الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدّمة

.. وهذا هو الجزء الثاني من «الجديد في تفسير القرآن المجيد» نفتتحه بسورة آل عمران المباركة ، متكلين على الله تبارك وتعالى في المضي بهذا المشروع الذي لا نبتغي من ورائه سوى مرضاة الله عز وعلا ، وسوى بيان بعض ما وفقنا اليه سبحانه من فهم كلامه العزيز.

والغوص في هذا البحر من أصعب الصعب ، ولذا نستمد منه وحده التوفيق لفهم محكم قوله ، وجلاء بعض غوامض آياته ، مستبصرين في مسارنا بهدى الأئمة الأبرار من أهل بيت محمد المختار صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ، ومستفيدين من بعض ما جاءت به قرائح السلف الصالح ممن انبرى لهذا المضمار ، ودأب على التقاط لآلئه ليل نهار ، وعارضين ما عندنا من محاولات متواضعة نظن أنه قد حالفنا فيها التوفيق لأنها تلائم روح هذا العصر ، وتوافق مصالح ومطامح أجياله الجديدة ..

ولن يفوتنا الاعتذار الى القراء مما قد نقع فيه من التقصير في بيان أسرار هذا المعجز العظيم ، بل لن ننسى استغفار ربنا الكريم من الزلل والخطل حين يعيي قدرتنا سبر غور كلامه الذي فيه المجمل والمفصل والمبيّن والمبهم ، والمحكم والمتشابه ، والذي له ظاهر وباطن ، وتفسير

٥

وتأويل ، تقصر دونه الأفهام ، ويحار دونها العلماء الأعلام ، والعصمة لله وحده ، والحمد لله أولا وآخرا.

المؤلف

في شهر رجب سنة ١٤٠٢ هجرية

الموافق شهر أيار سنة ١٩٨٢ ميلادية

٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))

١ ـ (الم) : قد مر تفسيرها في سورة البقرة فلا نكرره ، مضافا الى أن تلك الحروف المقطّعة في أوائل السور ، من المتشابهات التي علمها عنده تعالى وعند أمناء وحيه ، فليس لنا أن نتعرض لها بجزم. نعم نقول عن بعض جهاتها : حقّ الميم هو الوقف عليها والابتداء بما بعدها كما قرأ عاصم ، أما الباقون من القراء فقد فتحوها لالتقاء الساكنين ، إذا ألقوا فتحة همزة «الله» عليها إشعارا بأنها في حكم الثابت ، وجعلوا حذفها تخفيفا لقراءة الدّرج.

٢ ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) .. كلمة توحيد. وروي أنها والجملة المستثناة من قوله (الحي القيوم) اسم الله الأعظم. و (الله) علم لذات واجب الوجود جلّ وعلا ، الجامعة لصفات الكمال بأجمعها. وقد تقدم تفسير (الحي القيوم) في آية الكرسي ـ ٢٥٥ من سورة البقرة ـ

٣ ـ (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) الظاهر أن المراد بالكتاب هو القرآن الكريم و (بِالْحَقِ) حال ، أي مقترنا بالحق ، إمّا بلحاظ تنزيله : أي تنزيله هو حق ثابت ، متيقن أنه من عنده سبحانه لا ريب فيه لا من عند غيره تعالى كالتوراة والإنجيل المختلقين المبتدعين من عند المخترعين بعد رفع عيسى

٧

عليه‌السلام الى السماء وفقدان الأصل على يد أولئك المخترعين أو بلحاظ أنه حال من نفس الكتاب ، باعتبار ما فيه من الأخبار ، وما يتضمّن من الحقائق والحجج والبراهين الساطعة الدالّة على حقّانيته وصدقه وكونه كتابا إلهيا بحيث لا يشك فيه أحد ، ولا يرتاب فيه ذو مسكة ، وتحدّي النبي (ص) به دليل على ذلك. واعتبار الثاني يغني عن اللحاظ الأول ، لأن كون (بِالْحَقِ) حالا من الكتاب يلزمه أنّ التنزيل من عنده تعالى على ما لا يخفى ، فقد نزّله سبحانه بالحق (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) ومصدقا نصب على الحال من الكتاب ، يعني أن هذا الكتاب يصدق ويشهد بأن الكتب السماوية المتقدمة عليه ، والتي نزلت على الأنبياء الماضين حق ، وما فيها صدق (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) وقد ذكرهما من باب ذكر الخاص بعد العام الذي يتضمنه الكلام السابق. فالقرآن مصدّق لجميع الكتب السماوية ، ولا يختص ببعض دون بعض. ولعل وجه اختصاص ذكرهما هو كونهما أكبر وأكثر ما يحتويان من الأخبار والأحكام والحقائق ، ونحو ذلك مما كان يحتاج اليه الناس في عصريهما. كما أن حاجة الناس في عصرنا هي أزيد من حاجة جميع أهل الأزمنة السالفة. ولذا فصّل كتابنا ، وشرح أكثر من الكتب الماضية كما يقتضي قوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) إلخ .. وقوله : فيه تبيان كل شيء ، كناية عن أن فيه جميع ما يحتاج اليه الناس الى يوم القيامة ، ولهذا صار نبينا (ص) خاتم النبيين ، وكتابه خاتم الكتب السماوية ، وأوصياؤه ختمة الأوصياء ، بدليل أنه لو كان الناس يحتاجون الى بعث نبي آخر ، وتنزيل كتاب معه لأنزل ، ولكنه ما بعث ولا أنزل لعدم الحاجة بعد هذا القرآن الكريم والنبي العظيم. ولو كان غير ذلك للزم منع الفيض والرحمة بالمحتاجين ، وهذا عن الفيّاض المطلق قبيح لأنه ظلم وبخل وكلاهما محال عليه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .. فنستكشف عدمه.

والفرق بين التنزيل والانزال ، أن الأول يعني نزول الشيء نجوما ، أي في أوقات متعددة متعينة ، والثاني هو نزوله جملة واحدة ، ولما كان

٨

نزول القرآن من القسم الأول عبّر عن القرآن بالتنزيل ، وكان نزول الكتابين المذكورين من القسم الثاني فبين بأنزل ، وهذا من الأمور المرموزة في القرآن الكريم وهذا الفرق منقول عن الزمخشري ، ولكنه مردود بقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ.) والأحسن أن يقال : إن التضعيف في «نزّل» والهمز في «أنزل» كلاهما للتعدية ، لأن «نزل» فعل لازم في نفسه ، وإذا أريد تعديته يجوز نقله الى باب إفعال ، وتفعيل. والفعلان هنا جمعت الآية بينهما جريا على عادة العرب في افتنانهم في الكلام وتنويعهم فيه على وجوه شتى. ويؤيد هذا قوله تعالى في سورة الأنعام : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، وقوله في سورة يونس : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ).

٤ ـ (مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) .. أي من قبل نزول القرآن. ولما قطع عن الإضافة بناه على الضم. وموضع هدى نصب على الحال من التوراة والإنجيل ، أي هاديين للناس عامة ولقوميهما خاصة. وهذا هو الظاهر من الآية اقتضاء لتعقبهما به ، ويحتمل كونه حالا من القرآن الذي قدر مضافا اليه للنزول الذي هو مضاف اليه للظرف ، أي لفظة : قبل ، على ما بينّاه آنفا ، وإفراده يقوّي هذا الاحتمال ، والله هو الهادي الى أمثال هذا الإجمال. وقيل هو حال بعد حال من الكتاب ، والفواصل ليست بمانعة منه على ما بين في علم الأدب من العلوم العربية التي وضعت وصنّفت مثل هذه الاصطلاحات. (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي ما يفرق بين الحق والباطل. وعن القمي والعياشي عن الصادق عليه‌السلام : الفرقان هو كل أمر محكم. والكتاب هو جملة القرآن الذي يصدق فيه من كان قبله من الأنبياء. وفي بعض النّسخ : يصدقه من كان قبله من الأنبياء. وقيل : المراد بالفرقان جنس الكتب السماوية فإنها بأجمعها تفرق بين الحق والباطل ، فهو من عطف العام على الخاص. أو المراد به القرآن على ما هو المشهور والمعروف في كتب التفاسير وألسنة العلماء .. وقد كرّر ذكره بوصفه المادح له تعظيما لشأنه ، لأن دلالات صفاته وإن كان الموصوف واحدا مختلفة ، وفي كل

٩

واحدة فائدة ليست في الأخرى على ما هو المبين عند أهله .. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) من كتبه وحججه وبراهينه الشرعية والعقلية ، وجحدوا أنها منزلة من عنده سبحانه ، وكانوا يحملون المعجزات وخوارق العادات على السحر والشعوذة وأخبار الكتب السماوية وحقائقها على الأساطير والأحلام. هؤلاء إذا ماتوا على كفرهم بلا توبة (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بما جحدوا ، ولعدم توبتهم الى أن ماتوا مع تمامية الحجة عليهم (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب لا يقهر ، ولا يقدر أحد أن يمنعه من تعذيب الجاحدين ، وهو (ذُو انْتِقامٍ) يعاقب المجرم على جرمه دون أن يزيد أو ينقص إلا إذا شاء أن يعفو فينقص من العذاب رحمة منه وتفضلا.

٥ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) .. أي أنه عالم بجميع ما من شأنه أن يعلم به في جميع عوالم الامكانية ، والتعبير عن ذلك بالأرض والسماء هو لأن القوى الحساسة البشرية نوعا لا تتجاوزهما ، ولا تنتقل عنهما الى غيرهما من الممكنات.

٦ ـ (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) .. التصوير هو جعل الشيء على هيئة يكون عليها الشيء في التأليف والتركيب. فالصورة تدل على جعل جاعل وصنع صانع بديع في صنعه ، قدير في تدبيره وتقديره. يصوركم (فِي الْأَرْحامِ) والرحم هو العضو الذي يتكون فيه الجنين من الأم ، ويتربى فيه الى حين الولادة (كَيْفَ يَشاءُ) من حيث الكم والكيف ، وبحيث يمتاز كل من البشر عن الآخر ولو كانوا من أب وأمّ في رحم واحد مع أن أعضاء الإنسان معدودة محصورة ، وذلك بقدرته وحكمته الباهرة البارزة وأما الأسرار التي استودع في هذا المخلوق الذي يعبر عنه بأعجوبة الكون ، والفوائد التي تترتب عليه ، فكثيرة كبيرة لا يسع المقام البيان بعضها. وفي التشريح الجديد يظهر للعلماء ما يبهر عقولهم بدقيق صنعه وعجائب حكمته عزوجل. على أن ما وصلت اليه معرفة البشر الى يومنا هذا ، يحسب من آلاف الغرائب بل أقل ويكشف عما ذكرنا ، وقد قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو آية الله العظمى ، مخاطبا الإنسان :

١٠

وتزعم أنك جرم صغير ، وفيك انطوى العالم الأكبر.

وفي قوله غنى في مقام تعريف خلق الإنسان البديع الذي جرى على يد القدرة وصوّره قلم القضاء بأبدع صورة ، كما قال سبحانه وتعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)!. فسبحان الله أحسن الخالقين. الذي هو أجلّ وأرفع عن أن يكون من خالق سواه ، ولكن جرت العادة عند الملوك وأرباب. الشأن العالي أن يجيء تعبيرهم بصيغة الجمع الدالة على الرفعة وعلوّ الشأن ، وهو جلّ وعلا لتقدمه على سائر الكائنات معلّم الكائنات ومرجع المخلوقات طراّ ، والكل فقراء اليه تعالى يحتاجون له احتياج العبد الذليل الى السيد الجليل ، ولا يقدرون على شيء من عند أنفسهم كما لا يخفى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا وجود في عالم الامكانية لا اله غيره ، فهو الخالق والمدبر والمنظم الذي حارت فيه العقول ، وتاهت فيه الأفكار ، ولو كان ثمة إلى آخر لآل الأمر الى ما أخبر سبحانه عنه في قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا). فمن عدم فساد نظام الكائنات نستكشف عدم وجود غيره سبحانه. هذا مضافا الى البراهين العقلية والنقلية الأخرى التي ذكرت في محلها ودلت على التوحيد. فهو إلا آله الواحد (الْعَزِيزُ) الغالب بقدرته وسلطانه (الْحَكِيمُ) المتقن للأمور حين أحكمها من غير أن يبرز وجه حكمته ، وهو المتصرف طبق مشيئتهمن غير استشارة أحد ، لأنه يعلم حقائق الأشياء بعناوينها وكنهها .. وقيل إنه بمثل هذا جرى الحجاج على وفد نجران حين زعموا أن عيسى عليه‌السلام رب يعبد ..

* * *

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ

١١

رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))

٧ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) .. أي أن كتابك هذا منزل من عند الله. وتجد هذا المضمون وعلى هذا السياق تقريبا في كثير من الآيات ، وبالأخص في أوائل الحواميم ، وصدور الألف لام ميم. فمنها : حم ، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ، وفي غيرها : تنزيل من الرحمن الرحيم ، وفي البعض : المر ، تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ، والباقي منها هو على هذه الوتيرة.

أما وجه التكرار لهذا المضمون ، بهذه الشدة وبالعبارات المختلفة ، فهو ردّ على الجحدة المنكرين لكون القرآن منزلا منه تعالى. وإثبات كونه من عند الله كان بمثابة من الأهمية ، لأنه إذا لم يثبت كون القرآن منزلا من الله فإنها لا تثبت رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يثبت دين الإسلام. فالقرآن هو المعجزة الخالدة المثبتة لرسالة النبي (ص) وإذا رد ردّت النبوة بلا شك. ولذا كان الكفار يحتالون في تحصيل مستمسك ينكرون به القرآن ، ويتشاورون ليلا ونهارا في نواديهم من أجل ذلك ، إذ لعله يحصل لهم طريق يطفئون به نور الله سبحانه ، ولكن الله متمّ نوره ولو كره الكافرون. فالاهتمام بالإثبات ، وتكراره مرارا ، هما معارضة بالمثل في مقابل مقالة النافين والمنكرين. فما تكرر في كتاب الله تعالى ، كان لمصلحة ولو خفيت علينا ، ولم يخل من مصلحة حتى يكون مستهجنا.

(مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) أي أن دلالتها تكون على المعنى المراد منها ، وما قصد منها يكون في غاية الظهور والصراحة عند ذوي الأفهام المستقيمة والعقول العارفة بالحقائق وموازين الكلام ، وعند سائر المبرّئين من فلتات الجهل وغواية الأهواء ، الذين حباهم الله بنور الايمان. وهذه الآيات

١٢

المحكمات بالنظر الى ذواتها (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصله ومعنى ذلك أنها المرجع في أخذ الأحكام وفيما يحتاج اليه الناس. وهذا لا يعني أن غيرهنّ من الآيات ليست بأصل ، فإن القرآن بحذافيره ، حتى الحرف الواحد منه ، أصل في مورده. فكيف بالمتشابهات التي تحتوي على المواضيع المهمة من الأحكام وغيرها ، تلك التي لا يعلمها إلّا الله تعالى وأهل بيت الوحي والرسالة لأنهم هم الراسخون في العلم الذين اختصهم الله بمعرفة الآيات المتشابهة وغيرها وعلّمهم علم التنزيل وعلم التأويل ، وفهّمهم الناسخ من المنسوخ. وأهل البيت أدرى بالذي فيه ، فكيف بهم وبيتهم مهبط الملائكة وهم معدن الرسالة؟ .. (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) إذا عرفت المحكمات فالمتشابهات غيرها لأن تعريف الأشياء يكون أحيانا بأضدادها. فالمتشابهات هي المحتملات للمعاني الكثيرة التي لا يكون المراد منها شيء خاص واضح ، مع أن المتدبرين المدققي النظر من الأعلام يجتهدون في استخلاص فوائد عديدة ومصالح كثيرة منها. بل يدركون مرادها ويفهمون المقصود منها ، ويستخرجون معانيها الحقيقية ، ويردونها الى آيات محكمات ذات درجات عالية حين معرفة المقصود منها. ولكن ليس لذلك بالحقيقة سوى أهل البيت الذين كان يلجأ الناس إليهم لبيان تأويل المتشابهات ، لئلا يقعوا في قول : «كفانا كتاب الله» كما قيل ذلك من دون روية وتدبّر ، لأن القرآن العظيم يحتوي على كثير من المتشابهات التي يستعصي فهمها وتوضيح المراد منها ، فلا يمكن أن يستغنى عمن عنده علم الكتاب كأهل البيت عليهم‌السلام. ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي إلخ .. الذين اقتضت حكمته تعالى أن يعلمهم لأنهم أولياؤه وأهل طاعته.

ومن المتشابهات يستنبطون تعيين وقت ظهور الحجة عجل الله تعالى فرجه مثلا ، وبيان أشراط الساعة التي تسبق يوم القيامة ، وأمثال ذلك من المهمات التي لا صلاح بإظهارها بالفعل لكافة الناس. وفي الكافي والعياشي ، عن الصادق عليه‌السلام في تأويل قوله سبحانه : (مِنْهُ آياتٌ

١٣

مُحْكَماتٌ) : أن المحكمات أمير المؤمنين والأئمة عليهم‌السلام ، والمتشابهات (أعداؤهم) ولا ينافي هذا ما جاء في بقية التفاسير لأن للقرآن بطونا. (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي انحراف ، وهم الذين استحبوا العمى على الهدى ، وآثروا الضلالة على الهداية تبعا لأهوائهم ، فمالت قلوبهم عن نهج الحق وانحرفوا مع الباطل (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) أي يمضون مع أهوائهم السخيفة وآرائهم الرديئة ، ويؤوّلون تلك الآيات تأويلا باطلا (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي طلبا لا يجاد سبيل الى فتنة الناس عن دينهم ، وزرع الشكوك في عقيدتهم ، ليعرضوا عن طريق الحق والحقيقة (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي طلبا لتفسير آياته بحسب ما يشتهون ، ووفق ميولهم الفاسدة تلبيسا على الآخرين وتشكيكا لهم ، وخلطا للحق مع الباطل ، وتلاعبا بالدين ، واستهزاء بالكتاب والسنة (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أي الثابتون فيه. وعن الصادق عليه‌السلام : نحن الراسخون في العلم. نحن نعلم تأويله ، أجل ، فهم باب مدينة علم الله وعلم رسوله ، لا غيرهم ممن ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون .. فالعالمون به يؤوّلونه بجزم وعن علم (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ) والجملة حال من الراسخين ، ويحتمل الخبرية لها إن جعلت مبتدأ ، والأول أولى في النظر. (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) أي مجموع المحكم والمتشابه من عنده سبحانه (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ما يفكر بذلك ويؤمن به إلا أرباب العقول الصائبة والافهام المستقيمة والأذواق السليمة.

وذيل هذه الشريفة ثناء على الراسخين في العلم ومدح لهم. وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال في حديث : إنّ الله جلّ ذكره ، بسعة رحمته ورأفته بخلقه ، وعلمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كلامه ، قسّم كلامه ثلاثة أقسام : فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه ولطف حسّه وصح تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام ، وقسما لا يعرفه إلّا الله وأنبياؤه والراسخون في العلم. وإنما فعل ذلك لئلا يدعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله صلى

١٤

الله عليه وآله من علم الكتاب ما لم يجعله لهم ، وليقودهم الاضطرار الى الائتمار بمن ولّاه أمرهم. فاستكبروا عن طاعته تعززا وافتراء على الله عزوجل ، واغترارا بكثرة من ظاهرهم وعاونهم وعاند الله عز اسمه ، وعصا رسوله (ص) ..

٨ ـ (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) .. أي لا تجعلها تنحرف عما هي عليه من الفطرة الأولى والهداية الموهوبة من الهداة المهديين صلوات الله عليهم أجمعين. ومعنى إزاغة القلوب من الله سبحانه في هذه الآية وفي أمثالها كقوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ). ونسبة الإزاغة اليه عزوجل من قبيل الإضلال والإغراء وعدم جواز نسبتهما اليه ، تعالى الله عن ذلك. وقد أجاب الاعلام عن الآية بأجوبة ، مثل قولهم : لا تمنعنا ألطافك بعد أن لطفت بنا. أو : لا تخذلنا بسلب توفيقك وتأييدك عنا بسوء أعمالنا وأقوالنا. ولعل الحق في قول الشريف السيد المرتضى طاب ثراه فقد قال : إنّ من أصلنا ردّ المتشابه من الآي الى المحكم منها. وقد ذكرت حول موضوع الإزاغة آيات بعضها متشابه مثل ما نحن فيه ، وبعضها محكم مثل قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ.) ولا بد من رد الآية التي نحن فيها الى هذه الآية. والمراد بالزيغ الأول منهم هو ميلهم عن الايمان والإسلام ، والثاني الذي كان منه سبحانه ، إنما كان عن طريق الجنة وثواب الآخرة. فالثاني غير الأول وإلّا لم يكن للكلام فائدة. وإن الأول قبيح إذ كان معصية. والثاني حسن لأنه جزاء وعقوبة. فيرتفع الاشكال بحمده تعالى وشكره.

هذا ما أفاده قدّس سره في المقام. ولكن إذا أمعنّا النظر نجد أنه لم يأت بما يشفي الغليل ، ولا يحسم النزاع ، لأن صرفه سبحانه لهم عن طريق الجنة والثواب مسبب عن عدم توفيقه تعالى لهم أن يدخلوا في الإسلام ، وسلب ألطافه عنهم دون غيرهم. وهنا يكمن الاشكال ...

والذي يختلج بالبال لرفع هذا الاشكال هو أن يقال : إن هذه هي

١٥

مقالة الراسخين في الايمان الذين يدعون ربهم بالآية الشريفة كي يبقيهم كما كانوا من قبل. فقولهم : لا تزغ قلوبنا ، أي لا تسلب عنها ألطافك ، وثبّتها على صراطك المستقيم ومنهاج الحق بحيث لا تقع فيها ريبة ، ولا يتطرق إليها اضطراب. وقولهم : وهب لنا من لدنك رحمة : تأكيد لقولهم : لا تزغ. وبعبارة أخرى فإن الآيات يفسر بعضها بعضا .. وحاصل المراد أن قولهم : لا تزغ قلوبنا : هو دعاء منهم له تعالى بتثبيت قلوبهم على الهداية ، وإمدادهم بالتوفيقات للبقاء على ما هم عليه. وهذا يجري مجرى : اللهم لا تسلط علينا من لا يرحمنا والنكتة في نسبة الازاغة اليه تعالى ، هي النكتة في نسبة الإضلال اليه سبحانه. وهي التنوية بما لتوفيقه من الأثر المحيي ، وما لخذلانه من الوبال المهلك .. فلا تزغ قلوبنا يا رب. (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) لدينك وصراطك ، ولما أنعمت به على الخلّص من عبادك (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي امنحنا من عندك غفرانا وإحسانا ورأفة (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) كثير العطاء ، جزيل النعم ، وفي العياشي عن الصادق عليه‌السلام ، قال : أكثروا من أن تقولوا : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، ولا تأمنوا من الزيغ.

٩ ـ (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) ... يعني مجمعهم للحساب والثواب والجزاء (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) اللام في : ليوم ، معناه : في يوم. وإنما جاز ذلك لأن تقديره : جامع الناس للجزاء في يوم. فلما حذف الجزاء تخفيفا لدلالة القرينة المقامية عليه دخلت اللام على ما يليه فأغنت عن في ، لأن حروف الاضافة متآخية لما يجمعها من معنى الاضافة. وهذا الكلام منهم متضمن لإقرارهم بالبعث. (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي الوعد ، وهو على وزن الميقات بمعنى الوقت. وظاهر الجملة يدل على أنها من كلام الراسخين. وقد عدلوا من الخطاب الى الغياب لأن فيه تنشيطا للمتكلم ونوع تعظيم وإجلال للمخاطب في بعض المقامات ولو نفيا كالذي نحن فيه. وهذا متعارف في المحاورات والرواية والحكاية كقوله سبحانه : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي

١٦

الْفُلْكِ ، وَجَرَيْنَ بِهِمْ ..) والعدول في مثل ذلك من البديع .. والله لا يخلف وعده.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))

١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ... وماتوا على الكفر والشرك لأن الشرك قرين الكفر حكما ، أو هو كفر على ما بيّن في محله عند أهله أولئك (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) لن تفيدهم إذا افتدوا بها أنفسهم تخلصا من عذاب الله عزوجل (وَلا أَوْلادُهُمْ) يغنون عنهم (مِنَ اللهِ) ولا يمنعون عن آبائهم سخطه ولو ضحوا بأنفسهم فدية لهم ، لا ولا إذا بذلوا قوتهم وقدرتهم وعلو منزلتهم ، فكل ذلك لا يفيد في دفع غضب الله عن الكفرة والجحدة. وقد ذكرت الأموال والأولاد لأنهما من أهم ما يعتمد عليه الإنسان في ما يخافه من النوائب والشدائد ، وهما اللذان يبيع الجاهل بهما دينه

١٧

وآخرته. وقد قدم سبحانه المال على الأولاد ، لأن الإنسان أكثر اعتمادا على المال في دفع الحوادث. والمال حلّال المشاكل عند أهل الدنيا. بل قد يفيد الأولاد آباءهم وأمهاتهم نوعا في دفع الحوادث والآلام عن طريق المال أيضا حين يكون في أيدي الآباء والأمهات شيء من حطام الدنيا. فيحوطونهم بالعناية ما درّت عليهم منهم معايشهم أما إذا كانوا صفر الأيدي فقد لا يعتنون بهم ... هذا والإنسان لا تطيب نفسه بأن يفتدي نفسه بأولاده في المناسبات الخطرة لشدة تعلقه بهم وعطفه عليهم ، بخلاف المال الذي تطيب به نفسه لدى أقل بادرة خطر. فالمقام يقتضي أن تقدم الأموال على الأولاد بحسب البديهة ، بل بحسب فصاحة القرآن الكريم وبلاغته. (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) أي الكافرون ، هم حطب النار وطعمتها.

١١ ـ (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) .. الدأب بسكون الهمزة مصدر : دأب ، بمعنى كدح ، أي سعى وثابر وداوم على العمل والكسب في أمور الدنيا أو الآخرة. وهنا نقل الى معنى الشأن ، أي : كحال آل فرعون. ومحل الكاف هو الرفع بناء على الخبرية ، أي : دأب هؤلاء كدأب آل فرعون في الكفر. والمراد بآل فرعون قومه وعشيرته. فحال هؤلاء الكفرة ، كحال أولئك في الجهالة والضلالة (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) عطف على آل فرعون. وهؤلاء جميعا (كَذَّبُوا بِآياتِنا) والعبارة تفسير لدأبهم الذي هو التكذيب بآيات الله تعالى (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي أهلكهم بها وبسببها (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) جزاؤه قوي لا يحتمل ، وقد أورد ذلك ترهيبا ووعيدا وتهويلا ....

١٢ ـ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ... قل يا محمد للذين كفروا من مشركي قريش وغيرهم : (سَتُغْلَبُونَ) ببدر (وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ) أي تجمعون وتساقون إليها (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي أن جهنم مهاد سوء. والمهاد ما يمهد للإنسان من أجل الاستراحة عليه ، وقد غلب استعماله للرّضعاء. وقد عبّر سبحانه عن جهنم بالمهاد تهكما واستهزاء بالكفار وبمن اختاروا الغواية والضلالة اللتين صارتا سببا لسوء عاقبتهم.

١٨

١٣ ـ (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) ... الخطاب لمن حضر في معركة بدر. والآية هي العلامة والحجة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في وعده المؤمنين بالظفر والنصر على أهل البغي والطغيان. فإن للمؤمنين آية (فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) أي فرقتين متحاربتين اجتمعتا ببدر (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي فرقة تحارب في سبيل طاعة الله وإعلاء كلمته ونصر دينه. وهم الرسول (ص) والمسلمون معه (وَأُخْرى كافِرَةٌ) وهم المشركون من أهل مكة ومن تبعهم. (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) أي يرى المسلمون المشركين ضعفيهم ، يعني أكثر منه بضعفين ، أو العكس ، والأول أصح (رَأْيَ الْعَيْنِ) يعني أنهم يرونهم بأعينهم وبلا واسطة ، ولا يرتابون. وذلك لتقوية قلوب المؤمنين ، وللتهويل على خصومهم بظهور كثرة جند المسلمين حيث كانوا يرونهم أكثر منهم (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) والتأييد من الأيد أي القوة ، فهو التقوية. وقد قوّى الله المسلمين يوم بدر وأيديهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في تقليل المشركين بأعين المسلمين ، وفي تكثير المسلمين بأعين المشركين ، وفي نصر القليل على الكثير في تلك المعركة ، إن في ذلك (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي في ذلك عظة ونصح لذوي البصائر التامة. والبصر هنا بمعنى العقل والحذاقة والإدراك ...

* * *

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ

١٩

وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧))

١٤ ـ (زُيِّنَ لِلنَّاسِ) .. أي أظهر حسنا وجميلا للناس (حُبُّ الشَّهَواتِ) جمع شهوة ، وهو مصدر معناه : الرغبة في الشيء وحبّه. ولها معنى آخر وهو حركة النفس طلبا للملائم واللاذّ. والمراد بالشهوات : المشتهيات التي تتعشقها النفوس ، لا الشهوة نفسها ، إذ جاء التعبير بها للمبالغة كزيد علم ، وفلان عدل ، والدليل على ذلك هو تفسيرها من لدنه تعالى بالنساء والبنين وبقية المشتهيات. وقد رمز سبحانه الى انهماك الناس في محبتها ، بحيث أحبوا شهوتها ، كقول سليمان عليه‌السلام : إني أحببت حبّ الخير ... وإنما يجيء القول في المزيّن من هو؟ ... وقد قيل هو الله تعالى ، زين ذلك للناس من أجل الاختبار ، ولبقاء النوع ، وللتعيش ، ولأمور أخر فيها مصالح وحكم خفيت بتفصيلها علينا.

وقيل هو الشيطان. ويؤيد أنه هو المزيّن قول ذلك الخبيث في محضر رب العالمين وخالق الكون والناس أجمعين ، في سورة الحجر من الآية ٣٨ : قال (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ). هذا ، والآية في معرض الذم. وقد قال الحسن عليه‌السلام : فو الله ما أجد أذمّ للدنيا ممن خلقها. وقيل : ما يحسن من الدنيا فالله تعالى زينه ، وما قبح منها زينه الشيطان ومدحه وأمال الناس اليه.

ثم إنه سبحانه قدّم ذكر النساء لأنهن أكبر حبائل الشيطان ، فإذا عجز في مرحلة الاصطياد يتوسل بهن ، ويحصل مقصده بأسهل طريق بواسطتهن والدليل على ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما تركت بعدي فتنة أضرّ على

٢٠