الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

١
٢

٣
٤

سورة يس

مكية وآياتها ٨٣

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧))

١ ـ (يس ...) في المعاني عن الصّادق عليه‌السلام : وأمّا يس فاسم من أسماء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، ومعناه : يا أيّها السّامع للوحي. وعن الباقر عليه‌السلام قال : إن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله له عشرة أسماء ، خمسة في القرآن ، وخمسة ليست في القرآن. فأمّا التي في القرآن : محمّد ، وأحمد ، وعبد الله ، ويس ، ون. والرّوايات والأقوال بذلك المضمون كثيرة. وقيل معناه يا إنسان ، ويحتمل على هذا التفسير ، أن يكون

٥

المخاطب هو الإنسان الكامل وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا ينافي الرّوايات والأقوال الأخر ، قال الصّادق عليه‌السلام : يس اسم رسول الله والدّليل قوله : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

٢ ـ (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) ... الواو للقسم. أقسم سبحانه بالقرآن المحكم من تطرّق البطلان إليه أو سمّاه حكيما لما فيه من الحكمة ، فكأنه المظهر للحكمة الناطق بها في عين كونه صامتا لكثرة ظهور الحكمة منه والحلف به إشارة ورمز إلى عظمته فإن المقسم به لا بدّ من كونه ذا شأن وعظمة ولا سيّما إذا كان الحالف ذا شأن وسمّو.

٣ و ٤ ـ (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ... الصراط المستقيم هو التوحيد والاستقامة في الأمور. قال الصّادق عليه‌السلام : على الطريق الواضح.

٥ ـ (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ... أي منزّل ذلك من عند (الْعَزِيزِ) أي الغالب. وحرّك بالكسر صفة للقرآن ، وحفص قرأ بالنصب بتقدير أعني ، وبالرفع خبرا لمحذوف.

٦ ـ (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) ... (ما) نافية أي : لم ينذر آباؤهم القريبون لبعد زمان الفترة وطولها ، فلم ينذرهم في الفترة رسول بشريعة وإن كان فيها أوصياء لامتناع خلوّ الزمان من حجة (فَهُمْ غافِلُونَ) عمّا تضمّنه القرآن وعمّا أنذر الله به من نزول العذاب. والغفلة حالة مثل السّهو وهو ذهاب المعنى عن النفس الناطقة. والحاصل أن الضمير في قوله (فَهُمْ غافِلُونَ) راجع إلى الآباء.

وأمّا بناء على كون (ما) مصدريّة فالضمير المزبور راجع إلى القوم. والمعنى على المصدرية هكذا : لتنذر قوما مثل إنذار آبائهم الذين كانوا في زمن أنبيائهم كعيسى وموسى ونحوهما.

٦

٧ ـ (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) ... أي وجب الوعيد واستحقاق العقاب على معانديهم ومنكري التوحيد (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي يموتون على جحودهم وكفرهم ، ولمّا لم يقرّوا بالتوحيد ولا بالنبوّة ، ولا بالولاية لأمير المؤمنين وأولاده المعصومين عليهم‌السلام على ما في الروايات الكثيرة كانت عقوبتهم ما بيّنه الله تعالى :

* * *

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢))

٨ ـ (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) ... يعني أيديهم ، كنّى عنها وإن لم يذكرها لأن الأعناق والأغلال تدلّان عليها ، وذلك لأنّ الغلّ إنّما يجمع اليد إلى الذّقن فيما إذا كان يراد أن تشدا إلى العنق ، لأن الغل في الأكثر لا يكون في العنق دون اليد ، ولا في اليد دون العنق (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي مرفوعة رؤوسهم لا يستطيعون خفضها ولا تحريكها ،

٧

لأنّ أيديهم لما غلّت إلى أعناقهم ورفعت الأغلال إلى أذقانهم صارت رؤوسهم مرفوعة قهرا برفع الأغلال لها فلا يستطيعون تحريكها لضيق الغلّ وتحكمه عند أذقانهم.

٩ ـ (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ... فَأَغْشَيْناهُمْ) ... أي غطّيناهم. وروى القمّي أن الباقر عليه‌السلام يقول : فأعميناهم (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الهدى. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام قال : هذا في الدّنيا ، وفي الآخرة في نار جهنم مقمحون.

١٠ و ١١ ـ (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ... فهؤلاء المذكورون في الآيات السابقة لا تفيد معهم الذكرى ولا ينفعهم الإنذار لأنهم لا يؤمنون بقولك لفرط عنادهم وكفرهم. وأنت (إِنَّما تُنْذِرُ) تخوّف (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) تابع هذا القرآن واستمع لمقالته واتّعظ بمواعظه ، وفي الكافي أن القول يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي صدّق بما غاب عنه من الأمور الأخروية. فهذا الذي يكون بهذه الصفة المذكورة (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي جزاء عظيم وعفو عن ذنوبه.

١٢ ـ (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) ... هذه ردّ على منكري البعث ولذا أكّده بقوله (إِنَّا) وبالضمير (نَحْنُ وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) أي نحصي ما قدّموا وأسلفوا من الأعمال الصّالحة والأفعال الطالحة ، وكذلك نكتب ما أخّروا. وهذه الجملة ما ذكرها واكتفى بذكر الأولى مثل قوله (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) والمراد (البرد) أيضا لأن ذكر الأولى يدل على الثانية (وَآثارَهُمْ) اي ما يقتدى بهم فيه من بعدهم من حسنة وسيّئة. وقيل ونكتب خطاهم إلى المسجد. وجهة ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري من أن بني سلمة كانوا في ناحية من المدينة فشكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه

٨

وآله بعد منازلهم عن المسجد والصلاة معه فنزلت الآية فظلّوا في دورهم ثابتين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله إن الله يكتب خطواتكم ويثيبكم عليها فالزموا بيوتكم وكانوا قبل ذلك ناوين على الانتقال من منازلهم فرجعوا عما نووا والتزموا بيوتهم (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أي عدّدناه في اللّوح المحفوظ ، أو هو عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام فإن علم جميع الحوادث من الخير والشر عنده. وفي الاحتجاج عن النّبيّ في حديث قال : معاشر الناس ما من علم إلّا علّمنيه ربّي وأنا علّمته عليّا. وبهذا المضمون روايات كثيرة. وقيل أراد به صحائف الأعمال ، وسمّي (مبينا) لأنه لا يدرس أثره. وفي المعاني عن الباقر عن أبيه عن جدّه عليهم‌السلام قال : لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَكُلَّ شَيْءٍ) الآية قام أبو بكر وعمر من مجلسهما وقالا يا رسول الله هو التوراة؟ قال : لا. قالا فهو الإنجيل؟ قال : لا. قالا : فهو القرآن؟ قال فأقبل أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو هذا ، إنه الإمام الذي أحصى الله فيه علم كلّ شيء ثم إنه تعالى أمر رسوله على أن يمثّل لأهله أي أهل مكة بأهل أنطاكية في رسوخ الكفر والعناد وعدم الطاعة والانقياد مع وجود المعجزات الظاهرات والآيات الواضحات فقال عزّ من قائل :

* * *

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ

٩

بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩))

١٣ و ١٤ ـ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) ... أي مثّل لهم مثالا ، من قولهم : هؤلاء أضراب ، أي : أمثال. وقيل معناه واذكر لهم مثلا. والمراد من القرية قرية أنطاكية فأهلها كانوا عبدة أوثان مثل أهل مكة (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) أي حينما جاءهم رسل عيسى عليه‌السلام بأمر الله سبحانه فاذكر لهم (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) كانا مسمّيين بصادق ومصدّق أو صدوق وقيل يوحنّا ويونس وقيل غيرهما من ياروص وماروص وقد أرسلا لدعوة الناس إلى الله تعالى وتوحيده فسمع الناس منهما مقالة لا يعرفونها فأخذوهما وسجنوهما في بيت الأصنام فبعث الله الثالث فدخل المدينة فقال : أرشدوني إلى باب الملك فأرشدوه إليه. فلما وقف على الباب قال أنا رجل كنت أتعبّد في فلاة من الأرض وقد أحببت أن أعبد إله الملك. فأبلغوا كلامه للملك فقال : أدخلوه إلى بيت الآلهة. فأدخلوه فمكث سنة مع صاحبيه ، إلى آخر الحديث. فإشارته إلى قضية هؤلاء الرّسل الثلاثة. وقوله (فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي قوّيناهما بالرجل الثالث من الحوارّيين (فَقالُوا) أي الرسل قالوا للكفرة : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) أي يا أهل القرية إن الله أرسلنا إليكم لنرشدكم إلى الحق.

١٠

١٥ ـ (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) ... أي لا مزيّة لكم علينا تقتضي اختصاصكم بالرّسالة إلينا (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) من وحي ورسالة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) أي ما أنتم إلّا كاذبون في دعواكم ، فقد اعتقدوا أن من كان مثلهم في لباس البشرية لا يصلح أن يكون رسولا ، ولم يعلموا أن الله عزّ اسمه يختار من يشاء لرسالته سواء كان آدميّا أو غيره.

١٦ ـ (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) ... انما قال الرّسل ذلك بعد ما قامت الحجة بظهور المعجزة كإبراء الأكمه والأبرص وشفاء الأعمى وإحياء الموتى كابن الملك وغيره كما قرّر في محلّه ولم يقبلوها ، ووجه الاحتجاج بهذا القول أنّهم ألزموهم بذلك النظر في معجزاتهم ليعلموا أنهم صادقون على الله. ففي ذلك القول تحذير شديد لأن قولهم أنّ الله (يَعْلَمُ) هذا استشهاد بعلمه تعالى وهو يجري مجرى القسم وإشارة إلى أنّهم بمجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا ادّعاءهم بل عادوا وكرّروا القول عليهم وأكّدوه بلام التأكيد واستشهدوا بعلم الله في رسالتهم كما قلنا آنفا.

١٧ ـ (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ... أي ليس يلزمنا إلّا أداء الرّسالة والتّبليغ الظاهر ولا نقدر أن نحملكم على الإيمان ونرغمكم عليه.

١٨ ـ (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) ... أي هؤلاء الكفرة قالوا في جواب الرّسل حين عجزوا عن إيراد جواب يقنعهم ، ولا أقلّ من إيقاع الرّسل في الشّبهة وعدلوا عن النظر في المعجزة فقالوا : نحن تشأّمنا بكم فإنكم من يوم جئتمونا ، انقطع المطر وجفّت مياهنا ويبست مزارعنا وأشجارنا (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) عن مقالتكم من دعوى الرّسالة (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) أي لنهلكنكم بالحجارة (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) يحتمل أن تكون هذه الجملة بيانا لقولهم لنرجمنّكم ، ولذلك أجابهم الرّسل بقولهم :

١١

١٩ ـ (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) ... أي سوء عقيدتكم الفاسدة وتشؤمكم وأعمالكم الباطلة صارت أسبابا لما تقولون وتنسبونه إلينا لا دعوتنا إياكم إلى الله تعالى وتوحيده فإنها غاية خير ويمن وبركة (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي لو وعظتم بموعظة ونصح فيه خير الدنيا والآخرة ، فجواب الناصح الواعظ وجزاؤه هو التطيّر به ووعيده بالرّجم والتعذيب. فجواب (إِنْ) الشرطيّة محذوف بقرينة المقام (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي عادتكم الإسراف ، وليس فينا ما يوجب التشائم بنا ولكنّكم متجاوزون عن حدّ الشرع والشريعة والعقل والعقلاء في تكذيبكم للرّسل الذين جاؤوكم بما فيه صلاحكم الدنيويّ والأخروي ومعهم لما يدّعونه من الرسالة البيّنات والحجج الظاهرة فلا عذر لكم عند ربّكم فأنتم مستحقّون للعذاب الأليم (ومعنى الإسراف الإفساد ومجاوزة الحدّ والشرّ والفساد).

* * *

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي

١٢

يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧))

٢٠ ـ (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) ... وهو حبيب النجار المعروف بمؤمن آل يس في الرّوايات التي وردت بشأنه رضوان الله تعالى عليه. والمراد من (أَقْصَا) أي أبعد ناحية من نواحي البلد جاء وهو يعدو ويركض و (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) أي نادى أهل بلده وأمرهم بالمعروف من اتّباع الرّسل وأقرّ هو برسالتهم قبل ذلك. قال المفسّرون : إنما علم بنبوّتهم لأنهم لما دعوه قال : أتأخذون على ذلك أجرا؟ قالوا : لا ففهم صدق دعواهم. وقيل كان به زمانة أو جذام فأبرأوه فآمن بهم. ونقل هذا عن ابن عباس. وقال القمّي : نزلت في حبيب النجار إلى قوله : (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ). وقيل إنه آمن بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبينهما ستّمائة سنة ولعلّه لهذه الجهة صار معروفا بمؤمن آل يس. وقيل كان في غار يعبد الله فلمّا بلغه خبر الرّسل أظهر دينه الذي كان عليه طبق شرع زمانه وجاء رسوله به في ذلك العصر. وفي المجالس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الصّدّيقون ثلاثة : حبيب النّجار مؤمن آل يس الذي يقول اتّبعوا المرسلين ، وحزقيل مؤمن آل فرعون ، وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو أفضلهم. وفي الجوامع عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون ، فهم الصديقون وعليّ أفضلهم. وفي رواية الخصال عنه عليه‌السلام : ثلاثة لم يكفروا بالوحي طرفة عين : مؤمن آل يس ، وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وآسية امرأة فرعون.

٢١ ـ (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) ... أي على النصح وتبليغ الرّسالة. ولعلّ عدم سؤال الأجر من الدّعاة على الدّعوة كان في ذلك العصر رمزا على صدق دعواهم كما أشرنا إليه آنفا في إيمان الحبيب ، وإلّا

١٣

فما معنى قوله في أمره إياهم بالمتابعة للرّسل بتعليله بحسب الواقع بعدم سؤال الرّسل أجرا على إبلاغ الرّسالة وتبليغهم الأحكام. اللهم إلا أن نقول بأن الناس كانوا في تلك الأعصار في ضنك المعاش ، ولو كان إيمانهم بالرّسل متوقفا على إعطاء الرّسل أجرا لم يصدّقوهم ولم يؤمنوا بهم. ولذا تشويقا لهم وتنبيها على ذلك المعنى قال : لا يسألكم أجرا فالله اعلم بما قال (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) إلى الحق وهم يهدونكم إلى خير الدارين إن كنتم تتفكّرون فيما يقول الرّسل وتعقلونه بعين المعرفة.

٢٢ ـ (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) ... أي لم لا أعتقد بوحدانيّة الخالق ولا أعبد الذي خلقني وجاء بي من العدم إلى الوجود. ولا يخفى أن إضافة الخلق إلى نفسه دالة على إظهار الشكر والتلطّف في الإرشاد ومحض النصح ، لأنه ما طلب لنفسه أراده لهم ، وكان قصده في هذا البيان تقريعهم على ترك عبادة الخالق والاشتغال بعبادة معبود مصنوع لهم ، وهو لا يضرّ ولا ينفع (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) هذا مضافا إلى تنبيههم على خالقهم وأنه هو الذي يستحقّ العبادة وحده ، وقد عرّفهم ونبّههم على الحشر والنشر. ثم إنه لمحض النّصح وإتمام الحجة مرة أخرى أورد الكلام السابق بطريق آخر وعبارة أخرى ، فقال :

٢٣ ـ (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) ... أي هل ينبغي لي أن أترك من هو خالقي ورازقي وأتّخذ الأوثان آلهة لي مع أنّهم (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) أي لو أراد من الذي بيده الرحمة العامة أن يضرّني بكيفيّة خاصّة لا تنفعني شفاعة الأصنام أبدا ولا مثقال ذرّة. فإن الإتيان بلفظ عامّ منكّر بعد النفي يدل على غاية المبالغة في المنفي أي : فليس هذا من الإنصاف والعدل. ولا يخفى أن عدم الإغناء من باب عدم قابليّة الأصنام للشفاعة حيث إنها جماد وهي غير قادرة عليها فالانتفاء لانتفاء الموضوع (وَلا يُنْقِذُونِ) أي الأصنام لا يقدرون على أن يخلصوني من الضرر بنصر

١٤

ولا مظاهرة ، فأنّي لا أعبد الذي لا يقدر على دفع ضرر ولا إيصال نفع وأترك عبادة القادر المطلق وخالق الموجودات طرّا من العدم.

٢٤ و ٢٥ ـ (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ...) أي بيّن غير خاف على عاقل ومتدبّر. فلما سمع القوم مقالته هذه قصدوه وأرادوا قتله فتوجّه إلى الرّسل وقال (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) وقيل إنه توجّه إلى قومه بهذه الخطابة نصحا وعظة لهم ، لكنّهم كانوا يرجمونه بالحجارة وهو لا زال يقول اللهم اهد قومي حتى قتل رضوان الله تعالى عليه ، وقيل إنه صلب وأخذته الملائكة.

٢٦ و ٢٧ ـ (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ...) أي قال له الملائكة بأمر من الله تعالى لما قتلوه : ادخل الجنّة ، أو بشّره الرّسل بها قبل موته (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) هنا حذف القول للعلم به كأنّه قيل ما قال في الجنّة؟ فأجيب بأنه قال : يا ليت (الآية) وقوله بما غفر لي ربّي أي بغفرانه أو بالذي غفره بسبب إيماني (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) لمّا كان دخول الجنة له أمرا مقطوعا به ذكرت القصة في جميع الجمل بصيغة الماضي كقوله تعالى أتى أمر الله وبرزوا لله جميعا ونحوهما وأمثال ذلك كثيرة في الكتاب الكريم. أي ما اكتفى ربّي بالعفو عنّي والتجاوز عن ذنوبي ، بل أدخلنى في زمرة أهل الكرامة والجود ولهم مقام منيع رفيع في الجنة. وفي الجوامع ورد في حديث مرفوعا أنّه نصح قومه حيّا وميّتا : تمنّى رضوان الله تعالى عنهم علمه بحالهم وتلطّفا بهم ليرغبوا في مثله. نعم هذا شأن أولياء الله ولا زال ديدنهم هكذا بالنسبة الى البشر حيث ان الناس يرجمونهم ومع هذا يدعون لهم بالهداية والرّشاد حتى عند الوفاة فهم يتمنّون خيرهم وصلاحهم فيشابهون خالقهم في صفة الرّحمانيّة والإكرام إعطاء المنزلة الرفيعة على وجه التعظيم.

* * *

١٥

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢))

٢٨ ـ (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ ...) أي على قوم حبيب النجار بعد قتله أو رفعه (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) لإهلاك قومه ما نزلنا جنديّا من الجنود السّماويّة (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) اي ما صحّ في شرعنا وحكمتنا أن ننزّل الجند لإهلاك الكفرة وأهل الجحود والعناد ، فإن إفناءهم أدنى وأقل عندنا من إنزال الملك فإنّا غير محتاجين لذلك ، وإنّما أنزلنا ملائكة النّصر يوم بدر وحنين تعظيما وتكريما لشأن خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا للحاجة ، وإلّا فأسباب الإفناء عندنا لا تحصى وفي عدّة موارد أهلكنا الكفرة بها.

٢٩ ـ (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ...) أي ما كانت العقوبة المفنية إلّا صياحا واحدا ، صاح بهم جبرائيل (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) مهلكون ميّتون ، من خمدت النار : أي سكن لهبها ، فكأنّ الكفرة نار ما داموا أحياء فهي تلهب وتشتعل فإذا ماتوا يسكن لهبها والناس يستريحون من لهب أذاهم وكفرهم ونفاقهم ومكرهم وحيلهم ، بخلاف المؤمن فإنّه نور يستضاء به ويستفيد البشر من ضوئه فإذا مات المؤمن ذهب نوره والناس

١٦

يخسرون بموته وربما يقعون في ظلمة عمياء كما إذا لم يكن غيره بينهم حتى يستفيدوا منه ويستضيئوا بنور علمه ومعارفه.

٣٠ ـ (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ...) أي يا حزناه ويا أسفاه عليهم حيث ظلموا أنفسهم وأتلفوا أعمارهم في الكفر جحودا وعنادا لله ورسوله فخسروا خسرانا مبينا وخلّدوا أنفسهم في نار جهنّم وبئس المصير. ونصبه بفعل محذوف ، أي : يا أيّها المتحسّر تحسّر حسرة. وهذه الكلمة صارت من الأمثلة الجارية على ألسن الناس في مقام التحزّن والتلطف على شخص. ثم إنه سبحانه تخويفا لمشركي قريش يقول :

٣١ ـ (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ ...) أي ألم يعلموا كم أهلكنا قبلهم (مِنَ الْقُرُونِ) ممّن قد مضى سابقا عليهم كقوم عاد وثمود وأصحاب الرسّ وأنطاكية أفلا يشاهدون آثار بيوتهم في أسفارهم وهي شاهدة عليهم؟ أفلا يتدبّرون أم على قلوبهم أقفالها (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) أي إنّ الهالكين لا يرجعون إلى أهل مكة ولا إلى الدنيا يعودون ، فلما ذا لا يعتبرون من الماضين؟ ولماذا لا يقيسون حال المهلكين بحالهم أو حالهم بحالهم ولا يحذرون ممّا هو واقع بهم في نتيجة كفرهم وجحودهم وعنادهم؟

٣٢ ـ (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ...) يحتمل كون (إِنْ) مخفّفة من الثقيلة و (لَمَّا) مخفّفة و (ما) مزيدة للتأكيد ، وكذا اللّام المزيدة عليها وهي الفارقة بينها وبين النافية فلها فائدتان. كما أنّ كلمة (جَمِيعٌ) و (كُلٌ) للتأكيد ردّا على منكري الحشر والنّشر وهم الدهريّون الذين قالوا (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) ويحتمل كونها نافية فحينئذ (لَمَّا) مشدّدة بمعنى (إلّا) وحاصل المعنى أنّ الأمم يوم القيامة ، من الماضين والباقين ، مبعوثون للحساب وجزاء الأعمال ، أنكروا البعث أو قبلوه. ثم قال تعالى :

* * *

١٧

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦))

٣٣ ـ (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ ...) أي هذه حجة قاطعة لهم على قدرتنا على بعثهم ، وهي الأرض المجدبة اليابسة الممنوعة من المطر (أَحْيَيْناها) بإنبات نباتها (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا) يحتمل كونها بيانا للإحياء حيث إن إخراج الحب فرع إنبات النبات (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) قدّم الصّلة ، أي الجارّ إيذانا بأن الحبّ معظم القوت وما يعاش به. بل ذكر الحب بالخصوص من بين ما يخرج من الأرض من النّعم الكثيرة العظيمة يؤذن ويشعر به. فتقديم الصلة تأكيد للإشعار المستفاد ممّا قبله لا أنّه تأسيس للإيذان.

٣٤ ـ (وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ...) أي من أنواعهما ، وخصّا بالذّكر لكثرة منافعهما وأنواعهما وأهميّة خواصّهما المذكورة في الآثار الواردة عن النّبي والآل صلوات الله عليهم أجمعين.

٣٥ ـ (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ...) بيّن سبحانه أنّه إنما فعل ذلك للأكل من ثمر النخيل. وعود الضّمير إلى أحد المذكورين لحصول العلم بأن الأعناب في حكم النخيل كما في قوله عزوجل (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) ، الآية وترك الذّهب مع أنّه أهمّ ، ولعلّه قدّم

١٨

في الذكر لذلك. ويمكن أن يكون الضمير فيما نحن فيه عائدا إلى المذكور من جنّات ، أو كلّ واحد منهما (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) منه كالدّبس والعصير والخلّ ونحوها أو لم تعمله أيديهم وإنما يوجد في الجنّات بخلق الله تعالى إيّاه (أَفَلا يَشْكُرُونَ؟) الاستفهام إنكار لترك الشكر أي : فليشكروا نعم المنعم تعالى. ثم إنه تعالى نزّه نفسه المقدّسة على بعض آخر من مظاهر قدرته فقال :

٣٦ ـ (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ ...) أي الأصناف والأنواع والأشكال (كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من أزواج النبات والأشجار (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) من الذكور والإناث. وهذا مما يعلمون غالبا (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) أي وأزواجا ممّا لم يروها ولم يسمعوا بها ولا يطلعهم الله عليه مما في بطون الأرض وقعور البحار وفوق كرة الأرض.

* * *

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠))

٣٧ ـ (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ ...) أي آية أخرى على كمال قدرتنا مضافا إلى خلق اللّيل والنهار ، هي أنّا نسلخ من اللّيل النّهار أي

١٩

نستلّه منه ، ومعنى الاستلال هو انتزاع الشيء عن الشيء وإخراجه عنه برفق ، مستعار من سلخ الشاة ، وإنّما اختار سبحانه السلخ دون النزع والإزالة وما يفيد هذا المعنى لأنه تعالى جعل الليل بمنزلة الجسم لظلمته والنهار كالجلد العارض للأجسام. فالنهار كالكسوة العارضة ، والليل كالجسم الأصيل ، فإذا انتزع منه الضوء (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) أي أن الناس داخلون في ظلام الليل. ففي هذه الاستعارة رمزان وسرّان : الأوّل الإيذان إلى كون الأشياء في بدء الخلقة في الظلمة ، والضّياء حصل ووجد بعدها فهو متأخّر عنها في الوجود كما هو شأن كل عارض بالإضافة إلى معروضه. والثاني هو أنّ انتزاع نور النهار ليس آنيّا بل أمر تدريجيّ الحصول كما في انتزاع جلد الشاة وغيرها فلا يناسب المقام غير هذا التعبير. وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام : يعني قبض محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وظهرت الظّلمة فلم يبصروا فضل أهل بيتهعليهم‌السلام.

٣٨ ـ (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ...) أي آية أخرى لهم هي الشمس التي تجري لحدّ لها موقّت بقدر تنتهي إليه من فلكها آخر السنة. وشبّه بمستقرّ المسافر إذا قطع مسيره ، أو لمنتهى لها من المشارق والمغارب حتى تبلغ أقصاها في السنة فذلك مستقرّها لأنها لا تعدوه. وعدّت تلك المشارق والمغارب بثلاثمئة وستّين يوما وهي تطلع كلّ يوم من مشرق ، وتغرب في مغرب. وقيل مستقرها هو حين انقطاع الدّنيا. وفي المجمع عنهما عليهما‌السلام : لا مستقرّ لها ب (لا) النافية ونصب الرّاء ، أي لا سكون لها فإنّها متحركة دائما إلى انقضاء الدنيا (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي جري الشمس لمستقرّها مقرّر وثابت من عند الله الذي هو غالب بقدرته على كلّ شيء ، والمحيط بعلمه الكامل بجميع المقدورات والمعلومات.

٣٩ ـ (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ ...) والقمر : قرئ بالرّفع عطفا على الشمس ، أي وآية لهم القمر. وقرئ بالنّصب بمقدّر يفسّره ما بعده وهو

٢٠