الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

(٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

١٦ ـ آخر السورة ـ (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ ...) أي أقسم بالشفق الذي هو الحمرة التي تظهر عند المغرب في الأفق وتختفي بعد قليل دالة على آخر خيوط الشمس التي تغيب عن العين (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي وبالليل وما ضمّ وجمع لأن ظلمة الليل تجعل كل حيّ يأوي إلى مسكنه (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي إذا تكامل وصار بدرا متناسق الجهات مجتمع الضوء ، وهو يستوي بين الليلة الثالثة عشرة والسادسة عشرة ، فهو يقسم بذلك كله (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) فهذا جواب القسم بأنه يا محمد لتصعدنّ سماء بعد سماء ودرجة بعد درجة في المقربة إلى الله تعالى. ولذلك روى مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقرأ لتركبنّ بفتح الباء ، قال : يعني : نبيّكم (ص) هو المخاطب بذلك. أما من قرأ بالضمّ (لَتَرْكَبُنَ) فالخطاب يكون للناس ، ويعني لترتقنّ حالا بعد حال في الآخرة بحيث تصيرون على غير الحال التي كنتم عليها في الدنيا ، و (عَنْ) هنا بمعنى (بعد) أي طبقا بعد طبق ، وهذا كقوله عزوجل : (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) ، أي بعد قليل. وقيل معناه : ستركبنّ شدة بعد شدة من حياة إلى موت فإلى بعث ، وقيل هو رخاء بعد شدة ، وفقر بعد غنى ، وصحة بعد سقم ، كما قيل أيضا إنه يعني تطوّر الخلق ما بين النّطفة والخلقة السويّة وما بين الطفولة والهرم ، والله تعالى أعلم بما قال (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي ما بال كفّار قريش لا يصدّقون بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : وهو استفهام إنكار لحالهم فلا شيء لهم من الثواب وحسن المآب إذا بقوا في هذا الارتياب الصارف لهم عن الإيمان ، فلا عذر لهم في الانصراف عن الإيمان مع الدلائل الواضحة التي أتى بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) هذا الكلام معطوف على ما سبقه ، وهو يعني

٣٤١

أنهم ما بالهم لا يؤمنون ولا يسجدون كما أمروا في القرآن بالصلاة التي منها السجود (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أي أنهم يكذّبون بقولنا تقليدا لأسلافهم ولم يصرفهم عن الإيمان قصور الفهم ولا عدم وجود البرهان (وَاللهُ أَعْلَمُ) هو سبحانه أعرف (بِما يُوعُونَ) بما يضمرون في نفوسهم ويحتوون في صدورهم من التكذيب المتعمّد. وقد قال الفرّاء : الإيعاء : جعل الشيء في وعاء ، والقلوب أوعية لما يحصل فيها من علم أو جهل. أما أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا محمد أخبرهم بعذاب موجع واجعل ذلك الخبر لهم سلفا مكان البشارة بما يسرّ المبشّر كبشارة المؤمنين بالرحمة مثلا ... ثم أخرج سبحانه وتعالى المؤمنين من هذا القول واستثناهم بقوله (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) فهؤلاء المصدّقون بك العاملون بأوامرنا المنتهون عن نواهينا نعطيهم أجرا غير منقوص ولا منقطع ولا مكدّر بالمنّ.

* * *

٣٤٢

سورة البروج

مكيّة وآياتها ٢٢ نزلت بعد الشمس.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩))

١ ـ ٩ ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ...) أقسم سبحانه بالسماء ذات البروج : مفردها برج ، وهي المنازل التي أراد بها منازل الشمس والقمر والكواكب والتي هي اثنتا عشرة منزلة أو برجا ، يسير القمر في كل برج منها يومين وثلاث ليال ، وتسير الشمس في كل برج شهرا. أما اليوم الموعود فهو يوم القيامة الذي يتم فيه الفصل والحساب (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) وهو كلام معطوف على القسم ، وقيل إن الشاهد هو يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة كما في المرويّ عن الصادقين عليهما‌السلاموابن عباس. وقد سمّي يوم الجمعة شاهدا لأنه يشهد على كل إنسان بما

٣٤٣

عمل فيه ، وسمّي يوم عرفة مشهودا لأن الناس يشهدون فيه موسم الحج وكذلك الملائكة. وقيل أيضا الشاهد يوم النحر ، والمشهود يوم عرفة ، والشاهد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمشهود يوم القيامة بدليل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ، إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) ، وقوله عن يوم القيامة : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ). وقيل إن الشاهد هو الملك الذي يشهد على ابن آدم بما عمله ، كما قيل إنها أعضاء المرء تشهد عليه. فقد أقسم بما مضى جميعه بأن (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) فكان هذا الكلام جوابا للقسم ، أي وحقّ ما ذكرناه لعن أصحاب الأخدود ، الذي هو الشقّ العظيم في الأرض. أمّا قصة أصحاب الأخدود فقد قال الحسن : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد البلاء. وهي كما في رواية العياشي عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : أرسل عليّ عليه‌السلام إلى أسقف نجران يسأله عن أصحاب الأخدود فأخبره بشيء فقال عليه‌السلام : ليس كما ذكرت ، ولكن سأخبرك عنهم. إنّ الله بعث رجلا حبشيّا نبيّا ، وهم حبشة فكذّبوه ، فقاتلهم فقتلوا أصحابه وأسروه وأسروا ـ من بقي من ـ أصحابه ، ثم بنوا له حيرا ـ أي شبه الحظيرة ، ثم ملأوه نارا ثم جمعوا الناس فقالوا : من كان على ديننا وأمرنا فليعتزل ، ومن كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النار ، فجعل أصحابه يتهافتون في النار ، فجاءت امرأة معها صبيّ لها ابن شهر ، فلمّا هجمت على النار هابت ورقّت على ابنها ، فناداها الصبيّ : لا تهابي وارمي بي وبنفسك في النار فإن هذا والله في الله قليل. فرمت بنفسها في النار وصبيّها ، وكان ممّن تكلّم في المهد.

وبإسناده عن ميثم التمار قال : سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام وذكر أصحاب الأخدود فقال : كانوا عشرة ، وعلى مثالهم عشرة يقتلون في هذا السوق ـ أي من أصحابه عليه‌السلام ـ وكان الأمر كذلك.

وقال مقاتل : كان أصحاب الأخدود ثلاثة : واحد ، بنجران ،

٣٤٤

والآخر بالشام ، والآخر بفارس حرقوا بالنار ، أما الذي بالشام فهو أنطياخوس الرومي ، وأما الذي بفارس فهو بخت نصّر ، وأما الذي بأرض العرب فهو يوسف بن ذي نواس. فأما من كان بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآنا وأنزل في الذي كان بنجران. وذلك أن رجلين مسلمين ممن يقرءون الإنجيل ، أحدهما بأرض تهامة ، والآخر بنجران اليمن. أجرّ أحدهما نفسه في عمل يعمله ، فجعل يقرأ الإنجيل فرأت ابنة المستأجر النور يضيء من قراءة الإنجيل ، فذكرت لأبيها ، فرمق ـ أي أطال النظر إليه ـ حتى رآه ، فسأله فلم يخبره. فلم يزل به حتى أخبره بالدّين والإسلام فتابعه مع سبعة وثمانين إنسانا من رجل وامرأة. وهذا بعد ما رفع عيسى (ع) إلى السماء. فسمع يوسف بن ذي نواس بن شراحيل بن تبّع الحميري ، فخرّ لهم في الأرض وأوقد فيها فعرضهم على الكفر فمن أبى قذفه في النار ، ومن رجع عن دين عيسى لم يقذف فيها ، وإذا امرأة جاءت ومعها ولد صغير لا يتكلّم ، فلمّا قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت ، فقال : يا أمّاه إني أرى أمامك نارا لا تطفئ ـ أي نار جهنم المعدّة للكافرين بالله تعالى ـ فلمّا سمعت من ابنها ذلك قذفت بنفسها في النار فجعلها الله وابنها في الجنة ، وقذف في النار سبعة وسبعون إنسانا.

وقال ابن عباس : من أبى ان يقع في النار ضرب بالسّياط فأدخل الله أرواحهم في الجنّة قبل أن تصل أجسامهم إلى النار.

ف (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) معناه : لعنوا بحرق الناس في نار الدنيا لمجرّد أنهم كانوا مؤمنين بالله. وفي هذا ثناء على من رموا بأنفسهم في النار ومدح لحسن بصيرتهم وصبرهم على (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) وكلمة (النَّارِ) بدل من الأخدود ، وهو بدل اشتمال لأن الأخدود يشتمل على ما فيه من النار ـ. وعبارة (ذاتِ الْوَقُودِ) صفة له. وهذه العبارة تعطي أنهم قد جمعوا لتلك النار كثيرا من الحطب إذ عبّر عنه بذات الوقود تعظيما لوقودها إذ أن

٣٤٥

كلّ نار لا تخلو من وقود عاديّ ، (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) أي حيث كان الكفار قاعدين من حوالي النار يعذّبون المؤمنين بها وهم على كراسيهم (وَهُمْ) يعني الملك وحاشيته الذين حفروا الأخدود وأمروا بالنار ، كانوا (عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ) من العرض على النار ، أو الرجوع إلى دينهم الوثنيّ (شُهُودٌ) حضور. وقال الربيع بن أنس ـ كما في المجمع ـ : لمّا ألقوا في النار نجّى الله المؤمنين بأن أخذ أرواحهم قبل أن تمسّهم النار ، وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفّار فأحرقتهم (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) أي ما حابوا عليهم وكرهوا منهم (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ) إلّا إيمانهم وإسلامهم وتصديقهم بالله (الْعَزِيزِ) القويّ الذي لا يمتنع عليه شيء ولا يقهره شيء (الْحَمِيدِ) المحمود في سائر تدابيره وأفعاله (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو مالكهما المتصرف فيهما كيف شاء بلا منازع في ذلك ولا معارض (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي أنه شاهد عليهم أيضا لأنه شاهد على كل شيء ولم يغب عنه فعلهم وسيعاقبهم عليه لينصف منهم المؤمنين الذين عذّبوهم بالنار.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

٣٤٦

١٠ ـ آخر السورة ـ (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ...) أي الذين أحرقوا المؤمنين والمؤمنات بالنار كما مرّ وعذّبوهم بها لإيمانهم يريدون بذلك ردّهم إلى الكفر (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) لم يستغفروا الله من الشّرك الذي هم عليه. وقد ذكر سبحانه التوبة لأنه وجّه إليهم الوعيد التالي : (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) جزاء كفرهم وشركهم (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) جزاء حرقهم للمؤمنين ، يعني أن لهم أنواعا من العذاب في جهنّم ... أما المؤمنون فقال تعالى عنهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) صدّقوا بالله ووحدّوه (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قاموا بالطاعات المطلوبة (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) مرّ تفسيرها و (ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) أي : وهذا هو النجاح العظيم والظفر بالثواب الجزيل. وبالمقابل توعّد الكافرين والمعاندين بقوله تعالى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) أي أن أخذ ربّك ـ يا محمد ـ للكافرين بالعذاب أخذ أليم ، فسيأخذهم بالعنف ليضاعف عليهم البلاء والعناء في الآخرة (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ) يعني أنه سبحانه يبدئ الخلق في الدنيا (وَيُعِيدُ) أولئك الخلق أحياء بعد الموت ليحاسبهم ويجازيهم بحسب أعمالهم (وَهُوَ الْغَفُورُ) المتجاوز عن ذنوب التائبين من المؤمنين ومن أهل طاعته ، بل هو كثير المغفرة لأنه استعمل صيغة (فعول) وهو (الْوَدُودُ) المحب لعباده الصالحين وأوليائه من المؤمنين ، وهو (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) صاحب ذلك العرش ذي العظمة والحسن والعلوّ والكمال والرفعة. وأكثر القراءة في (الْمَجِيدُ) الرفع لأنه هو سبحانه الموصوف بالمجد (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) يفعل ما يشاء ولا يعجزه شيء ولا يمتنع عليه كائن. ثم انتقل سبحانه لذكر بعض من كفر وحلّ به عذابه في الدنيا قبل الآخرة فقال مخاطبا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليتّعظ سائر الناس : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) أي هل بلغك خبر أولئك الذين جنّدوا أنفسهم لمحاربة أنبيائه ورسله (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) في محلّ جرّ على أنها بدل من (الْجُنُودِ) فتذكّر خبرهم يا محمد والتفت إلى ما فعلوه من تكذيب

٣٤٧

الرّسل ، وكيف صبر الأنبياء ، وكيف نزل بالجبارة العذاب. وهذا من الإيجاز البديع الذي يغني عن التطويل في شرح أمرهم إذا انتقل سبحانه لما كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه من الضيق بتكذيب قومه فقال تعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) من قريش وغيرهم (فِي تَكْذِيبٍ) لقولك وللقرآن وقد مضوا في كفرهم وأعرضوا عمّا فيه نجاتهم (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) فهم لا يفوتونه لأنهم في سلطانه وفي قبضته وكأنهم محاصرون يتعذّر عليهم الهرب من ملكه (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) وهذا القرآن الذي بين يديك : كريم لأنه كلام الله ، وعظيم السخاء بما يعطي من الخير العميم والنفع الكثير ، إذ فيه الدلائل والحكم والآيات والحق الذي لا يقوم معه باطل ، وهو (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي أنه عندنا محفوظ من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان. وقد قرئ (مَحْفُوظٍ) بالرفع فجعل صفة للقرآن و (مَحْفُوظٍ) بالجر على أنه صفة للّوح ، وهو في اللوح المحفوظ الذي قيل إنه من درّة بيضاء ، طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب كما عن ابن عباس.

* * *

٣٤٨

سورة الطارق

مكيّة وآياتها ١٧ نزلت بعد البلد.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤))

١ ـ ٤ ـ (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ ، وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ...) هذا قسم منه سبحانه بالسماء وبالطارق ، أي بربّ السماء والطارق العظيم الذي سيبينه. والطارق لغة : هو الذي يجيء ليلا ويطرق المكان أي يأتيه في ذلك الوقت (وَما أَدْراكَ) أي وما علمك يا محمد (مَا الطَّارِقُ) فلم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليعرفه لولا بيانه فيما يلي. و (مَا الطَّارِقُ) استفهام ، والجملة مبتدأ وخبر وهي متعلّقة بأدراك ، وإعرابها : مفعول ثان ل (أدرى) أمّا الطارق المقسم به فهو (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) يعني : الكوكب المضيء ضياء ساطعا ، ويشمل سائر النجوم وإن قيل هو القمر. أما جواب القسم فهو : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) يعني : ما كلّ نفس إلّا عليها حافظ من الملائكة يحفظ أعمالها ويحصي أقوالها. وقرئ

٣٤٩

(لَمَّا) بالتخفيف : يعني أنّ كلّ نفس لعليها حافظ يحفظها ويحفظ عملها ورزقها وأجلها وما يتعلّق بها.

* * *

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠))

٥ ـ ١٠ ـ (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ...) بعد أن ذكر سبحانه عنايته بكل نفس بحيث سخّر ملائكة يحفظونها ، وذكر أنه تعالى يسجّل عليها أعمالها لينبّه إلى التفكّر والتدبّر ، قال عزّ من قائل : فلينظر المكذّب بالبعث (مِمَّ خُلِقَ) أي من أي شيء خلقه الله تعالى وكيف أنشأه حتى يعرف أن الذي ابتدأه من هذه النّطفة قادر على إعادته ، فإنه (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) أي من ماء منصبّ في رحم المرأة ، وهو المنيّ الذي يصير منه الولد ، وقد وصف سبحانه ذلك الماء بقوله : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أي من بين صلب الرجل : ظهره ، وترائب المرأة : يعني موضع قلادتها من الصّدر ، أي بين الثديين. وهي بالضبط ملتقى عظام الصدر والنحر (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) أي : إن الله الذي خلق الإنسان من هذا الماء قادر على إرجاعه حيّا بعد الموت ، وذلك (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) أي يوم القيامة حين تظهر أعمال بني آدم التي أكثرها كان سرّا بينه وبين ربّه. و (تُبْلَى) معناها : تختبر ويظهر خيرها من شرّها. وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ضمّن الله خلقه أربع خصال : الصلاة والزكاة وصوم رمضان ، والغسل من الجنابة ، وهي السرائر التي قال الله : يوم تبلى السرائر. وقد قيل إن الله تعالى يظهر أعمال كل أحد لأهل القيامة ليعلموا على أي شيء أثابه أو عاقبه ، ويكون

٣٥٠

هذا مزيد سرور للمؤمن ، وزيادة استياء للكافرين (فَما لَهُ) أي أن هذا الإنسان المنكر للبعث ليس له (مِنْ قُوَّةٍ) تمنع عنه العذاب (وَلا ناصِرٍ) يعينه على دفع غضب الله عزّ وعلا.

* * *

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

١١ ـ آخر السورة ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ...) هذا قسمّ منه سبحانه بالسماء ذات المطر ، وإن قيل إن الرجع هو الشمس والقمر والنجوم التي تغيب وترجع. فالرجع يعني إعطاء السماء للخير الذي يأتي من جهتها مرة بعد مرة. أمّا الأرض ذات الصّدع فهي التي تتصدّع : أي تتشقّق بالنبات والأشجار. وجواب القسم هو : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) أي أن القرآن قول يفصل بين الحق والباطل كما في المرويّ عن الإمام الصادق عليه‌السلام(وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي هو جدّ وليس باللّعب (إِنَّهُمْ) يقصد مشركي قريش (يَكِيدُونَ كَيْداً) يحتالون ويمكرون بك يا محمد وبمن معك من المؤمنين ليقفوا في وجه دعوتك ويطفئوا نورك (وَ) أنا (أَكِيدُ كَيْداً) يعني : أريد أمرا يخالف ما يريدون ، وأدبّر ما يقضي على تدبيرهم ويحبط مكائدهم ، وقد سمّاه سبحانه كيدا لأنّ تدبيره يخفى عليهم (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي أعطهم مهلة قليلة يا محمد ، وانتظر بهم ، ترّبص تدبير الله فيهم (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) أي أمهلهم قليلا. وقيل إنه سبحانه عنى به أن أمهلهم إلى يوم بدر حيث نبطش بهم ، وقيل بل عنى أن لا تعجل فإن الله تعالى مجازيهم بالذل والقتل في الدنيا ، وبالعذاب في الآخرة.

٣٥١

سورة الأعلى

مكيّة وآياتها ١٩ نزلت بعد التكوير.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥))

١ ـ ٥ ـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ...) أي نزّه ربّك يا محمد عمّا لا يليق بذاته الكريمة ، لأن التسبيح تنزيه لله تعالى عن كل ما هو مذموم. والخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنه موجّه لسائر المكلّفين. والأعلى صفة للاسم وهي تعني القادر الذي ليس فوقه قادر بذاته وبصفاته. وقد قال الإمام الباقر عليه‌السلام : إذا قرأت سبّح اسم ربك الأعلى فقل : سبحان ربّي الأعلى ، وإن كان بينك وبين نفسك. فنزّه أيها السامع هذا الرّب العظيم المتعالي في سمّوه (الَّذِي خَلَقَ) الخلق جميعه (فَسَوَّى) بين مخلوقاته بالإتقان والإحكام ، فعدل القامات وأعطى الحواسّ وسوّى الصّنع على أحسن تقويم في كل ما خلقه (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) أي قدّر خلقة كل كائن على ما هو عليه ثم هدى جميع الأحياء

٣٥٢

لتحصيل معايشهم وأرزاقهم ، كما هدى الناس إلى دينه ومعرفة توحيده وأعطاهم الاقتدار على الاختيار والتمييز بين الحسن والقبيح وإلى ما فيه الخير منذ أن كانوا صغارا ، فهدى الطفل إلى ثدي أمّه إلى أن كبر فدلّه على ما فيه مصلحته ليطلبها وعلى ما فيه ضرره فيتجنّبه. وقيل : قدّر الولد في البطن تسعة أشهر أو أكثر ، وهداه للخروج منه حين تمام الحمل ، كما قيل : قدّر المنافع في جميع الأشياء وهدى الناس لاستخراجها منها ، إذ جعل بعضها غذاء وبعضها دواء وبعضها ضارّا أو سامّا (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي أنبت العشب والكلأ لمنافع الحيوانات (فَجَعَلَهُ) أي المرعى (غُثاءً أَحْوى) يعني جعله بعد الخضرة هشيما جافا أسود بعد أن كان أخضر ، وذلك أن العشب إذا يبس اسودّ. وقيل (أَحْوى) تعني أنه أخضر شديد الخضرة يميل إلى السواد. والغثاء لغة : هو ما يقذف به السيل على جانب مجاري المياه من الحشيش والنبات ومن الأخلاط المختلفة ، فهو سبحانه الذي خلق المرعى أخضر ثم صيّره يابسا هشيما تذروه الرياح أو يجرفه السيل ، وقد قدّر سبحانه أن تكون أعشاب المراعي غذاء للحيوان في الحالتين ، أي حين تكون خضراء وحين تصير يابسة.

* * *

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣))

٦ ـ ١٣ ـ (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ، إِلَّا ما شاءَ اللهُ ...) أي سنعلمك قراءة القرآن يا محمد فلا تنساها. وقيل سيقرأه عليك جبرائيل (ع) بأمرنا فلا تنساه بعد سماعه منه. وعن ابن عباس أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا

٣٥٣

نزل عليه جبرائيل عليه‌السلام بالوحي يقرأه مخافة أن ينساه ، فكان لا يفرغ جبرائيل عليه‌السلام من آخر الوحي حتى يتكلّم هو بأوّله. فلما نزلت هذه الآية لم ينس بعد ذلك شيئا. وهذا مثل قوله سبحانه : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ). فنحن سنقرئك إيّاه فلا تنساه بمشيئتنا (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) سوى ما أراد الله تعالى أن ينسيك ، إيّاه بالنّسخ أو برفع حكمه. وقال الفرّاء : لم يشأ الله أن ينسى عليه‌السلام شيئا ، فهو كقوله : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) ، ولا يشاء. وفي المجمع أن في الآية بيانا لفضيلة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإخبارا أنه ـ مع كونه أمّيّا ـ كان يحفظ القرآن ، وأن جبرائيل عليه‌السلام كان يقرأ عليه سورة طويلة فيحفظها بمرة واحدة ثم لا ينساها ، وهذه دلالة على الإعجاز الدالّ على نبوّته (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) أي أن الله تبارك وتعالى يعلم العلن والسرّ. والجهر هو رفع الصوت ، وما يخفى : ما هو مستور. فالله تعالى يعلم ما نخفيه وما نبديه ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ولا تفوت علمه (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) أي نسهّل لك عمل الخير ، فاليسر هو ضد العسر ، أي التسهيل ، واليسرى هي على صيغة (الفعلى) من اليسر : أي السهولة ، فنحن سنوفّقك يا محمد للشريعة السهلة السمحة ، وهي الحنيفية الشريفة ، ونهوّن عليك حفظ الوحي ونؤيّدك بألطافنا لتثبت على أمرك ، ثم نسهّل لك أداء الرسالة والصبر على الصعاب في سبيلها ، وهذا وعد له بالنّصر وتسهيل الصعب ولذلك أمره بقوله : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي ذكّر الناس وعظهم فإن تذكيرك لهم نافع في جعلهم مؤمنين ، وفي امتناعهم عن الشّرك والمعاصي أو امتناع بعضهم ممّن هدى الله فإنما أنت للإنذار والإعذار فذكّر نفعت ذكراك أم لم تنفع ، وقد أشار سبحانه إلى حالتي النفع وعدمه بقوله تعالى : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) يعني أنه سيتّعظ وينتفع من يخاف عقاب الله تعالى (وَيَتَجَنَّبُهَا) ينصرف عن الذكرى وينحرف (الْأَشْقَى) أي الأكثر

٣٥٤

شقاء من العاصين ، فإن للعاصين درجات في عصيانهم ، والشقاوة أعظم تلك الدرجات إذ منها الكفر والشّرك ، والأشقى هو (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) أي يلزم أكبر ميزان جهنّم ويكون من وقودها وحطبها ويتلظّى بلظاها. وقيل إن النار الكبرى هي الطبقة السفلى من جهنّم كما عن الفرّاء (ثُمَّ لا يَمُوتُ) هذا الأشقى في نار جهنّم (وَلا يَحْيى) ولا يعيش ، وهذا يعني أنه لا يموت فيرتاح ، ولا يعيش حياة يهنأ بها ، بل يذوق أنواع العذاب ، والعياذ بالله من ذلك.

* * *

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

١٤ ـ آخر السورة ـ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ ...) يعني فاز ونجح من طهر نفسه من الشّرك بتوحيد الله سبحانه وتعالى وقال : لا إله إلّا الله. وقيل : تزكّى : أعطى زكاة ماله. وقيل أراد صدقة الفطرة وصلاة العيد كما عن أبي عبد الله عليه‌السلام وكثيرين غيره. أمّا ذكر الله فقيل هو ذكره بقلبه عنه الصلاة ، ورجاء الثواب ، وخوف العقاب ، وقيل إن الصلاة هنا منها التكبير وقول : الله أكبر ، والحقيقة أنه قصد الصلاة بما فيها من خشوع وخشية ورجاء ، وقصد الصلوات الخمس المكتوبة ، ولذلك خاطب الكافرين الذين لم يؤمنوا ولا اعترفوا بها ولا أدّوها وشغلتهم ملاذّ الدنيا عنها فقال لهم : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي تختارونها على الآخرة وتفضّلونها عليها ، وتشتغلون بها وتعمرونها ولا تتفكّرون بأمر الآخرة. وقيل إن الخطاب للعاصين والطائعين ، على السواء ليوبّخ العاصين وينبّه الطائعين ولذا قال مطمعا إياهم : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى)

٣٥٥

أي والدار الآخرة ، يعني الجنة. أفضل من الدنيا وأدوم. وقد جاء في الحديث : من أحبّ آخرته أضرّ بدنياه ، ومن أحبّ دنياه أضرّ بآخرته (إِنَّ هذا) الذي ذكر في هذه الآيات (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) أي مذكور في الصحف السابقة التي أنزلت على الرّسل قبل القرآن ، فقد ذكر سبحانه فيها فلاح المتزكّي ، وفوز المصلّي ، وحب الناس للدنيا وتفضيلها على الآخرة مع أن الآخرة أفضل وأبقى ، ثم بيّن عزّ اسمه تلك الصّحف الأولى فقال : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) والصّحف : جمع صحيفة ، وهو الأوراق المكتوبة التي تكون بين دفّتين ، أي الكتاب ، وقد ذكر هنا إبراهيم وموسى عليهما‌السلام كمثل على الأنبياء الذين أوتوا صحفا ونزلت عليهم كتب ، وإلّا فالأنبياء صلوات الله عليهم كثيرون. فعن أبي ذرّ رضوان الله عليه قال : قلت : يا رسول الله كم الأنبياء؟ فقال : مائة ألف نبيّ وأربعة وعشرون ألفا ، قلت : يا رسول الله كم المرسلون منهم؟ قال ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وبقيّتهم أنبياء ـ قلت : كان آدم عليه‌السلام نبيّا؟ قال : نعم ، كلّمه الله وخلقه بيده ، يا أبا ذر ، أربعة من الأنبياء عرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيّك. قلت : يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال : مائة وأربعة كتب ، أنزل الله منها على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة ، وهو أول من خطّ بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل ، والزبور ، والفرقان.

٣٥٦

سورة الغاشية

مكيّة وآياتها ٢٦ نزلت بعد الذاريات.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥))

١ ـ ١٥ ـ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ...) هذا استفهام أراد به سبحانه التقرير ، أي قد جاءك يا محمد خبر يوم القيامة الذي وصفه بالغاشية. والغاشية هي التي تغشى الناس فتجلّلهم بأهوالها ومخاوفها. وقيل هي النار التي تغشى وجوه الكفار بالعذاب ، وذلك كقوله تعالى : (تَغْشى وُجُوهَهُمُ

٣٥٧

النَّارُ)(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) أي في ذلك اليوم تكون وجوه ذليلة بالعذاب الذي ينزل بها ، فأصحابها يشاهدون الويلات والشدائد والأهوال ويكونون خاضعين لما يراد بهم أذلّة لما يغشاهم ، فوجوهه (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) يعني أنها عاملة في الدنيا بالمعاصي ، ناصبة : متعبة في النار بمعالجة لهبها وسلاسلها وأغلالها. وقيل إنهم الرهبان الذين يتعبون في الدنيا بالعمل الذي يكون خلاف ما أمر الله ، وأهل البدع والباطل والضلال. وقال أبو عبد الله عليه‌السلام ـ كما في المجمع ـ : كلّ ناصب لنا وإن تعبّد واجتهد ، يصير إلى هذه الآية : عاملة ناصبة .. (تَصْلى ناراً حامِيَةً) أي تتلظّى وتلزم الاحتراق في نار قد بلغت حرارتها الغاية (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أي يكون شرابها من عين وقد بلغت أناها لأن الآنية هي البالغة النهاية في الشدّة والحرارة ، وقال الحسن : قد أوقدت عليها جهنّم مذ خلقت فدفعوا إليها عطاشا. وهذا شرابهم ، ولكن طعامهم ف (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) الضريع : نبت شائك تأكله الإبل وهو يضرّ ولا ينفع ، وإذا يبس فهو أخبث طعام لا ترعاه دابّة من الدواب ، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك ، أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأشدّ حرّا من النار ، سمّاه الله الضريع ... ولمّا نزلت هذه الآية قال المشركون : إن إبلنا لتسمن على الضريع وكذّبوا في ذلك لأن الإبل لا ترعاه ، فقال سبحانه يكذّبهم (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) فهو لا يردّ جوعا ولا يأتي بسمنة ... ثم انتقل سبحانه لوصف أهل الجنة ، فقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) أي وفي ذلك اليوم تكون وجوه منعّمة في أنواع الملذّات والطيّبات قد ظهر عليها أثر النّعم الكثيرة فهي مسرورة مشرقة (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) أي أنها راضية عن عملها في الدنيا الذي أدّى بها إلى الجنّة. وهذا يعني أنها قد رضيت بثواب سعيها أي عملها للطاعات ، وهي (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي في جنّة مرتفعة القصور ، عالية الدرجات. وقيل إن علوّ الجنّة على ضربين : علو درجاتها

٣٥٨

وأنها مشرفة على غيرها ، وعلو شرفها وجلالة مكانها بالنسبة إلى النار (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) أي لا تسمع في الجنّة كلمة لغو ولهو ولا فائدة منها (فِيها) أي في الجنّة (عَيْنٌ جارِيَةٌ) عبّر هنا سبحانه عن الجنس إذ لكل إنسان في قصره عين جارية من كل نوع من أنواع الشراب الذي يرغب فيه. وقد قال جارية لأن في العيون الجارية من الحسن والرونق والمنافع ما لا يوجد في العيون الواقفة ، فضلا عن أن عيون الجنّة تجري بغير أخاديد في الأرض ، وتسير حيث يريد صاحبها (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) أي في الجنة سرر عالية ما لم يجيء أهلها إليها ، فإذا قصدوها تواضعت لهم وقد قال ابن عباس : ألواحها من ذهب ، مكللة بالزبرجد والدّر والياقوت. (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) أي كؤوس موضوعة على حافات العيون وجوانبها إذا أراد المؤمن الشرب منها وجدها مملوءة ، وقيل هي الذهب والفضة والجواهر يجد فيها ما يشتهيه من الشراب وينظر إليها بمتعة وأنس وسرور لجمال منظرها (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) أي : وفيها ووسائد مرتبة بعضها إلى جانب بعض لتشكّل مجالس فاخرة (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) يعني : وبسط فاخرة ، وطنافس مبسوطة وموزّعة هنا وهناك في نواحي المجلس. وعن عاصم بن ضمرة عن عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه ذكر أهل الجنّة فقال : يجيئون فيدخلون ، فإذا أساس بيوتهم من جندل اللؤلؤ ، وسرر مرفوعة ، وأكواب موضوعة ، ونمارق مصفوفة ، وزرابيّ مبثوثة. ولو لا أن الله تعالى قدّرها لهم لالتمعت أبصارهم بما يرون. ويعانقون الأزواج ، ويقعدون على السّرر ، ويقولون الحمد لله الذي هدانا لهذا.

* * *

(وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ

٣٥٩

بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

١٦ ـ آخر السورة ـ (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ...) ضرب الله تعالى لهم مثلا بخلق الإبل ... أي الجمال ـ لأنها كانت وسيلة عيش لهم في عصر النبوّة الكريمة. أي ألا يتفكرون ويعتبرون بخلق الإبل وما جعل فيها من منافع إذ يخرج من ضروعها اللبن الصافي من بين الفرث والدم ، وقد ركّب الله فيها من عجيب الخلق وعظم إيهامه ثم ذلّلها للصغير والكبير وسخّرها لمنافع الناس من اللحم إلى اللبن إلى الجلد إلى الوبر فالفرث فغيره من الركوب ونقل الأثقال ، وجعلها من أعزّ ما لهم وأغلى مقتضياتهم لا تكلّفهم طعاما وتجلب لهم الخير الكثير ، أفلا ينظرون إلى خلقها العجيب؟ فأنا أصنع لأهل الجنّة أحسن ممّا صنعت لأهل الدنيا ممّا ينتفعون به ، فليعتبروا وليتّعظوا (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) أي : أفلا ينظرون كيف رفع الله تعالى السماء فوقهم بلا عمد ، ثم جعل فيها الخير الذي ينزل على العباد ، وبث فيها الشمس والقمر والنجوم لمنافعهم (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) أي كيف جعلت أوتادا تثبت بها الأرض من أن تميد بأهلها (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) أي كيف بسطها سبحانه وجعلها واسعة يمشون فيها ويأكلون من رزقه ويستفيدون ممّا جعلت لهم فيها من معايش ومعادن وخيرات ، فلو تفكّروا بذلك لعلموا أن لهم صانعا ومدبّرا هو الذي أوجدهم ورزقهم وتكفّل بحياتهم ، وأوحى لنبيّه صلّى الله عليه قائلا (فَذَكِّرْ) يا محمد الناس وعرّفهم بذلك وأدعهم إلى التوحيد فإن التذكير هو طريق العلم وسبيل والمعرفة (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) تذكّرهم بعظمة الله وبنعمه الوفيرة ، وتنبّههم إلى ما يجب عليهم من التوحيد والشكر والعبادة لربّهم الخالق الرازق المنعم وذلك بأن تقدّم لهم هذه الأدلة الواضحة على وجوده وعلى قدرته وفضله و (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي لست متسلطا

٣٦٠