الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

تمنعكم من عذابي إذا عصيتموني ، إذ لا جند لكم يردّ العذاب عنكم ، ولا أصنامكم تقدر على حمايتكم من غضبي (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي ليسوا إلا مغشوشين ومغرورين من الشيطان الذي يطغهم ويغويهم.

٢١ ـ (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ...) أي ماذا يفعل من تدّعون أنه رازقكم إن أمسك الله تعالى عنكم أسباب رزقه فمنع المطر فأجدبت الأرض مثلا ، فمن يرزقكم غير الله إذا منع عنكم رزقه؟ (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي لقد تمادوا في تجاوزهم للحد ونفورهم من الحق وبعدهم عن الإيمان وتلبّسهم بالكفر فعموا وصمّوا.

٢٢ ـ (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى ...) هذا مثل محسوس للمؤمن والكافر ، فقد سأل سبحانه : هل أنّ الذي يمشي منكسا رأسه الى الأرض لا ينظر الى الطريق أمامه ولا يرى من على يمينه أو على شماله يكون أهدى للطريق (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) مستويا منتصبا ينظر أمامه وإلى جميع جهاته ويعرف أين يضع قدميه وأين يقصد متمكنا من عدم الضلال ومن دفع المحاذير لأنه يسير (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) طريق واضح لا عوج فيه فيصل إلى أهدافه ويحقق مآربه؟.

٢٣ ـ (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ ...) يعني : قل يا محمد لهؤلاء الكفرة المعاندين : إنّ الله سبحانه هو الذي أوجدكم من كتم العدم ، ثم خلق لكم ما تسمعون به الأصوات وما تبصرون به الأشياء ، وجعل لكم (الْأَفْئِدَةَ) أي القلوب التي تتدبّرون بها وتعقلون الأمور ، وبذلك أعطاكم جميع إمكانيات التفكير والتقدير لتميّزوا الأشياء ولتصلوا إلى معرفة الخالق العظيم القادر ، وقد فعل بكم ذلك (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي ولكنكم تشكرونه قليلا. وقليلا صفة لمصدر محذوف ، والتقدير : وتشكرون شكرا قليلا.

٢٤ ـ (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ...) أي قل لهم يا محمد : إن

٢٠١

الله تعالى هو الذي خلقكم في الأرض وبثّكم فيها (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون إليه بعد أن تبعثوا في يوم القيامة احياء ليجازيكم على أعمالكم في الدنيا.

* * *

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

٢٥ ـ و ٢٦ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ :) أي أن الكفّار والمعاندين يرون البعث مستحيلا ويرون العذاب بطيئا أو غير كائن ، فيقولون : متى يجيء العذاب في الدنيا من خسف أو رمي بالحجارة أو متى يكون عذاب الآخرة إن كنتم أيها الرّسل صادقين في قولكم؟ ف (قُلْ) يا محمد لهؤلاء السائلين المنكرين : (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) فلا يعلم ساعة العذاب ولا ساعة القيامة غير الله تبارك وتعالى (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) وما أنا سوى مخوّف لكم ، موضح لكم معالم الطريق ، هاد إلى الحق ، مبعد عن الضلال ، أبيّن لكم ما أنزل الله تعالى عليّ من الأحكام والشرائع ،

٢٠٢

ومن الوعد والوعيد ولا أعلم إلّا ما علّمني ربّي.

٢٧ ـ (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي فلما شاهدوا العذاب قريبا منهم يوم القيامة ، وعلى هذا فاللفظ في الماضي ولكنه أريد به المستقبل لأنه واقع لا محالة ، فعندها تسودّ وجوههم بالسوء ويغمرها الغمّ والحزن والكآبة والخزي (وَقِيلَ) لهم توبيخا حين يرون العذاب : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي هذا الذي كنتم تدعون الوصول إليه ، فقد قال الغراء : تدّعون ، وتدعون واحد. فالذي كنتم تستعجلون حصوله قد حصل وأنتم وجها لوجه مع الجنّة والنار والحساب والثواب والعقاب وأنواع النعيم وأنواع العذاب. وفي المجمع عن الباقر عليه‌السلام : فلمّا رأوا مكان عليّ عليه‌السلام من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، سيئت وجوه الذين كفروا ، يعني الذين كذّبوا بفضله ، وفيه أن الأعمش قال : لمّا رأوا لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام عند الله من الزّلفى ، سيئت وجوه الذين كفروا.

٢٨ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ ...) يعني قل يا محمد للكفّار الذين عاندوا دعوتك : ماذا بيدي لو شاء الله فأهلكني بالموت وأمات من معي من الأتباع (أَوْ) إن شاء ف (رَحِمَنا) بتأخير آجالنا لنعمل بطاعته ونستزيد من ثوابه ، ولكن (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) إذا نزل بهم بعد أن استحقّوه بالكفر والعناد ، ومن يرفع عنهم ذلك العذاب إذا أنزله الله تعالى بهم ، وقد قيل إن الكافرين كانوا يتمنّون موت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وموت أصحابه ؛ فقال له الله تبارك وتعالى قل لهم يا محمد إن أماتني الله وأمات أصحابي أو أبقانا فرحمنا فهو وليّنا ، ولكن من الذي يؤمّنكم من العذاب حين وقوعه بكم ولا رجاء لكم كرجائنا بربّنا عزوجل؟.

٢٩ ـ (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا ...) يعني قل يا محمد

٢٠٣

للكافرين مؤنّبا لهم وموبّخا : إن الذي أدعوكم إلى طاعته ورجاء عفوه هو الرّحمان الذي عمّ لطفه الخلائق ، وقد صدّقنا به واعتمدنا عليه في أمورنا وفوّضناها إليه (فَسَتَعْلَمُونَ) أيها الكافرون يوم البعث والحساب (مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في ذلك اليوم نحن أم أنتم. وقريء : فسيعلمون : أي فسيعرف الكفار ذلك يوم القيامة.

٣٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً ...) يعني اسألهم يا محمد : كيف بكم إذا أصبح ماؤكم غائرا ناضبا في الآبار والعيون بحيث جفّت كلها وحبس الله تعالى عنكم المطر لتستعيضوا عنه (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي من غيره عزوجل يقدر أن يأتيكم بماء تشاهدونه بعيونكم وقيل إن الماء المعين هو الذي تناله الدّلاء.

* * *

٢٠٤

سورة القلم

مكيّة إلّا من ١٧ الى ٢٣ ومن ٤٨ إلى ٥٠ فمدنيّة وآياتها ٥٢ نزلت بعد العلق.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧))

١ إلى ٤ ـ (ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ...) قد اختلف المفسّرون في معنى (ن) فقال بعضهم : هو اسم من أسماء السورة مثل ص ، ق ، حم وإلخ ... وقال بعضهم : هو الموت ، وقال آخرون : هو حرف من حروف (الرَّحْمنِ) وقيل : بل هو لوح من نور ، وفي المجمع ـ مرفوعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو نهر في الجنّة قال الله له : كن مدادا ، فجمد ، وكان أبيض من الّلبن وأحلى من الشّهد ، ثم قال للقلم : اكتب ، فكتب القلم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة. وروي ذلك

٢٠٥

عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام. فقد أقسم الله تعالى ب (ن) كائنا ما كان من هذه الأشياء الدالّة على عظمته سبحانه وقدرته في مخلوقاته (وَ) أقسم ب (الْقَلَمِ) الذي يكتب به به لمنافع الإنسان لأنه لسانه الثاني الذي يترجم عن فكره وينقل إلى الآخرين معلوماته وأفكاره ودعوته إلى الحق ، وما يكتبه لا يفنى ولا يذهب كما يذهب كلام اللسان بل يبقى إلى الأبد فيراه القريب والبعيد. لذا أقسم به سبحانه (وَ) ب (ما يَسْطُرُونَ) أي بما يكتبه الملائكة المكلّفون بما يوحى إليهم ، والملائكة الحفظة من أعمال بني آدم ، فأقسم عزوجل بذلك كلّه قائلا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) يعني لست يا محمد بجاهل لنعمة ربّك التي أنعم بها عليك ، ولا هي تغيب عن وعيك كما تغيب الأشياء عن وعي المجانين ، فلست ناسيا لما منحك الله سبحانه من النبؤة وكمال العقل وجليل الحكمة. وهذا ردّ لقول الكافرين به الذين قالوا له : يا أيّها الذي نزّل عليه الذّكر إنك لمجنون. فقد نفى عنه سبحانه الجنون وردّ عليهم قائلا : (وَإِنَّ لَكَ) يا محمد (لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي أن لك ثوابا على أداء الرسالة وتحمّل أعباء الدعوة غير مقطوع ، فلا تهتمّ بأقوالهم ولا تنزعج من كلامهم ونعتهم لك بهذه النعوت التي أنت بعيد عنها فثوابنا لك يوم القيامة سيكون غير مكدّر بالمنّ بل سنعطيك من نعمنا في الجنّة بغير حساب. وعن ابن عباس قال : ليس من نبيّ إلّا وله مثل أجر من آمن به ودخل في دينه ... وبعد أن برّأه الله تعالى ممّا يقول الظالمون قال له سبحانه (وَإِنَّكَ) يا محمد (لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) أي انك متخلّق بأخلاق الإسلام العالية ، ومتطبّع على أحسن الأخلاق وأجمل الآداب ، وأنت إلى جانب سمّو أخلاقك ورفيع صفاتك تتحمل الصعوبات في حمل الدعوة ، وتصبر على أداء الرسالة ، وتتجاوز وتعفو عمّن ظلمك ، وتبسط جناحك لمن آمن بك وتعاشر الناس بأسمى أخلاقهم وأعلى صفاتهم حتى صرت المثل الأعلى في الأخلاق وأدب المعاشرة وجمعت مكارم الأخلاق. وفي الصحيح

٢٠٦

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّما بعثت لأتّمم مكارم الأخلاق ، وقوله : أدّبني ربّي فأحسن تأديبي. فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله على خلق عظيم كما قال عنه بارئه جلّ وعلا.

٥ و ٦ ـ (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ :) اي فسترى يا محمد ، ويرى الذين قالوا إنك لمجنون ، بأيّكم المفتون ، يعني : من منكم المجنون ، والفتنة هنا تعني الجنون ، فستعلم يا رسولنا غدا يوم القيامة ، ويعلم أعداؤك والمعاندون لك ، أيّ الفريقين منكم هو المفتّن الضالّ عن الحق الذي استحوذ عليه الشيطان.

٧ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ...) أي ان ربّك يا محمد أدرى بالمنحرف عن سبيله التي هي سبيل الحق وبمن ضلّ وتاه عنها بغروره وكبريائه (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي وهو أعرف بمن اهتدى إلى طريق الحق من العالمين ، وهو يجازي كلّ واحد بما يستحقه من ثواب أو عقاب بحسب عمله. وفي المجمع عن الضحاك بن مزاحم قال : لمّا رأت قريش تقديم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا عليه‌السلام وإعظامه له ، قالوا من عليّ وقالوا : قد افتتنّ به محمد. فأنزل الله تعالى : (ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ :) قسم أقسم الله به : ما أنت يا محمد بنعمة ربك بمجنون وإنك لعلى خلق عظيم ـ يعني القرآن ـ إلى قوله : (بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) : وهم النفر الذين قالوا ما قالوا ، وهو اعلم بالمهتدين : علي بن أبي طالبعليه‌السلام.

* * *

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ

٢٠٧

بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦))

٨ و ٩ ـ (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ :) أي لا تكن مطيعا للمكذبين بتوحيد الله تعالى والجاحدين لوجوده ولنبوّتك ، ولا توافقهم فيما يريدون منك ، لأنهم يحبّون أن تداهنهم في دينك وتلين لهم فيلينون لك ويتظاهرون بمسايرتك وبتصديقك وينافقون في إظهار التصديق وإضمار العداوة والتكذيب لك ، فهم يحبّون أن تصانعهم فيصانعوك كذبا وزورا.

١٠ إلى ١٦ ـ (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ ...) ولا تركن يا محمد لكثير الحلف بالباطل من جهة قلة مبالاته بالكذب لأنه مهين : أي ذليل عند الله وعند سائر الناس وقيل إنها نزلت بالوليد بن المغيرة الذي عرض المال على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليرجع عن دينه ، وقيل نزلت في غيره من كل همّاز أي وقّاع في الناس كثير الغيبة لهم ، مشاء بنميم ساع بينهم بالنميمة يعمل على ضرب بعضهم ببعض (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) بخيل مقترّ بالمال ، فقد قيل إن هذا الكافر قال : من دخل في دين محمد فإنني لا أنفعه بشيء أبدا ، ولا تطع كل (مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي المتعدي على الحق المجاوز له الفاجر الذي يرتكب الآثام الظالم لنفسه ولغيره (عُتُلٍ) فاحش سيء الخلق (بَعْدَ ذلِكَ) من الصفات القبيحة شديد الكفر والخصومة بالباطل (زَنِيمٍ) أي دعيّ قد ألصق بقوم وألحق بهم ليس هو منهم في النّسب فصار يعرف بذلك كما تعرف العنزة بزنمتها أي باللّحمة المدلّاة في عنقها شبه القرط في الأذن. وعن عليّ عليه‌السلام أن الزنيم هو الذي لا أصل

٢٠٨

له. وقد قال ابن قتيبة : لا نعلم أن الله وصف أحدا وبلغ من ذكر عيوبه ما بلغ من ذكر عيوب الوليد بن المغيرة لأنه وصف بالحلف والمهانة والعيب للناس والمشي بالنمائم والبخل والظلم والإثم والجفوة والدعوة ، فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة .. (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أي لا تطعه يا محمد لمجرّد كونه صاحب مال وذا بنين» وقيل إن الآية تقرأ بالاستفهام ، ومعناها : ألأن كان ذا مال وبنين يجحد بآياتنا؟ وهل جعل الجحود بدل النّعم التي خوّلناه إياها وصار (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا ، قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) اي إذا قرئت عليه آيات كتابنا الكريم قال إن ذلك ممّا سطّره الأوّلون في أحاديثهم الخرافية ولا أصل لها؟ ولذلك توعّده الله سبحانه بقوله : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي سنشوّهه يوم القيامة بسمة على أنفه والخرطوم هو الأنف كما لا يخفى نطبعها بسفّود من نار فيعرفه بها كل من رآه ويعلم أنه من أهل النار. وقد خص الوسم بالأنف لأن الإنسان يعرف بوجهه وشكل أنفه لوقوعه وسط الوجه. وعلى كل حال سيعرف المجرمون يوم القيامة بسيماهم اسوداد وجوههم ، وسيعرف الوليد ابن المغيرة بهذا الوسم الذي يعيبه زيادة عن غيره لشدة كفره وعناده للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

* * *

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها

٢٠٩

قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣))

١٧ و ١٨ ـ (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ ...) يعني إننا اختبرنا أهل مكة بالقحط والمجاعة كما اختبرنا أصحاب ذلك البستان الذي فيه الشجر الوارف والثمار اليانعة. وقيل إنه كان لشيخ مؤمن في اليمن كان يأخذ من ثمره قدر كفايته وكفاية عائلته ثمّ يتصدّق بجميع ما بقي من ثمره الكثير. فلما توفي قال أولاده : نحن أحقّ بهذا الثمر الكثير من الفقراء ولن نصنع كما صنع أبونا ، وذلك (إِذْ أَقْسَمُوا) أي حيث اجتمعوا وحلفوا فيما بينهم (لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) أي ليقطفنّ ثمرها عند الصباح ، والصّرم للنخل بمنزلة الحصاد للزرع والقطف للثمار ، وقد تقاسموا على ذلك (وَلا يَسْتَثْنُونَ) في أيمانهم ، أي لم يقولوا : إن شاء الله. وهذا من باب : لأفعلنّ ذلك الأمر غدا إلّا أن يشاء الله ، فهو استثناء كما هو ظاهر ، والمعنى : إلّا أن يشاء الله منعي عن الفعل.

١٩ و ٢٠ ـ (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ ...) أي طرقها طارق من أمر الله أتاحه ربّك (وَهُمْ نائِمُونَ) في الليلة التي حلفوا فيها وقرروا قطع ثمرها (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) فاحترقت بتلك النار التي طرقتها بأمر الله عزّ وعلا. والصّريم هو الليل المظلم ، والصّريمان هما الليل والنهار ، لانصرام أحدهما من الآخر ، أي انفصاله عنه. وقيل بل الصّريم هو

٢١٠

البستان التي قطعت ثماره.

٢١ إلى ٢٥ ـ (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ ، أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ ...) أي نادى بعضهم بعضا عند الصباح قائلين لبعضهم : هيّا الى ما حرثتم من زرعكم لتقطفوا ثماره ، والحرث هو الزرع والأعناب وما شابهما فامضوا إليه (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي إذا قرّرتم قطع ثمار النخل كما اتّفقنا (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) أي مضوا إلى عملهم وهم يتسارّون فيما بينهم يوسوس بعضهم لبعض ، يجب أن لا يدخل حديقتنا اليوم مسكين ولا فقير يقاسمنا ثمرها (وَغَدَوْا) مشوا غدوة ، صباحا (عَلى حَرْدٍ) على قصد منع الفقراء (قادِرِينَ) مقدّرين في أنفسهم وذلك لمنع الفقراء ، ولإحراز جميع ما في حديقتهم من ثمر. وقيل ؛ الحرد هو الغضب والحنق على الفقراء ، ولذلك بكّروا في الرواح إليها قبل أن يعرف بذلك أحد.

٢٦ و ٢٧ ـ (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ...) أي فلمّا شاهدوا حديقتهم على تلك الصنعة من الحرق وتلف الثمار قالوا : ضللنا الطريق ، وليس هنا حديقتنا ، ولا هذا بستاننا. وقيل بل معناه : إنّا لضالّون عن طريق الحق ولذلك نلنا عقاب ضلالنا بذهاب ثمر بستاننا ، ثم استدركوا فقالوا : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) يعني ان هذه هي حديقتنا فعلا ولكننا حرمنا خيرها لأننا قررّنا منع حقوق المساكين والفقراء فيها.

٢٨ و ٢٩ ـ (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ ...) أي قال أعقلهم وأفضلهم قولا ، وقيل هو أوسطهم سنّا قال لهم : ألم احذّركم سوء قولكم وفعلكم ، فكأنّه كان قد نبّههم إلى أن ينبغي لهم أن يتوكّلوا على الله وأن يعتقدوا أنه لا قدرة لأحد على شيء إلّا بمشيئته عزوجل ، وقد سمّى ذلك تسبيحا لأنه تعظيم لشأن الله عزّ وعلا وتنزيه له ومعناه : هلّا تذكرون نعم الله تعالى عليكم فتشكرونه عليها بإخراج حقّ الفقراء والمساكين من

٢١١

أموالكم (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) تنزيها له وتعظيما وقد ظلمنا أنفسنا حين عزمنا على حرمنا المساكين حقّهم ، وقالوا : (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا ويضرنا بقولنا الذي قلناه وفعلنا الذي فعلناه.

٣٠ إلى ٣٣ ـ (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ...) أي أخذ يلوم بعضهم بعضا على ما كان منهم من تفريط و (قالُوا) فيما بينهم : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي قد أسرفنا في الظلم وتجاوزنا الحدود فيه. والويل هو الوقوع في المكروه والمشقّة (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) أي لعل الله تعالى يخلف علينا ما هو خير من هذه الحديقة التي أتلفتها آية من آيات ربّنا بسبب سوء تصرّفنا ، وقد تّبنا إلى ربّنا و (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) بعد توبتنا مما فرط منّا (كَذلِكَ) أي مثل هذا الذي جرى يكون (الْعَذابُ) للعاصين في الدنيا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) منه وأعظم وأشد إيلاما وأطول مدة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لو عقلوا ذلك وآمنوا به.

* * *

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩))

٣٤ ـ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ :) بعد أن ذكر قصة أصحاب الحديقة وتوبتهم وذكر عذاب العاصين في الدنيا وشدة عذابهم في الآخرة ، عقّب سبحانه بما أعدّه للمؤمنين الذين يتجنّبون سخطه ويطلبون

٢١٢

مرضاته فقال إن لهم الجنّة يتلذّذون بنعيمها ويتقلّبون في خيراتها ومسرّاتها ، ثم قال تعالى :

٣٥ إلى ٣٨ ـ (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ...) هذا استفهام إنكار ، أي لا نجعل المسلمين لنا كالمشركين بنا في الجزاء والثواب ، لأن الذين ارتكبوا جرم الكفر وعدم التصديق بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكانوا يقولون إن كان محمد صادقا فيما وعد به من البعث والحساب فإننا سنكون أحسن حالا ممّن اتّبعوه ، فوبّخهم الله تعالى وقال لا تكون حال المسلم والمجرم سواء في الآخرة (ما لَكُمْ) ماذا دهاكم (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي كيف تقضون بذلك من عندكم؟ وهذا تقريع شديد لهم واستهزاء بهم ، إذ لو كانوا ذوي عقول لما حكموا بذلك. و (كَيْفَ) هنا في محل نصب على الحال ، والتقدير : أجائرين تحكمون أم عادلين. كما يجوز أن تكون في محل مصدر بتقدير : أيّ حكم تحكمون ، وحينئذ تكون (تَحْكُمُونَ) في محل النصب على الحال : اي أيّ شيء ثبت لكم حال حكمكم كذلك (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) أي هل لكم كتاب لا تتعدّون أحكامه وشرائعه تعملون بما فيه ولا تلتفتون إلى ما يخالف أحكامه؟ وبما أنكم ليس لديكم ذلك فإن القرآن الكريم حجة عليكم ودلالاته قائمة إلى قيام الساعة وهي تلزمكم وتدينكم (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ) أي في كتابكم الذي هو غير موجود فعلا (لَما تَخَيَّرُونَ) ما تختارونه منه ، والأمر خلاف ذلك وعلى غير ما تهوى أنفسكم.

٣٩ ـ (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ...) أي هل لكم مواثيق مؤكّدة عاهدناكم بها تدوم الى يوم القيامة ولا يمكن نقضها معكم؟ (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) يعني ما تقضون به لأنفسكم من الكرامة عند الله يوم حساب الخلائق. وهذا يعني أنّ ليس لهم ذلك قطعا ، ولذلك أتبعه بقوله عزوجل فيما يلي :

* * *

٢١٣

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥))

٤٠ و ٤١ ـ (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ، أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ ...) أي اسألهم با محمد : من يكفل لهم في الآخرة أن يكون لهم ما للمسلمين من الكرامة والعفو والمغفرة والرضوان؟ (أَمْ) أنهم ذوو شركاء وشفعاء يشفعون لهم يوم الدين؟ (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) فليجيئوا بأولئك الشركاء الذين يعبدونهم مع الله ، والذين يدفعون عنهم سخط الله وعذابه (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في دعواهم.

٤٢ و ٤٣ ـ (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ...) أي فليجيئوا بشركائهم الذين عبدوهم مع الله في ذلك اليوم الذي تبدو فيه الأهوال قائمة على قدم وساق بحيث لا يردّها شيء حين تشتد ، ويطلب منهم على وجه التوبيخ أن يسجدوا لربّهم (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) فلا يقدرون على أداء السجود الذي يلجأ إليه الخائف من الأمر العظيم ليكشفه الله سبحانه عنه كما يفعل المؤمنون في دار الدنيا ، فتراهم (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) أي ذليلة منكّسة إلى الأرض من الفزع والندم (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) تغشاهم مهانة فتتعبهم وتثقل كواهلهم (وَقَدْ كانُوا) في الدنيا (يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) لربّهم (وَهُمْ سالِمُونَ) ناجون من هذه الآفات ،

٢١٤

أصحّاء يتمكّنون من الإتيان به حين أمروا بالصلاة فلم يفعلوا. وفي المرويّ عن الصادقين عليهما‌السلام أنهما قالا : في هذه الآية أفحم القوم ودخلتهم الهيبة وشخصت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر لما رهقهم من الندامة والخزي والمذلّة ، وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ، أي يستطيعون الأخذ بما أمروا به والتّرك لما نهوا عنه ، ولذلك ابتلوا. وقال قتادة ومجاهد : يؤذّن المؤذّن يوم القيامة فيسجد المؤمن ، وتصلب ظهور المنافقين ، فيصير سجود المؤمنين حسرة على المنافقين وندامة.

٤٤ و ٤٥ ـ (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ...) أي فاترك يا محمد أمر هؤلاء المنافقين لي. وهذا كقولك : دعني وإياه ، أو : اتركه عليّ. وهذا يعني : خلّ بيني وبين المكذّبين بهذا الحديث : أي القرآن ولا تشغل نفسك بأمرهم فأنا أكفيك ذلك (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سنأخذهم للعذاب استدراجا (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) فيصلون إليه دون ان يشعروا كيف اقتدناهم إليه (وَ) أنا (أُمْلِي لَهُمْ) أطيل أعمارهم ولا أستعجل عذابهم لأنهم لن يهربوا من ملكي وسلطاني (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) إن تدبيري قويّ محكم وعذابي شديد.

* * *

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

٢١٥

٤٦ و ٤٧ ـ (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً ...) الخطاب موجه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومعطوف على قوله السابق : أم لكم كتاب فيه تدرسون ، وهو يعني أم تسأل يا محمد هؤلاء الكفّار أجرا على أداء الرسالة والدعوة إلى عبادة الله (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي فإنهم يستثقلون لزوم ذلك عليهم (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أي هل عندهم معرفة صادقة بصحة ما يزعمونه ولا يعرف ذلك غيرهم (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) يسجّلون ذلك الذي يظهرونه من مزاعمهم كأنهم استأثروا بمعرفتها وحدهم ،.

٤٨ إلى ٥٠ ـ (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ...) أي اصبر يا محمد على ما تلقاه في سبيل إبلاغ دعوتك إلى أن يحكم الله تعالى بنصرك عليهم فتقهرهم وتكون لك الغلبة عليهم ، ولا تكن كيونس عليه‌السلام ـ الذي هو صاحب الحوت ـ الذي استعجل عقاب قومه ودعا بإهلاكهم وخرج من بينهم منتظرا نزول العذاب عليهم. فلا تخرج من بين قومك حتى نأذن لك ولا تفعل فعل صاحب الحوت الذي (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) لولا أن أدركته رحمة ربّه وشمله عفوه حين دعا ربّه قائلا : لا إله إلّا أنت ، سبحانك إني كنت من الظالمين ، لما نجا ، ولكنه استجاب له وخلّصه من بطن الحوت كما مرّ في قصته. فلو لا أنه أدركته رحمة ربّه (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) أي طرح في الفضاء (وَهُوَ مَذْمُومٌ) ملوم على ما فعله من استعجال عقاب قومه ، ولكنه تاب وأناب فنّجاه الله وسمع دعائه (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) اختاره نبيّا (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) المرضيّين عنده المطيعين له.

٥١ و ٥٢ ـ (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ ...) لفظة (إِنْ) هذه ، هي المخففة من (إِنْ) وتقدير الكلام : وإنّه يكاد ، أي يوشك ويقارب الذين كفروا أن يزلقونك : يزهقونك بأبصارهم فيقتلونك بالإصابة بالعين. وقيل معناه : ينظرون إليك عند تلاوة القرآن والدعاء الى التوحيد ، نظر عداوة وبغض وإنكار لما يسمعونه وتعجّب منه ، فيكادون

٢١٦

يصرعونك بحدّة نظرهم ويزيلونك عن موضعك.

وفي كلام العرب : نظر إليّ فلان نظرا يكاد يصرعني ، ونظرا يكاد يأكلني فيه ... وقد كان حصل منهم ذلك (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) حين سماع تلاوته للقرآن الكريم (وَيَقُولُونَ) حينئذ : (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) قد غلب على عقله (وَما هُوَ) أي القرآن ما هو (إِلَّا ذِكْرٌ) شرف (لِلْعالَمِينَ) للناس وسائر المخلوقات إلى ان تقوم الساعة ، إن معناه : وما محمد إلّا شرف للخلق لأنه ارشدهم وهداهم وخلّصهم من الضلال.

* * *

٢١٧

سورة الحاقة

مكية وآياتها ٥٢ نزلت بعد الملك.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠))

١ إلى ٣ ـ (الْحَاقَّةُ ، مَا الْحَاقَّةُ ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ ...) الحاقة : من حقّ ، أي وجب. وهي هنا تعني القيامة لأنها يوم المحاقّة والمخاصمة وإعطاء كل امرئ ما يستحق. فالقيامة هي الحاقة الواجبة الصدق والحصول بسائر أحداثها وأحكامها. ومعنى ما الحاقة ؛ استفهام معناه

٢١٨

التعظيم لشأن يوم القيامة الذي افتتح هذه السورة المباركة بذكره. ثمّ زاد في التخويف منه بقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) وأنت لا تعلمها إذا لم ترها بعينك ولم تشاهد أهوالها ولو كنت تعلمها بالصفة التي وصفناها لك؟ ثم ضرب سبحانه مثلا عمّن كذّب بيوم القيامة وحاق به سوء تكذيبه فقال عزّ من قائل :

٤ إلى ٨ ـ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ ...) أي كذّب هؤلاء القومان بيوم القيامة الذي كنّى سبحانه عنه بالقارعة لأنها صفة له هائلة جعلها بعد الكناية بالحاقّة ، فإنه يقرع الأسماع بما فيه من مخاوف بل يقرع جميع الحواس. ثم بيّن كيفية إهلاكهما فقال تعالى : (فَأَمَّا ثَمُودُ) الذين هم قوم صالح (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) يعني أبيدوا ودمّروا بالصيحة الطاغية التي تجاوزت المقدار الذي يحتمله الإنسان ، وقيل هي الرجفة ، وقيل عنى طغيانهم وكفرهم (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) أي دمّروا بالريح الشديدة البرد التي عتت في شدة هبوبها وشدة بردها (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ) أي سلّطها وأرسلها مسخّرة بأمره (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) وهي الأيام التي تدعوها العرب : أيام العجوز لأنه قيل إن عجوزا منهم دخلت سربا تحت الأرض فلحقت بها الريح فقتلتها في اليوم الثامن من نزول العذاب ، وقيل دعيت كذلك لأنها تأتي في عجز الشتاء ، أي في آخره ، وقد أتت تلك الليالي والأيام (حُسُوماً) أي متتابعة ليس بينها فترة حتى استأصلتهم وحسمت وجودهم (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى) أي مصروعين في تلك الأيام وقد وقعوا أرضا (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) أي كأنهم أصول نخل بالية قد نخرها القدم فهي جوفاء خاوية قد بلي لبّها (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) أي من نفس باقية ، أو من بقية من آثارهم.

٩ و ١٠ ـ (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ ...) مرّ تفسيره سابقا ، أي وجاء بعدهم فرعون ومن سبقه بطغيانهم وكفرهم وعنادهم (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) يعني وتبعهم أهل القرى المؤتفكات التي انقلبت بأهلها وصار عاليها سافلها وهي

٢١٩

قرى قوم لوط الذين ائتفكوا وانقلبوا (بِالْخاطِئَةِ) أي بخطاياهم وذنوبهم التي هي الشّرك وسائر الكبائر التي ارتكبوها (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) لم يطيعوا أمره ولا امتثلوا لما دعاهم إليه من الخير (فَأَخَذَهُمْ) الله عزوجل بالعذاب عقوبة لهم (أَخْذَةً رابِيَةً) أي أخذا زائدا في الشدّة تفوق عذاب الأمم من قبلهم لأنهم كانوا مصرّين على فعل المنكرات.

* * *

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨))

١١ و ١٢ ـ (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ...) يتحدث في هاتين الآيتين الكريمتين عن قصة نوح عليه‌السلام والطوفان الذي أغرق الكفرة من قومه ، فلمّا طغى ماء الطوفان اي جاوز الحد المألوف حتى أغرق الأرض ومن بقي عليها ولم يلجأ إلى سفينة نوح (ع) (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) أي حملنا آباءكم السابقين في السفينة التي كانت تجري على سطح الماء (لِنَجْعَلَها) أي لنجعل تلك الفعلة (لَكُمْ تَذْكِرَةً) عبرة تعتبرون بها وتتفكّرون بكمال قدرة الله عزوجل وتمام حكمته (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)

٢٢٠