الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧))

٦ و ٧ ـ (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ...) أي أسكنوا النساء المطّلقات في بيوتكم وحيثما سكنتم من مساكنكم التي في ملككم وما تقدرون عليه وما تجدونه من المساكن وبحسب طاقتكم ووسعكم بحسب الغنى والفقر فإنه لا بد للمطلّقة طلاقا رجعيّا من السكن والنفقة ، وشروط المطلّقة طلاقا بائنا فيه خلاف مذكور في مكانه من كتب الفقه وإن كان المشهور عن أئمتنا عليهم‌السلام أنه لا سكنى لها ولا نفقة ، ففي المرويّ عن الشعبي أنه قال : دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة فسألتها عن قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالت : طلّقني زوجي البتّة مخاصمته إلى رسول الله (ص) في السّكنى والنفقة فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة (وَلا تُضآرُّوهُنَ) أي لا تسبّبوا لهنّ ضررا بأن تقصّروا في سكناهنّ ونفقتهنّ (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) يعني لتضطرّوهن إلى الخروج من بيوت السكن أو لترك النفقة (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ) أي حوامل ، حبالى (فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) حتى يلدن لأن عدّتهنّ تنتهي حين الوضع ، وهذا أمر ماض بالنسبة للمطلّقة الرجعية أو المبتوتة (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) أولادكم منهنّ حال طلاقهن (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) فأعطوهنّ بدل الرضاع (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي اتّفقوا بالحسنى والجميل. وهذا أمر للرجل والمرأة على السواء ليتّفقا على ما يقبلان به معا (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) أي إذا حصل خلاف أوجب عسر الاتّفاق على أجر الرضاع ، فيحق أن ترضع للرجل امرأة أجنبيّة ، غير أمه (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أي على ذوي السعة أن يوسّعوا في النفقة وأجر الرضاع لأولادهم (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي من كان رزقه قليلا ومحدودا (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) يعني أنه يعطي بمقدار ما أعطاه الله تعالى وبحسب

١٨١

طاقته (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) أي لا يحمّلها فوق طاقتها وإمكانها ولا يكلّف أحدا ما لا يقدر عليه (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي بعد ضيق سعة وبعد الصعوبة سهولة فإن الفقر ليس ملكا ولا يدوم على أحد إلّا لمصلحة اقتضاها الله سبحانه لحكمة يجهلها العباد.

* * *

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١))

٨ إلى ١١ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها ...) أي وكم من أهل قرية عاندوا أمر ربّهم وتجاوزوا الحدّ في العصيان والتمرّد (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) أي جازيناها بعد محاسبتها وانتقمنا منها بأن دقّقنا معها الحساب ولم نرأف بها لعتوّها (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) أي كان عذابنا لها شديدا فظيعا لم ير مثله كأنه مستنكر عند من لم يعرفه (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) أي ذاقت عاقبة أمر الكفر الذي كانت عليه (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أي كانت نتيجة حالها خسارا في الدنيا والآخرة (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ

١٨٢

عَذاباً شَدِيداً) هو عذاب النار المعدّ الموجود حاضرا لها لحين ميعاده. وقيل إنه العذاب الأول هو عذاب الدنيا بالقتل والخسف وغيره من الآيات ، وأن هذا العذاب هو عذاب الآخرة (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي احذروه يا أصحاب العقول ولا تعملوا عمل هؤلاء المذكورين ، فإنكم أنتم (الَّذِينَ آمَنُوا) وهذا وصفهم. وقد خصّهم بالذكر لأنهم وحدهم ينتفعون بذلك دون غيرهم ، وقد قال لهم سبحانه أيضا : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) أي قد أنزل عليكم هذا القرآن الكريم. وقيل الذّكر هنا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو المرويّ عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، بدليل قوله تعالى : (رَسُولاً) أي نبيّا مبعوثا من عندنا ، واللفظة بدل من (ذِكْراً) والمراد به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقيل إنه جبرائيل عليه‌السلام ، ووصفه بالذّكر لتشريفه ، أي أنه ذو ذكر جميل (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) أي يقرأها عليكم واضحات لا لبس فيها (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ومن الجهل إلى المعرفة (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) مرّ تفسيرها (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) أي أنه يعطيه أحسن ممّا يعطي أيّ أحد من نعيم الجنّة.

* * *

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

١٢ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ...) أي خلق السماوات السبع وخلق مثلهنّ : سبع أرضين. ولم يرد في القرآن

١٨٣

الكريم ذكر لسبع أرضين إلّا في هذه الآية المباركة. وقد عبّر أن السماوات طباقا فوق بعضها ، ولكنه لم يصف الأرضين أنها طباق ولا غير ذلك ، وهو سبحانه أعلم بما خلق ، ولعلهنّ جميعهن تحت السماء الدنيا وفي أنحاء الفضاء. ولكن في العياشي عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام أنه قال ـ كما عن الحسين بن خالد ـ : بسط كفّه ثم وضع اليمنى عليها فقال : هذه الأرض الدنيا والسماء الدنيا عليها قبّة ، والأرض الثانية فوق السماء الدنيا والسماء الثانية فوقها قبّة ، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية والسماء الثالثة فوقها قبّة ، حتى ذكر الرابعة والخامسة والسادسة فقال : والأرض السابعة فوق السماء السادسة والسماء السابعة فوقها قبّة ، وعرش الرحمان فوق السماء السابعة ، وهو قوله : (سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أي يتنزل الأمر لنبيّنا (ص) من فوق السماوات والأرضين ، وكذلك ينزل الملائكة بأمر ربّهم فيما بينهن بالحياة والموت والرزق وتصريف الأمور بحسب الحكمة وغير ذلك (لِتَعْلَمُوا) لتعرفوا (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قادر لذاته على تصريف أمور ما خلقه (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) أي أنه لا يفوته شيء ممّا يجري في مخلوقاته.

* * *

١٨٤

سورة التحريم

مدنيّة وآياتها ١٢ نزلت بعد الحجرات.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢))

١ و ٢ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ...) الخطاب له صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهل بيته يسأله مسبحا فيه متلطفا به : لم تجعل الحلال لك حراما على نفسك؟ وسبب نزول هذا السؤال في هذه الآية المباركة كان محلّ خلاف بين المفسّرين ، وقد قالوا : إن رسول الله (ص) كان إذا صلّى الغداة يدخل على نسائه واحدة بعد واحدة ، وكانت زينب بنت جحش قد أهديت لها عكّة من عسل فكانت إذا دخل عليها النبيّ (ص) تحبسه حتى تسقيه منه ، وأن عائشة أنكرت احتباسه وعرفت أنها تسقيه العسل مدافا بالماء ، فاجتمعت إلى حفصة وبعض صواحبها

١٨٥

وقالت لهنّ : إذا دخل عليكنّ رسول الله (ص) فقلن له : إنّا نجد منك ريح المغافير ـ وهو صمغ العرفط الكريه الرائحة الذي قد تقع عليه النحلة ـ. وكان رسول الله (ص) يكره أن يصدر منه ريح غير طيّبة لأنه يأتيه الملك عليه‌السلام. فدخل على حفصة فقالت : يا رسول الله ما هذه الريح التي أجدها منك ، أكلت المغافير؟ فقال : لا ، ولكن زينب سقتني عسلا. ثم دخل على عائشة فأخذت بأنفها فقال لها : ما شأنك؟ قالت أجد ريح المغافير ، أكلتها يا رسول الله؟ فقال : لا ، بل سقتني زينب عسلا. فقالت : جرست ـ أي لحست ـ نحلها العرفط. فقال (ص) : لن أعود إليه فنزلت الآيات.

وقيل أيضا إنه كان قد قسم الأيام بين نسائه ، فلمّا كان يوم حفصة قالت : يا رسول الله إن لي إلى أبي حاجة ، فأذن لي أن آتيه. فأذن لها ، فلما خرجت أرسل رسول الله (ص) إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة ، فرجعت حفصة فوجدتها عنده في بيتها ، فقالت : إنما أذنت لي من أجل أن أدخلت أمتك بيتي ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي؟ أما ما رأيت لي حرمة وحقّا؟ فقال (ص) أليس هي جاريتي قد أحلّ الله ذلك لي؟ اسكتي فهي حرام عليّ ولا تجزي بهذا امرأة منهنّ وهو عندك أمانة. ولكنها أخبرت عائشة لأنهما كانتا متصافيتين فنزلت الآيات الكريمة. والحاصل أنه سبحانه قد ناداه قائلا (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) تشريفا له وتعليما للمكلّفين كيف يخاطبونه : لم تحرّم على نفسك بعض الأشياء اللذيذة (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) أي طلبا لرضاهنّ مع أنهنّ هنّ أحقّ بطلب رضاك. وهذا لا يشكّل ذنبا كبيرا ولا صغيرا إذ لا عجب أن يحرّم الرجل على نفسه لذة ما ، أو امرأة ما ، لسبب أو لغير سبب ، بل ليس هذا الأمر بقبيح أصلا لأنه من الأمور الشخصية التي ليس فيها أيّة معصية ، وهو صلوات الله وسلامه عليه قال : خيركم ، خيركم لنسائه. لأنه لم يكن خير منه لنسائه بين الناس (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعفو عن عباده ويرحمهم إذا

١٨٦

فعلوا الأولى بالتقوى (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي قد قدّر لكم ما تتحلّلون به من أيمانكم إذا حصلت منكم ، ثم شرع لكم أن تحنثوا بها لتنحلّ ، والتحلّة هي الكفارة المتوجّبة على من أراد أن يرجع عن يمينه ليستبيح ما حرّمه على نفسه. وقد بيّن سبحانه أن التحريم لا يحصل إلّا بأمره سبحانه ونهيه ، ولا يصير الشيء حراما إلّا إذا حلف الإنسان على تركه وحينئذ ينبغي عليه التكفير. وعن مقاتل قال : أمر الله نبيّه (ص) أن يكفّر يمينه ويراجع وليدته (مارية) فأعتق رقبة وعاد إليها (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) أي أنه هو سبحانه وليكم أيّها المؤمنون وحافظكم ومتولّي أموركم وينصركم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما فيه مصالحكم (الْحَكِيمُ) في تدبيركم وفي إنزال أوامره ونواهيه. وقيل هو العليم بما قالت عائشة لحفصة.

* * *

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥))

٣ إلى ٥ ـ (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ ...) أي حين أسرّ (ص) إلى حفصة زوجته (حَدِيثاً) أي كلاما أمرها بكتمانه وعدم إفشائه لأن السرّ ينبغي إخفاؤه (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أي أخبرت غيرها بما أسرّ به إليها

١٨٧

رسول الله (ص) ، (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أي أطلع نبيّه (ص) على ما وقع من حفصة من إفشاء سرّه (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي عرّف النبيّ (ص) حفصة بعض ما ذكرت وأخبرها به ، وترك بعض ما ذكرت ولم يخبرها به ولم يعاتبها. وهذا يدل بأنه (ص) قد علم بكل ما قالته لأن إعراضه عن بعض يدل على تمام معرفته ، وهذا من كرم خلقه (ص) فلم يستعص معها كلّ ما عرفه من قولها (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أي حين أخبرها بما علم من أمرها بعد أن أظهره الله تعالى على ذلك (قالَتْ) حفصة له : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) يعني من عرّفك إياه وأخبرك به؟ (قالَ) صلى‌الله‌عليه‌وآله : (نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) أي أخبرني به العليم بجميع الأمور ، الخبير بذوات الصدور. ثم خاطب سبحانه عائشة وحفصة معا : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) من المعاونة على إيذاء النبيّ (ص) والاتفاق عليه فقد وجبت عليكما التوبة مما كان منكما ، فإن تفعلا ذلك (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي مالت إلى الإثم كما عن ابن عباس ومجاهد ، وقيل : عدلت عن الثواب إلى ما يوجب الإثم فيما فعلتما. وقيل معناه : إن تبتما قبل الله توبتكما (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) أي تتظاهرا وتتعاونا على إيذائه وتتّفقا. وفي المجمع عن ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطاب : من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله (ص)؟ قال : عائشة وحفصة ، وأورده البخاري في صحيحة. فإن تتّفقا عليه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) أي حافظه وناصره والقائم بحياطته (وَجِبْرِيلُ) كذلك مولاه (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) يعني الأخيار منهم هم أولياؤه أيضا. وفي المجمع أن الخاصّ والعامّ روى أن المراد بصالح المؤمنين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) أي والملائكة أعوانه بعد الله تعالى وجبرائيل عليه‌السلام وصالح المؤمنين. ولفظة (ظَهِيرٌ) هي للواحد ولكنها تؤدّي معنى الجمع وذلك كقوله تعالى : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) ، أي رفقاء (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ) أي واجب منه سبحانه إن طلّقكنّ يا نساء النبيّ (أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) أي

١٨٨

أن يعطيه بدلكنّ من هنّ أصلح له بحيث يكنّ (مُسْلِماتٍ) أي راضيات بأمر الله (مُؤْمِناتٍ) مصدّقات بالله وبرسوله وبكل ما جاء عن الله عزوجل (قانِتاتٍ) أي خاضعات خاشعات لله ومطيعات لأزواجهن (تائِباتٍ) مستغفرات من الذنوب ونادمات على كلّ تقصير (عابِداتٍ) مصلّيات لله تعالى قائمات بالفروض والسّنن (سائِحاتٍ) مرضيات في الطاعة ، وقيل صائمات لأن الصائم يمسك عن الطعام ويستمر عليه كاستمرار السائح في سياحته في الأرض (ثَيِّباتٍ) وهنّ اللواتي افتضّ أزواجهنّ بكاراتهنّ (وَأَبْكاراً) أي عذارى لم يصرن زوجات.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩))

١٨٩

٦ إلى ٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ...) انتقل سبحانه إلى خطاب المؤمنين فأمرهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم من النار ، أي أن يحفظوها ويمنعوها من النار ، وذلك بالصبر على الطاعات وبالامتناع عن المعاصي ، ولا تتهاونوا بأهلكم بأن تعلّموهم ذلك وتعوّدوهم عليه ، وهذه دعوة لأن يؤدّب المرء عياله بأدب الدّين ويعلّمهم تعاليمه ، ومنهم خدمه وإماؤه ومن كان يعوله ، فيجب أن يقوا أنفسهم من النار التي (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي أن حطبها من الناس وحجارتها من الكبريت الذي يلتهب ويزيد في اشتعال النار ولهبها وحرارتها (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) أي أنه موكلّ بها ملائكة غلاظ القلوب أقوياء لا يرحمون أهل النار ولا يعطفون عليهم ، وهم زبانيتها التسعة عشر ومساعدوهم (لا يَعْصُونَ اللهَ) في شيء (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) لا يخالفون ما حكم به على العصاة ولا تأخذهم بأحد رحمة. ثم ذكر ما يقال للكفار يومئذ فقال تبارك وتعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) أي أنهم حين يعذّبون بذنوبهم يشرعون في الاعتذار عمّا فرط منهم فيقال لهم : دعوا أعذاركم التي لا تسمع لأنكم (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إنما تلقون جزاء أعمالكم التي فعلتموها. وعاد سبحانه يخاطب المؤمنين لما يجب عليهم في دار العمل والتكليف فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ) أقلعوا عن معاصيه وارجعوا إلى طاعته ولتكن توبتكم (تَوْبَةً نَصُوحاً) أي خالصة لوجه الله. وعن ابن عباس أنه قال : قال معاذ بن جبل : يا رسول الله ما التوبة النّصوح؟ قال : أن يتوب التائب ثم لا يرجع في ذنب كما لا يعود اللّبن في الضّرع. فهي إذن أن يناصح الإنسان نفسه بالنّدم الخالص والعزم على عدم العودة ، لأنها استغفار في اللسان وندم في القلب وإمساك عن الذّنب (عَسى رَبُّكُمْ) أي توبوا بأمل أن ربّكم سبحانه وتعالى أوجب عليه نفسه أن (يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) يمحوها عنكم ويسترها (وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)

١٩٠

فيثيبكم بها بعد أن يحط عنكم ذنوبكم ، وذلك (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي لا يذلّهم بل يعزّهم بإعطائهم الثواب الجزيل ويشفّع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمؤمنين ويرفع من درجته وكرامته بذلك (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) مرّ تفسيره في سورة الحديد (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) أي اجعله تامّا لنا بفضلك وكرمك. وعبارة (يَقُولُونَ رَبَّنا) في محل نصب على الحال ، والتقدير : قائلين ذلك. وقيل (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) مبتدأ ، و (نُورُهُمْ يَسْعى) خبره ، و (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) خبر آخر من الذين آمنوا وحال منهم (وَاغْفِرْ لَنا) أي اعف عن معاصينا وذنوبنا (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) واضح المعنى. وعاد سبحانه لخطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) أي قاتلهم وحاربهم (وَ) جاهد (الْمُنافِقِينَ) بالقول لردعهم عن كل ما يفعلونه من قبائح. فابذل جهدك مع هؤلاء ومع هؤلاء. وفي المجمع عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قرأ : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) ثم قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقاتل منافقا قط ، إنما كان يتألّفهم (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي اشدد عليهم ،! والغلظة على المنافقين هنا هي إقامة الحدّ (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وهي مآلهم ومستقرّهم.

* * *

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ

١٩١

مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

١٠ إلى آخر السورة ـ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي ذكر سبحانه مثلا على الكفار بقوله : إن (امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) أي كانتا زوجتين لنبيّين من رسلنا وعبادنا الصالحين (فَخانَتاهُما) فلم تحفظا رسالتهما ولا عملتا بدينهما وكانتا كافرتين. وقد قال ابن عباس : كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس إنه مجنون ، وإذا آمن واحد بنوح تخبر الجبابرة من قومها ليعذّبوه. وكانت امرأة لوط تدلّ على أضيافه ليقصدوهم بالفاحشة ، وهذه هي خيانتهما ، وما بغت امرأة نبيّ قط وإنما كانت الخيانة في الدّين (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لم يغن نوح ولا لوط عن زوجته شيئا من العذاب مع أنهما نبيّين ، ولم تنفع واحدة منهنّ نبوّة زوجها لأنها كانت كافرة (وَقِيلَ) أي يقال لهما يوم القيامة : (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) فأنتما من أهل النار معهم. وقيل إن اسم امرأة نوح : واغلة ، واسم امرأة لوط : واهلة ، وقيل هما : والغة ووالهة (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أي وأعطى وذكر مثلا (لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) وهي آسية بنت مزاحم رضوان الله عليها ، فإنها لمّا رأت معجزة العصا من موسى عليه‌السلام وشاهدت غلبته للسّحرة آمنت وأسلمت ، وعلم فرعون بإيمانها فنهاها عن ذلك فامتنعت أشدّ امتناع ، فعاقبها بأن شدّ يديها ورجليها بالحبال إلى أربعة أوتاد في مكان معرّض للشمس ، ثم ألقى

١٩٢

عليها صخرة عظيمة. ولما وافاها الأجل (قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) فرفعها الله سبحانه إليه شهيدة تأكل وتشرب ويأتيها رزقها الدائم مع الشهداء والصالحين. فقد دعت ربّها بذلك وقالت (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) أي خلّصني منه ومن كفره ودينه الذي هو عليه (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي من أعوان فرعون الظالمين لأنفسهم ولغيرهم. وقال مقاتل : يقول الله سبحانه لعائشة وحفصة : لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم ابنة عمران الذي قال تعالى فيها : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي منعته من دنس المعصية وكانت عفيفة عن الحرام ممتنعة عن الأزواج ولم تبتغ رجلا ولا زوجا (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) أي نفخ جبرائيل عليه‌السلام بأمرنا في جيبها وخلق الله تعالى عيسى عليه‌السلام من تلك النفخة فصار حيّا (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) آمنت بما جاء عن ربّها على لسان رسله وبما أوحاه لهم ولملائكته ، (و) صدّقت ب (كتبه) المنزلة على رسله كالتوراة والإنجيل (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أي من المطيعين لله تعالى. ولم يقل (مِنَ الْقانِتِينَ) لأن أهلها كانوا كذلك نساء ورجالا ، فغلّب سبحانه المذكّر على المؤنث.

وفي المجمع عن معاذ بن جبل أنه قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على خديجة وهي تجود بنفسها فقال : أكره ما نزل بك يا خديجة ، وقد جعل الله في الكره خيرا كثيرا. فإذا قدمت على ضرّاتك فاقرئيهنّ منّي السلام. قالت : يا رسول الله : ومن هنّ؟ قال : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وحليمة أو كليمة أخت موسى ـ والشكّ من الراوي ـ فقالت : بالرفاء والبنين.

* * *

١٩٣

سورة الملك

مكيّة وآياتها ٣٠ نزلت بعد الطّور.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤))

١ إلى ٤ ـ (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ...) أي تعالى الله عمن كلّ ما لا يجوز عليه ، وعظم شأنه باستحقاقه الربوبيّة والمعبودية ، والملك والسلطان بيده والتدبير بإرادته ووفق حكمته. وقد ذكر اليد جريا على الاصطلاح لأن أكثر التصرّفات تكون باليد (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تجري الأمور كما يشاء من عطاء وحرمان وقضاء ، وهو (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) أي جعل الموت حقّا على العباد وتعبّدهم بالصبر عليه والتسليم لأمر الله فحمده

١٩٤

المؤمنون به على السرّاء والضراء وشكروه على النعمة والرّخاء ، فكان الموت آية منه تعالى للاعتبار ، وكانت الحياة للتزوّد وعمل الصالحات ، وكان ذلك منه (لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم أيها الناس (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أيّ أيّكم أكثر امتثالا لأوامر الله تعالى واجتنابا لنواهيه ، ومن يكون منكم أورع عن محارم الله وأطوع وأسرع في طاعته (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) المنيع الذي ينتقم ممّن عصاه ولا يستعطى عليه شيء في حين أنه يتجاوز عن ذنوب التائبين ويغفر لهم سيئاتهم ويعفو عنهم إذا تابوا وأنابوا ، وهو (الَّذِي خَلَقَ) أي أنشأ من العدم (سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) جعلهنّ واحدة فوق الأخرى متشابهات في اتفاق الخلق لأحكام الصّنع (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) أي ليس فيه اختلاف من ناحية الحكمة وإن كانت المخلوقات مختلفة من حيث هيئاتها وصورها. وفي المجتمع أن في هذا دلالة على أن الكفر والمعاصي لا يكون من خلق الله لكثرة التفاوت في ذلك (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) أي أدره أيها الإنسان في الخلق واستقص إيجاد السماوات (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) هل تنظر فيها من شقوق أو خلل (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي كرّر النظر ليبين لك الشيء أكثر فأكثر (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) يرجع إليك نظرك فاشلا لم ينل ما كان يتمنّاه من رؤية الخلل ، بل يعود حسيرا : كالّا قد عجز عن رؤية وهن وعاد في إعياء خائبا عن أن يرى ما يخالف الإتقان وكامل الحكمة.

* * *

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا

١٩٥

بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١))

٥ ـ (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ ...) أقسم سبحانه وحقق قسمه باللام وو بعد ، بأنه حسّن السماء وزخرفها بمصابيح : أي بنجوم وكواكب مضيئة ، وواحدها مصباح أي سراج (وَجَعَلْناها) أي جعلنا الكواكب (رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) نرجم الشياطين منها بشهب حين يسترقون السمع (وَأَعْتَدْنا) أي هيّأنا وأعددنا لهم للشياطين (عَذابَ السَّعِيرِ) عذاب النار المسعرة التي يظهر لهيب اشتعالها.

٦ ـ (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) : بعد أن توعّد سبحانه الشياطين الذين يدعون الناس إلى الكفر ، ذكر الكفّار الذين يطيعونهم ويتّبعون هوى نفوسهم فقال : إن لهم عذاب جهنم ، وبئس ذلك المآل الذي يصيرون إليه. وقد ذمّ مرجعهم (ببئس) لأنه مرجع سوء لما يصيرون إليه من عذاب وهوان.

٧ إلى ٩ ـ (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً ...) أي إذا طرح الكفار في نار جهنّم سمعوا لها صوتا مخيفا يشبه صوت غليان الماء في القدر فتصطك لذلك أسماعهم وتنخلع أفئدتهم من الفزع والهول (وَهِيَ تَفُورُ) أي تغلي كغلي القدر ، و (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) أي تكاد تتفرّق وتصير قطعا من شدّة الغضب المتجلّي في التهابها الشديد فحالها كحال المغتاظ الغاضب ، فهي تتلقّى الكفار بالهيجان واللهب المحرق ، و (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) أي كلّما طرحت في جهنم جماعة من الكفار (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) قال لهم خزّان جهنّم وملائكة العذاب قائلين : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) أي : ألم يجيئكم

١٩٦

محذّر يخوّفكم من هذا المصير التعيس؟ (قالُوا بَلى) ردّوا بالإيجاب مصرّحين بنعم (قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا) فلم نصدّقه (وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) فلم نقبل منه وأنكرنا أن تكون دعوته صادرة عن الله تعالى ، فيجيبهم الملائكة قائلين : (إذن أنتم) أي ما أنتم (إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) أي في ذهاب عن الصواب وضياع عن الحق.

١٠ و ١١ ـ (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ...) فأجاب الكفرة قائلين : لو كنّا نسمع من الرّسل في دار الدنيا ، أو نعقل ما قالوه لنا ونميّز الحقّ من الباطل (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) ما كنّا من أهل النار الملتهبة. وفي الحديث عن ابن عمر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن الرجل ليكون من أهل الجهاد ومن أهل الصلاة والصيام ، وممّن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وما يجزى يوم القيامة إلا على قدر عقله (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) أي أقرّوا بما ارتكبوه من الكفر والعناد ولم يسعهم إلّا الإقرار (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) أي أسحق الله أهل النار وأبعدهم من النجاة. وهذا دعاء يدل على غضبه سبحانه وتعالى عليهم.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤))

١٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ...) أي أن الذين يخافون عذاب ربّهم حال كونهم غائبين عن رؤية ذلك العذاب ، ومصدّقين به لمجرّد أقوال رسله الكرام ، فأولئك لهم عفو من ربّهم وتجاوز عن ذنوبهم

١٩٧

(وَ) لهم (أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي ثواب عظيم لا فناء له ولا نفاد. ولفظة «بالغيب» في محل نصب على الحال والتقدير : يخشون عذاب الله غائبين عن رؤيته ، أو غائب عن رؤيتهم.

١٣ و ١٤ ـ (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ...) أي أن الله سبحانه يعلم السّر والظاهر ، ويعرف ما تّسرّون وما تعلنون ، فأبطنوا ما شئتم أو بوحوا به فإن ذلك لا يخفى عليه سبحانه لأنه يعلم ما في الضمائر (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يعرف ما في القلوب ويطّلع على ما يدور في النفوس (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) أي : أفلا يعلم ما في القلوب من خلق القلوب ، ألا يعرف السرّ من خلق السّر والعلن؟ بلى ، إن الخالق تعالى عالم بمخلوقاته وبكل ما يصدر عنهم (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أي العارف بأدقّ الأمور ، العالم بعباده وبأعمالهم المطّلع على سائر أحوالهم وأفعالهم.

* * *

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨))

١٥ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً ...) أي جعلها مسخّرة سهلة مذعنة تصنعون فيها ما تريدون فلا تمتنع منكم ،

١٩٨

وتمشون في سهلها وحزنها ، لأنه تعالى وطّأها لكم تتمكّنون منها ومن زراعتها (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) أي سيروا في طرقاتها ، وقيل إن المنكب هو أعلى الشيء ، يعني سيروا في جبالها لمنافعكم وتجاراتكم وفي سبيل ما أباحه لكم من الطاعات والمباحات (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي مما أعطاكم من غلال جبالها وسهولها (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي إليه سبحانه يكون البعث ، وإلى حكمه يرجع العباد يوم النشور بعد الموت والقيام للمحاسبة على الأعمال.

١٦ و ١٧ ـ (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ...) يعني هل أمنتم عذاب الله تعالى الذي في السماء سلطانه ، وأمره وتدبيره ، وفي الأرض تجري حكمته وتقديره؟ فهل أمنتم منه أن يأمر ملائكة العذاب فيخسف بكم الأرض بأن يشقها ويغرقكم فيها إذا عصيتموه (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أي تضطرب وتتحرّك كما يجري أثناء الهزّات والزلازل؟ والمور هو التردد في الذهاب والإياب كما يجري لموج البحر مثلا (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) وهل أنتم في أمان من أن يرسل سبحانه عليكم ريحا تحمل الحجارة والحصي وتحصبكم بها كما فعل بقوم لوط وغيرهم ، (فَسَتَعْلَمُونَ) حين الحصب بالحجارة من السماء (كَيْفَ نَذِيرِ) أي كيف إنذاري وتخويفي لكم من عاقبة العصيان حين ترون العذاب.

١٨ ـ (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي كذّبوا رسلي وكفروا بآياتي وجحدوا بربوبيّتي (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي فانظر كيف كان إنكاري لعملهم وعقوبتي لهم حين أنزلت عليهم العذاب ودمّرتهم وأهلكتهم كما جرى في الأمم السابقة.

* * *

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ

١٩٩

وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤))

١٩ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ ...) أي ألم ينظروا إلى الطيور محلّقة في الجو تصفّ أجنحتها في الهواء فوقهم؟ وقد نبّه سبحانه إلى ذلك ليبيّن أن من أقدر الطير على ذلك يقدر على الخسف وإرسال الحجارة في السماء لإنزال العذاب بالمعاندين. أفلا يرون إلى من يحمل الطير في الهواء بقدرته (وَ) هنّ (يَقْبِضْنَ) أجنحتهن بعد بسطها ، فتارة يفعلن هذا وتارة هذا وكأنهن يسبحن في بحر من الهواء كالسابح في الماء؟ و (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) فهو جلّت قدرته يمسك الطير بما وطّأ له من الهواء ، ومن سخّر الهواء على هذا الشكل يكون على كل شيء قدير و (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) أي أنه عليم بجميع الأشياء ولا يفوت علمه شيء في الأرض ولا في السماء.

٢٠ ـ (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ ...) بعد أن بيّن سبحانه قدرته على جميع الأشياء أورد هذا الاستفهام الإنكاري ، ومعناه : ليس لكم جند ينصركم مني مع قدرتي الظاهرة على كل شيء ، ولا قوّة لكم

٢٠٠