الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

سورة الزلزلة

مدنيّة وآياتها ٨ نزلت بعد النساء.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

١ ـ آخر السورة ـ (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ...) الزّلزلة هي شدة الاضطراب ، وهو ارتجاف الأرض واهتزازها ، وقد خوّف الله سبحانه عباده بذلك أي : ما حالكم مع أهوال يوم القيامة إذا تزلزلت الأرض (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) أي لفظت الموتى من بطنها أحياء للحساب والعقاب والثواب. وقد سمّى سبحانه الموتى أثقالا تشبيها للأرض بالنساء الحوامل اللواتي يضعن أثقالهنّ : أي أحمالهنّ من المواليد ، فكأن الأرض كانت حبلى بالموتى ، وهي يوم القيامة تخرجهم وتلقي تلك الأثقال التي هي

٤٠١

الناس (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها؟) أي أن المرء يقول متعجّبا من ذلك : ما للأرض تتزلزل ويحدث فيها ما لم يحدث قبل هذا؟ وقيل لا يقول ذلك إلّا الكافر فإن المؤمن موعود بذلك وهو معترف به ومنتظر له لأنه مصدّق بالبعث (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) أي تخبر بما جرى على ظهرها. وفي الحديث أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أتدرون ما أخبارها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : أخبارها أن تشهد على كلّ عبد بما عمل على ظهرها تقول : عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا ، وهذا إخبارها. وبناء عليه يمكن أن يحدث الله تعالى فيها قوّة النّطق فتشهد بذلك ، وذلك (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) يعني أنها تحدّث بالأخبار قائلة إن ربّك يا محمد أوحى لها : ألهمها التحدث بالأخبار. وروى الواحدي مرفوعا إلى ربيعة الحرشي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : حافظوا على الوضوء ، وخير أعمالكم الصلاة. وتحفّظوا من الأرض فإنها أمّكم ، وليس فيها أحد يعمل خيرا أو شرّا إلّا وهي مخبرة به (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة وزلزال الأرض (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) يرجعون من موقف الحساب بعد العرض على ربّهم متفرّقين ، فأهل الإيمان وحدهم ، وأهل الكفر وحدهم ، وكل أمة وحدها. وهذا كقوله سبحانه : (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) ، وكقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ)(لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) يعني ليروا ثواب أعمالهم أو عقابها ، أي أنهم يعودون إلى قصورهم في الجنّة فيرون جزاء ما قدّمت أيديهم من طاعات ، أو إلى مقاعدهم من جهنم فيرون جزاء ما كسبت أيديهم من معاصي. والإراءة هنا بالعين سواء برؤية الثواب أو العقاب ، أو برؤية صحائف الأعمال التي يقرءونها ويرون ما فيها من عملهم المسجّل عليهم (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) أي أن من يعمل خيرا يجد خير جزاء (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) يعني يجد عقاب ما عمله من السّيئات والقبائح. والتائب المنيب المقلع عن الذنب معفوّ عنه بفضل الله وحسن تجاوزه عن المذنبين.

* * *

٤٠٢

سورة العاديات

مكيّة وآياتها ١١ نزلت بعد العصر.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

١ ـ آخر السورة ـ (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً ...) العاديات هي الخيل التي تعدو ـ تركض ـ في الغزو للجهاد في سبيل الله ، أقسم بها سبحانه وهي تضبح ضبحا أي تصوّت من أجوافها وهي تعدو من غير أن تصهل أو تحمحم ، بل هو صوت نفسها ، وعن عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام : هي الإبل تمد أعناقها في السير فهي تضبح أي تضبع. وقد قال سلام الله عليه لابن عباس. تفتي الناس بما لا علم لك به؟ والله إن

٤٠٣

كانت لأول غزوة في الإسلام بدر ، وما كانت معنا إلّا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود ، فكيف تكون العاديات الخيل؟ بل العاديات ضبحا الإبل من عرفة إلى مزدلفة ، ومن مزدلفة إلى منى. فرغب عن قوله ورجع إلى ما قاله عليّ عليه‌السلام (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) هي الخيل التي توري النار بحوافرها إذا سارت في الأرض المحصبة. وقيل شاذّا : هي النيران بجمع ـ منى ـ (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) أي الخيل التي تغير على العدو بفرسانها وقت الصّبح. وقد ذكر هذا الوقت لأن من عادة الإغارة أن يأتي المغيرون ليلا ثم يفاجئون الأعداء صبحا (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) أي حرّكن الغبار الذي هو النّقع ، وهيّجنه فثار وطار في النواحي وانعقد وراءها كالغيوم (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) أي توسّطن جمع العدوّ بعدوهنّ وقد قيل : نزلت هذه السورة الشريفة لمّا بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا ، إلى ذات السلاسل فأوقع بهم. وذلك بعد أن بعث عليهم مرارا غيره من الصحابة فرجعوا كلّهم دون فتح ـ وقد سمّيت ذات السلاسل لأنه أسر منهم وقتل وسبى وشدّ أسراهم بالحبال مكتّفين كأنهم في السلاسل. (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) هذا جواب القسم ، أي : وحقّ ما ذكرنا إن الإنسان لكافر بربّه ، فالكنود هو الكفر ، وكنود كفور جاحد (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) أي أن الله سبحانه يشهد ويرى كفر ذلك الإنسان. وقيل إن الهاء تعود إلى الإنسان ، وأنه يكون يوم القيامة شاهدا على نفسه بما جنت يداه وبكنوده في دار الدنيا (وَإِنَّهُ) أي الإنسان (لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) يعني أنه شديد الحب للمال ، فعن ابن زيد أن الله تعالى سمّى المال «خيرا» وعسى أن يكون خبيثا وحراما ، ولكن الناس يعدّونه خيرا. ثم قال تبارك وتعالى مذكّرا ومتوعّدا : (أَفَلا يَعْلَمُ) أفلا يعرف هذا الإنسان الذي تكلّمنا عنه (إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) أي إذا بعث الموتى وأخرجوا من القبور ونشروا للحساب. والبعثرة هي تفريق الشيء في كلّ اتّجاه وبغير نظام (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) أي أظهر ما أخفته

٤٠٤

الصدور ليجازى من يكتم كفرا بكفره كما يجازى الكافر المعلن لكفره (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) أي أنه تعالى خبير بحالهم في ذلك اليوم وإن كان خبيرا بهم في كل حال وهذا مثل قوله سبحانه : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) ، مع أنه يعلم ما في جميع القلوب. فهو تعالى يجازي يوم القيامة بعلمه ويثيب بعلمه لأنه عالم بجميع أحوال خليقته. فعلى الإنسان أن يتّعظ بهذه الآية الكريمة فإنه إذا علم أن ربّه يعلم السرّ وأخفى ، ويعلم وساوس الصدور ، لا بد أن يمنع نفسه عن المعاصي ويخاف سوء المصير.

* * *

٤٠٥

سورة القارعة

مكيّة وآياتها ١١ نزلت بعد قريش.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

١ ـ آخر السورة ـ (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ ، وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ...) القارعة هي البليّة التي تقرع القلب بالمخافة الشديدة ، وقوارع الدهر دواهيه. وهي هنا اسم من أسماء يوم القيامة لأنها تقرع القلوب بالخوف وتقرع أعداء الله بالعذاب. وقوله : (مَا الْقارِعَةُ) تعظيم لشأن القارعة وتهويل له. وما أدراك : أي أنك يا محمد لا تعلم حقيقة القارعة ، ولا تعرف وصفها بدقّة ، وهذا كلّه تخويف منها. وقد بيّن سبحانه شيئا من صفاتها بقوله : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) أي ذلك يكون

٤٠٦

حين ترى الناس كأنهم الفراش المتفرّق ها هنا وها هنا ، فبعضهم يموج في بعض وهم حائرون كالفراش الذي إذا ثار تفرّق ولم يعرف إلى أية جهة يسير. وهذا يدل على فزع الناس وخوفهم في ذلك اليوم لأن مقاصدهم تختلف وتوجهاتهم متفرّقة وهم لا يعرفون ما يصنعون (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) أي تصير الجبال كأنها الصوف المندوف لأنها تتزلزل وتزول عن أماكنها وتصير كأنها ليست بذات ثقل ينسفها ربّي نسفا (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) في ذلك اليوم ، أي رجحت حسناته على سيئاته (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي أنه يصير إلى معيشة يرضاها لأنها ذات رضى (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بأن قلّت حسناته وكثرت سيئاته فرجحت بالحسنات (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) أي فمأواه النار يسكن فيها ، وقد سمّاها «أمه» لأنه يأوي إليها كما يأوي الإنسان إلى حضن أمّه. أما قتادة فقال : هي كلمة عربية كان الرجل إذا وقع في أمر شديد قيل : هوت أمّه. فقوله سبحانه : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) ، لأن العاصي يهوي إلى أمّ رأسه في النار (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) هذا تهويل لأمر جهنّم يراد به أنك لا تعلم تفصيل حال جهنّم وما فيها من ألوان العذاب (نارٌ حامِيَةٌ) أي نار حارّة شديدة الحرارة يقع فيها من خفّت موازينه والعياذ بالله من ذلك.

* * *

٤٠٧

سورة التكاثر

مكيّة وآياتها ٨ نزلت بعد الكوثر.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

١ ـ آخر السورة .. (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ ...) أي شغلكم تكاثركم بالأموال والأولاد عن العمل للآخرة ، وتفاخرتم بكثرة الأموال والأولاد (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) يعني إلى أن متّم قبل أن تتوبوا وأنتم مثابرون على ذلك. وقيل بل حتى زرتم المقابر وعددتم الأموات تتكاثرون بهم قبيلة مع قبيلة وعشيرة مع عشيرة. فقد قيل إنها نزلت في اليهود الذين كانوا دائما يقولون : نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان فألهاهم ذلك عن الدّين فماتوا كفارا ضالّين. بل قيل إنها نزلت في حيّين من قريش هما : بنو عبد مناف بن قصي ، وبنو سهم بن عمرو ، قد تكاثروا فيما بينهم وعدّوا أشرافهم ، فكثرهم بنو عبد مناف. ثم قالوا :

٤٠٨

نعدّ موتانا ، حتى زاروا القبور فعدّوها وقالوا هذا قبر فلان وهذا قبر فلان ، فكثرهم بنو سهم لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية.

ومهما كان سبب نزول السورة الكريمة فقد ألهى الناس التكاثر بالمال والولد حتى الموت ، وقد روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يقول ابن آدم : مالي لي. ومالك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأمضيت. وقد ردّ الله تعالى على حال الإنسان هذه بقوله عزوجل : (كَلَّا) أي ليس الأمر كما أنتم عليه من التكاثر بالمال والولد وأنا أتوعّدكم وأقول لكم : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) قالها مكرّرة لتكون وعيدا بعد وعيد ، أي أنكم سترون عاقبة تفاخركم هذا بالتأكيد ، إذا نزل الموت بساحتكم ، ولكن زر بن حبيش روى أن عليّا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : معناه : سوف تعلمون في القبر ، ثم سوف تعلمون في الحشر. وفي قول بعض المفسّرين : كلّا سوف تعلمون إذا رأيتم دار الأبرار ، ثم كلّا سوف تعلمون إذا رأيتم دار الفجّار (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي : لا ، وليتكم تعلمون هذا الأمر علما يقينيّا ، وإذن لشغلكم علمكم به عن التباهي بالمال والرجال ، ثم زاد سبحانه في التوعّد فقال عزّ من قائل : (لَتَرَوُنَ) هذا كأنّه قسم ، وهو يعني أن (الْجَحِيمَ) تبدو يوم القيامة للكفرة قبل دخولها (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها) بعد الدخول إليها (عَيْنَ الْيَقِينِ) أي بالمشاهدة المؤكّدة التي لا تترك مجالا للشك بها إذ تدخلون إليها وتعذّبون بها (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) يعني ستسألون ـ يا كفّار مكة ـ عن شكر ما كنتم فيه من النعيم الذي هو من الله ثم عبدتم غيره وأشركتم به ، وعن قتادة : إن الله سائل كلّ ذي نعمة عمّا أنعم عليه ، وقيل عن نعيم المأكل والمشرب. وفي العياشي ـ في حديث طويل ـ قال : سأل أبو حنيفة أبا عبد الله عليه‌السلام عن هذه الآية. فقال له : ما النعيم عندك يا نعمان؟ قال : القوت من الطعام والماء البارد. فقال : لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتى

٤٠٩

يسألك عن كلّ أكلة أكلتها وشربة شربتها ليطولنّ وقوفك بين يديه؟ ... قال : فما النعيم جعلت فداك؟ قال : نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد ، وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين ، وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء ، وبنا هداهم الله للإسلام وهي النّعمة التي لا تنقطع. والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم الله به عليهم ، وهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته. فالحمد لله ربّ العالمين على ولايتهم جميعا.

* * *

٤١٠

سورة العصر

مكيّة وآياتها ٣ نزلت بعد الانشراح.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))

١ ـ آخر السورة ـ (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ...) العصر هنا العشي اي ما بعد الظّهر من النهار. وقد أقسم سبحانه به لأنه يدل على إدبار النهار وإقبال الليل ، وذلك دليل على وحدانيّة موجدهما ومقدّرهما والمتسلط على مخلوقاته المدبّر لها بحكمته : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) فهذا جواب القسم الذي تقدّم. ومعناه أن كلّ إنسان في خسر ، أي في نقصان من عمره يوما بعد يوم ، وإذا نقص عمره وقضاه في غير طاعة الله تعالى ، فهو على نقصان وخسر دائم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنه سبحانه استثناهم من جملة الناس لأنهم مصدّقون به وبرسله وكتبه وملائكته ، عاملون بطاعاته ومنتهون عن معاصيه ، فليسوا في خسر كغيرهم لأنهم فعلوا ذلك (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) يعني وصّي بعضهم بعضا باتّباع الحق

٤١١

وترك الباطل ، وقد قيل إن الحق هو القرآن ، وقيل هو الإيمان ، وقيل غير ذلك (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي بتحمّل الصّعاب والمشاقّ في الطاعات ، وبالصّبر على ترك المعاصي والمحرّمات ، فهؤلاء في ربح عظيم لأنهم يرجون الثواب الجزيل من الربّ الجليل الذي أنفقوا أعمارهم في طاعته وعبادته.

* * *

٤١٢

سورة الهمزة

مكيّة ، وآياتها ٩ نزلت بعد القيامة.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))

١ ـ آخر السورة ـ (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ...) الهمزة هو كثير الطّعن على غيره بدون حق ، والعائب لما ليس بعيب. واللّمزة : العائب للآخرين أيضا ، فالويل للطاعن في الناس بغير حقّ ، العائب لهم ، المفرّق بينهم بالنّميمة ، المغتاب لهم (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) أي كدّس المال عنده وأحصاه مرارا ، ويقال : معناه أعدّه لآفات الزمان وادّخره من غير الحلال ومنع الحق الذي فيه عن المستحقّين من الفقراء والمساكين. وقيل إن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة الذين كان كثير الغيبة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذي كان يتكلم عليه في حضوره ويقف في وجه دعوته ، كما قيل إنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي الذي كان يغتاب الناس

٤١٣

كثيرا. فقد هدّد سبحانه ذلك الهمزة اللّمزة الذي (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) يظنّ أن ما جمعه من مال يجعله من الخالدين في الدنيا ويحول بينه وبين الموت ، في حين أنه (كَلَّا) أي لا يكون ذلك ولا يخلّده ماله ولا يدوم له ، وما حسبه ليس بحق فإنه (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) يعني ليطرحنّ في جهنّم ، ويقذفنّ في تلك النار التي تحطم العظام وتأكل اللحوم. ثم قال سبحانه معظّما شأن تلك النار : (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ؟) أي وما علمك يا محمد ، ويا أيها الإنسان ما شأن تلك الحطمة؟ ثم بيّن سبحانه شأنها بقوله : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) أي المشعلة المؤجّجة بالوقود الهائجة اللهب ، وقد أضافها تعالى إلى نفسه ليبيّن أنها ليست كسائر النيران التي يعرفها الإنسان بل لها شؤون عظيمة أخرى ، فهي متّقدة دائما وأبدا ، وهي (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي تعرف ما في القلوب ، وتشرف عليها فيبلغها ألمها الشديد ، وقيل إن هذه النار تخرج من الباطن إلى الظاهر فتلتهب منها الأحشاء والأفئدة قبل الجلود (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أي مطبقة مقفلة أبوابها على الكافرين لييأسوا من الخروج منها ، وهي مقفلة (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) يعني أطبقت عليهم وشدّت أبوابها بأوتاد وبأعمدة من نار ممتدّة على مداخلها لإحكام إقفالها بحيث لا يدخل إليها روح ولا راحة من حرّها وألمها. وفي العياشي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن الكفّار والمشركين يعيّرون أهل التوحيد في النار ، ويقولون : ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئا ، وما نحن وأنتم إلّا سواء. قال : فيأنف لهم الربّ تعالى فيقول للملائكة : اشفعوا ، فيشفعون لمن شاء الله. ثم يقول للنبيّين : اشفعوا ، فيشفعون لمن شاء الله. ثم يقول للمؤمنين : اشفعوا ، فيشفعون لمن شاء الله. ويقول الله : أنا أرحم الراحمين ، اخرجوا برحمتي كما يخرج الفراش. ثم قال أبو جعفر عليه‌السلام : ثم مدّت العمد وأوصدت عليهم ، وكان والله الخلود .. فنعوذ بالله من ذلك.

* * *

٤١٤

سورة الفيل

مكيّة ، وآياتها ٥ نزلت بعد الكافرين.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

١ ـ آخر السورة ـ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ...) هذا خطاب منه سبحانه لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يلفت نظره فيه إلى الآية السماويّة العجيبة التي أمر بحلولها بأصحاب الفيل الذين قدموا من اليمن بقيادة ملكها أبرهة بن الصباح الأشرم المكنّى بأبي يكسوم الذي بنى (كعبة) باليمن وجعل فيها قبابا من ذهب وأمر أهل مملكته بالحج إليها وأراد بذلك مضاهاة بيت الله الحرام ، وأراد أن يدعو سائر العرب للحج إليها وأن يهجروا الكعبة المشرفة. وقيل إن رجلا من بني كنانة ذهب إلى اليمن ورآها ، فدخل إليها وتغوّط فيها وخرج. ثم دخلها أبرهة فوجد العذرة فيها ، فسأل عمّن اجترأ وفعل ذلك ، ثم حلف أن يهدم بيت الله

٤١٥

في مكة حتى لا يحج اليه حاجّ أبدا. ثم دعا قومه وركب فيلا وسار بهم حتى إذا كان ببعض الطريق بعث رجلا يدعو الناس إلى حج بيته الذي بناه. فتلقّاه رجل من بني كنانة أيضا فقتله ، فازداد أبرهة بذلك حنقا ، وحث السير وطلب من أهل الطائف دليلا يرشده فبعثوا معه دليلا خرج يرشدهم إلى الطريق حتى إذا كان على ستة أميال من مكة المكرّمة فنزلوا يستريحون ويستعدّون لهدم الكعبة. وخرجت قريش إلى رؤوس الجبال تستشرف الجيش الغازي وقالوا لا طاقة لنا بقتال هؤلاء. ولم يبق في مكة إلّا عبد المطّلب بن هاشم سلام الله عليهما قرّ على السقاية ، وإلّا شيبة بن عثمان بن عبد الدار أقام على حجابة البيت ، فوقف عبد المطّالب بباب الكعبة وأخذ بعضادتيه وقال :

لا همّ إنّ المرء يمنع

رحله فامنع حلالك

لا يغلبوا بصليبهم

ومحالهم عدوا محالك

لا يدخلوا البلد الحرام

إذا فأمر ما ، بدا لك

أي ان المرء يحمي من يركبه في قافلته ويحفظه ، فاحفظ اللهمّ حلالك : يعني القوم الحالّين ببيتك.

ثم إن مقدمة جيش أبرهة أصابت إبلا لقريش فيها مائتا بعير لعبد المطّلب بن هاشم (ع) فلمّا بلغه ذلك خرج يطلبها. وكان حاجب أبرهة رجلا يعرف عبد المطلب حق المعرفة فاستأذن له على الملك قائلا : أيها الملك ، جاءك سيد قريش الذي يطعم إنسها في الحيّ ووحشها في الجبل. فقال ائذن له. فأذن له. وكان عبد المطلب رجلا جسيما جميلا مهيبا رآه أبرهة بهذه الهيبة فعظّمه وكرّمه أن يجلسه تحته ، وكره أن يجلسه معه على سريره ، فنزل على الأرض وجلسا معا عليها ، وقال لعبد المطّلب : ما حاجتك؟ قال : حاجتي مائتا بعير لي أصابتها مقدمتك. فقال أبرهة : والله لقد رأيتك فأعجبتني ، ثم تكلمت فزهدت فيك. فقال عبد المطّلب : ولم أيّها الملك؟ قال : لأني جئت إلى بيت عزّكم ومنعتكم من العرب ،

٤١٦

وفضلكم في الناس وشرفكم عليهم ودينكم الذي تعبدون ، فجئت لأكسره. وأصيبت لك مائتا بعير فسألتك عن حاجتك فكلّمتني في إبلك ولم تطلب إليّ في بيتكم؟ فقال عبد المطلب (ع) : أيها الملك ، أنا أكلّمك في مالي ، ولهذا البيت ربّ هو يمنعه ، لست أنا منه في شيء. فارتاع لذلك أبرهة وأمر بردّ الإبل لعبد المطلب وبات ليلة كالحة كلها هواجس ووساوس. وكذلك قضاها جيشه. ثم أصبحوا فبعثوا فيلهم ليتوجّهوا نحو الكعبة لهدمها ، فربض. فضربوه فتمرّغ. وما زالوا به حتى وجّهوه نحو اليمن فانبعث وقام متجها نحوها مهرولا. فحاولوا أن يعطفوه نحو مكة فربض على الأرض من جديد. ولم يزالوا يعالجونه هكذا إلى أن طلعت الشمس ، فطلعت عليهم طير معها حجارة من سجّيل فجعلت ترميهم بها. وكان كل طائر منها يحمل في منقاره حجرا ، وفي رجليه حجرين ، لا يقع حجر منها عن بطن إلّا خرقه ، ولا عظم إلّا ثقبه ، فقضي على الجيش بكامله ، وولّى أبرهة هاربا نحو اليمن فأصابه حجر فكان كلما مشى مسافة انقطع شيء من أوصاله وتناثر شيء من لحمه ، حتى إذا انتهى إلى اليمن تصوّع صدره ، وانشقّ بطنه فهلك. وكان عبد المطّلب سلام الله عليه قد طاف بالبيت ووقف يرتجز :

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا

يا ربّ فامنع منهم حماكا

إنّ عدوّ البيت من عاداكا

إنّهم لم يقهروا قواكا

وروى العياشي بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ، قال : أرسل الله على أصحاب الفيل طيرا مثل الخطاف ونحوه ، في منقاره حجر مثل العدسة ، فكان يحاذي برأس الرجل فيرميه بالحجارة فيخرج من دبره ، فلم تزل بهم حتى أتت عليهم ، قال : فأفلت رجل منهم فجعل يخبر الناس بالقصة. فبينا هو يخبرهم إذ أبصر طيرا فقال : هذا هو منها. قال : فحاذى فطرحه على رأسه فخرج من دبره.

أجل .. ألم تر يا محمد ما فعلناه بأصحاب الفيل لمّا أرادوا هدم بيتنا

٤١٧

الحرام ، والذين كان معهم فيل اسمه محمود؟ وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ير هذه الحادثة السماوية التاريخية العجيبة ، لأنه (ص) قد ولد في ذلك العام ـ عام الفيل (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) يعني ألم يجعل ربّك يا محمد مكرهم وكيدهم في تخريب البيت وقتل أهله ، واستباحة الحرام بكامله في ضياع عمّا قصدوا إليه ، وقد ضلّ سعيهم ولم ينالوا ما أرادوه في مكرهم (وَأَرْسَلَ) بعث الله ـ ربّك (عَلَيْهِمْ) على أصحاب الفيل (طَيْراً أَبابِيلَ) أي رفوفا وأسرابا يتبع بعضها بعضا ، قيل إنها كانت لها خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) يعني تقذفهم بها ـ وقد فسّرنا السجّيل في سورة هود ولا نكرّر ذلك ... (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) أي تركتهم كالزرع اليابس وتبنه الذي أكلته الدواب وراثته ثم ديس وتفرّق ، وتناثرت الأجزاء الباقية من قشّه وحصيده مختلطا هذا بذاك. وقد حصلت هذه الآية في ذلك العام بالذات إيذانا بمولد نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه. وهي معجزة سماويّة ليس لأحد أن ينكرها لأن أهل مكة رأوها بأعينهم ولذلك لم ينكروها عند ما قرأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه السورة المباركة مع شدة تكذيبهم لنبوّته ، وذلك أنهم لا يزالون قريبي العهد بآية أصحاب الفيل.

* * *

٤١٨

سورة قريش

مكيّة وآياتها ٤ نزلت بعد التين.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))

١ ـ آخر السورة ـ (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ ...) الإيلاف عكس الإيحاش ، وهو من المؤالفة والاجتماع كالايناس وسكون النفس إلى من تألفه. وكلمة (لِإِيلافِ) جارّ ومجرور متعلّقان بالآية : فجعلهم كعصف مأكول ، التي في سورة الفيل السابقة. فقد فعل الله تعالى ذلك بأصحاب الفيل وجعلهم كعصف مأكول من أجل لّم شمل قريش والتأليف بينهم ، وهذه نعمة منا عليهم تضاف إلى نعمتنا التي تشملهم في رحلة الشتاء ورحلة الصيف. فقد أهلكنا أبرهة وجيشه لتعود قريش إلى سابق ائتلافها ووحدتها ، ولتتمسك بمكة وبيت الله فيولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها فلا يعجبون من تلك الآية التي هيأت الأذهان لأمر سماويّ عظيم. و (إِيلافِهِمْ) بدل من السابق و (رِحْلَةَ

٤١٩

الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) في محل نصب بوقوع (الإيلاف) عليها. وقد كانت لقريش رحلتان تجاريتان تربح منهما مرابح طائلة : رحلة في الشتاء إلى اليمن لأنها بلاد حارّة ، ورحلة في الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة. وقيل إن الرحلتين كانت إلى الشام ولكنهم كانوا في الشتاء يسلكون طريق البحر وأيلة طلبا لدفء السواحل ، ويسلكون في الصيف طريق بصرى خوفا من الحرّ الشديد (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) أمر منه سبحانه بأن تكون عبادتهم موجهة لربّ الكعبة المقدّسة التي حماها الله لهم بآية من آياته العجيبة على مرأىّ منهم ومسمع ، فإنه هو الذي ألّف بينهم من حول ذلك البيت الحرام وأغناهم في رحلتيهم ، وهو (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أطعمهم بما فتح عليهم من الأرزاق في رحلاتهم ، وآمنهم بأن لم يتعرّض لهم أحد في أسفارهم إذا قالوا له : نحن أهل حرم الله. فقد كان يصاب حيّ من أحياء العرب فيقال لمن يصيبه : هو حيّ حرميّ ، فيخلّي عنه وعن أمواله تعظيما للحرم ، ولذلك لم يكن بنو أب أكثر مالا ولا أعزّ من قريش كما في المجمع.

* * *

٤٢٠