الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

أي وتسمعها وتحفظها الأذن السامعة الحافظة التي تنفعها الذكرى. وفي المجمع روى الطبري أنه لمّا نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم اجعلها أذن عليّ. ثم قال عليّ عليه‌السلام : فما سمعت شيئا من رسول الله (ص) فنسيته.

١٣ إلى ١٥ ـ (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ...) أي إذا نفخت النفخة الأولى التي يصعق منها الخلائق ، وقيل هي النفخة الأخيرة التي يبعثون بها (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي رفعت من أماكنها محمولة في الفضاء (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي كسرتا كسرة واحدة وضرب بعضها ببعض حتى يستوي أديمها وتصير لا جبل فيها ولا مرتفع (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي في ذلك اليوم تقوم القيامة ويقع ما وعدنا العباد بحدوثه.

١٦ إلى ١٨ ـ (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ...) أي تشقّقت وانفرج بعضها عن بعض فصارت واهية : ضعيفة مفكّكة البنية بعد قوّتها وصلابتها (وَ) صار (الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) أي رؤي الملائكة على أطرافها ونواحيها المختلفة ينتظرون الأمر لما يحدث من سوق أهل الجنة إلى الجنة وسوق أهل النار للنار (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أي ويحمل العرش فوق الخلائق في يوم القيامة ثمانية من الملائكة. وقيل إن حملة العرش أربعة في أيام الدنيا ولكنهم يؤيّدون بأربعة آخرين يوم القيامة. وقيل هم ثمانية صفوف وعددهم لا يعلمه إلّا الله عزّ وعلا ف (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) بين يدي الله وعلى أعين الخلائق أيها المكلّفون (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) فلا يغيب شيء من أعمالكم عن الخلق لتنقطع المعاذير ، لأن الله سبحانه وتعالى عالم بذلك كله قبل عرض الخلق وعرض الأعمال ، وهذا العرض ليرى الخلائق ذلك ولإلقاء الحجة على كل مكلّف.

* * *

٢٢١

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤))

١٩ إلى ٢٤ ـ (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ...) من هنا بدأ سبحانه بوصف تقسيم حالة المكلّفين فقال أما أصحاب اليمين (فَيَقُولُ) كلّ واحد منهم لأهل المحشر : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) أي تعالوا اقرأوا ما في كتابي ، يقول ذلك مسرورا فرحا بما لاقاه من ثواب صالح أعماله ، وهو لا يستحي من عرض كتابه على غيره ، بل يظهره معتزّا بما قدّم لنفسه. وفي اللغة معنى : هاؤم : خذوا كمثل قولهم : هاكم ، يقول لهم ذلك ويقول جذلا : (إِنِّي ظَنَنْتُ) أي علمت قطعا وأيقنت وأنا في دار الدنيا (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أني محاسب بالتأكيد على أعمالي ولذلك حسبت حسابا لهذا اليوم لأثاب على الطاعات التي عملتها. فهذا الذي يكون من أصحاب اليمين ويقول ذلك القول (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) في ذلك اليوم ، أي في حياة هنيئة إذ نال الثواب ونجا من العقاب لأنه (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) رفيعة الدرجات (قُطُوفُها دانِيَةٌ) أي ثمارها جميعا قريبة المنال ، فعن البراء بن عازب قال : يتناول الرجل من الثمر وهو نائم وعن عطاء عن سلمان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لا يدخل الجنّة أحدكم الّا بجواز : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من الله لفلان بن فلان ، أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية. فهذه حال المؤمنين إذ يقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) في الجنّة التي دخلتموها (هَنِيئاً) خالصا من الكدر (بِما أَسْلَفْتُمْ) أي بما قدّمتم (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) يعني في الأيام الماضية في الدنيا.

* * *

٢٢٢

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧))

٢٥ إلى ٢٩ ـ (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ...) بعد ذكر أهل الجنّة ذكر سبحانه أهل النار فقال عزّ من قائل ، وأما أصحاب الشمال فإن من أعطي كتابه : صحيفة أعماله بشماله (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) يتمنّى أنه لا يعطى كتابه لما فيه من القبائح والسيئات والمعاصي التي تسوّد الوجه (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) أي ويا ليتني لم أعرف أي شيء عن حسابي لأن أعمالي كلها كانت سيئة (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) أي يا ليت حالي كانت موتة واحدة أصير فيها إلى العدم ولا أعود إلى الحياة مرة ثانية (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) فإن مالي لم ينفعني ولم يدفع عني عذاب الله مع أنني قضيت عمري في جمعه وتركته للورثة (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي قد ذهب عني ما كنت أعدّه حجة لي عند الله ، وقد زال أمري ونهيي في الدنيا ولا أمر اليوم لي ولا نهي ولا حول ولا قوة إلّا لله تبارك وتعالى.

٣٠ إلى ٣٧ ـ (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ...) الخطاب موجّه لملائكة العذاب حيث يقال لهم : خذوا هذا العاصي فأوثقوه بالغلّ ، أي

٢٢٣

القيد وشدّوا إحدى يديه وإحدى رجليه إلى عنقه بسلاسل من نار (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي أدخلوه النار وأذيقوه حرّها ولهبها (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) أي اجعلوه ملفوفا في سلسلة طولها سبعون ذراعا. وقال سويد بن نجيع : إن جميع أهل النار في تلك السلسلة ، ولو أن حلقة منها وضعت على جبل لذاب من حرّها ، وقد ذكر سبحانه وتعالى سبب استحقاقه لهذا العذاب الشديد فقال : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) أي أنه كان لا يصدق بوحدانية الله تعالى في دار التكليف (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي أنه كان لا يحث الناس على إعطاء الزكاة للمحتاجين ولا يتصدق على الفقراء (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) أي ليس له صديق تفيده صداقته يوم القيامة (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) أي وليس له أكل إلّا من صديد أهل النار وما يجري منهم من قيح ودماء وغيرهما. وقيل إن أهل النار درجات ، فمنهم من طعامه الغسلين ، ومنهم من طعامه الزّقوم ، ومنهم من طعامه الضريع (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أي لا يأكل الغسلين المذكور إلّا المذنبون المتعمّدون الجائرون عن طريق الحق ، وهم العصاة والمعاندون الكافرون.

* * *

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى

٢٢٤

الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

٣٨ إلى ٤٣ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ ، وَما لا تُبْصِرُونَ ...) هذا ردّ لقول المشركين الذين كذّبوا بالقرآن فكأنه قال سبحانه : ليس الأمر كما يزعمون وحرف «لا» هنا زائدة فمعناه : أقسم بما ترون من الأشياء وبما لا ترون (إِنَّهُ) أي القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقيل إنه نفي للقسم ومعناه أن هذا الأمر لا يحتاج إلى قسم لوضوح الأمر في أن القرآن قول رسول كريم نقله له الرسول الأمين جبرائيل عليه‌السلام عن الله عزوجل (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) أي وليس بقول شاعر تؤمنون به إيمانا قليلا (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي ليس بقول ساحر حتى تعتبروه اعتبارا قليلا ، فقد عصم سبحانه رسوله عن الشعر الذي يدعو إلى الهوى ، وعن الكهانة التي هي سجع يفتن الحجى ، والقرآن كلام خراج عن تلك الأنواع وهو فريد في بلاغته وإعجازه ، فهو (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي منزل من عند الله تبارك وتعالى وحيا نقله جبرائيل (ع) بلفظه.

٤٤ إلى ٤٧ ـ (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ...) أي ولو اخترع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كلاما وادّعى انه من عندنا (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي لكنّا أخذناه بيده اليمنى إذلالا له ولقطعناها ، وقيل لأخذنا بقدرتنا وسلطاننا (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) أي ولكنّا نقطع وتينه وهو وريد الدم في عنقه نقطعه لنهلكه إذا كذب علينا. وقيل إن الوتين عرق في القلب متصل بالظهر والعنق (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) أي وما من أحد منكم يحجزنا ويمنعنا عنه أو يقدر أن يدفع عقوبتنا عنه لو تقوّل علينا كذبا ، فهو صادق فيما يقوله ولا ينقل إلّا عنّا.

٤٨ إلى آخر السورة المباركة ـ (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ...) أي أن القرآن

٢٢٥

عظة وعبرة لمن يتجنّب سخط الله تعالى وغضبه ويعمل بطاعته (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ) نعرف بالتأكيد (أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) أي أن منكم من لا يصدّق بالقرآن ويكذّب قول رسولنا وينكر كتابنا المنزل عليه (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) فهذا القرآن يكون حسرة عليهم يوم القيامة إذ لم يعملوا بما فيه في دار الدنيا فيندمون حين لا ينفع الندم (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي أن القرآن يقين لا شك فيه ، واليقين هو الحق وقد أضافهما إلى بعضهما زيادة في التأكيد (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) هذا الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويراد به سائر المكلّفين لينزهوه سبحانه ، وتعالى عمّا لا يليق به من صفات غيره لأنه جلّ وعزّ عن أن يشاركه أحد في عزّه وسلطانه وسامي صفاته.

* * *

٢٢٦

سورة المعارج

مكيّة وآياتها ٤٤ نزلت بعد الحاقة.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧))

١ إلى ٤ ـ (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ...) أي دعا داع على نفسه بوقوع العذاب عليه عاجلا ففي المجمع عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام قال : لمّا نصّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا عليه‌السلام يوم الغدير وقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، طار ذلك في البلاد ، فقدم على النبيّ (ص) النعمان بن الحرث الفهري فقال : أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟ فقال : والله الذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله. فولّى النعمان بن الحرث وهو يقول :

٢٢٧

اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله ، وأنزل الله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ...) فقد سأل السائل عذابا واقعا (لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) أي لا يدفعه عنهم شيء لأنه نازل عليهم (مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) قيل هي معارج السماء ، أي طريق عروج الملائكة ، مفردها : معراج وهو المصعد (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) أي تصعد بواسطة تلك المعارج ، والروح هو جبرائيل الأمين عليه‌السلام وقد اختصه بالذكر تشريفا له. فهم يصعدون (إِلَيْهِ) أي الى الموضع المعيّن للعروج والذي لا يتجاوزونه لأنه محدّد مقدّر ، يعرجون إليه بأمره سبحانه (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي أن مكان عروجهم الذي يصلون إليه يحتاج غيرهم إلى خمسين ألف سنة حتى يصل إليه سيرا من الأرض إلى ما فوق السماوات السبع ، وقيل معناه أنه من أول نزول الملائكة في الدنيا وأمره ونهيه وقضائه سبحانه بين الخلائق إلى آخر عروجهم الى السماء يوم القيامة يكون المقدار خمسين الف سنة ، وهو عمر الدنيا ولا يعلم ما مضى منها وما بقي إلّا الله تبارك وتعالى. وقيل إن يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة تقضى فيه الأمور وتجري الأحكام بين العباد في تلك المدة ، وروى أبو سعيد الخدري أنه قيل : يا رسول الله ما أطول هذا اليوم؟ فقال : والذي نفس محمد بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا. وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : لو ولي الحساب غير الله لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل أن يفرغوا ، والله سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة. وعنه عليه‌السلام أيضا أنه قال : لا ينتصف ذلك اليوم حتى يقبل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار.

٥ إلى ٧ ـ (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ...) أي اصبر يا محمد على تكذيبهم لقولك ، وليكن صبرك جميلا لا شكاية ممّا تلاقيه ولا جزع مما يقابلونك به وممّا تقاسيه من أذاهم (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) أي يرون مجيء يوم القيامة

٢٢٨

وحلول العقاب بهم أمرا بعيدا مستبعدا لأنهم لا يؤمنون بصحته (وَنَراهُ قَرِيباً) ونحن نرى حلوله قريبا إذ كلّ آت قريب ... ثم شرع سبحانه في وصف يوم القيامة فقال عزّ من قائل :

* * *

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤))

٨ إلى ١٠ ـ (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ...) أي يوم تصير السماء كورديّ الزيت ـ العكر ـ وهو ما يبقى راسبا في أسفل الزيت من الكدر ، وقيل كعكر القطران أو كالفضّة أو النحاس المذابين (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) أي تصير كالصوف المصبوغ المنفوش. وقال الحسن : إنها أولا تصير كثيبا مهيلا ، ثم تصير عهنا منفوشا ، ثم تصير هباء منثورا (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أي لا يطلب صاحب من صاحب يرأف به أو يشفع له أو يدفع عنه لانشغال كل واحد بنفسه. والحميم من تختصّه بمودّتك واشفاقك قريبا كان في الرحم أو بعيدا.

١١ إلى ١٤ ـ (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي ...) بعد أن بيّن سبحانه أن الحميم لا يتعاطى مع حميمه لانشغاله بنفسه وبما هو فيه ، قال : يبصّرونهم : أي يشاهد الكفّار بعضهم بعضا ليعرفوا سوء مآلهم

٢٢٩

وتعاسة مصيرهم ، ثم لا يتعارفون بعدها ويفرّ بعضهم من بعض. وقيل يرى المؤمنون الكافرين وما هم عليهم من سوء الحال فيشمتون بهم ويسرّون بما هم فيه من النجاة بالنسبة للكافرين. بل قيل إن الملائكة يبصّرون الناس فيقودون أهل الجنّة للجنّة ، وأهل النار للنار ، و (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) يحب العاصي ويتمنّى (لَوْ يَفْتَدِي) لو يقدّم فداء عن نفسه (مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) يوم القيامة ، لافتدى (بِبَنِيهِ) وهم أعزّ المخلوقات عليه (وَصاحِبَتِهِ) أي زوجته التي كان يسكن إليها ويؤثرها (وَأَخِيهِ) الذي كان جناحه ومعينه (وَفَصِيلَتِهِ) عشيرته (الَّتِي تُؤْوِيهِ) تحميه في المصائب والشدائد (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي يتمنى أن لو يفتدي بجميع المخلوقات (ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي يخلّصه هذا الفداء من العذاب في نار جهنم.

* * *

(كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ

٢٣٠

هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥))

١٥ إلى ١٨ ـ (كَلَّا إِنَّها لَظى ، نَزَّاعَةً لِلشَّوى ...) هذا إنكار لزعم الكافر بأن بنيه أو صاحبته أو أخيه أو غيرهم ينجيه من العذاب. لا ، إنه لا ينجيه أحد و (كَلَّا) ردع وتنبيه ، يعني لا ينجي أحد أحدا فارتدعوا عمّا أنتم فيه في دار الدنيا ، أما في الآخرة فإنها لظى : أي نار جهنّم المحرقة ، وسمّيت لظى لأنها تشتعل فتتلظّى وتلتهب بأهلها ، والعقبة قصة موقف الكافرين معها وجها لوجه وهي بهذه الحالة ، وهي (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) أي تشوي الأطراف وتشوي لحوم الأجسام فتنزع الجلود واللحوم بالحريق ، وتحرق أمّ الرأس وتأكل الدماغ و (تَدْعُوا) إلى نفسها (مَنْ أَدْبَرَ) الطرف عن الإيمان (وَتَوَلَّى) انحرف عن طاعة الله تعالى ، فلا يفوتها عاص من العصاة بل يجيبونها مكرهين ، وقيل : إن زبانية جهنّم وملائكة العذاب يدعون أهل النار ـ إلى النار ـ كما قيل إن الله تعالى ينطقها فتدعو أهلها (وَ) من (جَمَعَ) المال (فَأَوْعى) أي خبّأه في الأوعية وأمسكه ولم يدفع منه صدقة ولا زكاة ولم ينفقه في طاعة ربّه ، وقيل جمعه من باطل ، ومنعه من حق.

١٩ إلى ٢٣ ـ (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ...) أكدّ سبحانه أن الإنسان خلق جزوعا ، والهلع سدة الحرص ، وقيل إن تفسير (هَلُوعاً) هو : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) يعني أنه لا يصبر إذا أصابه فقر ولا يحتسبه ، وإذا أصابه الغنى منعه من البر والإحسان ، ثم إنه تعالى أعلم بمخلوقاته ، فقد استثنى المؤمنين من ذلك فقال : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي الذين يستمرّون على صلواتهم ولا ينقطعون عن أدائها ولا يتركونها في حال من الأحوال.

٢٣١

٢٤ إلى ٢٨ ـ (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ...) يعني في أموالهم حقّ معيّن مفروض وهو الزكاة المعدّة (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) وهما الذي يكون محتاجا ويسأل ، والفقير الذي يتعفّف ولا يسأل ، وقد مرّ تفسير مثلها. وقد روي أن الصادق عليه‌السلام قال : الحق المعلوم ليس من الزكاة ، وهو الشيء الذي تخرجه من مالك إن شئت كلّ جمعة وإن شئت كلّ يوم ، ولكل ذي فضل فضله (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي يوقنون بيوم القيامة والحساب ولا يشكّون فيه (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) يعني خائفون من العذاب الذي أعدّه الله للكافرين في الآخرة (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي أنه لا يؤمن نزوله في الكفّار والعصاة. وقيل إنه غير مأمون لأن المكلّف لا يعرف هل أدّى جميع واجبه فنجا من العذاب ، أم أنه قصّر في بعض الواجبات ، فاستحق عذابا عليها؟.

٢٩ إلى ٣١ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ...) أي يضاف إلى من وصف سبحانه في أعلاه ، الذين يحفظون فروجهم عن المناكح المحرّمة ويمتنعون عن مباشرة النساء في كلّ وجه (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) الشرعيات (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من الإماء اللواتي يشترونهنّ ويملكونهنّ (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) لا يلامون على نكاحهنّ لأنهنّ محلّلات لهم (فَمَنِ ابْتَغى) أي طلب (وَراءَ ذلِكَ) أي وراء ما أباحه الله تعالى له من المناكح (فَأُولئِكَ) أي الذين يطلبون سوى ما أحلّه الله سبحانه (هُمُ العادُونَ) أي المتعدّون لحدود الله.

٣٢ إلى ٣٥ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ...) أي الحافظون للعهود المؤدون للأمانات : كالودائع والوصايا وغيرها ، أو أن الأمانات هي ما أخذه الله تعالى على عباده من الإيمان بما أوجبه عليهم والتصديق بما نهاهم عنه (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي أنهم يؤدون الشهادات على وجهها الصحيح ، ويخبرون بالشيء الذي رأوه إذا سئلوا عنه إخبارا صحيحا لا زيادة فيه ولا نقصان (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى

٢٣٢

صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) مرّ تفسير قريب منها منذ آيات ، ومعناها هنا المحافظة على أوقات الصلوات وأركانها ، وعن أبي الحسن عليه‌السلام ـ كما في رواية محمد بن الفضيل ـ قال : أولئك أصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا ، ثم بيّن سبحانه أن جميع من وصفهم بالصفات السابقة (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أي يكونون في الجنان محترمين معظّمين ينالون كل إكرام بما ينالونه من جزيل الثواب.

* * *

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

٣٦ إلى ٣٨ ـ (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ...) المهطع هو الذي يقبل ببصره على الشيء لا يزيله عنه ، كنظر العدوّ إلى عدوّ يتربص به شرّا. فالله سبحانه وتعالى يخاطب نبيّه الكريم قائلا : ما بال هؤلاء الكافرين بوحدانية الله وبرسالتك ممّن يلتفّون حولك ويسرعون إليك ويحيطونك بأبصارهم ناظرين إليك بالعداوة وهم (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ

٢٣٣

الشِّمالِ) أي عن يمينك وشمالك (عِزِينَ) أي متفرقين وموزّعين جماعة وفرقة فرقة. والواحدة من غرين : عزة (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ) من هؤلاء المنافقين المحيطين بك (أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) كما يدخل الموصوفون بالإيمان والتصديق والعمل الصالح؟ ذلك أنهم كانوا يقولون : إذا كان ما يقوله محمد حقا فإنّ لنا عند الله خيرا ممّا لهؤلاء الذين اتّبعوه. وقد ردّ سبحانه وتعالى قولهم بقوله الكريم التالي :

٣٩ ـ (كَلَّا ، إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ :) أي : لا ، لا يكون الأمر كما زعموا ، ولا يدخلون الجنّة ، فإننا خلقناهم من النّطفة القذرة التي هي من ماء مهين ، وهم في غاية الهوان عندنا ، إذ لا يستحق الجنّة أي مخلوق بهذا الأصل الدنيء ، بل بالعمل الصالح وبتصديق الرّسل وبما يرضي الخالق تبارك وتعالى.

٤٠ إلى آخر السورة ـ (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ...) قد مرّ تفسير مثل هذا القسم في سورة الحاقة ، والمشارق هي مشارق الشمس ، والمغارب مغاربها فإن لها ثلاثمئة وستّين مطلعا بحسب أيام السنة ولا تعود لمطلع أي يوم إلّا في مثله من العام القابل ، فقد أقسم تعالى بهذا التدبير الحكيم وهذا التقدير الدقيق (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) أي اننا قادرون على إهلاكهم وخلق من هم خير فيهم (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) ولن يسبقنا على عذاب الكفار والمكذّبين أحد ، ولا يفوتنا إدراكهم ، ولن يغلبنا عنادهم وسيقعون في قبضة عبادنا من ملائكة العذاب لينالوا جزاءهم الأليم (فَذَرْهُمْ) دعهم يا محمد في باطلهم (يَخُوضُوا) في غيّهم وضلالهم (وَيَلْعَبُوا) يلهوا بما هم فيه من اللعب (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي يوم القيامة الذي وعدناهم به فلم يصدّقوا به ، وذلك (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي من القبور ، يخرجون (سِراعاً) مسرعين لأن الملائكة تسوقهم بسياطها ، وتراهم (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) أي مثل من يسرعون إلى علم نصب لهم يريدون أن يبلغوه

٢٣٤

ويلتفّوا من حوله ، وقيل كأنهم يسرعون إلى أوثانهم التي كانوا يعكفون على عبادتها (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) خاضعة ذليلة منكّسة إلى الأرض لا يستطيعون رفعها من شدة أهوال ذلك اليوم (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) يغشاهم خزي وحقارة وهوان (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) يعني فهذا هو اليوم الذي وعدناهم به في دار الدنيا وأيام التكليف فكذّبوا به وجحدوه ، فرأوه بأم العين حين بعثهم ونشرهم.

* * *

٢٣٥

سورة نوح

مكيّة ، وآياتها ٢٨ نزلت بعد النّحل.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤))

١ ـ ٤ ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ...) هذا إخبار منه سبحانه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولسائر عباده ، يقول فيه : إنّا بعثنا نوحا إلى قومه ، رسولا منّا لهم (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي حذّرهم من العذاب إذا لم يؤمنوا بنا وبرسالتك إليهم. وهذا إنذار من عذاب لهم يقع في الدنيا قبل عذاب الآخرة. وعبارة (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) في محل نصب بأرسلنا لأن أصلها : بأن أنذر قومك ، فلمّا سقطت الباء افضى الفعل. ثم حكى سبحانه إنّ نوحا (ع) امتثل الأمر ، و (قالَ

٢٣٦

يا قَوْمِ) وأضافهم إلى نفسه احتراما لهم وتقريبا وتحريكا لعواطفهم مثل من يقول : أنتم عشيرتي يسرّني ما يسرّكم ، ويسوؤني ما يسوؤكم ، فيا قومي (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي رسول مخوّف موضح لصدق تخويفي وتحذيري ، وموضح لأمور الدين ومعالم ما أدعوكم إليه (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به واجتنبوا غضبه وسخطه (وَأَطِيعُونِ) واسمعوا كلامي واستجيبوا لي في ما آمركم به فإن طاعتي من طاعة الله الذي إن أطعتموه (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي يتجاوز عن معاصيكم السالفة ، ولفظة (مِنْ) هنا زائدة ، أي : يغفر لكم ذنوبكم التي سبق أن ارتكبتموها إذا آمنتم بقولي (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فقد اشترط عليهم الأجل في الوعد المسمّى بعبادة الله تعالى ، فاذا لم تقع منهم الطاعة ولا العبادة أخذوا بعذاب الاستئصال قبل أجلهم المحدود الذي هو الأجل الأقصى (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) يعني أن أجله الأقصى الذي عيّنه لإهلاككم لا يؤخّر عن وقته (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لو كنتم تعرفون ذلك تؤمنون به ، والأجل الأقصى هو الذي سمّاه (أَجَلَ اللهِ) وهو يوم القيامة الذي سيقع في موعده ويكون البعث فيه للحساب.

* * *

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ

٢٣٧

وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤))

٥ ـ ٧ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً ...) أي قال نوح عليه‌السلام : يا ربّ إني دعوت قومي إلى توحيدك وعبادتك وترك الشّرك ، وإلى الاعتراف بنبوّتي ، وفعلت ذلك معهم ليلا ونهارا (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي فكانوا ينفرون من دعوتي ، وكلمّا كررتها عليهم كانوا يفرّون مني ولا يقبلون قولي (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) إلى الوحدانية والإخلاص في العبودية لك (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) لتعفو عن سيئاتهم وتمحو ذنوبهم (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) أي سدّوا آذانهم بأصابعهم حتى لا يسمعوا كلامي (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) غطّوا وجوههم بثيابهم حتى لا يروني (وَأَصَرُّوا) داموا وأقاموا على كفرهم وعنادهم (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) أي : أنفوا وتكبّروا وترفّعوا عن قبول الحق ، وقيل إن الرجل منهم كان يذهب بابنه إلى نوح عليه‌السلام فيقول له : احذر هذا لا يغوينّك ، فإنّ أبي قد ذهب بي إليه وأنا مثلك فحذّرني مثل ما حذّرتك.

٨ ـ ١٢ ـ (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ...) أي أنني دعوتكم سرّا وعلانية. وقيل إنه سلام الله عليه أعلن الدعوة مع جماعة وأسرّها مع جماعة ثم عكس ذلك فأعلنها إلى هؤلاء وأسرّها مع أولئك ، وذهب معهم كل مذهب وألان لهم جانبه فما أجابوا دعوته (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) اطلبوا منه المغفرة والعفو عن معاصيكم وكفركم (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) يتجاوز عمّن استغفره إذا تاب وأناب ، فافعلوا ذلك (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي يمطركم بالغيث ويجعل السماء كثيرة الإدرار عليكم. وقيل إنه عليه‌السلام قال لهم ذلك في وقت كانوا قد أصيبوا فيه بقحط شديد وهلك أولادهم فرغّبهم بذلك وأطمعهم برحمة الله تعالى

٢٣٨

(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي يكثّر لكم أموالكم وأولادكم بعد أن ذهبت من القحط (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) بساتين مزدهرة في الدنيا (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) تروونها بها ، وكان نوح عليه‌السلام قد قال لهم : هلمّوا إلى طاعة الله فإن فيها درك الدنيا والآخرة. وللاستغفار فوائد لا تحصى فقد روى الربيع بن صبيح أن رجلا أتي الحسن السبط عليه‌السلام فشكا إليه الجدوبة ، فقال له الحسن استغفر الله ، وأتاه آخر فشكا إليه الجدوبة ، فقال له الحسن استغفر الله ، وأتاه آخر فشكا اليه الفقر ، فقال له استغفر الله ، وأتاه آخر فقال : ادع الله أن يرزقني أيضا ، فقال له استغفر الله. فقلنا : أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا ، فأمرتهم كلّهم بالاستغفار؟ فقال : ما قلت ذلك من ذات نفسي ، إنما اعتبرت منه قول الله تعالى حكاية عن نبيّه نوح ، إنه قال لقومه : استغفروا ربّكم إنه كان غفارا.

١٢ ـ ١٤ ـ (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً ...) قال لهم نوح عليه‌السلام لقومه على سبيل التوبيخ والتبكيت : ما لكم أيها الكفّار لا تخافون غضب الله ولا تخشون عظمته وقدرته ، ومعنى ذلك أنكم ما بالكم لا تخافون عقابا ولا تطمعون بثواب (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) أي أوجدكم متطوّرين نطفة إلى علقة فمضغة فعظام كساها لحما وأنشأ من ذلك هذا الخلق القويم المستقيم بعد أن تدرّج في ذلك حالا بعد حال إلى أن صار على حاله المعلومة ، فكيف لا تطيقونه ولا تهابون قدرته وعظمته؟

* * *

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠))

٢٣٩

١٥ و ١٦ ـ (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ...) هذا خطاب منه سبحانه لسائر المكلّفين ينبّههم فيه إلى توحيده لأنه الخالق القادر ، وهو يعني أنكم أفلا تنظرون إلى السماوات السّبع التي خلقها الله تعالى طباقا : أي واحدة فوق الأخرى كالقباب ، ولفظة (طِباقاً) منصوبة على أنه نعت للفظة (سَبْعَ) أي سبع سماوات ذات طباق ، أو هو منصوب على أن يكون التقدير أخلقهنّ طباقا (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) أي جعله نورا في السماوات والأرض : وجه منه يضيء للأرض ، والوجه الآخر يضيء للسماوات.

وقيل إن معنى (فِيهِنَ) هو معهنّ ، أي جعل القمر منيرا معهنّ ، وقيل بل جعله نورا في حيّزهنّ وإن لم يضيء إلّا واحدة منهنّ (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي مصباحا ينير الأرض ويضيء لأهلها جميعا كما يضيء المصباح للإنسان.

١٧ ـ و ١٨ ـ (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ...) لفظة (نَباتاً) مصدر لفعل محذوف : والتقدير : أنبتكم فنبتّم نباتا ، وقال الزجاج : إنه محمول على المعنى لأن معنى (أَنْبَتَكُمْ) جعلكم تنبتون نباتا. وهذا يعني مبتدأ خلق آدم الذي خلق من الأرض ، والناس من ولده ، وهو سبحانه ينشئ جميع الناس بالتغذي على ما تنبته الأرض من حبوب وفواكه وغير ذلك فكل غذاء مرجعه إلى الأرض (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) حين الموت يرجعكم إلى الأرض فتدفنون فيها وتنحلّ فيها أجسادكم (وَيُخْرِجُكُمْ) منها عند البعث والنشور إخراجا يتمّ بأمره سبحانه وقد ذكر هذا المصدر لتأكيد ذلك الإخراج.

١٩ ـ ٢٠ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ...) أي جعلها سبحانه مبسوطة ليسهل عليكم السير والعمل فيها والاستقرار عليها ، وقد فسّر ذلك بقوله تعالى : (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) أي لتقطعوا طرقا

٢٤٠