الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣))

٣٥ إلى ٤٣ ـ (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ)؟ أي هل وجدوا من غير موجد وخالق أم هم خلقوا أنفسهم؟ (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) التي خلقت وأوجدت قبل خلقهم وإيجادهم؟ لا ، فإنه لا يعقل الأثر قبل المؤثّر (بَلْ لا يُوقِنُونَ) لا يصدّقون بشيء من ذلك وإلّا لسمعوا كلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووحدّوه وأطاعوه سبحانه وأطاعوا رسوله (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) أي هل يملكون خزائن علمه وفضله فحقّ لهم أن يختاروا للنبوّة من شاؤوا (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي المتسلّطون على العالم يرونه حسب مشيئتهم (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) أي مصعد ومرمى إلى السماء يصعدون بواسطته ف (يَسْتَمِعُونَ) الوحي (فِيهِ) أي من على ذلك السلّم (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) يعني فليجئ ببرهان واضح على دعواه (أَمْ لَهُ الْبَناتُ) كما قال المشركون بأن الملائكة بنات الله (وَلَكُمُ الْبَنُونَ) فتلك إذا قسمة ضيزى فيها حيف ونقص عجيب (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) على تبليغ الرسالة التي أديتها إليهم (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي أثقلهم ذلك الأجر الذي طلبته منهم فصاروا لا يؤمنون بنبيّهم من أجل ذلك؟ (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) يعني هل إنهم يعلمون الغيب المختصّ بالله جلّ وعلا (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) ذلك ويدوّنونه ويعلمون عواقب الأمور (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) أي يتمنون مكرا بك؟ (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) المغلوبون الذين يحيق بهم المكر ويعود عليهم وبال الكيد (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) يمنعهم منه سبحانه (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيها له تعالى عن شرك الآلهة. والاستفهام في كلّ ما مضى من الآيات الشريفة للإنكار والتقريع والسخرية من

٤١

الكافرين والمشركين.

* * *

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

٤٤ ـ إلى آخر السورة المباركة : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ...) أي إذا رأوا قطعة من السماء ، وقسما منها (ساقِطاً) واقعا على الأرض ينذر بهلاكهم (يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) أي يظنون أنه غيوم متراكبة فوق بعضها مع أنه عذاب ينزل بهم ولكنهم يكذّبون به (فَذَرْهُمْ) دعهم واتركهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) أي حتى يصلوا إلى اليوم الذي يموتون فيه ويموت الناس جميعا عند النفخة الأولى (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي لا ينفعهم المكر ولا الخداع ولا الدفاع بالباطل ، ولا يجدون من ينصرهم في باطلهم (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي ينتظرهم عذاب يحل فيهم قبل عذاب يوم القيامة في الدنيا بالقتل ، أو في القبر من عذاب البرزخ (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) وقت نزوله بهم (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي انتظر واصبر لإمهالهم من قبلنا ونحن نتولّى أمرك (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي بمرآنا ومنظر منّا وعناية ونحن نكلأك ونرعاك ، وقد خاطبه سبحانه بالتعظيم والمبالغة ليطمئنّ قلبه الشريف (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) من مجلسك ومن نومك (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي بعض الليل لأن (مِنَ) للتبعيض

٤٢

(وَإِدْبارَ النُّجُومِ) أي حين تدبر فتذهب وتختفي عند ظهور الفجر وانتشار ضوء الصباح لأنه كلّما وضح ضوء النهار كلّما اختفت أضواء النجوم والكواكب وغلب ضوء النهار.

* * *

٤٣

سورة النجم

مكيّة إلّا الآية ٣٢ وآياتها ٦٢ نزلت بعد الإخلاص.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠))

١ و ٢ ـ (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ...) هذا قسم منه سبحانه ، قيل إنه أقسم بالقرآن إذ أنزله نجوما في مدى ثلاث وعشرين سنة ، وقيل عنى الثريّا ، وقيل جميع النجوم ، وقيل قصد الرّجوم من النجوم فقط وهي التي ترمى بها الشياطين إذا أرادوا الاستماع. والحاصل انه تعالى أقسم بالشيء العظيم من مخلوقاته أنه (ما ضَلَ) أي ما عدل عن الحقّ (صاحِبُكُمْ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَما غَوى) ولا فارق الهدى ، ولا سها عن شيء ممّا يؤدّيه من الوحي. وفي المجمع عن الإمام

٤٤

الصادق عليه‌السلام أنها لّما نزلت أخبر بها عتبة بن أبي لهب فجاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وطلّق ابنته وقال : كفرت بالنجم وبربّ النجم ، فدعا عليه رسول الله (ص) وقال : اللهم سلّط عليه كليا من كلابك ، فخرج عتبة في تجارة الى الشام فجاءه أسد فافترسه وهو نائم بين أصحابه بعد أن استولى عليه الخوف والرّعب منذ دعاء النبيّ (ص) عليه.

٣ و ٤ ـ (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ...) أي لا يتكلم معكم ويقرأ القرآن عن هوى في نفسه وميل في طبعه (إِنْ هُوَ) أي ما القرآن (إِلَّا وَحْيٌ) نحن ننزله عليه ويبلّغكم إياه مع سائر ما فيه من عبر وأحكام (يُوحى) من عندنا.

٥ إلى ٧ ـ (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ...) أي علّمه ذلك القول وذلك القرآن جبرائيل عليه‌السلام القويّ في نفسه وخلقته. والمرّة هي القوّة والشدّة في الخلق وكيف لا يكون جبرائيل (ع) كذلك وقد اقتلع مدائن لوط ورفعها إلى السماء وقلبها فدمّرها وأهلك من فيها بأمر ربّه تبارك وتعالى؟ وكلمة (فَاسْتَوى) تعني أنه ظهر لمحمد (ص) على صورته العظيمة التي خلقه الله تعالى عليها (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) هو : كناية عن جبرائيل (ع) حيث تجلّى لرسول الله (ص) في أفق المشرق فرؤي يسدّ ما بين المشرق والمغرب ، فرآه النبيّ (ص) على صورته الحقيقية فخرّ مخشيّا عليه لما أحسّ من عظمة الله سبحانه وتعالى :

٨ إلى ١٠ ـ (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ ...) أي اقترب من محمد (ص) على صورة الآدميين فضمّه إلى نفسه ، وتدلّى يعني ازداد في القرب نزولا نحو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) منه ، أي على بعد ذراعين (أَوْ أَدْنى) أو أقرب من ذلك (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) أي فأوحى الله تبارك وتعالى إلى عبده محمد (ص) ما أراد أن يوحيه على

٤٥

لسان جبرائيل (ع).

* * *

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨))

١١ و ١٢ ـ (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ...) الكلام المبارك يدور حول ما رآه النبيّ (ص) ليلة الإسراء حيث (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) يومئذ ، أي لم يكذب فؤاد محمد بما رآه بأمّ عينه ، فإن عقله ووعيه ما أوهماه بشيء ولكنه رأى ذلك حقيقة ، وهذا يعني أنه (ص) علم عظمة ربّه بقلبه وأدرك قدرته وملكوته من خلال ما رآه من مظاهر العظمة من ملكوت السماوات (أَفَتُمارُونَهُ) يعني أتجادلونه بباطلكم (عَلى ما يَرى) بعينه ويعيه بعقله ويطمئنّ إليه قلبه؟ وذلك أنهم جادلوه بقضية إسرائه ومعراجه وقالوا له صف لنا بيت المقدس كما ذكرناه في مكان آخر.

١٣ إلى ١٥ ـ (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ...) أي رأى جبرائيل عليه‌السلام في صورته التي خلقه الله عليها مرة ثانية (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) وهي الشجرة التي عن يمين العرش فوق السماء السابعة ينتهي إليها علم كل ملك ، وقيل هي ما ينتهي إليه عروج كل شيء ، ومن عندها ينزل كلّ أمر. وقيل هي شجرة طوبى نفسها. (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) أي عندها جنّة الخلد والمقام الدائم.

١٦ إلى ١٨ ـ (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ...) قيل إن السدرة المذكورة

٤٦

يغشاها الملائكة ففي المرويّ عنه (ص) أنه قال : رأيت على كلّ ورقة من أوراقها ملكا قائما يسبّح الله. وإنّما أبهم الأمر سبحانه في الآية لتعظيم شأن ما يغشاها وتفخيمه (ما زاغَ الْبَصَرُ) لصبر محمد (ص) ما انحرف يمينا ولا يسارا ولا مال لجهة (وَما طَغى) يعني ما جاوز القصد (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) وهي آياته العظيمة التي شاهدها ليلة معراجه الشريف كصورة جبرائيل (ع) وكسدرة المنتهى ، وكعجائب السماوات كلها ، فقد رأى من الآيات ما زاد به يقينه وعظم إيمانه.

* * *

(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣))

١٩ و ٢٠ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ...) أي أخبرونا عن هذه الآلهة المزوّرة التي تعبدونها هي (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) وتدّعون أنها شفعاء لكم ما هي قيمتها وما هو مبلغ استطاعتها في الخلق والرّزق والعظمة؟ واللات صنم لثقيف ، وكذلك العزّى فهي شجرة عظيمة عبدتها غطفان ، ومناة أصنام من حجارة كانت في الكعبة ، فهل نفعتكم هذه الآلهة أم بيدها ضرر لمن عصاها ، وهل تعدلونها بالله جلّ وعلا؟

٢١ و ٢٢ ـ (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ...) أي يا كفار قريش ويا أيّها المشركون كيف تجعلون لأنفسكم الذكور وتختارون لله عزوجل الإناث

٤٧

وترضون له ما لا ترضونه لأنفسكم؟ (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أي هذه قسمة جائرة غير عادلة أن تستأثروا بالذكور وأن تجعلوا لله تعالى البنات وتقولون : الملائكة بنات الله ..

٢٣ ـ (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ...) أي أن تسميتكم لهذه الأصنام وجعلها آلهة وأنّها بنات الله ، هي من بدعكم وبدع آبائكم من قبلكم (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) يعني لم ينزّل سبحانه فيها حجة ولا برهانا يصدّق قولكم فيها (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) انصرف سبحانه من الخطاب للغيبة للتقرير ، فهم يسيرون على غير هدى دون علم (وَ) يتّبعون (ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أي ما تميل إليه النفوس الأمّارة بالسوء (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) أي البيان الذي حمله إليهم رسوله الكريم في القرآن العظيم.

* * *

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠))

٤٨

٢٤ و ٢٥ ـ (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى ...) هذا استفهام تقريع واستهزاء ، يعني هل للإنسان الكافر (ما تَمَنَّى) من شفاعة الأصنام؟. لا (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) ولا يملك فيهما أحد شيئا إلا من بعد إذنه سبحانه. وقيل إنه يعني أن ليس للإنسان أن ينال ما يتمّناه دون عمل ، وليس الأمر كذلك.

٢٦ ـ (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ ...) فقد قصد أن الكثرة الكاثرة من الملائكة الموجودين في السماء لا تفيد شفاعتهم بأحد ، ولا تجدي (شَيْئاً) ينتفع به الإنسان (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ) يسمح لهم بالشفاعة (لِمَنْ يَشاءُ) من العباد الذين هم أهل لأن يشفع بهم من أهل الإيمان والتوحيد (وَيَرْضى) بأن يشفع بهم ، وذلك كقوله سبحانه : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ثم بدأ بذم مقالتهم السخيفة فقال سبحانه وتعالى :

٢٧ و ٢٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ...) أي الذين لا يصدّقون بالبعث والنشور والحساب فإنهم (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) فيزعمون أنهم بنات الله ، تعالى الله عن أن يكون له ولد علوّا كبيرا. فهم يقولون ذلك (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) فلا يقين عندهم بكون الملائكة بنات (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) الذي يخطئ ويصيب (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) فلا يقوم الظنّ مقام العلم لأن المقصود بالحق هنا هو العلم اليقينيّ.

٢٩ و ٣٠ ـ (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا ...) أي انصرف يا محمد عن كلّ من انصرف عن توحيدنا والإيمان بنا (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) أي لم يرغب إلّا في الدنيا ومفاتنها. فلا تقم وزنا لأقوالهم وداوم على إنذارهم لأن (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي هذا منتهى علمهم فهم قاصرون قد غرّتهم الدنيا فتمتعوا بلذّاتها العاجلة الزائلة شأن من لا ينتظر العواقب ، فهم كالأنعام التي تعيش بلا تفكير ولا تدبّر (إِنَّ رَبَّكَ) يا

٤٩

محمد (هُوَ أَعْلَمُ) من جميع الخلق ومنك وأدرى (بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي عدل عن سبيل الحق (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) وأعرف بمن هدي إلى الحق.

* * *

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢))

٣١ و ٣٢ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) يخبر سبحانه عن عظمة ملكه وسعة سلطانه ، فله السّماوات والأرض وما فيهنّ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) قيل إن اللّام جارّة وهي تتعلّق بمعنى الآية السابقة ، أي أنه تعالى أعلم بمن ضلّ وبمن اهتدى ، وإذا كان كذلك جازى كلّا بعمله وبما يستحقه (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي وحّدوا ربّهم وعبدوه : فيجازيهم (بِالْحُسْنَى) أي بالجنّة التي وعدهم بها. ثم وصفهم سبحانه بقوله : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) أي الذنوب العظيمة والكبائر (وَالْفَواحِشَ) وهي أقبح الذنوب (إِلَّا اللَّمَمَ) أي صغار الذنوب كالنظرة والقبلة وما كان دون الزّنى (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) لمن تاب وأناب (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) حتى قبل خلقكم (إِذْ) حيث (أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يعني بذلك أباكم آدم عليه‌السلام ، ويعني الجميع لأنهم يتغذّون بما يعطيهم الله تعالى من الأرض (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ

٥٠

أُمَّهاتِكُمْ) وحيث كنتم أجنّة في الأرحام وقبل أن تولدوا ، فإنه يعلم كلّ نفس إلى ما هي صائرة إليه (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) لا تمدحوها ولا تعتبروها زكيّة خيّرة فإنه سبحانه (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) أعرف بمن تجنّب الشّرك والكبائر واتّبع رضوان الله.

* * *

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١))

٣٣ إلى ٤١ ـ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى ...) أي نظرت إلى الذي أدبر عن الحق واعطى قليلا من الصدقات وأكدى : أي أمسك عن العطاء أو منعه منعا شديدا (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) أي هل يعرف ما غاب عنه من علم العذاب الذي سيصل ويرى أن صاحبه يتحمّل عنه عذابه الذي استحقّه؟ ... وقيل إن هذه الآيات نزلت في عثمان بن عفّان أو في الوليد بن المغيرة ، وكان قد اتّبع الرسول فعاتبه أحد الكافرين على ذلك وقال له قد فضحت أشياخك وآباءك ، فعد إلى عقيدة آبائك فأنا أتحمّل عنك العذاب في يوم القيامة ، فأطاعه ، فنزلت هذه الآيات. والحاصل أن المقصود كيف اقتنع وهو لا يعلم ما يصير إليه أمر الكافرين؟ (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) عليه‌السلام يعني : ألم يخبر بما في التوراة (وَإِبْراهِيمَ) يعني وبما في صحف إبراهيم عليه‌السلام (الَّذِي وَفَّى) أي أتمّ ما كلّف بتبليغه وأدّى ما أمر به كاملا؟ ثم بيّن

٥١

سبحانه ما في صحفهما وهو (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا يحمل أحد جرم أحد ولا يؤخذ أحد بذنب غيره (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) عطف على ما سبق ، يعني أنه لا يجزى إلّا بعمله. وقيل إن هذا الشرط يصدق على الأمم السابقة أما أمّة سيّدنا ونبيّنا خاتم الرسل صلوات الله عليه وآله فهي منسوخة بقوله جلّ وعلا : (ألحقنا بهم ذرياتهم) فرفع درجة الذّرية من غير أن يستحقوها بأعمالهم. فهذه الأمة مرحومة بأن لهم ما سعى به غيرهم نيابة عنهم ، ومن هنا جاء تشريع النيابة بالطاعات إلّا ما قام عليه الدليل وفي المجمع أن امرأة جاءت إلى رسول الله (ص) وقالت : إن أبي لم يحجّ ، فقال : حجّي عنه. (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) يعني أن عمله سوف يرى عند الحساب (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) فيعطى عن الطاعات أكثر ما يستحق من الثواب تفضّلا من الله وكرما.

* * *

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩))

٤٢ إلى ٤٥ ـ (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ...) هذا عطف على ما سبقه ، ومعناه ، أنّ النهاية تقود إلى ثواب ربّك وعقابه ، وإليه المصير بعد أن ينقطع العمل بموت الإنسان (وَأَنَّهُ) سبحانه (هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) أي خلق سبب الفرح والسرور أو الحزن والأسى. وفي المجمع أنه أضحك أهل الجنّة بما وفّر لهم من أسباب السرور ، وأبكى أهل جهنّم بما حاق بهم

٥٢

من سوء عملهم الّذي أوصلهم إلى العذاب ، وقيل غير ذلك (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) أي أمات الأحياء في الدّنيا ، وأحياهم في الآخرة للحساب والجزاء وما من أحد يملك هذه القدرة غيره.

٤٥ إلى ٤٩ ـ (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ...) أي جعل الصّنفين والنوعين من جميع الحيوانات ، وذلك (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) أي من نطفة ـ نواة صغيرة جدا ـ تنصبّ مع المنيّ في رحم المرأة ويخلق منها الولد بعد أن تلبث فيه وقتا مقرّرا (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي إعادة الخلق يوم البعث حين تعود الأجساد إلى ما كانت عليه في دار الدنيا ، وقد جعل هذا الأمر واجبا عليه أخذه على نفسه ليجزي المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء على إساءته ، ولذلك قال : (وَأَنَّ عَلَيْهِ) أي قد ضمن ذلك ليقتصّ للمظلوم من الظالم وليثيب من عمل الصالح (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) أي أغنى بالمال ، ومكّن الناس من اقتناء الأشياء والحصول عليها مالا كانت أو غير مال ، وهو ما يدّخر بعد الاكتفاء منه. وقيل أغنى بالقناعة وأقنى بالرضا (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) أي خالقها وموجدها ومالكها دون غيره. وقيل إن خزاعة كانت تعبد الشّعرى التي هي مجموعة نجوم هائلة الحجم متباعدة المسافات ، كثيرة العدد ، وربّما كانت هي التي يسميها الناس درب التّبان.

* * *

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ

٥٣

اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

٥٠ إلى ٥٦ ـ (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ...) وهم القوم المتناسلون من عاد بن إرم ، أهلكهم سبحانه بالريح الصّرصر العاتية التي ذكرها في القرآن الكريم. وقد سمّاهم (عاداً الْأُولى) لأنهم كان منهم عاد الأخرى التي هي من عقبهم والتي أفنت بعضها بالبغي على بعضها. فقد أهلك عادا (وَثَمُودَ) أهلكها أيضا وهي قوم صالح (فَما أَبْقى) فلم يترك منها أحدا. أمّا نصب (عاداً) و (ثَمُودَ) فهو على كون ذلك موجودا في صحف إبراهيم وموسى ، فكأنه قال : أم لم ينبّأ بأنه أهلك كذا وكذا؟ إلخ ... (وَقَوْمَ نُوحٍ) أهلكهم (مِنْ قَبْلُ) قبل هؤلاء (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) أي كانوا أشدّ ظلما وطغيانا من غيرهم بدليل طول المدة التي دعاهم فيها نوح عليه‌السلام أي ألف سنة إلا خمسين عاما ولم يزدهم دعاؤه إلّا فرارا من الإيمان إلى الكفر (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) يعني قرى قوم لوط التي خسف الله تعالى بها (أَهْوى) أي أسقط ، إذ قلبها جبرائيل عليه‌السلام بعد أن اقتلعها من الأرض وارتفع بها وأهوى بها إلى الأرض فدمّرها بمن فيها (فَغَشَّاها) أي ألبسها الله ثوب العذاب الأليم (ما غَشَّى) أي ما ألبس من الخزي والرمي بالحجارة المسوّمة التي رماهم بها من السماء (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) أي بأي نعم الله وأفضاله تشكّ وترتاب أيها المخلوق الضعيف المحتاج؟ فإن نعم الله سبحانه تدلّ على وحدانيته فكيف تنكرها وتجحد بوحدانيته؟ ولذلك عدّد سبحانه لك هذه النّقم التي حلّت بالأمم المعاندة الكافرة (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) النذير هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. والنّذر الأولى هم الذين سبقوه في الرسالة. وقيل إن هذه الأخبار التي سردها هي نذير لمن كان له فكر يتدبّر وعقل يتفكّر إذ (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي قربت القيامة ودنت وأصبحت

٥٤

ساعة القيامة قريبة و (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أي أنها إذا حلّت بالخلق وغمرتهم شدائدها وأهوالها ، لم يكشفها عنهم سوى الله عزوجل ولا يردّ أهوالها غيره (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) أي ما قدّمنا لكم من الأخبار. وفي المجمع عن الإمام الصادق عليه‌السلام معناه : أفمن هذا القرآن ونزوله من عند الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكونه معجزا. والحاصل هل من هذا القرآن الكريم وما فيه من أخبار (تَعْجَبُونَ) تتعجبون أيها الكفرة المشركون ، ومنه (تَضْحَكُونَ) استهزاء به (وَلا تَبْكُونَ) خوفا ممّا فيه من الوعيد فتمتنعون عمّا أنتم فيه من الجحود؟ (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي غافلون في غيّكم ، لا هون عن الحقّ ، معرضون عن إنذاره؟ (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) هذا أمر منه جلّ وعلا بالسجود له وبعبادته دون غيره بتمام الإيمان والإخلاص لنيل مرضاته والدخول في رحمته. والسجدة واجبة هنا بحسب ما ذهب إليه أصحابنا.

* * *

٥٥

سورة القمر

مكية إلّا الآيات ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٦ ، فمدنية وآياتها ٥٥ نزلت بعد الطارق.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥))

١ و ٢ ـ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ...) أي قربت ساعة الموت لجميع الناس التي تعقبها القيامة ، فخذوا حذركم منها وخذوا العدة. وأما انشقاق القمر ، فعن ابن عباس أنه اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فرقتين. فقال لهم رسول الله (ص) إن فعلت تؤمنون؟ قالوا : نعم. وكانت ليلة بدر. فسأل رسول الله (ص) ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشقّ القمر فرقتين ورسول

٥٦

الله ينادي يا فلان ويا فلان اشهدوا. وقال ابن مسعود : والذي نفسي بيده لقد رأيت حراء بين فلقتي القمر. وقال جبير بن مطعم : انشقّ القمر حتى صار فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل ، فقال ناس : سحرنا محمد ، وقال لهم رجل : إن كان سحركم فلم يسحر الناس كلهم. (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) أي إذا رأوا معجزة أو برهانا صادقا على نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ينصرفون عنها عنادا وكفرا ولا يتأمّلون ولا يفكّرون. والمقصود بهم قريش الذين لم ينقادوا للآيات حسدا وعنادا (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي أن الآيات التي يأتي بها محمد (ص) هي سحر قويّ ليس له نظير. ومستمرّ : يعني مستحكم وشديد ، وهذا القول تلفّظوا به حين انشقاق القمر.

٣ إلى ٥ ـ (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ...) العجيبة التي شاهدوها وعلموا بما وسوست لهم به نفوسهم وسوّل لهم هواهم وزيّن لهم الشيطان من باطلهم المقيمين عليه (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي أن الخير يستقر بأهله ، والشر يستقر بأهله ، يعني أن كل أمر ثابت على صاحبه حتى يجازى بحسبه فإمّا أن يثاب وإمّا أن يعاقب. وقيل إن كل أمر استقر يعني أنه سيظهر على حقيقته في الآخرة ويعرف كما هو واقعا (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) أي جاء الكفار من الأخبار العجيبة في القرآن التي وصف بها كفر من تقدّم من الأمم والنّقمة التي حلّت بهم حين أهلكهم الله تعالى ، فجاءهم من ذلك (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي ما فيه موعظة تزجر المرء عن العصيان والكفر والتكذيب (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) هذا القرآن العظيم هو أعظم حكمة بلغت الغاية في الوعظ والبيان (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) أي ما تفيد النّذر مع تكذيب هؤلاء المعاندين وكفرهم. والنّذر جمع نذير ، وهو المخوّف من عاقبة العصيان. و «ما» في (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) إمّا أنّها للجحد فهي حرف أي : فلا تغني النّذر ، وإمّا أنّها استفهام فتكون اسما ويكون التقدير : فأيّ شيء تغني النّذر.

* * *

٥٧

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠))

٦ إلى ٨ ـ (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ...) أي أعرض عنهم وانصرف عن عنادهم وسفههم وكفرهم ولا تعتن بما يقولون (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي يوم يدعوا إلى شيء منكر غير معروف ولا تعوّده الناس ، أو أنه أمر فظيع ينكرونه استعظاما لوقوعه. وقيل إن الداعي هو إسرافيل عليه‌السلام يوم يدعو الناس إلى المحشر في النفخة الثانية. وقيل بل هو من يدعوهم إلى النار بعد خروجهم من القبور وبعد الحساب. والحاصل أنه انتظر يا محمد إلى ذلك اليوم حيث يكونون (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) أي ذليلة أبصارهم خاضعة لهول الموقف ورؤية العذاب الشديد حين (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي من القبور ومفردها : جدث (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) وصف لكثرتهم وفيه تصوير لفزعهم ورعبهم واختلاط بعضهم ببعض كالجراد الذي يطير من ها هنا إلى ها هنا على غير هدى (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) أي حائين مقبلين نحو الذي دعاهم ومسرعين لإجابته حيث (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي هذا يوم صعب شديد الصعوبة ، يقولون ذلك يومئذ عند مواجهة العذاب الذي ينتظرهم.

٩ و ١٠ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ...) أي كذّب قبل كفّار مكة قوم نوح الذين (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا ، تماما كما كذّب قومك يا محمد وكما جحدوا نبوّتك ورسالتك ودعوتك (وَقالُوا) أي قوم نوح : هو

٥٨

(مَجْنُونٌ) أي قد طمس على عقله (وَازْدُجِرَ) أي زجروه وشتموه ورموه بكل قبيح افتراء عليه (فَدَعا رَبَّهُ) استغاث به قائلا (أَنِّي مَغْلُوبٌ) مع قومي مهان مظلوم (فَانْتَصِرْ) فانتقم لي منهم وانصرني عليهم ودمّرهم وأهلكهم لأنهم قهروني بالعناد ولم يقنعوا بحججي وبراهيني.

* * *

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧))

١١ إلى ١٥ ـ (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ...) هذا بيان منه سبحانه لاستجابته إلى دعاء نبيّه نوح عليه‌السلام ، فإنه حين دعا الله على قومه بالإهلاك فتح الله تعالى أبواب السماء وفجّرها بالمطر فأجرى الماء كأنه كان محصورا بباب انفتح عنه فانهمر : أي انصبّ انصبابا قويّا شديدا لا ينقطع (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أي شققناها فخرجت منها الينابيع حتى جرى ماء المطر وماء الينابيع على وجه الأرض فصارت طوفانا من الماء عجيبا (فَالْتَقَى الْماءُ) أي ماء السماء وماء الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي اجتمعنا من أجل إنجاز أمر قدّره الله سبحانه وهو إهلاك قوم نوح بالغرق ، كما قدّر ذلك عليهم في سابق علمه وسجّله في اللوح المحفوظ (وَحَمَلْناهُ) أي حملنا نوحا عليه‌السلام لننجيه من الغرق (عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) على سفينة مصنوعة من اللوح المركّب بعضه إلى بعض ، وهي أخشابها. والدّسر يعني المسامير التي شدّتها بعضها إلى بعض ، ثم

٥٩

راحت السفينة (تَجْرِي) تسير على الماء (بِأَعْيُنِنا) أي بحراستنا وحفظنا لها وبمرآنا تحفظها ملائكتنا الموكّلون بها سائرة على وجه الماء الذي أعددناه (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي إكراما لمن كفر به قومه ورفضت دعوته فجعلنا ذلك ثوابا له بأن نجّيناه وأغرقناهم لأنهم جحدوا رسالته ورفضوا الانصياع لأوامر ربّهم ونواهيه (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) أي أبقينا هذه الحادثة برهانا واضحا ودليلا ساطعا ، وعلامة يراها كلّ ذي لبّ فيعتبر بها (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) فهل في الناس من متذكّر ومتّعظ فيخاف بطش ربّه إذا عصاه؟

١٦ و ١٧ ـ (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ...) أي فكيف رأيتم انتقامي بعد إنذاري لكم بالعذاب أيها المعاندون لرسلي؟ وهذا استفهام يدل على التعظيم لشأن هذه الواقعة الأليمة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي أننا سهّلنا هذا القرآن للتلاوة والحفظ فلا يصعب فهمه ولا استيعاب ما فيه من عبر ، والتسهيل يدعو إليه ويجعله خفيفا على النفس سهلا على اللسان ، قريبا للقلب لحسن بيانه وظهور برهانه ووضوح معانيه وكثرة حكمه. وقد كرّر (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) رحمة بعباده ورأفة بهم فلعلّهم يتّعظون ويعتبرون بما في القرآن من الآيات والبيّنات.

* * *

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢))

١٨ إلى ٢٢ ـ (كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ...) أي كذّب قوم عاد رسولهم وهو هود عليه‌السلام ، فأهلكناهم بتكذيبهم له ، فكيف ترى أيها المخلوق عذابي لهم وإنذاري إيّاهم؟ ثم شرح سبحانه كيفيّة إهلاكهم فقال عزّ من قائل : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أي بعثنا عليهم

٦٠