بما فيه قد بلغ النهاية في الفصاحة وحسن المعاني وعذوبة اللفظ وجمال العرض مع التلازم المنافي للتنافر ، ولكونه محتويا على ما يحتاج إليه البشر إلى يوم القيامة بأفصح نظم وأوضح بيان وأصرح معنى ، وإمّا أن يكون المراد به سورة يوسف وحدها لأنه سبحانه وتعالى قد قصّ ما قصّ فيها بأبدع الأساليب وأحسن وجوه العرض المبتكرة ، لأنها تشتمل على العجائب والمفاجآت والعقد القصصية والأزمات والحلول الحكيمة إلى جانب ما فيها من حكم وعبر ومواعظ ونتائج يتجلى فيها لطف الله تعالى بعباده الصالحين. وقيل إن قصة يوسف عليه‌السلام لأهميّتها قد ذكرت في التوراة إلى جانب قصص أخرى ، وقد روى أبو سعيد الخدري أن بعض الصحابة قد التمسوا من سلمان الفارسي رضوان الله عليه أن يحدّثهم عمّا في التوراة من قصص عجيبة وحكايات غريبة فنزلت هذه السورة تقص حكاية يوسف (ع) وإخوته وسائر أطوار حياته بأسلوب تتوفّر فيه جميع شروط القصة التي ذكرناها وأكثر ممّا يحيط به علمنا فقال تعالى إن هذه القصة تحمل أحسن القصص. وفي كتاب الروضة عن الشيخ ركن الدين مسعود بن محمد المشهور بإمام زاده أنه بعد ذكر الوجوه والأقوال في سبب تسمية هذه السورة بأحسن القصص قال : إن وجه نزول هذه السورة ، وتسميتها بأحسن القصص ، هو التسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن عرف ما يصيب سبطيه وولديه الحسن والحسين عليهما‌السلام من لسان جبرائيل عليه‌السلام نقلا عن الربّ الجليل ، ذلك أنه (ص) كان يوما جالسا والحسن والحسين (ع) على ركبتيه وهو يقبّل هذا مرة وهذا مرة مغتبطا بهما مستأنسا بوجودهما إذ نزل جبرائيل (ع) من عند ربّه فأخبره بما يصيبهما من الأمّة ، فبكى صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهل بيته بكاء شديدا ، فصعد جبرائيل (ع) وهبط

٩

بأحسن القصص من عنده تبارك وتعالى وقرأ : نحن نقص عليك أحسن القصص ، أي قصة اخوة يوسف معه (ع) تسلية له ، لأن قصة الأمة مع أهل البيت لها نظير ، لأن إخوة يوسف أبناء أنبياء وسلالة طيبّين أبرار ومع ذلك فعلوا معه ما فعلوه بدون خطيئة ارتكبها مع أحد منهم ، وبرغم توصية أبيهم يعقوب (ع) لهم به ، إلى جانب معرفتهم به وبمرتبته ومقامه العالي. فقد تجاهلوا حقه كما تتجاهل أمة محمد (ص) حق أهل بيته (ع) لأنهم لم يكونوا أهل دين ولا أهل عقل ولا شرف ، بل كان الدّين لعقا على ألسنتهم وهم حمقى جهلاء.

والحاصل أنه سبحانه قال لنبيّه الكريم (ص) : نحن نقص عليك أحسن القصص (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) أي بإيحائنا. وإنما دخلت الباء لبيان القصص. وما : مصدرية (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل نزول القرآن (لَمِنَ الْغافِلِينَ) يعني غافلا عن قصة يوسف (ع) وما فيها من تفصيلات وحكم ، إذ لا يخطر ببالك ولا يقرع سمعك قطّ ما دار فيها من حوادث وأحداث ورعاية ربّانية ودروس وعبر.

٤ ـ (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ) ... أي : اذكر يا محمّد قول يوسف (ع) لأبيه يا أبت : أصله : يا أبي ، أو أصله : يا أبتا ، فحذفت الياء أو الألف ، ولكثرة استعمال هذه الكلمة عند العرب ألزموها الحذف والقلب ولذا قرئت بفتح التاء وكسرها. وقال بعض الأعلام من أهل الأدب : يوسف ، مشتقّ من الأسف بمعنى الحزن الذي هو أشدّ الهمّ. ولما كان يوسف قرين أسف وجليس حزن سمّي بذلك. ويعقوب أبوه قيل باشتقاقه من عقب ، لأنه تولّد عقب أخيه إسحاق (ع) قال تعالى : (ومن بعد إسحاق يعقوب) ، ويضعّفه منعه من الصّرف لعلميّته وعجمته ، والاشتقاق لا يلائم العجمة.

وعلى كل حال كان ليعقوب عليه‌السلام أثناء عشر ولدا ذكورا ، وكان يوسف أحبّهم إليه لأنه كان محلّى بحلية الكمال والجمال ـ وقد ضرب المثل بحسنه وكما له ـ فحال صورته ينبئ عن كمال معرفته ومعنويته ، ويجلو

١٠

جمال معنويته مرآة صورته ، ولذا صار محسودا عند إخوته.

ويروى أنه كانت في صحن دار يعقوب (ع) شجرة يطلع منها غصن كلما ولد ليعقوب ولد ثم لا يزال ينمو بنموّ الولد ، فإذا وصل نموّه إلى حدّ معيّن كان يقطعه ويعطيه لصاحبه وقرينه من أولاده ليكون له عصا وقرينا في الرشد ثم يقول (ع) له : يا ولدي خذ عصاك. فلما ولد يوسف (ع) لم يطلع له غصن خاصّ به ولا نبت من الشجرة فرع حتى إذا صار في السابعة من عمره الشريف قال لأبيه : يا أبة ، أعطيت كلّ واحد من إخوتي عصا فأين عصاي؟ .. فدعا يعقوب (ع) ربّه بأمر وحي من الله سبحانه وسأله أن يعطيه عصا ليوسف. فنزل عليه‌السلام بعصا من أغصان شجر الجنّة وقال : أعطها ليوسف ، فأعطاه إياها.

وفي ليلة من الليالي رأى يوسف في منامه أنه قد أولج عصاه في أرض وتبعه في هذا العمل إخوته فاخضرّت ونبتت وأورقت ونمت نموّا عاليا ، ومدّت أغصانها إلى عنان السماء حتى دخلتها ، وبقيت عصيّ إخوته على ما كانت عليه جافة يابسة. وبعد ذلك جاءت ريح عاصفة اقتلعت عصيّهم وألقتها في البحر وبقيت عصا يوسف (ع) في مكانها وعلى ما هي عليه من النّضارة والخضرة. فانتبه يوسف من نومه مذعورا خائفا وجاء أباه فقصّ عليه رؤياه ، فسرّ أبوه من هذه الرؤيا وبشّره بعلوّ مقامه ورقيّه في مدارج الرفعة والكمال والسعادة. ولمّا اطّلع إخوته على رؤياه عرفوا تعبيرها فتضاعف حسدهم له وجرّهم إلى تدبير مكيدة ليوسف بوحي من النفوس الأمّارة بالسوء.

ثم ما عتّم أن رأى الرؤيا الأخرى التي حكاها الله سبحانه بقوله عزّ من قائل : (إِنِّي رَأَيْتُ) أي في منامي ، واللفظة من الرؤيا لا من الرؤية بقرينة قول أبيه (ع) : لا تقصص رؤياك ، وقوله هو (ع) : هذا تأويل رؤياي من قبل. والفرق بينهما أن الرؤيا تكون في المنام ، والرؤية تكون في اليقظة. والأولى على قسمين : صادقة وكاذبة ، والصادقة تكون باتّصال

١١

النفس بالملكوت الأعلى ، وبحديث الملك للنفس وحديث الملك صادق ، أما الكاذبة فتكون من حديث الشيطان والشيطان كاذب. فقد قال : رأيت في منامي (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) وعن الإمام الباقر عليه‌السلام في تأويل هذه الآية أن هذه الرؤيا تدل على أنه يملك مصر ويدخل عليه أبواه وإخوته ، والشمس هي أمّه راحيل ، والقمر يرمز لأبيه يعقوب (ع) ، والأحد عشر كوكبا هم إخوته ، فإنهم جميعهم لما دخلوا عليه وهو على خزائن مصر ، سجدوا الله شكرا حين نظروا إليه ، وقوله : لي ساجدين ، أي لأجلي ولأجل ما رأوا من عناية الله وتوفيقه كان سجودهم لله تعالى ، وما ينبغي السجود لغيره.

٥ ـ (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) ... أي قال له أبوه : لا تحك هذا الذي رأيته في منامك لإخوتك (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) يعني مخافة أن يدبّروا لك مكيدة بالتأكيد لأنهم حاسدون لك وقد يحتالون عليك لإهلاكك ، ولا مانع أن يغريهم الشيطان بذلك ف ـ (إِنَّ الشَّيْطانَ) الوسواس (لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) واضح العداوة يرميه بالعظائم.

٦ ـ (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) ... أي وبموجب هذه الرؤيا التي رأيتها في منامك ، فسيجتبيك : أي يختارك ربّك ويستخلصك (وَيُعَلِّمُكَ) يفهّمك (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) التعبير عن الرؤيا بشكل صادق جازم يكشف لك فيه وجه الحق (وَ) بذلك (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ) يكمل فضله (عَلَيْكَ) أنت بالنبوّة والسّلطة على خزائن مصر وما تبعها من البلاد ، وبغير ذلك من الأمور العظام كالتعبير عن الرؤيا ، وكتأويل الأحاديث ، فعن قتادة أنه في زمن يوسف عليه‌السلام كان تعبير الرؤيا أمرا متعارفا شائعا وكان مدار الفضل والكمال منوطا به ، ولذا جعل الله سبحانه يوسف (ع) وحيد عصره بالتعبير والتأويل ، أي بتفسير الرؤيا الصادقة والتعبير عنها بوجهها المرتقب الصحيح ، وبتأويل الرؤيا الكاذبة التي تأتي من نفث الشيطان اللعين .. فقد قال له أبوه (ع) : إن الله سيتولّى اختيارك ويكمل عليك فضله (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) أي أهل بيته الأقربين بأن يجعل منهم أنبياء وملوكا (كَما أَتَمَّها

١٢

عَلى أَبَوَيْكَ) أي جدّيك إذ يقال للجدّ أبا ، وهما (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) فعلى إبراهيم عليه‌السلام أنعم الله سبحانه بالخلّة والرسالة والنجاة من نار النمرود ، وعلى إسحاق عليه‌السلام منّ بالنبوّة وبإخراج الأسباط من صلبه (إِنَّ رَبَّكَ) عزوجل (عَلِيمٌ) بما يفعله وبكل شيء (حَكِيمٌ) بتقديره وفعله طبق المصلحة والحكمة البالغة.

* * *

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠))

٧ ـ (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) : أي كان في قصة يوسف مع إخوته دلائل على قدرة الله وجميل صنعه وعبر عجيبة لمن يسأل من الناس عن خبرهم ويستفسر عمّا جرى بينهم. وقد روي أن اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلوا محمدا : لم انتقل آل يعقوب من بلاد الشام إلى مصر ، وما قصة يوسف؟. فالسائلون هم هؤلاء ، وقد أخبرهم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقصة من غير سماع من لسان ولا قراءة في كتاب ، فكانت روايته لها من أعلام نبوّته (ص).

٨ ـ (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) ... فقد قال إخوة يوسف فيما بينهم : إن يوسف وأخوه لأبويه ـ وهو بنيامين أخوه من أمه وأبيه ـ مقرّبان من أبينا أكثر منّا ، فهو يؤثرهما علينا (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي ،

١٣

والحال : نحن جماعة متكاتفون أقوياء ، ونحن أحقّ بالمحبة من ذينك الصغيرين اللّذين لا كفاءة فيهما ، ف ـ (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أنه غاب عنه كوننا أنفع له وأحرى بالتفضيل ، وهو يقدّم المفضول على الفاضل فيما بيننا ولا يعدل في المحبة.

٩ ـ (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) ... أي اقتلوه وأعدموه الحياة ، أو ألقوه في أرض مجهولة بعيدة عن العمران ، بدليل تنكير لفظة أرض وخلوّها من الوصف. ويقال إن الذي اقترح قتله أو تضييعه هو أخوه المدعو : شمعون ، وعلّل ذلك بقوله : اقتلوه أو أضيعوه (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أي يخلص لكم رضاه وحبّه ولا يشغله حبّ يوسف وتفضيله وإيثاره (وَتَكُونُوا) تصيروا (مِنْ بَعْدِهِ) بعد القضاء على حياة يوسف أو وجوده : قتلا أو إبعادا ، تصبحوا (قَوْماً صالِحِينَ) بالتوبة عمّا فعلتم ، وعن الإمام السجاد عليه‌السلام : أي تتوبون.

١٠ ـ (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) ... قيل إن يهودا ـ أو يهوذا في بعض النسخ ـ هو الذي قال ، وكان أحسنهم رأيا. وعن الإمام الهادي عليه‌السلام ، هو : لاوى. وقيل : بل هو : روبين. فهذا أو ذاك قال : (أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) أي ارموه في قعر البئر الذي يغيّبه عن الأنظار وبحيث (يَلْتَقِطْهُ) أي يأخذه (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) يعني يجده بعض المسافرين ويأخذونه ولا نكون قد ارتكبنا جريمة قتل ، فخذوا برأيي (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي إذا كنتم عازمين على التفرقة بينه وبين أبيه .. فاتفقوا على هذا الرأي وألقوه في بئر.

أما البئر ففيه اختلاف إذ قيل : هو بئر بيت المقدس ، وقيل : هو في أرض الأردنّ ، وقيل : هو بين مدين ومصر ، وقيل : إنه على رأس ثلاثة فراسخ من بيت يعقوب عليه‌السلام. وروى أبو حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام أنه كانت عادة يعقوب عليه‌السلام في كل يوم أن يذبح غنما ويتصدّق بلحمه ويأكل هو وعائلته منه. فاتّفق ـ ليلة جمعة ـ أن جاء سائل وقف على باب بيته وكان مؤمنا صوّاما فنادى أهل البيت

١٤

وسأل طعاما فما أجابه من أهل البيت أحد مع أنهم سمعوا نداءه ولم يعتنوا به. فلما يئس هذا السائل استرجع وبكى من الجوع وحمد الله عليه وصبر على ما به من جوع وذهب لسبيله وصام اليوم التالي فقضاه جوعا على جوع مع زيادة الطعام في بيت نبيّ الله يعقوب عليه‌السلام ، فابتلاه الله لذلك بمفارقة ابنه العزيز يوسف ، وأوحى إليه أن استعدّ لبلائي وارض بقضائي واصبر على ما قدّر لك من المصائب ، فرأى يوسف عليه‌السلام رؤياه في تلك الليلة. وقد اقتصرنا على هذه الخلاصة من هذا الحديث الطويل وذكرنا زبدة معناه.

* * *

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤))

١١ ـ (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) ... أي أن أبناء يعقوب عليه‌السلام جاؤوا أباهم وقالوا : لماذا تخاف خيانتنا ولا تثق بأمانتنا على أخينا يوسف ، ولا تعتمد علينا في أمر من أموره (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) نمنحه النّصح ولا نغشّه ونخلص له ونعطف عليه ونحب له الخير. ويؤخذ من الآية الكريمة أنه (ع) كان يأبى أن يرافقهم في رحلاتهم ويحول بينه وبين أن يخلوا به. فطلبوا منه أن يستأمنهم عليه ويسمح له بمرافقتهم في الخروج إلى البرّية فقالوا :

١٢ ـ (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) ... أي ابعثه معنا صباح غد ـ في اليوم التالي ـ يرتع : يذهب ويجيء هانئا في لهوه وتحركاته ، يذهب يمنة

١٥

ويسرة ، ويلعب : لعبا مباحا. فإن كل لعب ولهو حرام إلّا ثلاثة ، هي : لعب الرجل بقوسه ـ سلاحه ـ وفرسه ، وزوجته. فقد راودوه عن يوسف (وَ) قالوا : (إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) حارسون ، نحوطه بالعناية لئلا يصله مكروه.

١٣ ـ (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) ... أي أن أباه قال لإخوته إنه ليهمّني ويورث لي الحزن إذا أخذتموه معكم (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) أي أخشى أن يفترسه ذئب ضار (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) أي على حين غرّة وغفلة منكم. وقيل إن يعقوب (ع) ـ في الليلة التي سبقت هذا الحوار ـ رأى في منامه كأنّ يوسف قد شدّ عليه عشرة أذؤب ليقتلوه ، وإذا ذئب يدافع عنه ويحميه ، ورأى كأنّ الأرض انشقّت فدخل فيها يوسف ولم يخرج منها إلّا بعد ثلاثة أيام. وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لا تلقّنوا أولادكم الكذب فيكذبوا. فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الإنسان حتى لقّنهم أبوهم .. وهذا يدل على أن الخصم لا ينبغي أن يلقّن حجة ، ولكن علينا أن ندرك أن يعقوب عليه‌السلام قد قال ذلك لأولاده حفظا لابنه يوسف ، فإنه حين خوّفهم من أن يأكله الذئب ، فتح أمامهم باب تفكير جديد ينجي يوسف من القتل ، وفتّح أذهان أولاده لابتكار حيلة في إبعاد يوسف عن أبيه بغير القتل والموت. وقد قال الإمام الصادق عليه‌السلام ـ وما أعظم ما قال ـ : قرّب يعقوب لهم العلّة فاعتلّوا بها في يوسف. وعن الصادق عليه‌السلام أيضا : إنّما ابتلى يعقوب بيوسف إذ ذبح كبشا سمينا ورجل من أصحابه محتاج ـ صائم ـ لم يجد ما يفطر عليه ، فأغفله ولم يطعمه فابتلى بيوسف. وكان بعد ذلك ـ كلّ صباح ـ ينادي مناديه : من لم يكن صائما فليشهد غداء يعقوب عليه‌السلام. فإذا كان المساء نادى مناديه : من كان صائما فليشهد عشاء يعقوب عليه‌السلام. وقد ألمحنا إلى هذا الموضوع منذ قليل وذكرنا ما قاله الإمام السجّاد عليه‌السلام.

١٤ ـ (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) : فردّوا على

١٦

أبيهم بأنه لا يتأتّى للذّئب أن يأكله من بينهم وهم جماعة كثيرون ، وإن فعلها الذّئب فهم إذا ضعفاء خاسرون للمعركة مع الذّئب الضعيف عن التغلّب عليهم مع كثرتهم ، وما أبعد أن يكون ذلك بوجودنا ووفرة عددنا واعتدادنا بأنفسنا وشدة محافظتنا على أخينا .. ولا يخفى أن قولهم هذا من باب تهدئة خاطر أبيه إذ لا يعقل أن يصل إليه الذئب من بينهم.

* * *

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))

١٥ ـ (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) ... أي فلمّا أخذوه معهم وقرّروا ما قرّروا بشأن التخلص منه ، واتّفقوا جميعا على إلقائه في البئر. وجواب : لمّا ، محذوف هنا ، أي : لمّا أخذوه فعلوا ما فعلوا به من الأذى (وَ) حينئذ (أَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أي ألهمناه وأفهمناه وحيا قائلين (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ) تخبرنّهم يقينا (بِأَمْرِهِمْ هذا) أي بما فعلوه بك (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) دون أن يحسّوا كيف يتمّ ذلك من فضيحة أمرهم.

وعن الإمام السجّاد عليه‌السلام : لما خرجوا من منزلهم لحقهم أبوهم مسرعا فانتزعه من بين أيديهم فضمّه إليه واعتنقه وبكى ، ودفعه إليهم.

١٧

فانطلقوا به مسرعين مخافة أن يأخذه منهم ولا يدفعه إليهم. فلمّا أيقنوا به أتوا به غيضة أشجار أي أجمة فيها أشجار ملتفّة في مغيض ماء فقالوا نذبحه ونلقيه تحت هذه الأشجار فيأكله الذئب الليلة. فقال كبيرهم : لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يأخذه بعض السيّارة ، فانطلقوا به إلى الجبّ وألقوه فيه.

وفي بعض التفاسير أنهم لما عزموا جميعا أن يجعلوه في قعر البئر ـ قبل خروجهم ـ أخرجوه من البلد مكرّما ، فلما أصحروا ـ صاروا في الصحراء ـ أظهروا له العداوة وجعلوا يضربونه وهو يستغيث بهم واحدا بعد واحد فلا يغيثه أحد ، وكان يقول يا أبتاه فهمّوا بقتله فمنعهم يهودا ، وقيل بل منعهم لاوى ، فانطلقوا به إلى الجب ـ وكان يومئذ ابن سبع سنين ـ وجعلوا يدلونه في البئر وهو يتعلّق بشفيره ، ثم نزعوا قميصه ليلطّخوه بدم ويذهبوا به إلى أبيهم حتى يكون دليلا على صدق دعواهم الكاذبة. ثم ما زال يستغيث ويستنجد ويقول : لا تفعلوا بي ذلك ، ردّوا عليّ قميصي لأتوارى به ، فكانوا يعيّرونه قائلين : أدع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا لإعانتك ومؤانستك ، وأدلوه في البئر ـ أي شدوا حبلا على وسطه وألقوه في البئر كالدلو ـ ثم لمّا وصل إلى نصف البئر قطعوا الحبل فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة في جانبه فقام عليها. وقيل إن يهودا كان يأتيه بالطعام ، وقيل وكّل الله به ملكا يحرسه ويطعمه ، وقيل إن جبرائيل عليه‌السلام كان يؤنسه إذ مكث في البئر ثلاثة أيام.

وقد روى المفضّل بن عمر ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام : أن إبراهيم عليه‌السلام لمّا ألقي في النار جرّد عريانا ، فأتاه جبرائيل (ع) بقميص من حرير الجنّة فألبسه إياه ، فكان ذلك الثوب عند إبراهيم عليه‌السلام فلما مات ورثه إسحاق فلما مات ورثه يعقوب فلما شبّ يوسف جعل ذلك القميص في تعويذ وعلّقه في عنق يوسف فكان لا يفارقه. فلما ألقي في البئر عريانا جاءه جبرائيل (ع) وكان عليه ذلك التعويذ فأخرج منه القميص وألبسه إياه ، وهو القميص الذي وجد يعقوب ريحه لمّا فصلت

١٨

العير من مصر وكان يعقوب في فلسطين فقال : إني لأجد ريح يوسف (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أي أوحى الله سبحانه إلى يوسف حين جعلوه في البئر وهو ابن سبع سنين كما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، ولا عجب في ذلك فقد أوحى إلى يحيى وعيسى عليهما‌السلام في الصغر ؛ أجل أوحى إليه (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ) أي لتخبرنّهم وتحدّثنّهم بما فعلوا بك (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) يعني من حيث لا يحسّون ولا يعرفون أنك يوسف أخوهم بسبب طول العهد وعلوّ شأنك. وهذا الكلام منه تعالى فيه إشارة إلى نجاته وبشارة بما قاله في مصر لإخوته : أنا يوسف وهذا أخي قد منّ الله علينا إلخ ...

١٦ ـ (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) : أي رجعوا آخر النهار وجاؤوا متباكين أمام أبيهم ليلتبس الأمر عليه ويظنّهم صادقين. ومن هنا يفهم أنه لا يوجب كلّ بكاء صدق دعوى الباكي ، إذ قد يكون البكاء لتمويه الأمر على الغير كما فيما نحن فيه.

١٧ ـ (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) ... يعني أنهم قالوا : رحنا نتسابق ونعدو لننظر أيّنا أسرع في العدو وأسبق في الركض. وقيل : المراد المسابقة بالنّصل والرّمي ، قد اعتذروا بأن قالوا لأبيهم ذهبنا نستبق (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) أي أبقيناه عند ما حملناه معنا في سفرنا وألهانا التسابق (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) أي : عدا عليه وافترسه فقتله وأكله (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) أي لست بمصدّق قولنا لسوء ظنّك بنا وفرط محبّتك ليوسف. فسوء ظنّهم بعاطفة أبيهم جعلهم يزعمون عدم تصديقهم بدليل قولهم له : في آخر الآية : ولو كنّا صادقين .. فيفهم من كلامهم هذا : فكيف بنا ونحن كاذبون؟ فإن الله سبحانه وتعالى إذا أراد إظهار أمر أجرى على لسان القائل كلاما يكشفه من حيث لا ينتبه قائله ، ويظهره في حركاته وسكناته وعمله. فقد جاء هؤلاء أباهم بقولهم هذا ، وبقميص يوسف ملطّخا بدم سخلة وقيل بدم ظبي ، ولكنهم ذهلوا عن أن يمزّقوا القميص ولم يخطر في بالهم أن الذئب إذا افترس إنسانا يمزّق ثيابه وجميع ملابسه ، ذلك أن الله تعالى أراد

١٩

إظهار كذبهم على نبيّه عليه‌السلام ، وشاء أن يفضحهم عنده .. فمكروا ، ومكر الله ، والله خير الماكرين ، لا يدع مثل هذا العمل الشنيع الذي أدّى للفتك بالرّحم وبأذيّة الأب والابن ، فكيف وهما نبيّان كريمان؟

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : لمّا أتي بقميص يوسف إلى يعقوب (ع) قال : اللهم لقد كان ذئبا رفيقا حين لم يشقّ القميص! .. وفي بعض التفاسير ذكر أنه عليه‌السلام قال : والله ما عهدت كاليوم ذئبا أحلم من هذا!! أكل ابني ولم يمزّق قميصه!!.

وعلى كل حال أدرك يعقوب (ع) أنهم قد فعلوا بيوسف ما فعلوا من إخفائه وصرّح بعدم تصديقهم كما ترى في الآية الكريمة التالية.

١٨ ـ (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) ... أي أنهم افتضحوا أمام أبيهم الذي عرف كذب روايتهم وأن الدم الذي على القميص ليس دم يوسف بل هو مزوّر مكذوب ، ف ـ (قالَ) لبنيه ساعتئذ وهم وقوف بين يديه : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي زيّنت وهوّنت عندكم أمرا عظيما فصنعتموه وهو ـ يقينا ـ غير ما قلتم (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي أن أمري ، أو صبري ، هو صبر لا شكوى فيه إلّا إلى ربّي ، أتلقّاه راضيا بحكمه وقضائه غير كاره لمشيئته (وَاللهُ) هو وحده (الْمُسْتَعانُ) الذي يعينني (عَلى) تحمّل (ما تَصِفُونَ) من التزوير وتضييع الأثر.

* * *

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ

٢٠