الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

عليهم تسلّطا يجعلك حقيقا بإجبارهم على الإيمان ، ولا أنت مكلّف بذلك ، بل الواجب عليك التذكير والإنذار وتبليغ الدعوة إلى الحق ، وأنت لا تتحمّل وزر رفضهم لدعوتك (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) أي سوى من انصرف عن تذكيرك ودعوتك ولم يستفد منها وكفر بما جئت به ، فكأنك لست مذكّرا له لأنه لا يقبل منك ، فدع أمره إلى الله (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) أي يتولى إدخاله في جهنم والخلود فيها ، ولا عذاب أكبر من الخلود في النار. فلا تهتمّ يا محمد بمن نفر وكفر ف (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) أي إن مرجعهم بعد الموت إلينا وكذلك مصيرهم يوم القيامة (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) أي محاسبتهم لإثابتهم أو مجازاتهم ، فإن الآية الكريمة تشمل الوعد والوعيد ، فمهما عاندوك وآذوك فإنهم صائرون إلينا وهم لا يفوتون حكمنا وسترى كيف نفعل بأعدائك وبالمكابرين لدعوتك والمعاندين لأمرك.

* * *

٣٦١

سورة الفجر

مكيّة وآياتها ٣٠ نزلت بعد الليل.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤))

١ ـ ١٤ ـ (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ...) هذا قسم منه سبحانه بالفجر الذي هو انفجار الصبح في كلّ نهار ، وقيل هو فجر ذي الحجة خاصة لأنه ذكر بعده الليالي العشر ، وقيل هو فجر المحرّم لأنه تتجدد عنده السنة ، وقيل غير ذلك. والقسم بالفجر بحد ذاته يدل على

٣٦٢

عظمة مفجّره بقدرته حيث قدّر دوران الأرض ومنازل الشمس وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل. أما ذكر الليالي العشر والقسم بها ، فذلك لأنها أيام الحج التي شرّفها الله ورغّب الناس فيها بالعمل الصالح. وفي قول أنها العشر الأواخر من شهر رمضان ، وأنها العشر التي أتم الله بها ميقات موسى عليه‌السلام ، والأول أقرب للمعقول. ثم عطف على قسمه سبحانه قوله : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) أي الزوج والفرد من العدد. وقيل إن ذلك لما في الحساب من النفع للناس. وقيل هي كل ما خلقه الله تعالى لأن جميع الأشياء إما زوج وإما فرد. وفي رواية ابن حصين عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : الشفع والوتر : الصلاة ، ومنها شفع ومنها وتر. وعن الصادقين عليهما‌السلام : الشفع بوم التروية والوتر يوم عرفة. وقيل أخيرا : الشفع الأيام والليالي والوتر : اليوم الذي لا ليل بعده ، وهو يوم القيامة ، كما قيل : الشفع : عليّ وفاطمة عليهما‌السلام ، والوتر : محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله تعالى أعلم بما قال (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) أي إذا سار وأدبر ومضى بظلامه ، فإن سيره ذاك ، المرتّب من لدن خالق عظيم مدبّر ، يدل على عظمة خالقه ومدبّره على تلك الحال. وسير الليل إنما هو تابع لسير الشمس وحركة الأرض في الفلك ، وهو آية عظمي من آيات الله تبارك وتعالى ولذلك استحقّت عظمة الخالق أن يقسم به (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ؟) أي هل في ذكر هذه الأيمان التي أقسم بها سبحانه يمين تقنع صاحب العقل؟ وهذا يعني أن من كان ذا عقل ولبّ يقتنع بهذه الأيمان ، ومن كان ذا عقل ولبّ علم أن ما أقسم الله تعالى به من هذه المذكورات فيه عجائب وغرائب تدل على وحدانية موجدها وعلى عظمة صنعه وبديع تدبيره وحكمته. (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ؟) هذه الحكاية اعتراض بين القسم المذكور وجوابه الذي لم يأت بعد. وهي خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتنبيه للكفرة والمعاندين له على ما جرى لمن سبقهم لمّا كفروا بالله وبأنبيائه وكتبه كعاد قوم هود

٣٦٣

المذكورين في هذه الشريفة. أما لفظة (إِرَمَ) فقالوا هو اسم قبيلة من قوم عاد كان فيها الملك فقد كان (عادان) وإرم هي عاد الأولى ، وقيل هو جدّ عاد المعروف بعاد بن عوص بن إرم إلخ ... وقيل هو اسم بلد هي دمشق ، كما قيل إنه لقب لعاد ، وأن الحسن قرأ : بعاد إرم ، على الإضافة. ومن جعله بلدا فالتقدير : بعاد صاحب إرم ، و (ذاتِ الْعِمادِ) العماد جمعه عمد وهو ما تبنى به الأبنية والقصور ، ويستعمل في الشّرف فيقال : فلان رفيع العماد ، وقيل معناه ذات الطول والشدة ، وقيل إنهم كانوا طوال القامات فقال سبحانه في وصفهم (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوة وعمارة الأجسام ، وهم الذين قالوا : من أشدّ منّا قوة ، وقيل إن الواحد منهم كان يحمل الصخرة ويرميها على الحيّ من الناس فيهلكهم والأصح ـ والعلم عند الله تعالى أن ذات العماد : ذات الأبنية العالية القائمة على الأعمدة القوية ، التي لم يخلق مثل أعمدتها وأبنيتها في جميع البلاد (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) أي ألم تر كيف فعل ربّك بثمود؟ وهذا عطف على سابقه. فثمود هم الذين قطعوا الصخر في الوادي الذي كانوا يسكنونها وهي وادي القرى. وعن ابن عباس أنهم كانوا ينحتون الجبال الصّخريّة فيجعلون منها بيوتا (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) أي فرعون موسى ، صاحب الجنود الذين كانوا يشيدون ملكه ويقوّون سلطانه وقد دعاهم سبحانه ، أوتادا. وقيل : إنه كان يعذّب أعداءه بأربعة أوتاد يشدّهم فيها باليدين والرّجلين ثم يتركهم مشدودين حتى يموتوا. وقد فعل ذلك مع امرأته آسية بنت مزاحم رضوان الله عليها لأنها آمنت بموسى عليه‌السلام وكفرت بربوبيّة فرعون ، ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت وقد ذكرنا ذلك في صورة ص. فهل رأيت يا محمد ما فعل ربّك بهؤلاء القوم (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) كما طغى قوم عاد وثمود ، أي تجبّروا وعصوا أنبياء الله وعملوا بالمعاصي (فَأَكْثَرُوا فِيهَا) أي في البلاد (الْفَسادَ) أي

٣٦٤

القتل والمعاصي على اختلافها (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) أي فجعل السوط الذي ضربهم فيه وأهلكهم عذاب الإهلاك في الدنيا قبل الآخرة. وقد أجرى سبحانه على العذاب لفظ (سوط) لأنه ألقى عليهم العذاب وصبّه عليهم كما يصب الإنسان ضربات سوطه على عدوه حتى يهلكه (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) أي أنه يترصد عباده ولا يفوته شيء ممّا هم فيه لأنه سامع ناظر إلى سائر أحوالهم. وروي عن عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أن معناه : إن ربّك قادر على أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم. كما أنه روي أن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد. وهذا يعني أنه سبحانه يراقب عبده وينتصف منه إذا ارتكب مظلمة بحقّ نفسه أو بحق غيره. وقد قيل : إن ربّك لبالمرصاد ، هو جواب القسم. وقيل أيضا : جواب القسم محذوف وتقديره : ليقبضنّ الله على كل ظالم.

* * *

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ

٣٦٥

راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

١٥ ـ آخر السورة ـ (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ...) أي إذا امتحنه واختبره (فَأَكْرَمَهُ) بأن أعطاه النّعم الكثيرة (وَنَعَّمَهُ) جعل عيشه رغيدا بما أفاض عليه من الرزق والصحة والأمن والزوج والولد (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) أي أنه يسر بذلك ويقول إن ربّي وهبني ذلك كلّه لكرامتي عنده ، وهو يظن أن كرامته عند الله تعالى تتجلّى بسعة الدنيا التي أعطاه إياها (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) بالحاجة أو الفقر التام (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) يعني فضيقه عليه وقتّره (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) أي أنه يظن بينه وبين نفسه أنه ليس في محل كرامة من الله تعالى ، وأنه أذله بالفقر وأنزل فيه المسكنة والحاجة (كَلَّا) أي : ليس كما ظنّ هذا ولا كما ظنّ ذاك ، فإنني لا أعطي الإنسان لكرامته عندي ، ولا أحرمه لهوانه عليّ ، ولكني أعطي من أشاء وأمنع عمّن أشاء بحسب حكمتي وتدبيري ووفق ما يقتضي صلاح العبد ، أمّا إكرامي فيكون على الطاعات ، وأمّا إهانتي فتكون على المعاصي ... ثم فصّل سبحانه بعض المعاصي فقال : (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) أي الولد الذي لا أب له فإنكم لا تعطونه ممّا وهبكم الله ، ولا تغنوه عن ذل السؤال والحاجة. وذكر سبحانه اليتيم خاصة لأنه القاصر الذي لا كافل له يتولّى أمره ، ولذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة ، وأشار بالسبّابة والوسطى (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي لا تحثون على إطعامه ولا تتواصون بالصدقة عليه. وقرئ : لا تحاضّون أي : لا يحضّ بعضكم بعضا (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) أي الميراث الذي يتركه الميّت ، وقيل هو هنا أموال اليتامى لأن الميراث الحلال لا يلام الوارث على أكله. وقد كانوا لا يورّثون النساء والصبيان ويأكلون سهامهم ، فأنتم تأكلون ذلك (أَكْلاً لَمًّا) أي أكلا تلمّون به جميعا بحيث تأخذون نصيبكم ونصيب غيركم ، ولا تفكّرون في الطيّب

٣٦٦

والخبيث والحلال والحرام (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) أي شديدا وأنتم مولعون به تحبّون كثرته وتحرصون عليه ولا تنفقون زكاته ولا تعطون يتيما ولا مسكينا ولا صاحب حاجة (كَلَّا) أي لا يكون الأمر كذلك ولو فعلتموه. و (كَلَّا) كلمة زجر وروع معناه : لا ، لا تفعلوا هكذا ، ولذلك خوّف سبحانه الناس عاقبة هذا الفعل بقوله : كلا (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي إذا زلزلت وانخسفت وتهدّم كل ما عليها ، وقيل إذا دقّت جبالها واستوى أديمها وزالت بيوتها وقصورها وصارت كالصحراء (وَجاءَ رَبُّكَ) أي جاء أمر ربّك وحكمه وقضاؤه في يوم القيامة حين يحاسب العباد. وقيل إذا جاءت آياته الهائلة التي تدل على قدرته وتكون من آثار وجوده الدالّ على حضوره بمعرفة وجوده وقدرته من دون ظهوره إلى الخلق إذ جلّ من أن يرى أو يتصوّر في الأوهام لأنه ليس بجسم ولا تحتويه الفكر. وإن زوال الشك في أنه هل هو موجود أم لا ، والإيمان بوجوده ، هو بمثابة مجيئه بعد رفع الشك بوجوده ... أجل ، فإذا جاء أمر ربّك (وَالْمَلَكُ) وكان الملائكة حينئذ (صَفًّا صَفًّا) حيث يكون أهل كل السماء صفّا وحده كما عن عطاء. وقيل إنهم يكونون سبعة صفوف محيطين بالأرض يأتي الصف الأول ثم الثاني فالثالث إلخ ... (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) يعني كشف عنها وأحضرت لمعاقبة من يستحقونها فيرى أهل الموقف جميعا أهوالها. وقد قال أبو سعيد الخدري : لمّا نزلت هذه الآية تغيّر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله. (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي يوم يجاء بجهنم يتّعظ الإنسان الكافر ويعتبر ويتوب (وَ) لكن (أَنَّى لَهُ الذِّكْرى؟) أي ومن أين له أن ينفعه التذكّر والاعتبار والتوبة ، وقد كان ينبغي له أن يتذكّر ويعتبر في دار الدنيا ، وأن يتوب عمّا جناه على نفسه ويعمل لآخرته لينجو من النار وغضب الجبّار ، وهو الآن يقول : (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) أي يتمنّى لو أنه عمل بالطاعات وفعل الصالحات لحياته الأبديّة أي للحياة

٣٦٧

الحقيقية التي تدوم ، يوم كان يعب في حياته الدنيا الفانية (فَيَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) أي لا يعذب عذاب الله سبحانه أحد من المخلوقين ، فإن عذابه أصعب من كل عذاب ، وآلم من كل ألم ، وهو يبقى ويفنى كل معذّب غيره ويفنى عذابه معه ، إلّا عذاب الله فهو دائم خالد (وَ) هو كذلك (لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) أي لا يكبّل الكفار بسلاسل النار كما يكبلهم ملائكة العذاب الذين أوكل إليهم أمر جهنّم (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) أي الآمنة المؤمنة المصدّقة بالثواب ، المطيعة التي اطمأنّت إلى حسن عاقبتها ، العالمة ببشارتها بالجنّة والرضوان : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) عودي إلى رحمة ربّك وثوابه ، وهذا يقال لها عند الموت ، فارجعي إلى النعيم الذي وعدت به (راضِيَةً) بذلك الأجر العظيم والثواب الجسيم (مَرْضِيَّةً) أعمالك عند ربّك قد أثابك عليها أحسن الثواب فرضي عنك وأرضاك (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) كوني في زمرتهم ومعهم (وَادْخُلِي جَنَّتِي) التي وعدت بها عبادي الصالحين وأعددت لهم نعيمها المقيم الدائم السرمد.

* * *

٣٦٨

سورة البلد.

مكيّة وآياتها ٢٠ نزلت بعد ق.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥))

١ ـ ٥ ـ (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ...) تقدّم أن هذا معناه : أقسم بهذا البلد ، وأن (لا) زائدة. أما (الْبَلَدِ) فهي مكة بإجماع المفسّرين يعني أحلف ببلدك يا محمد (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) أي مقيم فيه ، والذي زاد شرفا بحلولك فيه لأنك الداعي إلى توحيد الله وعبادته ، فالقسم بمكة وبه صلى‌الله‌عليه‌وآله كأنّه قسم به وقد وقع من أجل حلوله به ، وذلك كتسمية المدينة (طيبة) لأنها طابت وطهرت بوجوده (حِلٌ) فيها. وقد قرئ (وأنت محل بهذا البلد) وهو من الإحلال ، يعني أنك تّحل فيه قتل من فيه من الكافرين حين فتح مكة ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم قاتل في مكة : لا يحلّ لأحد قبلي ولا يحلّ لأحد من بعدي ، ولم يحلّ لي إلّا ساعة من نهار كما في المرويّ عن ابن عباس. أما

٣٦٩

المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام فهو قوله : كانت قريش تعظّم البلد وتستحلّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه ، فقال : لا أقسم بهذا البلد وأنت حلّ لهذا البلد ، يريد أنهم استحلّوك فيه ، فكذّبوك وشتموك ، وكانوا لا يأخذ الرجل منهم فيه قاتل أبيه ، ويتقلّدون لحاء شجر الحرم فيأمنون بتقليدهم إياه ، فاستحلّوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لم يستحلّوا من غيره فعاب الله ذلك عليهم. ثم عطف سبحانه على قسمه بقوله : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) وعنى بذلك آدم عليه‌السلام وذرّيته من الأنبياء والأوصياء وأتباعهم كما عن الإمام الصادق عليه‌السلام. وقيل عنى بذلك إبراهيم عليه‌السلام وأولاده لأنه هو الذي بنى البيت الحرام (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي خلقناه في تعب ونصب وشدة ، يعني أنه يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة ، وقيل بل أراد أن الإنسان يتحمّل شدة القيام بالأمر والنهي في مجال العبادات الشاقة وسائر الطاعات والواجبات ، وعليه أن يعرف كبد الدنيا ومشقاتها وأنه لا راحة إلّا في الآخرة (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) أي هل يزعم الإنسان أنه لا يقدر على عقابه والاقتصاص من أحد إذا أمعن في المعاصي وارتكاب الآثام؟ وهذا الاستفهام إنكاريّ يعني أنه لا ينبغي له أن يظنّ ذلك.

* * *

(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦))

٦ ـ ١٦ ـ (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً ...) في هذه الآية يحكي سبحانه

٣٧٠

مقولة هذا الإنسان الذي كان عدوّا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقول : أنفقت مالا كثيرا في عداوة النبيّ مفتخرا بذلك على قومه ، وقيل هو الحرث ابن عامر بن نوفل بن عبد مناف الذي أذنب ذنبا وسأل النبيّ (ص) عن ذلك فأمره أن يكفّر ، فقال : لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد ، فقال سبحانه وتعالى : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) فيسأله كيف اكتسب هذا المال وفيم أنفقه ، ليعلم أننا نحن أعطيناه ، ونحن أمرناه بالإنفاق في أبواب الحلال؟ وعن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربعة : عن عمره فيما أفناه ، وعن ماله من أين جمعه وفيما أنفقه ، وعن عمله ماذا عمل به ، وعن حبّنا أهل البيت. وقيل إن المدّعي للإنفاق قد كان كاذبا في مدّعاه فقال له سبحانه : أيظنّ أننا لم نر ذلك ولم نعرف أنه فعل أو لم يفعل؟ ثم أخذ سبحانه ببيان نعمه على عبده فقال : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) ينظر بهما عظمة المخلوقات الدالّة على عظمة الخالق (وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) ينطق بواسطة الكل ويشكر خالقه ورازقه (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي دللناه على سبيل الخير وسبيل الشر كما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي فلم يتجاوز هذا الإنسان الطريق الصعبة التي كنّى عنها سبحانه بالعقبة وهي مجاهدة النفس ومخالفة الشيطان للوصول إلى عمل الخير والقيام بالطاعات ، وهذا أمر أشبه بصعود العقبة في مشقّته ، وروي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن أمامكم عقبة كؤودا لا يجوزها المثقلون ، وأنا أريد أن أخففّ عنكم لتلك العقبة. وقيل إن العقبة هي الجسر الذي ينصب فوق جهنم ، أي الصراط. فكأنه سبحانه قال : لم يحمل نفسه على المشقة بعتق الرقبة والإحكام وغيرهما ممّا سيذكره ولذلك سأل سبحانه : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ؟) أي ما هو ذلك الاقتحام للعقبة الذي ذكرناه؟ إنه (فَكُّ رَقَبَةٍ) تحريرها من أسر الرّق. وقيل أن يفك رقبته من الذنوب وأن يتوب وينيب (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي

٣٧١

مَسْغَبَةٍ) أي الإطعام في أيام الجوع. وعن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من أشبع جائعا في يوم سغب أدخله الله يوم القيامة من باب من أبواب الجنّة لا يدخلها إلّا من فعل مثل ما فعل (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي أطعم يتيما من أقاربه درهمه ، وهذا حثّ على تقديم ذوي القربى من المحتاجين في الإطعام والبر (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي فقيرا محتاجا قد لصق بالتراب من شدة الجوع والفقر.

* * *

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)

١٧ ـ آخر السورة ـ (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ...) بعد أن تكلّم سبحانه عن الأعمال المقرّبة إليه تعالى ، عطف على ذلك بقوله إنها إنما تنفع مع الإيمان ، فينبغي للإنسان مع هذه الأعمال أن يكون مؤمنا مصدّقا بعد الخير ويقوم بالطاعات كسائر الذين آمنوا وعملوا (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي وصّى بعضهم بعضا بالصبر على أداء الفرائض وترك المعاصي ، وتواصوا كذلك بالتراحم وببذل الرحمة للفقراء منهم خاصة ف (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي أنهم هم الذين تأخذ بهم الملائكة يوم القيامة إلى ناحية اليمين ويعطونهم كتبهم بأيمانهم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) أنكروا حججنا ودلائلنا ولم يصدّقوا رسلنا (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي هم أهل الشؤم على أنفسهم ويؤخذ بهم إلى جانب الشمال ويعطون كتبهم بشمائلهم (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أي نار مطبقة مقفلة أبوابها عليهم ، فهي لا تفتح لهم ولا يخرجون من غمّ العذاب ، ولا يدخل إليها روح من الرحمة.

* * *

٣٧٢

سورة الشمس

مكية وآياتها ١٥ نزلت بعد القدر.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠))

١ ـ ١٠ ـ (وَالشَّمْسِ وَضُحاها ، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها ...) هذا قسم أيضا بالشمس وضحاها الذي هو صدر وقت طلوعها لأن ضحى النهار صدر وقته. و (الواو) هنا للقسم وسائر الواوات بعدها للعطف إلى قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها). وقد قدّمنا أنه سبحانه له أن يقسم بما يشاء من خلقه لينبّه ، إلى عظيم قدرته ، فإن في الشمس وفي ضوئها وحرارتها منافع لا تحصى تدلّ على الموجد الحكيم المدبّر (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) أي إذا تبعها وسار خلفها يستمدّ من نورها بمقابلته لها ـ سابقا لها أو تاليا لأنه يواجهها دائما ، واستعمل سبحانه (تَلاها) لهذا المعنى الدقيق (وَالنَّهارِ

٣٧٣

إِذا جَلَّاها) أي كشف الظّلمة وبدّد ظلام الليل ، ولم يذكر هذا المعنى لوضوحه (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أي يغطّيها ويخفيها ـ يعني الشمس حين يواريها عن الأنظار بنتيجة دوران الأرض ـ (وَالسَّماءِ وَما بَناها) يعني ومن بناها ، فكأنه سبحانه أقسم هنا بذاته القدسية. وقيل هو : والسماء وبنائها المحكم الدقيق (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) أي وبسطها وتسطيحها ليتمكّن الخلق من العمل عليها والتصرّف على سطحها (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) أي وحقّ النفس ـ الجسم الروح ـ حقّ من سوّى أعضاءها وزانها بالعقل. وقيل قصد نفس آدم عليه‌السلام (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي عرّفها سبل الفجور وسبل التقوى ، وزهّدها بالفجور ، وهدّد بارتكابه ، ورغّب بالتقوى وأثاب عليه (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) هذا جواب القسم ، يعني قد فاز ونجح من زكّى نفسه بتطهيرها من الدنس والرّجس ، وأصلحها بالطاعات والأعمال الصالحة (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أي خسر من أضلّ نفسه وأخملها وجعلها دنيئة خسيسة. وفي المجمع عن الصادقين عليهما‌السلام في قوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) ، قالا : بيّن لها ما تأتي وما تترك ، وفي قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) : قد أفلح من أطاع ، وقد خاب من دسّاها : قد خاب من عصى. وعن سعيد بن أبي هلال قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا قرأ : قد أفلح من زكّاها وقف ثم قال : اللهم آت نفسي تقواها ، أنت وليّها ومولاها ، وزكّها وأنت خير من زكّاها.

* * *

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

٣٧٤

١١ ـ آخر السورة ـ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها ...) أي كذبت ثمود ، وهم قوم صالح عليه‌السلام ـ بطغيانها وكثرة معاصيها وتجاوزها حدّ المعقول من الظّلم لنبيّهم (ع) والطّغوى ، اسم من الطغيان قيل إنه اسم العذاب الذي نزل بهم بعد عقر الناقة فإنهم كذّبوا به فأتاهم ما كذّبوا به (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) أي حين خرج أشقى القوم لعقر الناقة كذّبوا بنزول العذاب طغيانا منهم. والانبعاث معناه انتداب ذلك الشقي وقيامه بالمهمة ، وهو قيدار بن سالف الذي قال عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو أشقى الأوّلين. وقد قال لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : من أشقى الأوّلين؟ قال : عاقر الناقة. قال : صدقت ، فمن أشقى الآخرين؟ قال : لا أعلم يا رسول الله. قال : الذي يضربك على هذه ، وأشار إلى يافوخه. وقيل إن عاقر الناقة كان أشقر أزرق قصيرا (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) أي قال صالح عليه‌السلام لقومه : (ناقَةَ اللهِ) أي أحذّركم ناقة الله ، فاللفظ منصوب على تقدير : احذروا ناقة الله فلا تعقروها (وَسُقْياها) أي ودعوها وشربها فلا تتعرّضوا لها بسوء ولا تزاحموها ، وذلك كقوله تعالى : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)(فَكَذَّبُوهُ) أي فكذّبه قومه ورفضوا قوله ولم يخافوا تحذيره بالعذاب (فَعَقَرُوها) أي قتلوها (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) فدمّر عليهم وأطبق العذاب عليهم وأهلكهم (بِذَنْبِهِمْ) بمعصيتهم التي نسبت إليهم جميعا لأنهم رضوا بها بل اقترحوها وبعثوا قيدار لعقر الناقة (فَسَوَّاها) أي فاستوت الدمدمة ـ يعني الهلاك والتدمير عليهم وعمتهم فشملت صغيرهم وكبيرهم ، فنزل العذاب عليهم وكانوا فيه سواء (وَلا يَخافُ عُقْباها) أي لا يخاف سبحانه أيّ تبعة تنشأ عن إهلاكهم لاستحقاقهم لذلك ، لأنه لا يفعل إلّا الحكمة ولا ينازعه في فعله أحد ، وهذه كقوله : (لا يسأل عما يفعل). وقيل معناه : ولا يخاف عاقر الناقة عقبى عقرها ولا يخشى عاقبة صنعه لأنه كان من أشد المكذّبين بقول صالح عليه‌السلام.

* * *

٣٧٥

سورة الليل

مكية وآياتها ٢١ نزلت بعد الأعلى.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١))

١ ـ ١١ ـ (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى ...) هذا قسم منه سبحانه بالليل إذا غشي بظلمته النهار فغطّاه وأخفاه فلفّت العتمة ما بين السماء والأرض ، والمعنى : إذا أظلم (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) يعني إذا ظهر وبان مشرقا بنوره ، وقد كرر سبحانه ذكر اللّيل والنّهار في السورتين لشدة الانتفاع بكليهما ، ففي النهار السعي والعمل في طلب المعاش ، وفي الليل الراحة والدعة والسكون ، فما أعظم قدر الليل والنهار ، فإنهما نعمتان عظيمتان على الخلق (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (ما) هنا بمعنى الذي ،

٣٧٦

أي والذي خلقهما. وقيل عنى بذلك آدم وحوّاء عليهما‌السلام ، وقيل قصد النوع : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) هو جواب القسم ، فقد أقسم سبحانه بما تقدّم أن أعمالكم مختلفة بعضها يؤدّي إلى الجنّة وبعضها يؤدّي إلى النار ، فهذا يسعى للنجاة وفكاك رقبته من النار ، وذاك يسعى للدنيا وللخسار في الآخرة ولدخول النار (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) لهذه الآية قصة نزلت بسببها ، وهي أن رجلا كانت له نخلة مائلة تتدلّى فروعها في دار رجل فقير ذي عيال. وكان صاحب النخلة إذا صعد إليها ليقطف من ثمرها ربما سقطت تمرة فتناولها أحد أولاد الفقير ، فكان ينزل صاحب النخلة فيأخذ التمرة من الصبيّ حتى ولو وجدها في فمه أدخل إصبعه وأخرجها من فمه. فشكا الفقير ذلك إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بما يلقى من صاحب النخلة فقال له (ص) اذهب. ثم لقي رسول الله (ص) صاحب النخلة فقال له : تعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة؟ فقال له الرجل : ان لي نخلا كثيرا وما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها. ثم ذهب ولم يستجب لطلب النبيّ (ص) وسمع رجل يدعى أبا الدحداح الحديث فقال : يا رسول الله أتعطيني ما أعطيت الرجل إن أنا أخذتها؟ قال نعم. فذهب الرجل وساوم صاحب النخلة واشتراها منه بأربعين نخلة وأشهد على ذلك ، ثم جاء ، ووهبها للنبيّ (ص) فذهب رسول الله (ص) إلى صاحب الدار فقال له : لك النخلة ولعيالك ، فنزلت هذه السورة المباركة. فالذي أعطى واتّقى هو أبو الدحداح (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي بأن الله يعطي الواحد عشرا إلى أكثر من ذلك (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أي نسهّل أموره للخير لأنه لا يسعى إلّا للخير ولا يسعى في الشر (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) أي بخل بماله وضنّ به كما فعل مالك النخلة الذي بخل بحقّ الله تعالى ثم التمس الغنى وطلبه بمنع العطاء وبالبخل ، وعمل علم من لا يطلب عطاء الله ورحمته (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) أي لم يصدّق بحسنى الثواب وبالجنّة (فَسَنُيَسِّرُهُ

٣٧٧

لِلْعُسْرى) أي سنخلّي بينه وبين الأعمال الموجبة للعذاب والعقوبة (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) أي لا يفيده ماله إذا هلك ومات. وعن أبي جعفر عليه‌السلام : وما يغني عنه ماله إذا تردّى : أما والله ما تردّى من جبل ، ولا تردّى من حائط ، ولا تردّى في بئر ، ولكن تردّى في نار جهنّم.

* * *

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

١٢ ـ آخر السورة : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ...) أي إن علينا بيان الهدى بالدلالة عليه وبإقدار الإنسان على الاختيار. فنحن نبيّن الطاعات والمعاصي بواسطة رسلنا لنقطع سبيل العذر (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي أن لنا أمرهما لأننا نملكهما ، ولذلك فإنه لا يزيد في ملكنا من اهتدى ، ولا ينقص منه من ضل وغوى ، ونحن لا نجبر أحدا إذ يبطل الثواب ، ولكننا نبيّن ونأمر ونزجر ولكلّ امرئ ما شاء من حسن أو سوء الاختيار لنفسه. ثم أورد تحذيره للمخالفين بقوله (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) أي فحذّرتكم وخوّفتكم نارا تستعر وتلتهب وتتوقّد ويزيد وهجها و (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) أي لا يلزمها ويدخلها فيكون دائما فيها إلّا الكافر بالله فإنه ليس بعد الكفر ذنب والكافر أشقى الأشقياء (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي كذّب بآيات الله ودلائله وانصرف عنها بتكذيب رسله ، وأعرض عن الإيمان (وَسَيُجَنَّبُهَا) أي يجنّب النار المتلظية ويحيّد عنها (الْأَتْقَى)

٣٧٨

الشديد التقوى والإيمان (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ) ينفقه في مرضاة الله وفي طرق إنفاقه و (يَتَزَكَّى) يتطهّر ويطلب أن يكون زكيّ النفس عند ربّه جلّ وعلا (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) أي أن الذي أعطى ماله لمستحقّيه وأنفقه في سبيل الله ولم يبتغ من وراء ذلك جزاء ممّن يعطيهم ولا يريد عوضا ، وأنه لا يكافئ من يعطيه من جهة ، ولا يعطي أحدا ليجعل له عليه يدا أو منّة ، ولا يفعل ذلك (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) أي طلبا لوجه الله سبحانه ورغبة في رضاه وثوابه (وَلَسَوْفَ يَرْضى) أي وسوف نعطيه حتى نرضيه من الثواب في الآخرة وينال فوق ما كان يتمنّاه من الأجر الكثير.

* * *

٣٧٩

سورة الضحى

مكيّة وآياتها ١١ نزلت بعد الفجر.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥))

١ ـ ٥ ـ (وَالضُّحى ، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ...) هذا قسم منه سبحانه بالضّحى الذي هو وقت ارتفاع الشمس في الثلث الأول من النهار ، يعني أنه أقسم بقدرة من جعل الضّحى وأظهره في كل يوم (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) أي سكن واستقرّ ظلامه وخيّم على البسيطة والأفق المقابل لها وغطّى ذلك كله ، أي بربّ ذلك كلّه ، القادر عليه وحده دون غيره (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) يعني ما فارقك ربّك يا محمد ولا قطع عنك الوحي ولا أبغضك وقلاك فابتعد عنك منذ اختارك للنبوّة. وهذا جواب القسم يؤكّد له فيه عدم هجره له وعدم تخلّيه عنه. وقصة ذلك ـ كما عن ابن عباس ـ أنه احتبس الوحي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة عشر يوما فقال المشركون : إنّ محمدا قد ودّعه ربّه وقلاه ، ولو لا ذلك لتتابع الوحي عليه فنزلت هذه الآية المباركة ... أما مقاتل فقال انقطع عنه (ص)

٣٨٠