الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

سورة الذاريات

مكيّة وآياتها ٦٠ نزلت بعد الأحقاف.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦))

١ إلى ٦ ـ (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) ... روي أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام وهو يخطب على المنبر فقال : ما الذّاريات ذروا؟ قال (ع) : الرّياح. وفي قول مجاهد : الرّياح تذرو التّراب وتنثر شبه التّراب ممّا فيه خفّة لحكمة ومصالح هو تعالى يعرفها ، وإلّا لزمت لغويّتها. وقال ابن الكواء لعليّ (ع) وهو يخطب : يا أمير المؤمنين ما معنى (فَالْحامِلاتِ وِقْراً)؟ قال : السّحاب. ومراده عليه‌السلام السّحاب الحاملة للأمطار الثّقيلة لتراكمها ، فتحملها إلى بلاد تحتاجها قال ابن الكواء : يا أمير المؤمنين (فَالْجارِياتِ يُسْراً)؟ قال السّفن تجري على وجه الماء بسهولة إلى حيث سيّرت قال ابن الكواء (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً)؟ قال (ع) : الملائكة يقسّمون الأرزاق بين الخلق على ما أمروا به على حسب حوائجهم في البلاد

٢١

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) أي من البعث وغيره ولا خلف فيه (وَإِنَّ الدِّينَ) أي الجزاء (لَواقِعٌ) بلا شبهة وبلا ريب فيه. والفقرتان : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) ، و (إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) هو جواب للقسم الذي بدأ من الآية المباركة الأولى وعطفت عليه بقية الآيات التالية لها.

* * *

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤))

٧ إلى ٩ ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ...) أي ذات الطّرق فيها وإليها ، أو النجوم المزيّنة لها ، وهي جمع حبيك أو حباك أي ما تقاطع وارتبط بعضه ببعض فاشتبك كحياكة الخيطان وحبكه كنسجه أي شدّه وأوثقه. وفي بعض التفاسير أن (الْحُبُكِ) طرائق النجوم وما يرى على وجه الرّمل وصفحة الماء من التجاعيد إذا هبّت عليها الرّياح عليها فيشاهد بالوجدان والعيان.

وروى علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرّضا عليه‌السلام قال : قلت له : أخبرني عن قول الله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ). فقال : محبوكة إلى الأرض ، وشبّك بين أصابعه. فقلت كيف تكون محبوكة إلى الأرض والله تعالى يقول : رفع السّماء بغير عمد؟ فقال : سبحان الله أليس يقول بغير عمد ترونها؟ قلت : بلى. قال فثمّ عمد لكن لا ترى. فقلت : كيف ذلك جعلني الله فداك؟ قال فصرّ كفّه اليسرى ثم وضع اليمنى عليها فقال هذه أرض الدّنيا ، والسّماء الدّنيا

٢٢

فوقها قبّة. والسماء الثانية فوق السّماء الدّنيا. والسّماء الثالثة فوق الثانية ، ثم هكذا إلى السماء السابعة فوقها قبة ، وعرش الرحمن فوق السماء السّابعة ، وهو قوله (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) وصاحب الأمر هو النبيّ والوصيّ بعده وهو على وجه الأرض. وإنما ينزل الأمر اليه من فوق السماوات والأرضين إلى آخر الحديث فهو طويل أخذنا منه شاهدا. (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) أي إنكم يا أهل مكة أقوالكم مختلفة في محمّد (ص) إذ قال بعضكم : هو شاعر ، وبعضكم : محمد ساحر ، وبعضكم قال : هو مجنون. وفي كتابه أيضا أقوالكم مختلفة ، بعضكم قال إنه شعر ، وطائفة أخرى قالت : هو سحر ، وطائفة ثالثة إنه رجز وكهانة بل تقولون هو ما سطّره الأوّلون (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي يصرف عن الإيمان بالحقّ من أفك أي من صرف. ويحتمل أن يكون المعنى : يمنع عن الإيمان بالحقّ من منع اعتمادا على الإفك أي البهتان الذي يقوله الكفّار والمعاندون.

١٠ إلى ١٤ ـ (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ...) أي الكذّابون على الله ورسوله. قال ابن عباس ، وقال ابن الانباري : وإنّما كان القتل بمعنى اللّعنة هنا ، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة القتيل الهالك. ثم وصف سبحانه هؤلاء الكفّار فقال (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) أي في جهلهم ساهون بعمق الجهل وغمره لنفوسهم ، أي بواسطة كثرة جهلهم كانوا تاركين لله ولرسوله فكيف بأحكامه تعالى (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي يوم جزاء الأعمال ايّ يوم من الأيام وايّ وقت من الأوقات هو؟ وهذا هو السّؤال ، وأمّا الجواب فهو : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يحرقون وبأشدّ العذاب يبتلون ويقال لهم : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي عذاب حريقكم (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) لرؤيته وأنتم في الدّنيا استبعادا له ، فقد حصّلتم الآن صحّته وعرفتم وقوعه.

* * *

٢٣

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩))

١٥ إلى ١٩ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ...) يوم القيامة يكون مقام المتّقين في بساتين الجنان التي جرت بينها من عيونها أنهار كاللّجين (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) قائلين نحن راضون بما أعطانا ربّنا ، ونشكره على عطائه الذي اختصّنا به (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي أن المتّقين قد أحسنوا بأعمالهم في الدنيا وقبل يوم القيامة والحساب ، وهو تعليل لاستحقاقهم ذلك (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي كانوا قليلا ما ينامون في لياليهم ، لأنهم كانوا يصلّون في أكثرها. وبعبارة أخرى ينامون في قليل من اللّيل ، أو نوما قليلا (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي مع ذلك كانوا كأنّهم باتوا في معصية يستغفرون منها ، ولذا يتململون تململ السليم في ابتهالهم وعبادتهم. (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ) أي حق ونصيب معلوم ألزموا به أنفسهم (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) السائل الذي يسأل الناس والمحروم الذي من عفّته لا يسأل الناس فيحسب غنيا ويبقى محروما من الغنيمة والأخماس إذا كان هاشميّا أو في كل المرّات.

* * *

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ

٢٤

مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣))

٢٠ إلى ٢٣ ـ (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ...) أي فيها دلائل وبراهين من بسطها وسكونها وزلازلها واختلاف بقاع وما فيها من المواليد وغيرها من الأعاجيب التي تحيّرت فيها العقول ، وكلّها آيات خصّها سبحانه (بالموقنين) أي المصدّقين المقتنعين بالحقّ لأنهم وحدهم المنتفعون بها (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) آيات أخرى كثيرة لا تحصى (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أفلا ترون الأعاجيب في نفوسكم إذ في الإنسان ما في العالم الأكبر ، ويروى أن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال :

أتزعم أنّك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

مع ما خصّ به من الأمور العجيبة من العقل والفهم والإدراكات العجيبة التي ابتدعت الأعاجيب كالآلات الطّائرة إلى عنان السّماء وكالادوات التي تهبط بها إلى تخوم الأرض وكالسّلطة على ما بين السماء والأرض وأمثال ذلك من الأمور التي تتحيّر منها العقول البشريّة. فهذه أمور صارت سببا موجبا لتنبيه الموقنين. (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) أكّد سبحانه وتعالى أن الرزق من عنده ينزله إلى العباد ولا يميّز بين مطيع وعاص لأنه يرحم جميع الأحياء ، وفي السماء كلّ ما وعد الله تعالى العباد به إذ فيها صحف أعمالهم وثوابهم وعقابهم (فَوَ رَبِّ السَّماءِ) قسم منه عزوجل يقول فيه (إِنَّهُ لَحَقٌ) ما يقوله من أمر الرزق والوعد (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) هو أمر يقينيّ كنطقكم ،! وهو رهن بقوله عزّ اسمه : كن فيكون.

* * *

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ

٢٥

(٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤))

٢٤ و ٢٥ ـ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ...) أي هل جاءك خبر الضّيوف الذين نزلوا على إبراهيم أبي الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام؟ وفي عدد الملائكة المرسلين إليه خلاف ، وقيل كانوا أربعة : جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وكروبيل المكرمين عليهم‌السلام (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) ولعلّ المراد سلمنا سلاما. والسلام تأمين بالسّلامة من الوارد على المورود (قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي قوم لا نعرفهم. لكنّه أحسّ ووجد في سيماهم السماحة والنّجابة ، ولذا قال تعالى عنه :

٢٦ و ٢٧ ـ (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ ...) أي ذهب إلى أهل بيته وذبح عجلا له وطبخه (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) مطبوخ. وقال الله في قصة هود (حَنِيذٍ) أي مشويّ (قالَ : أَلا تَأْكُلُونَ) بعد ما قربه إليهم والهمزة للاستفهام بكيفيّة العرض أو للإنكار. أيديهم لا تصل إليه : (ما وجس في نفسه) أي أضمر.

٢٨ إلى ٣٠ ـ (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ...) أي خاف منهم لإعراضهم عن

٢٦

طعامه (قالُوا لا تَخَفْ) لأنهم أحسّوا أنّه عليه‌السلام خاف منهم حيث إنّهم امتنعوا عن الأكل والعادة جرت على أن يأكل الضّيف عند المضيف إذا لم يرد سوءا بمضيفه. (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) وهو إسحاق (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي توجّهت امرأته سارة صارخة في صيحة استهجان فلطمت على صورتها تعجّبا وقالت : أنا عجوز عقيم ، أي بنت تسع وتسعين سنة ومن بلغ هذا القدر من العمر فيطلق عليه العجوز وقولها عقيم أي لم أولد بعد هذا المبلغ من العمر ، والعقيم بحسب اللغة لا عقب له مع أنه من شأنه أن يكون له عقب. ويطلق العقيم بهذا اللفظ على الذكر والأنثى وحاصل معناه في كليهما واحد أي مقطوع العقب سواء كان أو كانت من الأوّل كذلك أم حصل ذلك بعد مرض عرض له أو لها فيطلق عليه وعليها عاقر (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) أي كما قلنا حينما قلنا في البشارة (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ) في صنعه (الْعَلِيمُ) بخلقه.

٣١ إلى ٣٤ ـ (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ...) أي ما هو شأنكم (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي إلى قوم لوط الذين يرتكبون الفواحش (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) الحجارة على قسمين : قسم هو الحجارة الصخريّة المعروفة ، وقسم آخر هو طين يحرق في نار الجحيم فيصير حجرا قاسيا أمره صعب مستصعب ، وهو يسمّى بالسّجّيل ، والله تعالى أعدّه للعذاب ، ويكون أكبر من حبّة العدس وأصغر من البيضة (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) أي جرى وسمها وإعدادها حسب اللازم وأعدّت للمتجاوزين حدود الله المنغمسين في الفجور الذين لا يقفون عند حدّ في ارتكاب الفواحش.

* * *

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها

٢٧

غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧))

٣٥ إلى ٣٧ ـ (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...) فيها : يعني في قرى قوم لوط ، فقد كلّف سبحانه رسله من الملائكة أن يخرجوا المؤمنين من تلك القرى قبل الخسف بها وبأهلها لينجّي سبحانه المؤمنين من الهلاك (فَما وَجَدْنا فِيها) أي لم يكن في تلك القرى على كثرتها (غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) سوى بيت واحد فيه مسلمون وهو بيت لوط عليه‌السلام ، وفيه من المسلمين : لوط وابنتاه فقط لأن امرأته كانت على سيرة قومها. وبعد ذلك أوقعنا فيها أمرنا (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) أي جعلناها علامة على بطشنا وإهلاكنا لمن عصانا وتمرّد علينا وعلى رسلنا الكرام ، وبرهانا واضحا على قدرتنا (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) لأنهم هم المعتبرون بما حلّ بها لأنهم يحفظون أنفسهم ويحافظون عليها ولا يفعلون إلّا ما يرضينا ممّا هو في مصلحتهم لأننا لسنا بحاجة إلى طاعتهم ولا طاعة أحد.

* * *

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠))

٣٨ إلى ٤٠ ـ (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ ...) هذا عطف على (وَفِي الْأَرْضِ) ، الآية ٢٠ أي إن في قصّة موسى عليه‌السلام لآية لمن كان يتفكّر ويتدبّر ، وذلك حيث بعثناه رسولا منّا (إِلى فِرْعَوْنَ) الجبار المتربّب على أهل مصر ، فأرسلناه إليه (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي ببرهان واضح قاطع قاهر يجعل لرسولنا السلطة ليغلب به فرعون وقومه (فَتَوَلَّى) فرعون أي

٢٨

انصرف عن قول موسى وإنذاره ، وانحاز (بِرُكْنِهِ) أي بجنوده الذين يستند إلى قوّتهم كالرّكن ويتقوّى بهم (وَقالَ) فرعون عن موسى إنه (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) وقد قالها جهلا وتلبيسا على قومه وتضييعا للحقيقة (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ) استدرجناهم نحو البحر حين لحقوا بموسى ومن معه (فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) ألقيناهم في غمر الماء وأغرقناهم مع فرعون الذي (هُوَ مُلِيمٌ) أي يلام على عمله وكفره وعتوّه وزندقته.

* * *

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦))

٤١ و ٤٢ ـ (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ...) هي ريح لا خير فيها ولا نفع ، وقد وصفها سبحانه بالعقيم من هذه الجهة ولأنها ريح عذاب واستئصال والعياذ بالله منها. أو معناه أنها ريح لا نظير لها وهذا المعنى أولى بالعقيم من المعنى الأول كما لا يخفى على من تدبّر. وتلك الريح (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) أي لا تدع شيئا تمرّ عليه عليه (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي كفتات الدّم والعظام ورمادها بعد أن تبلى وتصير رميما باليا.

٤٣ إلى ٤٦ ـ (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ...) قد مرّت قصص إهلاك هؤلاء الأقوام. (والحين) هو اسم للزمان مبهم ، والمراد به في المقام هو التمتّع في دارهم ثلاثة أيّام كما مرّ سابقا ، وبعد ذلك ينزل

٢٩

العذاب عليهم فيهلكون بها (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي عصوا ، وبعد ثلاثة أيّام حيث جاءتهم معاينة بالنّهار (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي ما قدروا على الثبات أمام الصاعقة وما كانوا ممتنعين منها (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) اي خارجين عن الاستقامة بالكفر والعصيان.

* * *

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥))

٤٧ إلى ٥١ ـ (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ...) أي لقادرون على بناء السماء فإنه كان بأيدينا وهي ليست بواهية. والأيد هو اليد ، والمراد بها القوّة والقدرة التّامّة التي ليست لأحد من المخلوقين ، ولذا أتى به بخلاف ما هو المشهور في استعماله كما هو الواضح (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أي مهّدناها (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي الذين يبسطون الفراش (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أي صنفين كالذّكر والأنثى والطويل والقصير والصّغير والكبير ولو لم يظهر لهما وجود خارجيّ في بعض الأوقات أو بعض الأنواع.

٣٠

وبعبارة أخرى يستفاد من هذه الآيات أن الأشياء بعناوينها الأوليّة لها توالد وتناسل من ذكر وأنثى لبقاء نسلهما ، غاية الأمر نحن لا ندركهما لغاية صغرهما ولطافة جثّتهما بحيث لا نراهما أحيانا أكبر بآلاف المرات ممّا هو عليه في الحقيقة. إلّا بالمناظر القويّة التي توصل الشيء الضعيف ونحن لا نرى مواضع تقاربهما وتناسلهما. والحاصل أنّنا لا نعلم بشيء من أمور المخلوقين وهو اللّطيف الخبير العالم بجميع أمور المخلوقات من الذّكر والأنثى ومن الصّغير والكبير والذي يطير والذي لا يطير والذي يبيض والذي لا يبيض وهو على كلّ شيء قدير وعالم بما خلق. وفي الكافي عن الرّضا عليه‌السلام في خطبة له يناسب ذكرها في المقام كما ذكرها بعض الأعاظم وبمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له. ضادّ النور بالظّلمة واليبس بالبلل ، والخشن باللّين ، والصّرد بالحرّ ، مؤلفا بين تعادياتها ، مفرّقا بين متدانياتها ، دالّة بتفريقها على مفرّقها ، وبتأليفها على مؤلّفها. وذلك قوله : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، ففرّق بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد ، الحديث (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي اهربوا إليه بطاعتكم له خوفا من عقابه ، وفرّوا الى الإيمان والتوحيد وملازمة الطاعة. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام مثله. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي مخوّف لكم من العقاب موضح لما جئتكم به من البيان والإنذار (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) لا تشركوا معه معبودا ولا تدعوا له شريكا (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) تكرير هذا القول للاهتمام بأمره ، والتكرار ملازم لعظمة المكرّر به.

٥٢ إلى ٥٥ ـ (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي كمثل قومك هؤلاء ، فإنه لم يجيء لمن قبلهم (مِنْ رَسُولٍ) ينذرهم ويبشّرهم ويدعوهم للإيمان (إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) إلا وصفوه بهذا الوصف. وفي الآية الكريمة تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله عما يقول

٣١

الظالمون (أَتَواصَوْا بِهِ) أي هل وصّى بعضهم بعضا بهذا القول؟ وهذا استفهام بمعنى النّفي (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) يعني لا ، لم يتواهوا به ولكنهم أهل بغي وطغيان (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي انصرف عنهم وأدر ظهرك لهم (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) يعني فلا تلام على إعراضك عنهم بعد بذل الجهد في تذكيرهم وتخويفهم (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي ثابر على الوعظ والإرشاد فإن ذلك ينفع المصدّقّين بنا وبك ، وهؤلاء هم الذين يهمّنا أمرهم.

* * *

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

٥٦ ـ (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ...) أي ما خلقتهم إلّا من أجل طاعتي وعبادتي ومن أجل أن أختبر المصدّقين بي وأميّزهم عن المكذّبين. ويستفاد من الشريفة أن الطائفتين كليهما على حدّ سواء في الأمر بالعبادة. وأما وجه تقديم الجنّ على الإنس في المقام فيمكن أن يكون لأنّ الجنّ خلق كثير وهم بعيدون عن القابلية للعبادة لأنهم ليسوا بدرجة رقيّ الإنس ولا بدرجة حضارتهم ، فقدّمهم تشويقا لهم بالعبادة ، أي لأنهم كثيرون جدّا فاهتمّ سبحانه بالكثرة ، أو أنه قدّمهم في الذّكر بسبب تقدّمهم في خلقهم على البشر على ما يشار إليه في وجه خلق الإنسان في دار الدّنيا بعد أن كان الجنّ ساكنين فيها فظهر أن تقديمهم في الآيات والروايات للإشارة إلى تقدّم خلقتهم على الإنسان وأن خلق الإنسان متأخر بكثير عن خلقهم. وهذا وجه وجيه ذكرناه في علّة تقدّم الجن على الإنس في الآيات وهذا ما خطر ببالنا القاصر.

٣٢

وفي العلل عن الصّادق عليه‌السلام قال : خرج الحسين بن عليّ عليهما‌السلام على أصحابه وقال : أيّها النّاس إن الله جلّ ذكره ما خلق العباد إلّا ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه. فقال له رجل : يا ابن رسول الله بأبي أنت وأمّي فما معرفة الله؟ قال معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الّذي يجب عليهم طاعته ... فتدبّر.

٥٧ و ٥٨ ـ (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ...) أي لم أخلقهم ليرزقوني ولا ليطعموني كما هو شأن السّادة والأكابر بالنسبة إلى عبيدهم وأصاغرهم حيث إنهم إنما يملكونهم ويستصغرونهم ويستعينون بهم في تحصيل معايشهم ، وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) أي الّذي يرزق كلّ من يفتقر إلى الرّزق (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) المتين من أسمائه تعالى. والمتين هو القويّ الشّديد الذي لا يعتريه وهن ولا يمسّه لغوب ، ولا يصيبه التعب والإعياء ، ويطلق على مطلق التّعب كما في المقام.

٥٩ ـ (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ...) أي ظلموا رسول الله بالتّكذيب وغصب حقوق أهل بيته عليهم‌السلام ، إنّ لهم عليهم (ذَنُوباً) أي نصيبا من العذاب (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي لا تطلبوا منّي العجلة في العذاب الذي ينتظرهم.

٦٠ ـ (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ...) أي ويل لهم من يوم القيامة. وفي ثواب الأعمال عن الصادق عليه‌السلام : من قرأ سورة والذّاريات في يومه أو ليلته أصلح الله له معيشته وأتاه برزق واسع ونوّر له في قبره بسراج يزهو إلى يوم القيامة إن شاء الله.

* * *

٣٣

سورة الطور

مكيّة عدد آياتها ٤٩ نزلت بعد السّجدة.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨))

١ إلى ٨ ـ (وَالطُّورِ ...) جبل كلّم الله عليه موسى على نبيّنا وعليه‌السلام في الأرض المقدّسة ، وهو في صحراء سيناء ، سمع فيها موسى عليه‌السلام كلام الله تعالى على جبل فيها. ويقال لهذا الجبل طور سيناء بالمدّ والكسر ، وطور سينين ولا يخلو أن يكون طور سيناء مركّبا مضافا ومضافا إليه اسما للجبل كامرئ القيس. وفي معاني الأخبار : طور سيناء كانت عليه شجرة الزيتون ، وكلّ جبل لا يكون عليه شجر الزيتون أو ما ينفع الناس من الأشجار والنّباتات لا يقال له جبلا (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) أي مكتوب فيه ، كالقرآن أو التوراة أو ما كتب في اللوح

٣٤

المحفوظ ، أو صحائف الأعمال والله أعلم (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) أي في الجلد الذي يكتب فيه ما يكتب. أستعير لما كتب فيه الكتاب. وتنكيرهما للإشعار بأنهما ليسا من المتعارف بين النّاس بل هو أمر آخر من ذخائر الله تعالى (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) قال بعض الأكابر من المفسّرين : هو بيت في السماء الرابعة عمر بالملائكة ، وقيل هو الصرح (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) السقف من البيت هو المرتفع منه الذي يحيط بسطحه وجدرانه وهو معروف. وسقف كل شيء بحسبه من البيوت والخيم ونحوهما وارتفاع كلّ سقف بحسبه وأرفعها السماء فإنه سقف الأرض ولذا اختصّه بالذّكر فقال تعالى (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) أي أقسم بالطور ، وبالكتاب المسطور ، وبالبيت المعمور ، وبالسقف المرفوع لعظمتها فصارت مقسما بها ، وكذلك قوله : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) وقد روي أن البحار يوم القيامة تجعل نارا وتسجر بها جهنّم كقوله (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي ملئت ونفذت بعضها إلى بعض فصارت بحرا واحدا والحاصل ان المراد بالبحر المسجور هو الذي يمتلئ نارا فتنفذ إلى غيره وهكذا حتى يصير مجموعها بحرا واحدا مملوءا من النّار. فإنه تبارك وتعالى بعد أن أقسم بكلّ ما ذكر ، قال : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) حيث إنه إذا نزل القدر عمي البصر ، وهذه كناية عن وقوع الشيء على ما قد قدّر ، ولا يغيّر عما هو كائن.

* * *

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا

٣٥

أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))

٩ إلى ١٢ ـ (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ...) أي تتحرّك وتضطرب وتدور بما فيها وتموج موجا ، والمور الموج. أي تذهب وتجيء كما تمور النخلة وتتحرّك بسرعة ونعم ما قال الشاعر في أمثال هذا المقام :

عباراتنا شتّى وحسنك واحد وكلّ إلى ذاك الجمال تشير (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أي سيرا سريعا كسير الريح حين كمال شدّته (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي المكذّبين بالبعث والنشور وبيوم القيامة أو كمال شدّته (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي يخوضون في المعاصي والملاهي كأن لم يكن شيء مذكورا في باطلهم.

١٣ إلى ١٦ ـ (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ...) الدّعّ هو الدّفع بعنف فبسرعة يدخلون إليها وشدّة. ومنه قوله تعالى (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي يدفعه عن حقّه دفعا شديدا بعنف وعدم رحمة. ثم يقال لهم : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) فانظروا إليها ليتحقّق لكم ما وعدناكم به من تعذيب من عصانا وردّ دعوة رسلنا وقال إنهم سحرة وشعراء ، ومكذّبون (أَفَسِحْرٌ هذا) الذي تعاينونه كما كنتم تقولون عن الوحي أنه سحر؟ (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) أو أنتم لا ترون دلائله يوم أنذركم بها رسلنا. وهذا تقريع لهم وتهكم منهم يدلّان على اشتداد غضبه سبحانه على من عصاه وعلى المغضوب عليهم والضّالّين. وهذا من أبلغ التهكّم والتقريع الذي يشفي الغليل من الكفرة والعصاة. فهذه هي النّار التي كذّبتم بها من قبل (اصْلَوْها) أي ادخلوها واحترقوا فيها ، والضمير راجع إلى جهنّم (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) أي صبركم وعدمه (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) في عدم النّفع (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء عملكم يرجع إليكم إن خيرا فخير وإن شرّا فشر.

* * *

٣٦

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨))

١٧ إلى ٢٠ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ...) قال المفسّرون إن التنكير فيهما للتعظيم. وأمّا عقيدتنا فإن تعريف الشيء لرفع الإبهام عنه ، وأما المواضع التي ليس فيها إبهام فلا تحتاج إلى التعريف كما فيما نحن فيه. فإن الشيء ينصرف إلى أشرف وأعظم أفراده وما نحن فيه من تلك الموارد حيث إن أعظم الجنّات وأشرف النّعم هي ما عنده سبحانه وتعالى فينصرفان إليهما بلا حرف تعريف وبلا توجيه إلى التعظيم فالمتّقون يكونون يوم القيامة في تلك الجنّات من النعيم الدائم (فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) متلذّذين بفاكهتها. والآية الشّريفة قرئت بوجهين : الاوّل ما كتبناه ، والثاني (فَكِهِينَ) ويفهم من المراجعة كتب اللغة أنه لا فريق بين القراءتين

٣٧

بحسب المعنى ، غاية الأمر أن إحدى القراءتين في بعض المعاني أكثر استعمالا من الأخرى وهذا لا يوجب الفرق بينهما. وأمّا المعاني المشتركة بينهما فهي التعجّب والنّدامة والتنعّم والتلذّذ وما هو قريب منها ونعم ما قال في نظير هذه المعاني الشاعر الذي تمثّلنا بشعره قريبا ، وقال :

عباراتنا شتّى وحسنك واحد

وكلّ إلى ذاك الجمال تشير

(وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) الجحيم المكان الشديد الحرارة أي جنّبهم عن هذا العذاب الشّديد ، ويقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي كلوا طيّبا لكم بما عملتم من الحسنات وتراهم يوم القيامة (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) أي مصطّفة موصول بعضها ببعض (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) مرّ تفسيره.

٢١ إلى ٢٣ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ...) أي المؤمنون وأولادهم (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) حشرنا أولادهم معهم (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أي مرهون ومأخوذ بعمله ان كان خيرا فخير وإن كان شرّا فشرّ ولا ننقص من عملهم شيئا أبدا بل نزيدهم (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي أعطينا بوفرة وزدناهم وقتا بعد وقت من مشتهياتهم من أنواع النّعم وممّا فيه قوام حياة الإنسان به غالبا وقد ذكرهما الله تعالى في قوله من الفواكه واللحوم بأقسامهما العديدة في كلّ زمان ومكان. وأما الألبسة فليست ممّا به قوام حياة الإنسان كما لا يخفى ،! وكفى دليلا لنا في المقام أنه تعالى لم يذكر غيرهما لأنه سبحانه في مقام بيان هذه الجهة فقط والمراد بالفاكهة واللحم هو أنواع الفاكهة اللّذيذة واللحم الطيّب. فالمتّقون يكونون في تلك الجنان مع ذريّاتهم يتنعّمون ويأكلون الفاكهة واللحم ، و (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) أي يتعاطون بينهم في الجنّة كؤوس الخمر الحلال وقد سمّيت باسم محلّها لأنها من كؤوس الجنّة التي لا لغو فيها ولا تأثيم أي لا كلام بعدها بالباطل

٣٨

والسفاهة بسبب شربها كخمور الدنيا التي من لوازمها قول الباطل والعربدة التافهة والكلمات التي لا طائل تحتها كما لا يخفى على من شاهد أهل السّكر في مجالس الشراب وهم في أباطيلهم وفحشهم.

٢٤ إلى ٢٨ ـ (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ...) أي يدور عليهم خدمهم ومماليكهم الذين هم في الحسن والبهاء كالدّرر المستورة المخبّأة في الصّدف والمحفوظة في الأحقاق لتحتفظ برونقها وحسنها (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أخذ يسأل بعضهم بعضا عن أحوالهم ويتحدّثون بنعمة ربّهم ويتلذّذون بذكرها (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) أي في أيام الدنيا (فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) خائفين من عذاب الله وحاذرين منه فمن الله علينا بالرحمة والمغفرة والعفو (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) أي جنّبنا النّار النافذة حرارتها في المسامّ ، ذلك (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ) أي نعبده ونحن في دار الدنيا ونسأله فضله ورحمته وعفوه (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) أي أن ربّنا سبحانه كذلك ، والبرّ هو الجامع للخير كلّه ، وقد يراد هنا. ببرّه عطاءه أي الجنّة بقرينة المقام. والرّحيم هو عظيم الرّحمة.

* * *

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤))

٢٩ إلى ٣١ ـ (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ...) أي

٣٩

أنذرهم وأدعهم إلى الهدى ولست بكاهن يعمل الكهانة التي توجب إطاعة أوامر الجنّ ، وهي قريبة من السّحر والشعوذة. والكاهن كافر في شرعنا ، والمجنون اسم من الجنّ بمعنى السّتر. ويسمّى الجنين جنينا لأنه مستور ومخفيّ عن الأنظار ، فإذا ولدته أمه في وقته فلا يسمّى جنينا لأنه يظهر من السترة التي كانت تخفيه. والحاصل أن المخالفين كانوا يسندون إليه الجنون وينسبون له السحرة تارة ، ويرمونه بالكهانة تارة أخرى ، وهو سبحانه نزّهه عن هذه الأمور وعن جميع النقائص والعيوب البشرية فقال : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي يقولون ننتظر به حوادث الدهر والموت (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي تمكّثوا موتي وانتظروه ، فأنا أيضا أنتظر موتكم ووقوع الحوادث المهلكة بكم.

٣٢ إلى ٣٤ ـ (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا ...) أحلام جمع حلم ، وهو هنا العقل ، أي هل تأمرهم عقولهم بهذا الذي هم عليه والذي يقولونه (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي متجاوزون لحدودهم ومعاندون للحق؟ (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي اختلق القرآن وجعله من عنده ونسبه إلى ربّه (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون عنادا وكفرا به (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) هذا في مقام تعجيزهم وردّ قولهم بأن القرآن مفترى ، فقد تحدّاهم الله سبحانه أن يأتوا بمثله ، وهم عاجزون عن ذلك.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ

٤٠