الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

لاصقة بجلودهم. فأمّا الذين على صورة القردة فالقتّات من الناس ـ أي النمّامون ـ وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السّحت ، وأمّا المنكّسون على رؤوسهم فأهل الرّبا ، والعمي الجائرون في الحكم ، والصمّ والبكم المعجبون بأعمالهم ، والذين يمضغون بألسنتهم فالعلماء والقضاة الذين خالف أعمالهم أقوالهم ، والمقطّعة أيديهم وأرجلهم الذين يؤذون الجيران ، والمصلّبون على جذوع من نار فالسّعاة بالناس إلى السلطان ، والذين هم أشدّ نتنا من الجيف فالذين يتمتّعون بالشهوات واللذات ويمنعون حقّ الله في أموالهم ، والذين يلبسون الجلبات فأهل الفخر والخيلاء. نعوذ بالله وحده من كلّ ذلك.

٢١ ـ ٣٠ ـ (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً ...) أي هي محلّ رصد يرصد بها خزنتها الكفّار ليلقوهم فيها. وقيل يعني هي معدّة للكفّار ، وقيل هي محبس للعاصين يكون منهلهم وموردهم ، فهي على رصد للكافرين فلا يفوتونها. والطاغون هم الذين جاوزوا حدود الله وطغوا في معاصيه ، فجهنّم مآبهم : مرجعهم الذين يئوبون إليه في نهاية مطافهم ، فكأنهم قد كانوا فيها بطغيانهم وإجرامهم ثم عادوا إليها آيبين (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) الحقب ثمانون سنة من سنيّ الآخرة كما عن قتادة. أي أنهم يبقون فيها حقبا بعد حقب حتى يبلغ ذلك زمانا كثيرا. أما مجاهد فقال : الأحقاب ثلاثة وأربعون حقبا ، كلّ حقب سبعون خريفا ، كل خريف سبعمائة سنة ، كل سنة ثلاثمئة وستون يوما ، وكل يوم ألف سنة! ـ نعوذ بالله من ذلك ـ ومن الأقوال ـ كما في المجمع ـ أن الله تعالى لم يجعل لأهل النار مدة ، بل قال : لابثين فيها أحقابا ، فو الله ما هو إلّا أنه إذا مضى حقب دخل آخر كذلك إلى أبد الآبدين. وفي العياشي بإسناده عن حمران قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن هذه الآية فقال : هذه في الذين يخرجون من النار. (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً) أي لا يصادفهم برد يمنع عنهم حرّ جهنّم ، ولا شراب ينقع غلّتهم ويدفع

٣٠١

عطشهم فيها ، وقيل لا يتذوّقون فيها برد النوم ولا شراب ماء ينفع من العطش ، إذ يقال عن النوم : البرد ، كما في قول الكندي :

بردت مراشفها عليّ فصدّني

عنها وعن قبلاتها البرد

فلا يذوقون فيها النوم إذا ولا الماء (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) سوى الماء الحارّ ، والغسّاق الذي هو صديد أهل النار ، ليكون (جَزاءً وِفاقاً) أي عقابا موافقا لكفرهم وشركهم فإنه ليس بعد الكفر ذنب ، وليس أعظم من ذنب الشّرك أيضا ، وليس أعظم من هذا العذاب بالنار ، فجزاؤهم موافق لعملهم (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) فهم لم يكونوا يتوقعون بعثا ولا محاسبة على كفرهم وشركهم ، وكانوا ينكرون المجازاة على السيئات ولا يظنّون ان ذلك واقع بهم (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) أي أنكروا ما جاءهم به رسلنا من البيّنات ، وقيل : يعني كذّبوا بالقرآن تكذيبا ولم يصدقوه (وَكُلَّ شَيْءٍ) من أعمالهم وأعمال سائر المخلوقات (أَحْصَيْناهُ كِتاباً) أي أحصيناه في اللوح المحفوظ ، وقيل : وأحصينا كلّ شيء من أعمالهم وحفظناه لنعاقبهم عليه ، وذلك ما كتبه الحفظة عليهم بدليل قوله سبحانه : كتابا ، أي كتابة ، واللفظة حال هي تعني أن الإحصاء وقع بالكتابة (فَذُوقُوا) أي فيقال لأولئك الكفرة : ذوقوا العذاب الذي أنتم فيه (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ) معه وبعده (إِلَّا عَذاباً) يزاد عليه كيلا ترتاحوا من ألم العذاب.

* * *

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً

٣٠٢

حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

٣١ ـ ٤٠ ـ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ، حَدائِقَ وَأَعْناباً ...) بعد أن ذكر سبحانه وعيده للكافرين ، أخذ بذكر وعده للمؤمنين فقال : إن للمتّقين للذين اجتنبوا ما يسخط الله تعالى مفازا : أي منجى ، وهو النجاة من النار ، ثم بيّن ذلك الفوز قائلا (حَدائِقَ وَأَعْناباً) أي حدائق الجنّة وثمارها التي كنّى عنها بالأعناب (وَكَواعِبَ أَتْراباً) أي جواري ـ صبايا ـ قد تكعّبت أثداؤهنّ ، فالكواعب مفردها : كاعب ، وهي التي برز ثديها في أول صباها ، وكنّى عنهنّ بالأتراب لبدلّ على أنهنّ يكنّ من سنّ أزواجهن ومثلهم في الحسن (وَكَأْساً دِهاقاً) أي كؤوسا مملوءة بالشراب تكون على قدر ريّهم فلا تزيد ولا تنقص (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) أي لا يسمعون في الجنّة لغوا : كلاما لا فائدة فيه ولا يكذّب بعضهم بعضا. وقرئ : كذابا : بالتخفيف ، أي ولا كذبا على أنه مصدر : كذب. فهم كذلك منعّمون (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) أي ثوابا لتصديقهم بالله تعالى وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان ذلك (عَطاءً) لهم من ربّك. واللفظة منصوبة على المصدر ، أي أعطاهم عطاء (حِساباً) أي محسوبا كافيا ، وقيل كثيرا ، كما قيل على حسب الاستحقاق وقد قدّر كافيا لما يشتهونه. وهذا العطاء من ربّك يا محمد (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مرّ تفسير مثلها ، فهو خالق كل ذلك ومدبّره (الرَّحْمنِ) اللطيف به الذي يرحم المؤمن والكافر ، وهم (لا يَمْلِكُونَ

٣٠٣

مِنْهُ خِطاباً) أي لا يقدرون أن يسألوه إلّا فيما رخّص به وأذن للمقرّبين منه تبارك وتعالى. والخطاب هو توجيه الكلام ولذا قال مقاتل معناه : لا يقدر الخلق ان يكلّموا الرّب إلّا بإذنه.

وقرأ الحجازيون (رَبِ) بالرفع ، فقطعوه عن البدليّة من الاسم الأول ، وجعلوه مبتدأ خبره (الرَّحْمنِ) واعتبروا الكلام مستأنفا ، (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) أي يقفون مصطفّين في ذلك اليوم قائمين بأمر الله منتظرين ما يصدر عنه عزّ وعلا. أما (الرُّوحُ) فقيل هو خلق من خلقه سبحانه ، وتعالى ، يشبه بني آدم وليسوا منهم ، يقومون يوم القيامة صفّا في مقابل صفّ الملائكة. وقال مقاتل ومجاهد وغيرهما : (صَفًّا) هما سماطا ربّ العالمين يوم القيامة ، أي هما صفّان : واحد من الملائكة ، وواحد من الروح. وقيل إن الروح واحد من الملائكة لم يخلق الله تعالى أعظم منه يكون هو وحده صفّا يوازي صفّ الملائكة أجمعين. ثم قيل إنه عنى النوع أي أن أرواح الناس تقوم مع الملائكة بين النفختين ، بل قيل هو جبرائيل عليه‌السلام ، والجميع يقفون بين يدي الربّ منكّسة رؤوسهم من رهبة الموقف ، فإذا أذن الله للملائكة بالكلام قالوا : لا إله إلّا أنت. فهم (لا يَتَكَلَّمُونَ) بشيء (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) أي رخّص له ، وهم الملائكة والمؤمنون (وَقالَ صَواباً) أي قال في الدنيا بالتوحيد ، وقيل إن (القول) هنا الشفاعة فهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى. وفي المجمع عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن هذه الآية فقال : نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون ، نمجّد ربّنا ونصلّي على نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ونشفع لشيعتنا فلا يردّنا ربّنا (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) أي اليوم الذي لا ريب فيه دلائل (فَمَنْ شاءَ) أراد (اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) أي جعل لنفسه مرجعا صالحا ، فآب : رجع إلى ربّه حين الموت بعمل صالح وطاعة تامّة بعد أن هداه الله بالرّسل ومكنّه من عمل الطاعات. وانتقل سبحانه بعد هذا الترغيب إلى ترهيب الكفّار وتخويفهم بقوله : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ)

٣٠٤

خوفّناكم أيها الكافرون (عَذاباً قَرِيباً) لأنه آت تلاقونه بعد موتكم وتواجهونه يوم القيامة (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ) كل إنسان (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) ما قدّم من الطاعة التي عبّر عنها باليدين لأن أكثر الأعمال تباشر بهما ، يرى ذلك مكتوبا في صحيفة أعماله مثبتا بكل دقّة (وَيَقُولُ الْكافِرُ) حينئذ : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) أي : آه لو بقيت ترابا ولم يرجع جسمي ولم تعد روحي لأتخلّص من الحساب في هذا اليوم ، ويا ليتني لم أبعث ولم أحشر. وقيل إنه يتمنّى أن يكون ترابا لأن الله سبحانه يحشر الوحوش والهوامّ وجميع الحيوانات لتقتصّ الجمّاء ـ التي ليس لها قرون ـ من القرناء التي نطحتها أو اعتدت عليها بقرونها ، وبعد أن يتم الاقتصاص لجميعها يقول الله سبحانه وتعالى : انّا خلقناكم وسخرّناكم لبني آدم ، وكنتم مطيعين أيام حياتكم ، فارجعوا إلى الذي كنتم ، كونوا ترابا ، فتكون ترابا. فإذا رأى الكافر ذلك قال : يا ليتني كنت ترابا ، أي يا ليتني كنت حيوانا في الدنيا ، لأصير ترابا في هذا اليوم العصيب.

* * *

٣٠٥

سورة النازعات

مكيّة وآياتها ٤٦ نزلت بعد النبأ.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥))

١ ـ ٥ ـ (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً ، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً ...) قيل إن النازعات هي الملائكة التي تنتزع أرواح الكفار بشدّة وعنف كما يغرق نازع القوس فيبلغ به عناية المدى لينطلق السهم منه بسرعة ، أو هو نزعها لأرواح جميع بني آدم مغرقة في ذلك ماضية فيه تشتد مع الكافر وترفق بالمؤمن. وقيل هي النجوم تنتقل من أفق إلى أفق وتطلع وتغيب ، كما قيل إنهم المجاهدون في سبيل الله المشهرون لسلاحهم الماضون لذلك بعزم وقوة. وكذلك الناشطات قيل معناها ما ذكرناه سابقا من نزع نفوس الكافرين مما بين الجلد والأظفار لتخرجها منهم بكرب وصعوبة كما ورد عن عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام. والنّشط هو الجذب ، ولذلك قيل إنهم الملائكة ينشطون نفوس المؤمنين ويقبضونها بسهولة ، بل قيل إنها نفوس المؤمنين تنشط للخروج من الأجساد عند الموت إذ تعرض الجنة على المؤمن

٣٠٦

قبيل موته ويرى موضعه فيها وحاله من القصور والأزواج والحور ، فتنشط نفسه وتخرج مختارة (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) قيل هي الملائكة تقبض أرواح المؤمنين وتسبح بها في الفضاء ، كما قيل إنها الملائكة التي تنزل من السماء مسرعة كقولهم : جواد سابح ، أي سريع ، وعن عطاء أنّها السفن تسبح في الماء (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) قيل انها الملائكة لأنها سبقت بني آدم بالإيمان والطاعة ، أو أنها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنّة كما في المرويّ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقيل هي أرواح المؤمنين تسبق إلى الملائكة حين يقبضونها ، أو هي الخيل في الحرب (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) أي الملائكة تدبّر أمر العباد من سنة إلى سنة كما عن عليّ عليه‌السلام ، أو هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت الموكّلون بتدبير الدنيا لأن جبرائيل (ع) موكّل بالرياح والجنود ، وميكائيل (ع) بالقطر والنبات ، وملك الموت بقبض الأرواح ، وإسرافيل يتنزّل بالأمر عليهم. وقد قال الإمام الصادق عليه‌السلام : إن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه ، وليس لخلقه أن يقسموا ألّا به. ذلك أنه يقسم بالخلق بغية العبرة لعظم شأن المقسم به ولعظيم قدرة خالقه ، وقد أقسم سبحانه بكل ما مرّ بأنكم أيها العباد لتحشرنّ ولتحاسبنّ في يوم القيامة الذي وصفه سبحانه فيما يلي :

* * *

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤))

٦ ـ ١٤ ـ (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ...) أي يوم النفخة

٣٠٧

الأولى التي هي صيحة عظيمة ترجف منها الأرض وتنخلع لها الأفئدة فتموت جميع الخلائق ، ثم تتبعها الرادفة : النفحة الثانية التي تردف الأولى أي تتبعها فتبعث الخلائق من جديد ، وهو كقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي خائفة أعظم خوف ، مضطربة أشد اضطراب (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) وذليلة من أهوال ذلك اليوم (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) أي يقول الكافرون المنكرون للبعث ، هل إننا معادون أحياء بعد الموت ، ونردّ إلى حالنا السابقة. والحافرة معناها : أول الشيء وابتداء الأمر ، وقال ابن عباس : هي الحياة الثانية ، وقيل إن الحافرة هي الأرض المحفورة ، وعلى هذا الأساس يكون معنى كلامهم : أنردّ بعد الموت من قبورنا (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) أي وبعد أن نصير عظاما بالية مفتّتة؟ (قالُوا : تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أي قال الكافرون : هذه الرجعة بعد الموت رجعة خسران حيث نقلنا من نعيم الحياة الدنيا إلى عذاب النّار في الحياة الآخرة. (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي : ليست النفخة الأخيرة إلّا صيحة من إسرائيل عليه‌السلام يزجرهم بها فيسمعونها وهم في بطن الأرض فيعودون أحياء (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) أي : وفجأة يكونون على وجه الأرض وقد سمّيت الساهرة لأنها تعمل في تغذية النبات ليلا كما تعمل في النهار. وقيل إن الساهرة هي عرصة يوم القيامة حيث يقف الناس في سهر دائم ولا يستطيعون النوم.

* * *

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ

٣٠٨

أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦))

١٥ ـ ٢٦ ـ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ ...) إكمالا لفائدة تفصيل حال الكفّار في الآخرة وأخذ العبرة في الدنيا ، ذكر سبحانه قصة موسى عليه‌السلام مع قومه في استفهام أراد به التقرير ، أي : يا محمد قد أتاك حديث موسى وعرفت قصّته (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ) حيث ناداه تعالى اسمه فقال له : يا موسى (بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي حينما كان في طوى ـ وهو اسم الوادي ـ المطهّر بما ظهر فيه من آيات الله العظمى إذ أمره بقوله : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي رح إليه فإنه تكبّر وعلا وتجاوز الحدّ في الكفر والاستعلاء (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) أي اسأله قائلا : هل لك أن تتطهّر من الشّرك والكفر بشهادة لا إله إلّا الله ، وهل ترغب في الإسلام؟ (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) أدلّك إلى معرفته جلّ وعلا فتسلك الطريق التي تؤدّي إلى ثوابه (فَتَخْشى) فتخاف على نفسك وتقلع عمّا أنت فيه من الحال؟ (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) أي أن موسى عليه‌السلام أرى فرعون آية العصا (فَكَذَّبَ) فرعون وأنكر كونها آية من الله تعالى (وَعَصى) خالف نبيّ الله وكذّب بنبوّته (ثُمَّ أَدْبَرَ) أي أشاح بوجهه عن آية ربّه وولّى دبره ليفكّر بما يردّ به معجزة موسى ، ومضى (يَسْعى) في الفساد كعادته. وقيل إنه لمّا رأى الحية أدبر منفتلا وهرب ساعيا للنجاة ، والأول أصحّ (فَحَشَرَ فَنادى) أي فجمع قومه وجنوده وصرخ فيهم : (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أي أنني لا ربّ لكم فوقي ، وبيدي ضرركم ونفعكم (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) أي أخذه وأهلكه بالغرق ونكلّ به نكالا وأعدّ له نكالا في الآخرة. والنكال مصدر (نكل) إذا حارب الآخرين وفعل بهم الأفاعيل من العذاب. وفي المجمع عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه كان بين الكلمتين أربعون سنة ، وعن ابن عباس قال : قال موسى عليه‌السلام : يا رب إنك أمهلت

٣٠٩

فرعون أربعمائة سنة وهو يقول أنا ربّكم الأعلى ويجحد رسلك ويكذّب بآياتك. فأوصى الله تعالى إليه : إنه كان حسن الخلق سهل الحجاب فأحببت ان أكافيه. وأما إمهاله هذا فقد قال عنه أبو جعفر عليه‌السلام ـ كما عن أبي بصير ـ : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال جبرائيل عليه‌السلام : قلت : يا ربّ تدع فرعون وقد قال أنا ربّكم الأعلى؟ فقال : إنما يقول هذا مثلك من يخاف الفوت ـ أي أن فرعون لعنه الله في ملك الله وتحت سلطانه وهو لا يعجزه (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في فعل فرعون وتكذيبه ومعصيته وأخذنا له وتنكيلنا به (لَعِبْرَةً) أي عظة (لِمَنْ يَخْشى) لمن يخاف الله تعالى ويخاف عقابه ، وهي دليل واضح يميّز فيه الحق من الباطل ، فينبغي للعاقل أن يتّعظ ويستفيد فيأخذ من دنياه لآخرته.

* * *

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣))

٢٧ ـ ٣٣ ـ (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها ...) بعد ذكر قصة فرعون وما فعل به سبحانه ، وبقومه من الغرق فضلا عمّا أعدّه لهم من عذاب الآخرة ، خاطب من كان من المكابرين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله محذّرا لهم ومهدّدا وقال : هل أنتم أيّها المشركون أشد : أقوى خلقا من السماء التي (بَناها) بهذه العظمة وهذه السعة التي لا تحدّ؟ إنه لا يكبر عليه سبحانه خلق شيء مهما عظم فقد خلق السماء هكذا و (رَفَعَ سَمْكَها) أي سقفها وما ارتفع منها (فَسَوَّاها) جعلها مستوية بلا فطور ولا شقوق فأحكم بناءها (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) جعله مظلما (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي أظهر نهارها ، وقد أضاف النهار والليل إلى السماء لأن النور

٣١٠

والظلام ينشئان منها بشروق الشمس وغروبها (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أي بعد خلق السماء بسط الأرض ، والدحو هو البسط ، وقيل إن الأرض كانت ربوة تحت الكعبة فبسطها سبحانه من هناك ، ثم (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) أي فجّر العيون والينابيع والأنهار ، وأنبت فيها ما يأكله الإنسان والحيوانات وما تحصل منه سائر أرزاق الأحياء (وَالْجِبالَ أَرْساها) أي ثبّتها في الأرض فجعلها راسية فكانت الأرض هكذا (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي أوجد فيها ما تستمتعون به أنتم وأنعامكم مما تخرجه الأرض من خيراتها العميمة. وقد دلّ بذلك كلّه على قدرته سبحانه على البعث كما قدر على إيجاد هذه الأشياء وعلى إيجادكم.

* * *

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١))

٣٤ ـ ٤١ ـ (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى ...) أي إذا جاءت القيامة الهائلة المخيفة التي تطمّ على كل مصيبة وكل داهية مخيفة وتغلبها وتفوقها. فالقيامة داهية عظمي تتجلّى عظمتها في الفصل ، حيث يساق أهل الجنة ، إلى الجنّة وأهل النار إلى النار (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) أي يكون ذلك التذكّر لما قدّمه الإنسان من عمل حين مجيء تلك الطامة الكبرى إذا بدت الجنّة للمؤمنين (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) أي أظهرت النار (لِمَنْ يَرى) من الخلق بحيث يراها جميع الخلائق رأي العين ويشاهدون أهوالها (فَأَمَّا مَنْ طَغى) أي فأمّا الذي تجاوز حدود الله وعصى أوامره (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي فضّلها على الآخرة وقدّمها عليها (فَإِنَ

٣١١

الْجَحِيمَ) أي النار (هِيَ الْمَأْوى) أو مأواه ومقرّه الذي يؤول أمره إليه (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي خاف الوقوف بين يدي الحساب وخشي مساءلة ربّه عمّا فعله وتركه (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) أي زجر نفسه ومنعها عن ركوب هواها وممارسة المحارم وعمّاتهم به من المعاصي (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) أي : فالجنّة مقرّه الذي يأوي إليه يتنعّم فيه جزاء عمله الطيّب وطاعاته.

* * *

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

٤٢ ـ آخر السورة ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ...) أي يسألك المنكرون للبعث يا محمد : متى يكون قيام القيامة المؤكّد الثابت المحدد الوقت والمكان؟ (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي وما أنت على شيء من العلم بها وبذكر موعدها إذ لا تعلم وقتها وإن كنت تعلم أن وقوعها كائن لا محالة ، وليس من وظيفتك معرفة ذلك وإن كانت رسالتك تحتوي التحذير منها ليعمل لها الناس ويحسبوا لها حسابا (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) المنتهى هو الموضع الذي يبلغه الشيء ، والمعنى أن ربّك يعرف منتهى أمرها ومنتهى علمها الذي لا يعرفه غيره (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي فلست إلّا منذرا : مخوّفا ومحذّرا لكلّ من يخافها ويرهبها (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها) أي كأن الناس يوم يشاهدونها ويعاينون يوم القيامة (لَمْ يَلْبَثُوا) لم يبقوا في الدنيا (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) سوى قدر بسيط من نهاية النهار أو من أوله ، فالعشيّة هي آخر النهار وما قبل المغيب بقليل ، والضحى هو بعد الصباح وحيث ترتفع الشمس في الأفق قليلا. وقد قيل : كأنهم حين

٣١٢

يرون القيامة يعتبرون أن الحياة الدنيا كانت قصيرة كالعشية أو كالضحى. وقرئ (مُنْذِرُ) بالتنوين وبدون تنوين.

* * *

٣١٣

سورة عبس

مكيّة وآياتها ٤٢ نزلت بعد النّجم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠))

١ ـ ١٠ ـ (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ...) لنزول هذه الفقرة من هذه السورة المباركة سبب هامّ ذكره المفسّرون ونذكره تقليدا لا اقتناعا به وسنذكر غيره ، وهو أن عبد الله بن أم مكتوم أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يناجي جبابرة من قريش هم : عتبة بن ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأبيّ وأمّيّة ابنا خلف ، ويدعوهم الى الإسلام ويرجو إقناعهم ، فقال ابن أم مكتوم : علّمني ممّا علّمك الله يا رسول الله. فلم يلتفت له ، فراح يكرر نداءه حتى ظهرت الكراهة في وجه النبيّ (ص) لقطع كلامه ، وأقبل على القوم يحدّثهم ، فنزلت الآيات

٣١٤

وبعد ذلك كان رسول الله (ص) يكرمه إذا رآه ويقول له : مرحبا بمن عاتبني فيه ربيّ يقول : هل لك حاجة فأقضيها؟

أما السيد المرتضى قدّس الله روحه فقال : ليس في ظاهر الآية دلالة على توجهها الى النبيّ (ص) بل هو خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه. وفيها ما يدل على أن المعنيّ به غيره لأن العبوس ليس من صفات النبيّ (ص) مع الأعداء المباينين فضلا عن المؤمنين المسترشدين. ثم الوصف بأنه يتصدّى للأغنياء ، ويتلهّى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة ، ويؤيد هذا القول قوله سبحانه في وصفه (ص) : وإنك لعلى خلق عظيم ، وقوله : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ). فالظاهر أن قوله ((عَبَسَ وَتَوَلَّى)) المراد به غيره.

وقد روي عن الصادق عليه‌السلام : أنها نزلت في رجل من بني أميّة كان عند النبيّ (ص) فجاء ابن أم مكتوم فلمّا رآه تقذّر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه.

ومما لا شك فيه أن النبي (ص) أعلى من ذلك خلقا ، وأن تألّف المؤمن وزيادة فائدته أولى من تأليف الكافر رغبة في إيمانه ، وقد روي عن الصادق عليه‌السلام أيضا أنه قال : كان رسول الله (ص) إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم قال : مرحبا مرحبا ، لا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا وكان يصنع به من اللّطف حتى كان يكفّ عن النبيّ (ص) مما كان يفعل به. والله أعلم بما قال.

وعلى كل حال (عبس) يعني قبض وجهه وبسر (وَتَوَلَّى) أعرض وأمال وجهه (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) يعني لأن جاءه ذلك الأعمى (وَما يُدْرِيكَ) ومن عرّفك (لَعَلَّهُ) لعلّ هذا الأعمى (يَزَّكَّى) يتطهّر بالطاعة والعمل الصالح بفضل ما يتعلّمه منك (أَوْ يَذَّكَّرُ) يتذكّر ويعتبر بمواعظك وبما تتلوه عليه من قرآن (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) فيستفيد من عبرته

٣١٥

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) كان متمولا وكبيرا في عشيرته (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) فانك تتصدّى : تتعرض له كما يتعرّض الصديات للماء فتقبل عليه بوجهك وتعتني به (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) يلزمك أنت شخصيّا إن لم يسلم ولم يتطهّر من كفره؟ (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) أمّا الذي قصدك ساعيا في طلب الخير ، وهو عبد الله بن أم مكتوم (وَهُوَ يَخْشى) الله أي يخافه (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) فأنت تتلهّى وتتشاغل عنه وتغفل أمره.

* * *

(كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣))

١١ ـ ٢٣ ـ (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ... كَلَّا) أي امتنع عن ذلك وانزجر عنه (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) أي أن آيات ربّك هذه تذكرة لك وموعظة لسائر الناس (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي من أراد لنفسه الخير ذكر الآيات والقرآن والوعظ والانتفاع. وهذا يدل على أن العبد مريد مختار قادر على فعل ما يريده إذا استفاد من التذكرة التي هي (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) هي القرآن العظيم القدر الجليل الشأن المثبت في اللوح المحفوظ ، وقيل إن الصحف هي كتب الأنبياء التي أنزلت عليهم (مَرْفُوعَةٍ) عالية عن كل دنس مرفوعة في السماء (مُطَهَّرَةٍ) مصونة عن أن تدنّسها أيدي الكفرة

٣١٦

لأنها في أعزّ مكان ، وقيل مطهّرة من الشك فيها أو التناقض أو غيره من الاختلاف (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) أي بأيدي سفراء الوحي بين الله تعالى ورسله. وعن الصادق عليه‌السلام أنه قال : الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة (كرامة) كرامة عند ربّهم وهم أعزّاء عنده (بَرَرَةٍ) مطيعين سامعين له ، وقيل : هم كرام عن المعاصي ، صالحون متّقون. وعن مقاتل أن القرآن كان ينزل من اللوح المحفوظ الى السماء الدنيا ليلة القدر الى الكتبة من الملائكة ثم ينزل به جبرائيل عليه‌السلام الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. ثم عرض سبحانه لمن يكذّب بآيات ربّه فقال : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) أي عذّب الإنسان ولعن إذ ما أشد كفره وما أعظم ضلاله مع وضوح البراهين على توحيد الله والإيمان به! وهذا تعجب من عظيم كفره مع الشواهد القائمة على التسليم بوجود الله وقدرته. وقيل إن (ما) للاستفهام والكلام يعني : أي شيء أدّى به الى الكفر والعناد وجرّه الى إنكار الوحدانية مع هذه النّعم التي منحه الله إياها والتي كان ينبغي أن تنبّهه الى خالقه ورازقه إذ قال تعال : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)؟ أي فلينظر الى خلقه وابتداء وجوده ، فقد استفهم سبحانه استفهام تقرير أي أننا نعرف ، وهو يعرف ، أصل خلقته لأنه (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) آي أن أصله من تلك النّطفة المعلومة الحال أوجده الله تبارك وتعالى وجعل له هذا الجسم القويم بسائر حواسّه وأعضائه التي قدّرها له وقدّر معها عمره ورزقه وجميع مقوّمات حياته (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) يعني أنه سهّل له سبيل الخروج من بطن أمه ، وقيل يسر له طريق الهداية وبيّن له طريقي الخير والشر ومكّنه من الاختيار لنفسه وأحياه حياة ميسورة (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) أي قضى بإنهاء حياته ، وانتهى به الأمر الى أن يقبره الناس في لحد ولم يجعله طعمة للسّباع والهوامّ (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي إذا أراد أحياه في قبره وبعثه منه في يوم النشور للحساب (كَلَّا) أي حقا ، وليست للردع هنا (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) أي أنه قصّر

٣١٧

في عمله ولم يؤدّ حقّ الله تعالى من عبادته التي يستحقها والتي لم يعبده سبحانه مؤمن ولا كافر العبادة اللائقة به وبأفضاله.

* * *

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢))

٢٤ ـ ٣٢ ـ (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ...) بعد ذكر معجزة خلق الإنسان من تلك النطفة وجعله في أحسن تقويم من أجل العبرة بهذه القدرة ، أخذ يذكر كيفيّة رزقه الذي وهبه له فقال : يجب أن ينظر الإنسان إلى ما يأكله من سائر أنواع مشتهياته ويفكّر كيف مكّنه الله تعالى من الانتفاع بها ليرى (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) أي أنزلناه من السماء إنزالا. وفتح همزة (أَنَّا) يجعل الجملة بدل اشتمال لأن هذه الأشياء التي أخذ يذكرها تشتمل على كيفية حدوث الطعام ، وهي كقوله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ)؟ وكسرها (أَنَّا) يجعل الجملة تفسيرا للنظر إلى الطعام (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) أي فتقناها بالنبات الذي يخرج منها بعد المطر (فَأَنْبَتْنا فِيها) في الأرض (حَبًّا) ذكر النوع ، أي جميع الحبوب المفيدة للتغذية والحفظ (وَعِنَباً وَقَضْباً) ذكر العنب لجزيل فائدته ، وذكر القضيب : أي القتّ الرّطب يقضب : أي يقطع ، مرة بعد أخرى ويعطى علفا للحيوانات (وَزَيْتُوناً) وهو ما يؤكل ويستخرج منه الزيت (وَنَخْلاً) جمع نخلة وهي التي تعطي الرّطب والتمر (وَحَدائِقَ غُلْباً) يعني وبساتين مسوّرة ذات أشجار عظيمة وارفة (وَفاكِهَةً) جميع

٣١٨

أنواع الفواكه (وَأَبًّا) وهو العشب الذي يكون في المراعي ترعاه الحيوانات ولا يزرعه الإنسان فهو للحيوانات كالفاكهة للإنسان (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي جعل ذلك منفعة لكم وللأنعام التي تقتنونها وتستفيدون منها.

* * *

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

٣٣ ـ آخر السورة ـ (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ...) عاد سبحانه وتعالى الى ذكر يوم القيامة لينبّه الناس إلى ما ينتظرهم في الآخرة ، والصاخّة هي صيحة القيامة التي تصخّ الآذان : أي تطرقها وتبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمّها.

وقيل سمّيت بذلك لأنها يصخّ إليها الخلق ويستمعون ، وذكر وقتها وما يجري فيها فقال عزّ من قائل : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ) يهرب ولا يلتفت (مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ) أي زوجته (وَبَنِيهِ) أولاده ، فهو مشغول بنفسه عن كل هؤلاء بالرغم من أنهم كانوا محلّ عنايته في دار الدنيا ، فهم يومئذ لا ينفعونه ولا يدفعونه عن ما هو فيه ، كما أنه لا يستطيع نفعهم ولا دفع ما هم فيه من ضيق وفزع (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي أن لكل واحد منهم في ذلك اليوم حال تحول بينه

٣١٩

وبين أقربائه وتشغله عنهم كما تشغلهم عنه ، ومعنى (يُغْنِيهِ) هنا : يكفيه لأن الحال التي هو فيها قد أحاطت به فجعلته غنيّا عن طلب الزيادة منها. وروي عن عطاء عن سودة زوجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يبعث الناس عراة حفاة غرلا يلجمهم العرق ويبلغ شحمة الآذان. قالت : قلت يا رسول الله وا سوأتاه! ينظر بعضنا إلى بعض؟ قال : شغل الناس عن ذلك ، وتلا رسول الله : لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ... أمّا حالة الناس في ذلك اليوم فقسّمها سبحانه قائلا : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) أي تكون بعض الوجوه في ذلك اليوم مشرقة منيرة قد تألق نورها وإشراقها ، فهي (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) مسرورة فرحة تتباشر بالثواب الذي أعدّه لها الله تبارك وتعالى (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) أي عليها سواد وهمّ ظاهر وكآبة (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) أي يغشاها سواد وانكساف عند مشاهدة النار وما أعدّه الله لها من العذاب. وقيل إن الغبرة ما نزلت من السماء إلى الأرض ، والقترة ما صعدت من الأرض إلى الجو (أُولئِكَ) أي أصحاب تلك الوجوه (هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) الذين كفروا بالدّين وكانت أفعالهم فاجرة متجاوزة لحدود الله سبحانه وتعالى.

* * *

٣٢٠