الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣))

١٢ و ١٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ...) أي إذا ساررتموه (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي تصدقوا على فقير قبل أن تدخلوا عليه (ص) لمناجاته. وهذا تعظيم لشأنه صلوات الله وسلامه عليه ، وليكون سببا لعمل فيه نفع للفقير وفيه أجر عظيم. وقيل إنهم بخلوا بالصدقة وكفّوا عن مناجاته (ص) فلم يناجه بعد ذلك إلّا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وقد ذكرنا ذلك سابقا (ذلِكَ) أي ذلك التصدّق على الفقراء قبل مناجاته (ص) هو (خَيْرٌ لَكُمْ) لأنه عمل مستحبّ عليه أجر كبير (وَأَطْهَرُ) يعني وأزكى لأعمالكم لأنكم تتطهّرون به قبل الدخول على النبيّ (ص) كما يتطهّر المصلّي قبل صلاته (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) ما تتصدّقون به (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي عفوّ عنكم عطوف عليكم يرحم وينعم عليكم من واسع فضله. ثم لما ضنّوا بذلك وشحّت نفوسهم ببذل الصدقات بين يدي مناجاته (ص) نسخ الله تعالى الآية السابقة بقوله عزّ وعلا : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) يعني هل خفتم الفقر وبخلتم بالصدقة يا أهل الغنى واليسار؟ وهذا تقريع لهم وتوبيخ لخوفهم من الحاجة (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي وما زلتم قد قصّرتم ولم تقدّموا الصدقات (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) عفا عن تقصيركم في أمره (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ) في جميع ما أمركم به من الطاعات (وَ) أطيعوا (رَسُولَهُ) أيضا (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) عالم بأفعالكم جميعها.

* * *

١٢١

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩))

١٤ إلى ١٩ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ...) أي : ألم تنظر يا محمد إلى هؤلاء المنافقين الذين يوالون اليهود الذين باءوا بغضب الله وسخطه ، فإنهم يجتمعون معهم ويفشون إليهم بأسرار المسلمين ليسيئوا إليك وإلى المؤمنين (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) أي أنهم ليسوا من المؤمنين بك ولا هم معهم في الإيمان ، ولا هم من اليهود في الظاهر وإن كانوا معهم بالولاء (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) أي يقسمون الأيمان أنهم لم ينافقوا ولا أفشوا أسرارا (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يعرفون أنهم منافقون ، ولذلك (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) هيّأه لهم في الآخرة (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس ما فعلوا وما يفعلون من النّفاق وموالاة أعداء الله ورسوله. إنهم قد (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي جعلوا ما يقسمونه من الايمان

١٢٢

الكاذبة وقاية لهم وشرا دون القصاص يدفعون بها التهمة والخيانة (فَصَدُّوا) أي منعوا نفوسهم وغيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الطريق المؤدية إلى معرفته سبحانه وإلى الحق والهدى (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) مرّ تفسيره. و (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) أي سوف لا تفيدهم الأموال التي جمعوها (وَلا أَوْلادُهُمْ) التي خلّفوها وتعبوا عليها ، لن تغني عنهم (مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لن تمنع عنهم عذابه ولا تدفع غضبه (أُولئِكَ) هم (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) مرّ تفسيرها مكرّرا (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) يحييهم (جَمِيعاً) كلّهم (فَيَحْلِفُونَ) يقسمون (لَهُ) في الآخرة (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في الدنيا ، بأنهم كانوا مؤمنين بحسب اعتقادهم السخيف الذي كانوا يظنونه حقّا (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) أي ويظنون أنهم كانوا على شيء من الحق ولذلك يحلفون بالكذب (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) في أقوالهم وعقيدتهم وأيمانهم التي يقسمونها ، وقد (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) أي استولى عليهم وأحاط بهم من جميع جهاتهم لشدّة اتّباعهم له (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) فصاروا لا يذكرونه ولا يخافون منه (أُولئِكَ) هم (حِزْبُ الشَّيْطانِ) جنوده وأتباعه (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) في الآخرة ، ويكفي أنهم يخسرون مرضاة الله تعالى ، والجنّة ويستبدلون ذلك بالنار وبئس القرار.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ

١٢٣

أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

٢٠ إلى ٢٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) أي الذين يخالفونهما في الحدود التي وضعها الله تعالى لمعالم دينه ، وهم المنافقون و (أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) أي أنهم بمشيئة الله عزوجل في صنف الأذلّة في الدنيا وفي الآخرة مع الخزي العظيم ، ذلك إذ (كَتَبَ اللهُ) في اللّوح المحفوظ وقدّر وذلك لا بدّ أن يكون ، وهو (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) لننتصرنّ على الكفّار والمنافقين. وهذا يجري مجرى القسم المؤكّد لأنه أجاب عليه بجواب القسم المؤكّد باللام ونون التوكيد ، فلنغلبنّهم بالحجج والبراهين وفي حربهم ، فإنه ما أمر سبحانه بحرب إلّا غلب إن عاجلا أو آجلا (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) قادر قاهر (عَزِيزٌ) منيع غالب لمن خاصم أنبياءه وأولياءه (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يصدّقون بوحدانيّة الله سبحانه وبالبعث والحساب والثواب والعقاب ثم (يُوادُّونَ) يوالون ويحبّون (مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) من خالفهما ولم يعمل بأوامرهما ، إذ لا تجتمع موالاة الكفّار مع الإيمان مطلقا (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) يعني مهما قربت قرابتهم منهم ، فإنهم يتبرّءون منهم لأنهم أعداء الله ورسوله. وقيل إن هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة الذي كتب إلى أهل مكة كتابا يخبرهم فيه يتوجّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكّة ليفتحها ، ثم لمّا صادر الإمام عليّ عليه‌السلام الكتاب في الطريق بأمر من رسول الله (ص) الذي علم به من جبرائيل (ع) اعترف حاطب أمام النبيّ (ص) واعتذر بأن أهله بمكة وأقاربه فيها وأراد أن يصنع يدا مع الكفّار ليرفقوا بأهله وأقاربه. فالمؤمنون لا يوالون الكفّار في حال من الأحوال ، إذ (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي ثبّته فيها بلطفه فصار كأنه مكتوبا

١٢٤

فيها مسجلا عليها فالإيمان سمة في قلوبهم ، وذلك عكس الطبع على قلوب الكافرين ، فإن المؤمنين رفق سبحانه بهم (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي سدّدهم بالإيمان الذي كان لهم بمثابة الروح في البدن لأنه بأمره عزّ وعلا. وقيل قوّاهم بالحجج والأدلة فاهتدوا إلى الحق ، وقيل قوّاهم بالقرآن الكريم ، وقيل أيّدهم بجبرائيل عليه‌السلام لينصرهم في المواطن كلّها (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) واضح المعنى وقد تكلّمنا حوله سابقا ، فقد (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) لطاعتهم وعبادتهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بالثواب الذي ينالونه في الجنّة (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) أي جنوده وأنصاره (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المنتصرون الظافرون الناجحون.

* * *

١٢٥

سورة الحشر

مدنية وآياتها ٢٤ نزلت بعد البيّنة.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤))

١٢٦

١ إلى ٤ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) هذه السورة المباركة نزلت في إجلاء بني النّضير من اليهود حين أنذرهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لكيدهم ومكرهم وخيانتهم فخرجوا إلى خيبر وبلاد الشام ، وقد مرّ تفسير هذه الآية الشريفة ، والله تعالى (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي هؤلاء اليهود (مِنْ دِيارِهِمْ) بتسليطه المؤمنين عليهم وبأمر النبيّ (ص) بإخراجهم من حصونهم (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) اختلف في معنى هذا القول والظاهر أنه سبحانه أخرجهم منها على أن لا يعودوا إلى أرضهم حتى قبيل يوم القيامة ، ففرّقهم في البلاد وشتّت شملهم في أقاصي المعمور (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي ما حسبتم أيها المؤمنون أنه يمكن إخراجهم من ديارهم بسهولة لقوّتهم ومنعتهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) أي حسبوا أنهم تحميهم القلاع والحصون التي اعتصموا بها (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي جاء أمر الله تعالى وعذابه (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) من جهة لم يحسبوا حسابها لأنهم اغترّوا بقوّتهم وسلاحهم (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي ألقى الخوف في نفوسهم وخصوصا بعد قتل زعيمهم كعب بن الأشرف (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) أي يهدمونها من الداخل ليهربوا ، ويهدمها المؤمنون من الخارج للوصول إليهم (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي فانظروا وتدبّروا واتّعظوا يا أصحاب العقول فيما حلّ بهم من البلاء من حيث لم يحتسبوا ، وذلك أن الله تعالى وعد رسوله أن يورث المؤمنين أموالهم وديارهم قبل ذلك الإنذار الذي مزّقهم شذر مذر (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) أي قدّره عليهم وحكم بأن يرحلوا عن ديارهم فلو لا ذلك (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل ونصر المؤمنين عليهم كما فعل ببني قريظة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) مع جلائهم عن وطنهم (عَذابُ النَّارِ) جزاء كفرهم وعنادهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ) أي هذا الذي فعل بهم هو بسبب أنهم خالفوا الله سبحانه وعاندوا رسوله (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ) يخالفه (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي قويّ

١٢٧

القصاص لهم ولكلّ من خالفه وحارب رسله.

* * *

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥) وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨))

٥ ـ (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً ...) أي أنكم يوم حربكم لليهود لم تقطعوا لهم من شجرة نخل من أنواع النخل الكريم الحسن النوع ، ولم تتركوا من نخلهم نخلة (قائِمَةً عَلى أُصُولِها) بقيت قائمة دون قطع ودون قلع (فَبِإِذْنِ اللهِ) فبأمره وتقديره ليذلّ بذلك أعداءكم (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) ليهينهم ويذلّهم حين يرونكم تتحكّمون في أموالهم وأملاكهم.

١٢٨

٦ إلى ٨ ـ (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ...) أي ما جعله له فيئا خالصا من أموالهم حين جلوا عن بلادهم (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) أي فلم تقربوه محاربين لا على الخيول ولا غيرها مما تركبون ولكنكم مشيتم إليه مشيا لأنه في أطراف المدينة (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) بل الله تعالى يمكّن رسله من أعدائهم وينصرهم عليهم حين يشاء من غير قتال كما فعل بالنسبة لبني النّضير حيث جعل سبحانه أموالهم للنبيّ (ص) خالصة يفعل بها ما يريد ، فقسمها رسول الله (ص) بين المهاجرين منها شيئا إلّا لثلاثة منهم كانت بهم حاجة شديدة وهم : سهل بن حنيف ، وأبو دجانة ، والحارث بن الصمة (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ظاهر المعنى. وعرض سبحانه لحكم الفيء الذي ذكره فقال : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي من أموال الكفار في القرى المعادية له ، فهو «لله» يضعه سبحانه فيما أحب وبحسب ما يأمركم به (وَلِلرَّسُولِ) بتمليك من الله له (وَلِذِي الْقُرْبى) يعني أهل بيت رسول الله وقرابته من بني هاشم دون غيرهم (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي يتامى أهل بيته (ص) ومساكينهم ، وابن السبيل منهم ، فعن عليّ بن الحسين عليه‌السلام ـ كما في المجمع : هم قربانا ، ومساكيننا ، وأبناء سبيلنا. وقيل هم يتامى ومساكين وأبناء سبيل الناس عامة لأن ذلك روي عنهم عليهم‌السلام فعن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : كان أبي يقول : لنا سهم رسول الله وسهم ذي القربى ، ونحن شركاء الناس فيما بقي. وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : نحن قوم فرض الله طاعتنا ، ولنا الأنفال ، ولنا صفو المال ، يعني ما كان مصطفى لرسول الله (ص) من خيار الدوابّ وحسان الجواري ومن الجواهر وغيرها (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي حتى لا يبقى ذلك متداولا بين الأغنياء فقط ، يحرزه هذا مرة وهذا مرة ، وهذه هي المداولة كما يكون بين الرؤساء (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي اعملوا بحسب أمره في تقسيم

١٢٩

الأموال فإنه لا يأمركم ألّا بحكم الله عزوجل (وَاتَّقُوا اللهَ) تجنّبوا غضبه بترك المعاصي وبفعل الواجبات (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن عصى أوامره وأوامر رسوله. ثم منّ سبحانه على عباده المحتاجين فقال : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) الذين تركوا مكة وقصدوا المدينة هجرة إلى نبيّهم (ص) ومن دار الحرب إلى دار الإسلام ، وهم (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) التي كانوا يملكونها (يَبْتَغُونَ) يطلبون (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) راغبين بفضله ورضاه ورحمته (وَيَنْصُرُونَ اللهَ) أي هاجروا نصرة لدينه ، وينصرون (رَسُولَهُ) بتقويته على أعدائه (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) فعلا لأنهم قصدوا نصر الدّين واستجابوا لله تعالى ورسوله (ص). وبعد أن مدح أهل مكة وغيرها من المهاجرين ، مدح الأنصار من أهل المدينة لأنهم طابت أنفسهم عن الفيء فرضوا بتقسيمه على المهاجرين المحتاجين فقال :

* * *

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))

٩ و ١٠ ـ (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ ...) أي سكنوا المدينة وهي دار الهجرة

١٣٠

التي تبوأها الأنصار قبل المهاجرين (وَالْإِيمانَ) إذ لم يؤمنوا قبل المهاجرين ، بل آمنوا بعد هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم إلّا قليلا منهم. أما عطف الإيمان على الدار في التبوّء فهو عطف ظاهريّ لا معنويّ لأن الإيمان لا يتبوّأ ، وتقديره : وآثروا الإيمان على الكفر (مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني قبل قدوم المهاجرين إليهم حين أحسنوا إليهم بأن أسكنوهم بيوتهم وشاركوهم في أموالهم (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) أي لم يكن في قلوبهم حزازة ولا غيظ ولا حسد بسبب ما أخذ المهاجرون من الفيء الذي استولوا عليه من مال بني النّضير ، بل طابت به نفوسهم وكانوا (يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي يقدّمون المهاجرين ويفضّلونهم على أنفسهم في العطاء (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي ولو كانت بهم حاجة وفقر ، وذلك رأفة بإخوانهم وطلبا للأجر والثواب (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أي الفائزون بثواب الله تعالى الرابحون لجنّته ونعيمها. وقيل : من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه ، ولم يمنع شيئا أمره الله بأدائه فقد وقي شحّ نفسه. وقيل. شحّ النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة. ثم عقّب سبحانه بوصف التابعين ومدحهم بعد المهاجرين والأنصار فقال : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني من بعد هؤلاء وهؤلاء وهم سائر التابعين لهم إلى يوم القيامة (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) أي أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم من المؤمنين بالمغفرة والتجاوز عن الذنوب (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي لا تجعل فيها حقدا ولا كرها ولا غشّا ، واجعل قلوبنا معصومة عند ذلك لا تحب لهم إلّا الخير (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي متجاوز عن خطاياهم متعطّف عليهم بالرزق والمغفرة.

* * *

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ

١٣١

أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤))

١١ إلى ١٤ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا ...) بعد مدح المهاجرين والأنصار والتابعين عطف على ذكر المنافقين المسرّين للكفر والعصيان فقال لنبيّه (ص) : ألم تنظر يا محمد (إِلَى) هؤلاء المنافقين (الَّذِينَ نافَقُوا) فأظهروا لك الإيمان وأبطنوا الكفر ، وهم (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) في الكفر (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي يهود بني النّضير : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من دياركم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) مساوين لكم (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) أي لا نطيع محمدا (ص) وأصحابه في قتالكم مطلقا (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) من قبل المسلمين (لَنَنْصُرَنَّكُمْ) أي لنعيننّكم في الحرب. وقد قالوا لهم ذلك كذبا إذ فضحهم الله بقوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم فإنهم لا يخرجون معه ولا ينصرونهم وهم سيخلفون بوعدهم لهم ولذا قال سبحانه (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) أي إذا فرض وجود نصرهم الذي هو محال (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) لسوف يهربون وينهزمون (ثُمَّ لا

١٣٢

يُنْصَرُونَ) أي ثم لا ينتفع جماعتهم بهذا الوعد ولا بنصرتهم. وهذا الوعد كان من بني قريظة لبني النّضير ، ولكنهم لم يخرجوا معهم ، وحين قوتل بنو قريظة لم ينصروهم. ثم توجّه سبحانه بالخطاب للمؤمنين فقال (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) أي خوفا ورعبا (فِي صُدُورِهِمْ) أي في قلوبهم ونفوسهم (مِنَ اللهِ) أي أن خوفهم منكم أشدّ من خوفهم من الله لأنهم يرونكم ويعرفون قوّتكم ، ولا يعرفون الله ولا يدركون قوّة بطشه بأعدائه (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي بسبب أنهم لا يعلمون الحق ولا يعرفوه عظمة الله عزّ وعلا. وهم (لا يُقاتِلُونَكُمْ) أيها المؤمنون (جَمِيعاً) أي مجتمعين بارزين لجريكم وجها لوجه (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) أي من حصون منيعة وأبراج يدفعون بها عن أنفسهم لجبنهم وضعفهم أمامكم (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي من وراء أسوار وحيطان يرمونكم وهم محتمون بها لشدة خوفهم منكم (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي أن عداوتهم فيما بينهم شديدة فإنهم يكره بعضهم بعضا وقلوبهم غير متّفقة (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) تظنّهم متّحدين في ظاهرهم (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) متفرّقة مختلفة الكلمة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) لا يميّزون الرّشد من الغي.

* * *

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧))

١٣٣

١٥ إلى ١٧ ـ (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي أن حال الكافرين الذين تكلّمنا عنهم من اليهود وغيرهم من الاغترار بعددهم وقوّتهم ، كحال من سبقهم من المشركين الذين حاربوكم يوم بدر مثلا أو كبني قينقاع الذين نقضوا العهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد بدر فأخرجوا صاغرين و (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي ذاقوا عاقبة كفرهم وعنادهم (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة لأنهم من أهل النار. أو أن هؤلاء اليهود والمنافقين مثلهم (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) فغشّه ووسوس له بالكفر وزيّنه له (فَلَمَّا كَفَرَ) ومارس الكفر وتحكّم فيه العناد واستحوذ عليه الشيطان (قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) تبرّأ منه الشيطان ومن كفره وقال : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أخشى عقابه يوم القيامة. وهذه هي حال الشيطان مع الناس فإنه يغرهم ويغويهم في الدنيا ويتبرّأ منهم ومن عملهم في الآخرة ويرميهم بعذاب الضمير فوق عذاب جهنم وبئس المصير. وروي أن هذا المثل قد كان من واقع حياة اليهود وإن له قصة يعرفونها. فقد كان في بني إسرائيل عابد زاهد اسمه برصيصا يؤتى بالمجانين ويرقيهم ويشفيهم بقدرة الله. وقد أتي بامرأة شريفة أصابها مسّ من الجنون فأخذ يعالجها فأغواه الشيطان فوقع عليها فحملت قبل أن تخرج من صومعته معافاة لتعود إلى أهلها. وقد ظهر عليها الحمل فخاف أن يفتضح أمره فزيّن له الشيطان قتلها ودفنها ففعل. فخرج الشيطان وطاف على إخوتها واحدا واحدا يذكر لهم قصّة العابد بالتفصيل ويصف لهم مكان دفنها. فاجتمعوا وتذاكروا بالقصّة ثم أخبروا ملك الزمان بها ، فجاء الملك مع الناس فأنزلوه من صومعته وسألوه عن الذي فعله وأظهروا له الدلائل فاعترف ، فأخذه الملك وأمر بصلبه. ولمّا علّق على الصليب أتاه الشيطان فقال أنا الذي ألقيتك في هذا المأزق وأنا الوحيد الذي يخلّصك منه إذا أطعتني بشيء أطلبه منك ، وذلك بأن تسجد لي فأنجّيك بقدرة قادر. فقال العابد : وكيف أستطيع السجود لك وأنا معلّق على خشبتي؟ قال له

١٣٤

الشيطان : أكتفي منك بالإيماء لأن السجود متعسّر عليك. فأومى له بالسجود ، فكفر بالله وكان من أهل النار. وذلك تفسير قوله تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ ...) وهذا لا ينافي ما قلناه سابقا من أن الشيطان يغري الناس ويغويهم ، ثم يتبرّأ منهم يوم القيامة (فَكانَ عاقِبَتَهُما) يعني عاقبة الفريقين : الشيطان ومن أغواه (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) معذّبين إلى أبد الأبد (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم ولغيرهم.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

١٨ إلى ٢٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ...) أي تجنّبوا معاصيه واعملوا بطاعاته (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي ما قدّمت من عمل صالح ليوم القيامة أو من عمل سيّء (وَاتَّقُوا اللهَ) خافوه واتركوا المعاصي وتدبّروا الأمر قبل فوات الأوان فإن الساعة قريبة الحدوث (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ) عالم (بِما تَعْمَلُونَ) من خير أو شر. وقد كرّر الأمر بالتقوى ليتوب الإنسان مما مضى من ذنوبه ـ وهذا الأمر الأول ـ وليتجنّب العصيان في المستقبل ـ وهذا الأمر الثاني ـ وكلاهما رأفة منه سبحانه بالعباد. ولعلّ الثاني تأكيد للأول كما قيل (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) أي لم يذكروه وتركوا أداء حقّه (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي حرمهم حظّهم من الخير الذي

١٣٥

ينالونه بالطاعات فعموا عنها ولم يقوموا بها فكان ذلك مدعاة لإهلاك نفوسهم في العذاب (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة الله إلى معصيته ، و (لا يَسْتَوِي) أي لا يتساوى (أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) بالاستحقاق لأن هؤلاء يستحقّون الجنّة ، وأولئك يستحقّون النار ، و (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) الظافرون بثواب الله ورضاه ونعيمه.

* * *

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

٢١ ـ (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ ...) هذا تعظيم لشأن القرآن الكريم الذي لو أنزله الله تعالى على جبل من الجماد لا يشعر ولا يحس بطبع خلقته (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي لرأيت الجبل الجامد متذلّلا متخاذلا تعظيما لشأنه. والتصدّع هو التفطّر ، أي التفسّح بعد التلاؤم ، والإنسان العاقل أجدر من الجبل وأحق بأن يخشى الله ويخشع له لو عقل كلام القرآن وفهم أحكامه. وهذا كمثل قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وهذا دليل على قسوة قلب الإنسان

١٣٦

الكافر الذي لا يتعقّل ولا يتفكّر ولا يتدبّر ولا يلين قلبه لمواعظ القرآن وترهيبه وترغيبه (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي ليعتبر الناس بهذه الأمثال التي هي من واقع حياتهم. وبعد هذا التصغير من شأن الكافر المعاند انتقل كلامه عزوجل إلى وصف ربوبيّته ووحدانيّته وعظمته فقال عزّ من قائل :

٢٢ إلى آخر السورة المباركة ـ (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ...) يعني هو الربّ الذي لا ربّ غيره ، المستحقّ للعبادة والتقديس دون سواه ، وهو (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي العالم بما غاب عن عباده وبما يشاهدونه ويرونه ، أي بما لا يقع عليه حسّهم ولا يصل إليه إدراكهم ، يعلم السرّ وأخفى. وفي المجمع عن أبي جعفر عليه‌السلام : الغيب ما لم يكن والشهادة ما كان (هُوَ الرَّحْمنُ) الرازق لجميع خلقه طائعين وعصاة (الرَّحِيمُ) بالمؤمنين منهم خاصة (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ) أي المالك لجميع الأشياء ، دون منازع في ملكيّته (الْقُدُّوسُ) الطاهر من كل آفة المنزّه عن كل قبيح ، وقيل المطهّر من الشريك والولد والصاحبة ، فليس بجسم حتى تعرض له الحوادث ، بل هو المبارك واهب الخيرات المتفضّل على الخلق بالنّعم (السَّلامُ) الذي يسلم العباد من ظلمه ومنه ترجى السلامة (الْمُؤْمِنُ) الذي تنجو المخلوقات من ظلمه ، وقيل هو الذي أمن أولياؤه من عقابه كما قيل أنه الداعي إلى الإيمان والآمر به (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب المتسلّط على الأشياء ، وقيل هو الأمين الذي لا يضيع عنده حقّ لأحد (الْعَزِيزُ) المنيع القادر الذي لا يقهر (الْجَبَّارُ) القاهر العظيم الشأن ولا جبّار غيره وإذا وصف الظالمون بذلك فإنما يوضع الوصف في غير محلّه ويكون حينئذ ذمّا للموصوف. وهو (الْمُتَكَبِّرُ) المجلّل بالكبرياء الحقيق بصفات التعظيم المتعالي عن صفات المحدثين (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها له (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن شرك المشركين به لأنه (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) المبتدع لأجسام الكائنات ولجميع الأعراض والمحدث

١٣٧

للأشياء بكاملها (الْبارِئُ) المنشئ للخلق (الْمُصَوِّرُ) الذي صوّر الأشياء على ما هي عليه كالإنسان والحيوان والجماد (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) مثل : الله ، الرحمان ، الرحيم ، العالم ، القادر ، الحق إلخ ... (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ينزهه (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مرّ تفسيره. وعن ابن عباس أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اسم الله الأعظم في ستّ آيات في آخر سورة الحشر.

* * *

١٣٨

سورة الممتحنة

مدنيّة وآياتها ١٣ نزلت بعد الأحزاب.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣))

١ إلى ٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ...)

١٣٩

نزلت في حاطب بن أبي بلتعة الذي ذكرنا ملخّص قصّته قريبا ، وذلك أنه كتب لقريش ومشركي مكّة يخبرهم بتوجّه رسول الله (ص) إلى مكة لفتحها فليأخذوا حذرهم ، وسلّم الكتاب إلى امرأة ذاهبة إلى مكة وأعطاها عشرة دنانير لتوصل الكتاب إلى أهل مكة. ونزل جبرائيل عليه‌السلام فأخبر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بخبر الكتاب فبعث عليّا والزبير والمقداد وكانوا كلهم فرسانا ، وقال لهم : ألحقوا بالمرأة فإن الكتاب معها وستدركونها مع ظعينة في روضة خاخ. فمضوا وأدركوها في ذلك المكان فطلبوا الكتاب منها فأنكرت وحلفت أنها لا تحمل كتابا ، فنحّوها عن القافلة وفتّشوها فلم يجدوا الكتاب فهمّوا بالرجوع فقال عليّ عليه‌السلام : والله ما كذبنا ولا كذّبنا ، ثم سلّ سيفه وقال : أخرجي الكتاب وإلّا والله لأضربنّ عنقك. فلمّا رأت الجدّ أخرجته من ذؤابة شعرها فأخذوه منها وعادوا به إلى رسول الله (ص) فاستحضر حاطبا فاعترف وأقسم قائلا : والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أجبتهم منذ فارقتهم ، ولكنّ أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتّخذ عندهم يدا. فصدّقه رسول الله (ص) وعذره.

وفي هذه الآيات الكريمة خاطب سبحانه المؤمنين ناهيا إياهم عن تولّي الكافرين وموادّتهم فأنتم (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) تحبّونهم وتتقربون منهم وتنصحونهم. وقيل معناه هنا : تلقون إليهم بأخبار النبيّ (ص) ، (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) أي القرآن الكريم والدّين الإسلامي ، وهم (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من مكة ومن دياركم (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) أي لأنكم تؤمنون وتصدّقون ، وكراهة أن تؤمنوا (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي إذا كان هدفكم في خروجكم وهجرتكم الجهاد وطلب رضاي فأعطوا خروجكم حقّه من معاداتهم ولا توادّوهم ولا تتولّوهم و (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي تعرّفونهم مودّتكم لهم سرّا (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) لأني لا يخفى عليّ شيء وأنا

١٤٠