الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

كان فوقه فله أن يهبط ، ومن كان تحته لم يكن له أن يصعد لأنه لا يبلغ ذلك المكان ، ولكنّهم إذا أحبّوا ذلك واشتهوه التقوا على الأسرّة. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ فالجنّتان (مُدْهامَّتانِ) أي شديدتا الخضرة حتى أنهما يظهر في خضرتهما السواد ، وهذا شأن كلّ نبات خصب فإن خضرته تضرب نحو السواد وذلك مما يزيد في حسنه ورونقه. وقيل إن الجنّتين الأوليين للسابقين ، والأخريين للتابعين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وهاتان الجنّتان (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ)؟ أي فوّارتان بالماء الذي ينبع فيهما ويجري فيهما متفرعا بين بساتينهما وقصورهما وقيل إن ماءهما ينضح بالمسك والعنبر والكافور على أولياء الله ، وبأنواع الخيرات (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ و (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) أي فيهما أنواع الفاكهة وقد ذكر النخل والرّمان مع أنهما من الفاكهة لفضلهما ولم يقل أحد أنهما ليسا من الفاكهة ، وقد اختصّهما سبحانه بالذكر لأنهما من خير الفاكهة وأزكاها (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مع هذه النّعم المذكورة؟

٧٠ إلى آخر السورة المباركة ـ (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ ...) أي في تلك الجنّات الأربع يوجد (خَيْراتٌ حِسانٌ) يعني نساء طيّبات ذوات وجوه وأجسام جميلة وأخلاق فاضلة وذوات صلاح يزيد في جمالهن. وقيل خيرات : جمع خيرة ، وهي المختارة الحسنة. وعن عقبة بن عبد الغفار أن نساء أهل الجنّة يأخذن بعضهن بأيدي بعض ويتغنّين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها ويقلن : نحن الراضيات فلا نسخط ،! ونحن المقيمات فلا نظعن ، ونحن خيرات حسان حبيبات الأزواج الكرام. وعن عائشة أن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابتهنّ المؤمنات من نساء الدنيا قائلات : نحن المصلّيات وما صلاتين ، ونحن الصائمات وما صمتنّ ، ونحن المتوضّئات وما توضّأتنّ ، ونحن المتصدّقات وما تصدقتنّ ، فغلبتن والله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) أي بيض حسن بياضهنّ. والعين الحوراء هي التي يكون بياضها شديد البياض ،

٨١

وسوادها شديد السواد ، ومقصورات في الخيام أي محبوسات في قباب خاصة بهنّ مستورات فيها. وقيل معناه مصونات مخدّرات قصرن على أزواجهنّ فلا يرغبن في غيرهم. وروى ابن مسعود أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الخيمة درة واحدة طولها في السماء ستّون ميلا ، في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراه الآخرون (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وهنّ (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) مرّ تفسيرها وقد كرّرها سبحانه وتعالى ليبيّن صفة الحور المقصورات في الخيام (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وأنتم يوم القيامة تكونون معهنّ (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) أي على فرش خضر ، وقيل هي رياض الجنّة ومفردها : رفرفة ، وقيل هي الوسائد التي توضع بجانب الفرش فيتّكأ عليها (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) أي يتّكئون أيضا على زرابيّ جميلة وهي الطنافس التي توضع مع المساند (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أيها الثقلان من الإنس والجنّ؟ .. (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي تعاظم وتعالى اسم هذا الربّ الذي لا ينبغي لغيره أن يوصف بما يوصف به من الفضل والكرم والجلال : أي العظمة والإكرام : أي الذي يكرم المؤمنين به والمصدّقين لرسله ، العظيم البركة الجزيل الفضل على عباده. وهاتان ممّا لا يوصف به غيره عزّ وعلا.

* * *

٨٢

سورة الواقعة

مكية إلّا الآيتان ٨١ و ٨٢ فمدنيّتان وآياتها ٩٦ نزلت بعد طه.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦))

١ إلى ٣ ـ (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ ...) يعني إذا جاءت الساعة ووقع أمر الله وقامت القيامة بعد النفخة الأولى (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) من قبل أي لا يكون لحصولها وقيامتها تكذيب لأنها تحدث بمرأى ومسمع من كلّ حي. وهذا حثّ على الاستعداد لها حيث يثبت وقوعها بالنظر

٨٣

والسمع والعقل لأنها (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أي تخفض ناسا فتزجّهم في النار بما عملوا من المعاصي فيصبحون أذلة مخزيّين بعد أن كانوا أعزّة في الدنيا ، وترفع أناسا فتوصلهم إلى الجنّة والنعيم بما عملوا من الطاعة فيصيرون أعزّة مرضيّين في حين أنهم كانوا أذلة في حياتهم الدّنيا لأنهم كان يستهزئ بهم الكفّار.

٤ إلى ١٦ ـ (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ...) أي إذا حرّكت الأرض وهزّت هزة عنيفة وزلزلت زلزالا شديدا فمات من على ظهرها من جميع ذوي الحياة. وقيل ترجّ بأن تخرج ما في بطنها (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي تفجّرت وتفتّتت واجتثّت من أصلها. وقيل بسطت فكانت كالرمل المنبسط وكتراب السهل ليس فيها تلّة ولا كثيب. (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) أي غبارا موزعا. والهباء هو ما نراه في شعاع الشمس الذي يدخل إلى البيت من كوّة ضيّقة. والحاصل أنه إذا كان ذلك من قيام القيامة ورجّ الأرض وبسّ الجبال ، بعثتم من بعد الموت وقمتم للحساب (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) بعد الحساب ، أي أصنافا ثلاثة فصّلها سبحانه وتعالى فقال : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم ويكونون من أهل الخير ، فيؤخذن نحو اليمين لأنهم من أهل الجنة. وقد مدحهم سبحانه وكرّر ذكرهم بتعجّب فقال : (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ)؟ أي أيّ شيء هم؟ يعني : هم ما هم ، وشأنهم عظيم (وَ) أمّا (أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أي أهل الشؤم الذين يعطون كتبهم بشمالهم ويسيّرون نحو الشمال أي إلى جهنّم الذي تعجّب سبحانه من شأنهم فقال : (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ؟) مندّدا بشأنهم في العذاب العظيم. ثم ذكر تبارك اسمه الصّنف الثالث بقوله : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) أي السابقون إلى اتّباع أوامرنا التي أوحينا بها إلى رسلنا ، فإنهم يسبقون جميع العباد إلى الثواب العظيم والعطاء الكريم. لأنهم سبقوا لكلّ طاعة وكلّ خير ، فسبقوا إلى أسمى منازل الرضوان عند الله تبارك وتعالى (أُولئِكَ

٨٤

الْمُقَرَّبُونَ) فهم الذين يقرّبهم الله تعالى إلى رحمته فيجعل مقامهم (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) فهي نزلهم في دار كرامة الله. وعن مولانا أمير المؤمنين كما في المجمع أنهم هم السابقون إلى الصلوات الخمس ، وقيل إلى الجهاد وقيل غير ذلك ، وهم (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي جماعة كثيرة من الأمم الماضية (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي من أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يكونون جميعا (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) جمع سرير مصنوعة كصناعة الدرع الذي تدخل حلقاته بعضها بعض فتكون منسوجة منظّمة بقضبان من الذهب مشبّكة بالياقوت والجواهر ، ويكونون (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) أي مستندين في حالة جذل وسرور (مُتَقابِلِينَ) كل واحد يقابل الآخر ، ينظر بعضهم إلى وجه بعض بانشراح وغبطة.

* * *

(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))

١٧ إلى ١٩ ـ (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ ...) ما زال سبحانه يصف حال السابقين إلى رضوانه وأنهم في النعيم يدور عليهم خدمهم وغلمانهم المخلّدون الذين لا يموتون ولا يهرمون ولا تتغيّر حالهم ولا ينكسف جمالهم. وروي عن النبيّ (ص) أنه سئل عن أطفال المشركين فقال : هم خدم أهل الجنّة ، وقيل إنهم مخلوقون خصيصا لخدمتهم ، فهم يطوفون عليهم (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أي بقداح لا

٨٥

خراطيم لها وهي معروفة ، وبأباريق ذات خراطيم ، وبكؤوس الخمر الظاهر للعيان الجاري أمام الأبصار ، فيشربونها و (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) أي لا يصيبهم من شربها صداع ولا ضياع وهذيان ، وقيل لا يتفرّقون عنها (وَلا يُنْزِفُونَ) أي لا تذهب عقولهم بالسّكر.

٢٠ إلى ٢٤ ـ (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ ...) هذه عطف على سابقتها ، أي : ويطوف عليهم الولدان بفاكهة مما يشتهونه ويختارونه (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي ممّا يتمنّون من أطايب اللحوم وألذّها ، فإن أهل الجنّة إذا اشتهوا لحم طير معيّن خلقه الله تعالى لهم ناضجا لا يحتاج إلى ذبح يؤلمه ولا إلى عمل يضني. وقد قال ابن عباس : يخطر على قلبه الطير فيصير ممثّلا بين يديه على ما اشتهى (وَحُورٌ عِينٌ) مرّ تفسيرها مكرّرا (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي كالدر المحفوظ المخزون في أصدافه لم تلمسه يد ولا شوّهه استعمال. ويكون ذلك لهم (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ثوابا لطاعاتهم في دار الدنيا ولعملهم الذي كان طبق أوامرنا ونواهينا.

٢٥ و ٢٦ ـ (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً ...) أي لا يسمعون كلاما تافها ليس فيه فائدة ، ولا قولا يأثم به قائله أو سامعه. وقيل إنهم لا يختلفون على شرب الخمر في الآخرة كما يكون شأن أهل الدنيا ، ولا يسمعون فيما بينهم (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) أي قول بعضهم لبعض سلاما بقصد التحيّة لحسن أدبهم وكريم خلقهم وكمال غبطتهم بما هم عليه من النّعيم.

* * *

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ

٨٦

مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠))

٢٧ إلى ٣٣ ـ (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ...) وذكر سبحانه أصحاب اليمين فتعجّب من شأنهم كما سبق وقلنا عن أصحاب الميمنة. فهم يتنعّمون أيضا ويتلذّذون (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) أي نبق منزوع الشوك قد خضد بنزع شوكة وكثرة حمله (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) يعني وموز منظّم مرتّب قد حملت شجرته من عرقها إلى آخر غصن فيها ، وقد ذكر هاتين الشجرتين ترغيبا للعرب الذين كانوا يحبّونهما (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) أي فيء دائم لا شمس تذهب به. وفي المجمع أن في الجنّة شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة سنة لا يقطعها (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) يعني أنه مصبوب يجري دائما ولا يحتاج أحد الى تعب في تناوله (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) أي ثمار كثيرة وافرة (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي لا موسم لها بل تستمرّ دائما وأبدا وليس لها وقت معلوم ولا يمنع من قطفها شوك أو غيره.

٣٤ إلى ٤٠ ـ (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ، إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً ...) أي وبسط رفع بعضها فوق بعض فأصبحت عالية. وقيل هنّ نساء رفيعات الخلق حصيفات العقول رائعات الحسن ، إذ يقال لامرأة الرجل فراشه ، ويقال افترشها ، ولذلك قال تعالى : (أَنْشَأْناهُنَ) أي خلقناهنّ خلقا جديدا فأعدنا الهرمات والعجائز منهن صبايا وشابّات. وقيل إنه عنى الحور العين اللواتي لا تتغيّر حالهنّ منذ خلقهنّ (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) أي عذارى غير مفتضّات البكارة ، وهكذا يبقين بحيث كلما أتاهن أزواجهنّ وجدوهنّ عذارى (عُرُباً أَتْراباً) أي عاطفات على أزواجهن متحبّبات إليهم. وقيل

٨٧

إن (العروب) هي اللّعوب مع زوجها أنسا به. والأتراب هنّ المتساويات في السن اللواتي من جيل واحد لا تكبر واحدة واحدة (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) أي هذا المذكور كله من نعم وفواكه ونساء هو ثواب لأصحاب اليمين وجزاء لطاعاتهم في الدنيا (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي إن ذلك لجماعة من الأمم السالفة وجماعة من أمة محمد (ص) وقيل أكثرهم من أمته. وروي أنه صلوات الله وسلامه عليه قال : إني لأرجو أن يكون من تبعني ربع أهل الجنّة ، قال الراوي : فكبّرنا ، ثم قال : إني لأرجو أن يكونوا ثلث أهل الجنّة ، فكبّرنا ، ثم قال إني لأرجو أن يكونوا شطر أهل الجنّة ، ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين. ثبّتنا الله تعالى على اتّباعه لنحشر في أمّته المرحومة.

* * *

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))

٨٨

٤١ إلى ٤٤ ـ (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ ...) ثم ذكر سبحانه أهل الشّمال الذين يقادون الى جهنّم لأنهم أوتوا كتبهم بشمائلهم ، وقال إنهم : (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) السّموم هي الريح الشديدة الحرارة التي تدخل حرارتها في مسامّ البدن ، وكذلك الحميم فإنه الماء الحارّ المغليّ (وَ) هم كذلك في (ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) أي دخان أسود كثيف شديد السواد. وعن ابن عباس وقتادة وغيرهما أن (يَحْمُومٍ) جبل في جهنّم يستغيث أهل النار من حرّها ويفيئون إلى ظلّه الذي نعته سبحانه بأنّه (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) أي لا فيه برودة يستراح إليها ، ولا منفعة يحمدها من يأوي إليه لأنه لا يخفّف عنهم عذابا ولا يريح من تعب.

٤٥ إلى ٤٨ ـ (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ ...) أي أنهم كانوا في دار الدنيا مرفّهين متنعّمين يتركون الطاعات طلبا لراحة أبدانهم فقد شغلتهم لذة أجسادهم عن الواجبات فهجروها دفعا لمشقّتها (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) أي يقيمون ويداومون على الذنب الكبير. وقيل إن الحنث العظيم هو الشّرك الذي لا يتوبون منه (وَكانُوا يَقُولُونَ) عنادا وكفرا : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) وبليت أجسادنا (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) لعائدون إلى الحياة كما كنّا؟ فهم ينكرون البعث والحساب والثواب والعقاب ويستبعدون ذلك قائلين هل نبعث ونحشر أحياء (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) أي وأن آباءنا يبعثون أيضا؟ فهما استفهامان بمعنى الإنكار.

٤٩ إلى ٥٦ ـ (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ ...) أي قل لهم يا محمد : سيبعث الأولون والآخرون ، ويجمعون في صعيد القيامة ، من تقدّم من المخلوقين ومن تأخّر منذ آدم (ع) حتى آخر نسمة ستكونون مجموعين للحساب (إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي ليوم القيامة الذي يحشر فيه الأموات ويعودون أحياء للحساب والثواب والعقاب. فأكّد لهم ذلك يا محمد وقل : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) الذين انحرفتم عن طريق الحق وجزتم الهدى (الْمُكَذِّبُونَ) بتوحيدنا وبأوامرنا ونواهينا ،

٨٩

والرافضون لكلام رسلنا ، إنكم (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) مرّ تفسيرها في سورة الصافات (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) ثم إنكم من بعد أكل الزقّوم تشربون من حميم جهنّم ومائها الذي بلغت حرارتها المنتهى (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) يعني شرب الإبل التي أصابها الهيام ، يعني العطش الذي لا يزال المصاب به يشرب ولا يرتوي حتى يموت (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) أي أن هذا هو مأوى الكافرين ، وهذا طعامهم وذاك شرابهم.

* * *

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢))

٥٧ ـ (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ ...) حين أنكر الكافرون البعث والنشور قال سبحانه محتجّا عليهم : نحن خلقناكم من العدم وأخرجناكم من طيّ الكتم وذلك شيء تعرفونه فكيف تنكرون الإعادة وهي أسهل علينا؟ أفلا تعتبرون بخلقكم من لا شيء وتصدقون بالبعث كما سلّمتم بخلقكم الأول؟

٥٨ إلى ٦٢ ـ (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ...) أي هل نظرتم إلى ما تقذفونه من المنيّ وتصبّونه في أرحام نسائكم حاملا النّطفة التي تصير ولدا؟ (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) يعني هل أنتم خلقتم ما تمنونه أم نحن خلقناه؟ وطالما أنه ثبت عجزكم فإن ذلك يظهر أن القادر على خلق المنيّ والنّطف وجعلها مخلوقات سويّة ، قادر أيضا على إعادة الأجسام حية بعد

٩٠

الموت ف (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) أي قضينا به وجعلناه على كيفية مرتّبة فهذا يموت طفلا وذاك يكون سقطا ، والآخر يموت شابا والرابع يبلغ من العمر عتيّا ويردّ إلى أرذل العمر بتقدير منّا (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي لم يسبقنا أحد إلى هذا التقدير ولا نحن بمغلوبين على أمر قدّرناه. ولا (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) فنخلق مثلكم بدلا عنكم ، فإذا أردنا ذلك لم يمنعنا مانع ولا سبقنا إليه سابق. (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) أي نخلقكم على صور لا تعلمونها كأن نجعلكم قردة وخنازير. فنحن قادرون على تغيير خلقكم ، ولا نعجز عنكم بعد موتكم. وقيل معناه ن نخلق المؤمن على أحسن هيئة وأجمل صورة ، ونخلق الكافر على أقبح هيئة وأسوأ صورة. والإنشاء هو ابتداء الخلق وبدء تطوره من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلخ ... (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي فليتكم تعتبرون وتتذكّرون لتعرفوا قدرتنا على الخلق والإنشاء والإماتة والإعادة.

* * *

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧))

٦٣ إلى ٦٧ ـ (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ ...) أي هل نظرتم في ما تعملونه من فلاحة الأرض وإلقاء البذر فيها؟ وهل أنتم أنبتّم البذر وجعلتموه زرعا أم نحن فعلنا ذلك (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) المنبتون تلك الحبوب الجاعلون منها زرعا يعطي غلالا كثيرة؟ وفي المجمع أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا يقولنّ أحد زرعت ، وليقل : فلحت. فهذا الذي تحرثونه ويصير زرعا (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) أي لو أردنا لصيّرناه هشيما لا تنتفعون به ولا يخرج منه حبّ ولا غلال (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أي فبقيتم

٩١

تتعجّبون ممّا حلّ بكم ونزل في زرعكم وتندمون على ما أنفقتم في فلاحته وبذره ، تقولون : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أي نحن نتحمّل عاقبة كفرنا بالله وعدم طاعتنا حتى حلّ بنا ما حلّ ، فقد ذهب ما لنا وذهبت كذلك نفقتنا وضاع وقتنا وتعبنا ولم نحصل على نتيجة من ذلك كلّه (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي لا حظّ لنا فنحن ممنوعون من الرّزق ومن كلّ خير.

* * *

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤))

٦٨ إلى ٧٠ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ...) أي هل نظرتكم السحاب الذي يحمل لكم الماء الذي تشربونه ويكون سبب حياتكم؟ (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ) من السحاب بعد أن أنشأتم ذلك السحاب (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) لهذه النّعمة وتلك الرحمة؟ نحن أنزلنا ذلك ، و (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ) أي لو أردنا لجعلنا الماء (أُجاجاً) أي مرّا شديد المرارة من كثرة ملوحته (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أي فيا ليتكم كنتم تشكرون الله على هذه النعمة الكريمة. ثم لفت نظر الناس إلى دلالة أخرى فقال تعالى :

٧١ إلى ٧٤ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ...) أي هلا نظرتم إلى النار التي تشعلونها وتقدحونها بزنادكم (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) هل أنتم أنبتّم الشجر الذي تستفيدون من إشعاله وأنشأتم غيره ممّا توقدون (أَمْ نَحْنُ

٩٢

الْمُنْشِؤُنَ) أي المبتدئون بإيجاده؟ بل نحن إذ لا أحد يدّعي أن خلق شجرا ولا نارا ولا ما سوى ذلك مما يوقد (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) أي جعلنا هذه النار عبرة لنار جهنّم لتتذكّروا وتتدبّروا بأن من جعل من الشجر الأخضر نارا قادر على خلق نار جهنّم ليجازي بها العصاة والمتمرّدين فقد جعلنا نار الدنيا تذكرة من جهة (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) من جهة ثانية ، أي منفعة للمسافرين والمقيمين ممّن يستمتعون بها من ضياء واصطلاء وطبخ وخبز وغير ذلك. والمقوي من الأضداد لأنه مرة يدل على ذي القوّة والمال ، ومرة يدل على الفقير الذي ذهب ماله ونزل بالقواء من الأرض. فالنار متاع للأغنياء والفقراء على السواء (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فنزّهه سبحانه وبرّئه ممّا يصفه به الظالمون. وقيل معناه : قل : سبحان ربّي العظيم وبحمده. وقد صح أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لما نزلت هذه الآية قال : اجعلوها في ركوعكم.

* * *

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢))

٧٥ إلى ٨٢ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ...) أكّد سبحانه ما ذكره سابقا بهذا القول. و «لا» زائدة ، أي : أقسم بمواقع النجوم ، وهي مطالعها ومساقطها وقيل إنه عنى الأنواء لأن أهل الجاهلية كانوا يقولون

٩٣

مطرنا بالنوء الفلاني فيكون حرف «لا» غير زائد ، والقول : لا أقسم بذلك. وروي عن الصادقين عليهما‌السلام أن مواقع النجوم هي رجومها للشياطين وكان المشركون يقسمون بها فقال سبحانه : (فلا أقسم بها). وقيل أيضا أقسم سبحانه بنزول القرآن الذي نزل متفرّقا نجوما وقطعا (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) أي أنه يمين عظيمة ذات أهمّية من أكبر الأيمان (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أي أن هذا الذي ننزله عليك يا محمد قرآن كثير النفع جمّ الخير ، وهو مكرّم عندنا ومعزّز نأجر من يتلوه ويعمل بما فيه لأنه يشتمل على الأحكام والمواعظ وكلّ نافع للعباد ، فهو كتاب كريم (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي مستور محفوظ عن الخلق في اللوح المحفوظ ، وقيل هو المصحف المحفوظ الذي بين أيدينا (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أي الملائكة الموصوفون بالطهارة من الذنوب ، والعباد المطهّرون من الشّرك ومن الأحداث والنجاسات ، ولذا قالوا لا يجوز للجنب والحائض والمحدث مسّ المصحف ، فلا يجوز مسّ كتابة القرآن إلّا للطاهر ، وهو (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) فهو منزل من عنده تبارك وتعالى على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولذا سأل سبحانه أهل مكة متعجّبا ومستنكرا : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) الذي رويناه لكم في القرآن (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أي ممالئون ومراءون تعتبرونه كذبا وسحرا وشعرا أو أنكم تداهنون فتقولون آمنّا به وتبقون على شرككم (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي وتجعلون نصيبكم من الخير والعطاء بالتكذيب وبتحويل أسباب الرّزق عن واهب الرّزق؟ وعن ابن عباس أنه أصاب الناس عطش في بعض أسفار النبيّ (ص) فدعا ربّه فسقوا ، فسمع رجلا يقول : مطرنا بنوء كذا فنزلت الآية. وقيل معناه : وتجعلون نصيبكم من القرآن الذي رزقكم الله إياه التكذيب؟

* * *

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ

٩٤

حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧))

٨٣ إلى ٨٧ ـ (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ...) أي فهلّا إذا بلغت روحكم الحلقوم عند الموت (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ) أي وأنتم يا أهل الميّت في ذلك الوقت (تَنْظُرُونَ) ذلك وترون حاله ولكنكم لا تستطيعون دفع ذلك ولا الحيلولة دون قبض نفسه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) أي أننا ألصق به قدرة وعلما بحاله (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) لا ترون ذلك ولا تعلمون شيئا مما يجري في تلك اللحظة. وقيل معناه أن الملائكة الموكّلين بقبض الأرواح أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرونهم (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) والعامل في (إِذا) محذوف يدل عليه الفعل الواقع بعد (فَلَوْ لا) وهو (تَرْجِعُونَها) ويكون التقدير : فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم ، (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) ، فكرّر «لو لا» لطول الكلام. والحاصل أنه فهلّا ترجعون نفس من يعزّ عليكم إذا بلغت حلقومه عند الموت وتعيدونه صحيحا. و (غَيْرَ مَدِينِينَ) معناه : غير مملوكين وأموركم بيد غيركم ، فإن كنتم صادقين ردّوا الأرواح من حلوقكم إلى أجسامكم قبل قبضها عند الموت. ولن تقدروا على شيء من ذلك لأنه تدبير حكيم عليم وقضاء قادر قاهر جلّ وعلا.

* * *

(فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١))

٨٨ إلى ٩١ ـ (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ...) أي فإن كان الميّت الذي

٩٥

حكينا عن احتضاره من المؤمنين السابقين إلى مرضاة الله عزوجل (فَرَوْحٌ) أي فله راحة تامة وجميع ما تستلذّه نفسه ويحبه مما يزيل همّه ويجلب سروره (وَ) وله أيضا (رَيْحانٌ) أي رزق في الجنة. والرّيحان هو النّبت الذي يشمّ وقيل إن له ريحانا من الجنّة يؤتى به عند الموت. وقيل إن الرّوح هو النجاة من النار ، والرّيحان الدخول في دار القرار (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي وله تلك الجنّة الموصوفة يدخلها (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي إذا كان المتوفّى من هؤلاء المؤمنين وقد مرّ وصفهم في هذه السورة المباركة (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي فيقال له : سلمت وترى في أصحاب اليمين ما تحبّ من السلامة والبعد عن المكاره. وقيل معناها : فسلام لك أيها الإنسان الذي هو من أصحاب اليمين وسلامة من عذاب الله تعالى.

* * *

(وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))

٩٢ إلى آخر السورة المباركة ـ (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ...) أي وإذا كان المحتضر من المكذّبين بالتوحيد والبعث والرّسل وبأوامر الله ونواهيه ، ومن الضالّين عن الهدى والحق (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) فله مقام في جهنّم وقد أعدّ له طعام وشراب من حميمها الذي يقطّع الأمعاء (وَ) له أيضا (تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي إدخال في نار عظيمة اللهب والحرارة (إِنَّ هذا) الذي نقوله لكم أيها العباد (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي الحقّ المؤكّد ،

٩٦

واليقين والحق واحد وإضافتهما للتأكيد على أن منازل الأصناف الثلاثة هي كما قلنا لكم (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي نزّه ربّك ذا العظمة والكبرياء عن الشّرك وأحسن الثناء عليه بما هو أهله فإنه القادر القاهر الغني الحكيم العليم.

* * *

٩٧

سورة الحديد

مدنية وآياتها ٢٩ نزلت بعد الزلزلة.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣))

١ إلى ٣ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي نزّه الله تبارك وتعالى جميع ما فيهما وبرّأه ممّا يقول الظالمون. ولفظة (ما) تعني كلّ ذي روح وغيره من سائر المخلوقات التي نعرف تسبيحها والتي لا نعرف كيف تسبّح وتقدّس ، كالعقلاء الذين نفقه كيفيّة تسبيحهم له ، وكبقية المخلوقات التي تقدّسه بالاستكانة له وبالأدلة الدالة على وحدانيته (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي القادر الذي لا يمتنع عليه شيء (الْحَكِيمُ) الذي أجرى الأمور جميعها وفق تدبير وحكمة بالغة (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو مالك ذلك كلّه والمتصرّف فيه لا يمنعه من ذلك مانع بل له وحده المشيئة في

٩٨

ذلك الملك ، وهو (يُحْيِي وَيُمِيتُ) ويقضي بذلك فيحيي الأموات للبعث ، ويميت الأحياء في الدنيا (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي أنه قادر على الموجودات ، وقادر على المعدومات بأن ينشئ ما يشاء كما يريد ، وهو الذي يهب القدرة للعباد وبقية المخلوقات ويسلبها منهم متى شاء ، و (هُوَ الْأَوَّلُ) لأنه القديم الأزليّ وما عداه محدث ، وهو (الْآخِرُ) الباقي بعد فناء كلّ شيء يبقى وحده بلا انتهاء لأنه كان قبل القبل ويبقى بعد البعد ولم يزل ولا يزال (وَالظَّاهِرُ) الغالب لكلّ شيء ، وكلّ شيء دونه (وَالْباطِنُ) العالم فلا أعلم منه. وقيل إنه الظاهر بالشواهد والأدلة ، والباطن الخبير العالم ، كما قيل : إنه العالم بما ظهر وبما بطن ، وأنه الأول بالأزليّة ، والآخر بالأبدية ، والظاهر بالأحديّة والباطن بالعمديّة (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لأنه عالم لذاته.

* * *

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦))

٤ إلى ٦ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي أنه خلقهما سبحانه بما فيهما (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وقد كان يستطيع أن يخلقهما في لحظة واحدة لأنه قادر لذاته ، وقد فعل ذلك ليري ملائكته وعباده ما في ذلك من مصلحة ظهور شيء بعد شيء ، وما في ذلك من حسن النظام والتدبير ، فقد أوجدهما هكذا (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استولى على الملك

٩٩

والسلطان فكان قادرا على الخلق والإفناء. والعرش هو الذي فوق السماوات (يَعْلَمُ) يعرف سبحانه (ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي ما يدخل فيها ويستتر (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من سائر أنواع الحيوان والنبات والجماد ولا يخفى عليه شيء من ذلك (وَ) يعلم (ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من مطر ومن خيرات ومن أوامر ونواهي (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي ما يصعد إليها من ملائكة ومن أعمال الخلق وغيرها (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) بواسطة علمه الذي يحيط بكل شيء فلا يخفى عليه كبير ولا صغير من أعمالكم وأحوالكم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من خير أو شرّ أو حسن أو قبيح (بَصِيرٌ) أي عليم يرى ذلك على حقيقته ، إذ (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يتصرّف فيهما بحسب مشيئته (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي تصير إليه يوم القيامة لأن كلّ ملك ملكه غيره يزول عنه بعد موته ثم يصير ملك الكائنات إليه وحده عزّ اسمه كما كان قبل أن يخلق الخلق (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل ما نقص من هذا في هذا وبالعكس بحسب ما دبّر وقرّر ، وقد شرحنا ذلك في غير هذا المكان (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي عارف بأسرار خلقه ولا تخفى عليه وساوس الصدور ولا خطرات الأفكار ولا خفيّات الضمائر. وفي هذا تحذير للعصاة من خلقه.

* * *

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ

١٠٠