الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

واسعة ، وقيل : سبلا في الصحاري ، وفجاجا في الجبال. وقد ذكر سبحانه جميع هذه النّعم على العباد ليتعظوا ويفكّروا ويوحدوه ويخلعوا الشّرك ويؤمنوا بكونه واحدا أحدا مدبّرا حكيما خالقا رازقا منّانا تجب طاعته وعبادته وشكره على نعمه الجليلة الجميلة.

* * *

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥))

٢١ ـ ٢٥ ـ (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ...) هذا عود إلى ذكر نوح عليه‌السلام الذي شكا عناد قومه فخاطب ربّه سبحانه على سبيل الدعاء قائلا : إلهي إنّ قومي لم يطيعوني فيما أمرتهم به ولا فيما نهيتهم عنه (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي أنهم عصوني وتابعوا أغنياءهم وغيّرهم ما أعطوا من مال وولد ، وسخروا مني وقالوا لو كان هذا رسولا لأعطاه الله مالا وولدا ولكان ذا ثراء وجاه. والخسار هو الهلاك كما لا يخفى ، فإن المال الذي لا يكتسب من أبواب الحلال ، ولا ينفق في أبواب الحلال ، والولد الذي لا ينشأ على الإيمان والتقوى ، ولا يعمل بأوامر الله وينتهي عن نواهيه ، كلاهما يؤدّيان إلى الهلاك في الدنيا وفي

٢٤١

الآخرة. فقد اتّبع فقراؤهم اغنياءهم ولم يسمعوا لدعوتي (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) أي احتالوا في الدين احتيالا كبيرا جاوز الحد ، وقالوا فيه قولا عظيما واجترأوا على الله تعالى بالشّرك مرة وبالتكذيب به مرة (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي لا تدعوا عبادة الأصنام التي اتّخذتموها أربابا ، وقد ذكروا بعضها فقالوا : (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) وهي بعض معبوداتهم من الأحجار ، وقد عبد بعضها العرب من بعدهم. وقيل إن هذه الأسماء كانت لصلحاء مؤمنين كانوا بين آدم ونوح عليهما‌السلام وقد كان من بعدهم يقدسونهم ويتّبعون طريقتهم في العبادة ، فدخل إبليس ووسوس لهم أن يصوّروهم ليصيروا أنشط على العبادة ، ففعلوا واتخذوهم أصناما يعبدونها (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) أي حاد عن الحق بسبيلهم كثير من الناس. وهذا مثل قوله تعالى : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ)(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) أي فلا تزدهم يا ربّ إلّا إهلاكا ، وهذا أيضا مثل قوله تعالى (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) ، أي في هلاك وعقوبة. فزدهم يا ربّ منعا عن الطاعات وانغماسا في المعاصي عقوبة لهم على الكفر والعناد فإنهم إذا فعلت بهم ذلك ومنعت عنهم ألطافك وعطاياك قد يمتثلون ويطيعون ويعودون إلى صوابهم. فهؤلاء الظالمون (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) أي من خطيئاتهم فإن (مِمَّا) هي (مِنْ) و «ما» المزيدة ، فمن أجل ما اقترفوه من الذنوب وارتكبوه من السيئات والكبائر (أُغْرِقُوا) بالطوفان على وجه العقوبة الدنيويّة (فَأُدْخِلُوا ناراً) في الآخرة ليعاقبوا عقاب الآخرة (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) أي فلم يجدوا أحدا يمنع عنهم سخط الله تعالى ويدفع عنه عقوبته وينصرهم لا في الدنيا ولا في الآخرة. وقد عبّر سبحانه بما يدل على الماضي والمقصود معنى المستقبل ، وهذا جائز ومعروف لصدق الوعد به ولحتميّة وقوعه.

* * *

٢٤٢

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

٢٦ إلى آخر السورة ـ (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ ...) وتابع نوح عليه‌السلام دعاءه على الظالمين من الكافرين المعاندين الذين آذوه ورفضوا دعوته بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما ، فقال : ربّ لا تترك على وجه الأرض من الكافرين صاحب دار ، ولا تدع أحدا إلّا أهلكته. وقيل إنه سلام الله عليه لم يتجرّأ على الدعاء عليهم بهذه القسوة إلّا بعد أن انزل عليه قوله تعالى : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) ومن أجل ذلك قال سلام الله عليه : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ) إذا تركتهم دون عقاب (يُضِلُّوا عِبادَكَ) يفتنوهم عن دينهم ويغروهم بخلافه ويغوونهم (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) أي ويكون أولادهم مثلهم. وهذا أيضا كان نوح (ع) قد علمه من ربّه حتى نطق به في دعائه إذ أيقن ان كل من ولد منهم سيكون كافرا بعد بلوغه سنّ التكليف لا محالة ، وعن مقاتل وعطاء والربيعة : ان نوحا عليه‌السلام قال ذلك لأنّ الله تعالى أخرج من أصلابهم من يكون مؤمنا ثم أعقم أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة ، فحينئذ دعا عليهم بعد أن عرّفه الله تعالى حالهم ومآلهم ، وقد كانوا حين هلاكهم ليس منهم صبيّ واحد ... ثم دعا نوح عليه‌السلام لنفسه وللمؤمنين قائلا (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) وأبوه اسمه لمك بن موشلح ، فأمه اسمها سمحاء بنت أنوش ، وهما مؤمنان ، وقيل أراد بدعائه أبويه آدم وحوّاء (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ

٢٤٣

مُؤْمِناً) أي دخل داري ، وقيل مسجدي ، مصدّقا بك يا ربّ وبدعوتي إلى توحيدك وعبادتك ، وقيل أراد بيت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) جميعا ، وقيل من أمة محمد (ص) كما ذكر الكلبي (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) أي خرابا ودمارا وهلاكا.

* * *

٢٤٤

سورة الجن

مكيّة وآياتها ٢٨ نزلت بعد الأعراف.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧))

١ ـ ٢ ـ (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ...) الخطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي قل يا محمد للناس أوحى إليّ ربّي عزوجل أن جماعة من الجنّ استمعوا إليّ وأنا أقرأ القرآن على الناس. والجنّ جيل

٢٤٥

لطاف الأجسام رقاقها لهم صور خاصة بهم ، فالإنسان مخلوق من الطين ، والملك مخلوق من النور ، والجن مخلوق من النار ، فقد أصغى نفر من هؤلاء الجنّ إلى تلاوة القرآن (فَقالُوا) فيما بينهم ، أي قال بعضهم لبعض : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) أي داعيا للتعجّب لإعجازه ، ولخروج تأليفه عن المعتاد الذي نسمعه من الكلام ، ولمباينته لقول الناس فصاحة ونظما ونظاما وتشريعا وأحكاما واحتواء لأخبار الأولين والآخرين ، ولما كان وما يكون ، جريا على لسان رجل أميّ من قوم أميين ، ولذلك سمّوه عجبا ، وقالوا : إنه (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) أي يدل عليه ، والرّشد هو الهدى ... ضد الضلال ... (فَآمَنَّا) صدّقنا (بِهِ) وأنه من عند الله تبارك وتعالى (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) فسنوحّده ونخلص في عبادتنا له دون شريك أو صاحبة. وهذا يدل على أن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوث إلى الجن والإنس على السواء ، ويدل على ان الجنّ يعرفون لغتنا وأنهم عقلاء مفكّرون متدبّرون. وروي ان النفر الذي استمع إلى النبي (ص) كانوا سبعة من جن نصيبين رآهم النبيّ (ص) فآمنوا به وأرسلهم إلى سائر الجن فبلّغوا رسالته ونقلوا دعوته.

٣ ـ ٤ ـ (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً ...) هذا الكلام المقدّس معطوف على القول السابق الذي تكلّم به الجنّ. إنّا سمعنا قرآنا عجبا ، ولذلك اختاروا كسر همزة (إن) فيه ، ومن فتحها عطفه على (فَآمَنَّا بِهِ) بتقدير : وآمنّا بأنه تعالى جدّ ربّنا ، ومعناه تعالت عظمة ربّنا وتعالت صفاته وذاته المقدّسة عن الصاحبة ، والشريك والولد ، وجلّت قدرته وعلا ذكره ، وعظم سلطانه وسمت آلاؤه عن ذلك ، وليس لله تعالى جد ، ولكن الجنّ قالت ذلك فحكاه سبحانه بحسب قولهم كما في المرويّ على الصادقين عليهما‌السلام(وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) أي كان يقول الجاهل منّا قولا سفيها فيه خروج عن حدود الحق الذي ينبغي أن يقال فيه تبارك وتعالى ، وقصدوا بسفيههم إبليس اللعين الذي هو من

٢٤٦

الجنّ والذي يغري الخلق بالمعاصي والكفر.

٥ ـ ٧ ـ (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ...) هذا اعتراف منهم بأنهم كانوا يحسبون ما يقال عن الله صدقا ، وأنه ذو صاحبة وولد ، وأنه لن يقول الإنس والجنّ (عَلَى اللهِ كَذِباً) ولكننا بعد سماع القرآن ظهر لنا الحق ورجعنا عن تقليد المفترين الذين يقولون بالصاحبة والشريك فقد باتت الحجة وظهر الدليل القاطع على وحدانيّته وتنزيهه عن ذلك (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) أي يلجأون إليهم ويعتصمون بهم مستجيرين من كل مكروه ، فقد كان الواحد من العرب إذا نزل إلى الوادي ليلا يقول عند دخولها : أعوذ بعزيز هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه. وكانوا يزعمون أن الجن تحميهم وتحفظهم من النوازل والدواهي. وقيل بل معناه أن رجالا كانوا يستعيذون من شرّ الجنّ وأذاهم ، والله تعالى أعلم بما قال (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) يعني فزاد الجنّ الإنس ، إثما وكفرا وطغيانا : أو على العكس فزادت استعاذة الإنس الجنّ طغيانا وظنّوا أنهم سادوا الإنس وتفوّقوا عليهم لأنهم لجأوا إليهم واستعاذوا بهم (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) أي زعموا كما زعمتم (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) أي لن يرسل رسولا بعد موسى وعيسى عليهما‌السلام وهذه الآية الكريمة وما قبلها فيها معنى التوبيخ لعتاة العرب وجبابرة الكفّار إذ كانوا أولى بالتفكّر والتدبّر ليهتدوا ويؤمنوا بالرسول (ص) لأنه من جنسهم ولغته من لغتهم وهو منهم ، وكان ينبغي أن يصدّقوا نبوّته ودعوته إلى توحيد الله وعبادته والإيمان بالبعث الذي كانوا ينكرونه.

* * *

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ

٢٤٧

شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠))

٨ ـ ١٠ ـ (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ ...) لمسناها بمعنى التمسنا أي ابتغينا الوصول إليها لنسترق السمع منها ونعلم ما يجري فيها فوجدنا أنها ملئت أبوابها (حَرَساً شَدِيداً) حفظة من الملائكة أقوياء على صدّنا عن ذلك أشداء في ردعنا (وَشُهُباً) جمع شهاب وهو النور الذي ينزل من السماء في وميض كالبرق الخاطف حشوه النار المحرقة ، وكانت الملائكة ترسل تلك الشّهب على من يريد استراق السمع من السماء (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي انه كان يتهيأ لنا في السابق أن نتّخذ مقاعد لنا قرب أبوابها فنستمع إلى ما يجري فيها بين الملائكة (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ) فمن يحاول منّا الاستماع بعد ظهور محمد (ص) (يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) يجد أن له واحدا من تلك الشّهب يرصدونه به ويرمونه به إذا اقترب محاولا أن يستمع إلى شيء من كلام الملائكة ، فقد شدّد الله تعالى أمر حراستها بعد بعثه نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أن الشّهب كانت موجودة وكانت تنزل من السماء ، ولكن رمي الجنّ بها صار بعد البعثة المباركة (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي لا نعلم حقيقة ما أريد بعد الرمي بهذه الشّهب ، هل يدل على انقطاع التكليف ونهاية الحياة الدنيا ونهاية حياة الجنّ والإنس (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) أم أن الله تعالى أراد بالجنّ والإنس صلاحا وهداية إلى نبيّ الزمان ، أي أنّهم لا يعلمون هل هي شهب عذاب أم شهب هداية.

* * *

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً

٢٤٨

(١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥))

١١ ـ ١٥ ـ (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ ...) هذا من تمام ما قاله الجنّ ، أي أن منّا من يؤمن ويعمل الصالحات فيكون قد حسن إيمانه وعمله ، ومنّا من يكون دونهم في الرّتبة عقيدة وعملا ف (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي كنا فرقا مختلفة متباينة في رسوخ عقيدتها وصلاح عملها ، فقد قال السدّي : الجنّ أمثالكم ، فيهم قدريّة ، ومرجئة ، ورافضة ، وشيعة (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) أي علمنا يقينا أننا لن نفوت قدرة الله علينا إذا شاء بنا أمرا من الأمور لأنه قادر على أخذنا حين يريد (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) فإنه يدركنا إذا هربنا إذ نبقى تحت سلطانه وفي ملكه الذي وسع الكائنات والوجود (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) أي حين استمعنا إلى القرآن الذي هو هدى للناس صدّقنا به (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ) يصدّق به ويوحّده ويعرف صفاته الكريمة ويخشاه (فَلا يَخافُ بَخْساً) لا يخشى نقصانا في الثواب الذي يستحقه (وَلا رَهَقاً) أي لا يخاف أن يلحق به ظلم ومكروه ، فلا ينقص من حسناته ولا يزاد من سيئاته. وفي هذا القول دليل على شدة إيمان قائليه من الجنّ الذين قالوا أيضا : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) الذين أذعنوا لما أمرهم الله تعالى به (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أي الحائدون عن طريق الحق ، فان القاسط هو الجائر عن الحق والمقسط هو العادل إلى الحق ، هما ضدّان (فَمَنْ أَسْلَمَ) استسلم لأمر الله (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي فأولئك التمسوا الهدى وطلبوا الثواب ولم يزيغوا كالمشركين المكابرين (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) العادلون عن الحق المائلون عن

٢٤٩

الدين (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) سيكونون من أهل النار التي تحرقهم كما تحرق النار الحطب.

* * *

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠))

١٦ ـ ١٧ ـ (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ...) هذا الكلام المقدس ابتدأ الله تعالى به إنشاء حكم بأن المستقيم على الهدى من الإنس والجنّ ينزل عليه بركات من السماء ، وقيل قصد سبحانه مشركي مكة الذين رفع عنهم المطر سبع سنوات. وقد عنى بالماء النازل من السماء الخير كلّه لأن الرزق إنما يكون بالمطر ، وهذا كقوله عزوجل : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ) ... (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) ، وقوله تعالى أيضا : (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ). وقيل أيضا معناه : لو استقاموا على طريقة الكفر لوسّعنا عليهم لنعظم المحنة عليهم ، وهو قريب للمعقول بدليل تمام الآية الكريمة : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم هل يشكرون أم يزدادون كفرا. أما إذا أريد بالاستقامة الهدى فالمعنى : لنختبرهم كيف يكون شكرهم وهذا هو المقدّم لأنه المراد من الاستقامة ، ففي تفسير أهل البيت عليهم‌السلام ، عن أبي بصير قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : قول الله : إن الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا؟ قال : هو والله ما أنتم

٢٥٠

عليه ، وبخصوص هذه الآية الكريمة : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) روى بريد العجلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : معناه : لأفدناهم علما كثيرا يتعلّمونه من الأئمة (وَمَنْ يُعْرِضْ) ينصرف (عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) عن التفكير فيما يوصله إلى معرفة الله تعالى وشكره وطاعته (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي يدخله في عذاب شديد يتصعّد في المشقّة والعظم.

١٨ ـ (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ...) تقدير الكلام : ولأن المساجد لله ، فلا تدعوا فيها مع الله أحدا ، واجعلوها بيوتا خالصة لذكر الله ، ولا تفعلوا فعل المشركين في الكعبة ولا فعل أهل الكتاب في بيعهم وكنائسهم حيث يتحدّثون فيها ويتاجرون ويتسامرون. وقيل إن المساجد هنا هي مواضع السجود ، وهي الجبهة والكفّان ، وأصابع الرجلين دعينا الرّكبتين ، فهي لله تعالى وقد خلقها فلا يجوز أن يسجد عليها لغيره ، فقد روي أن المعتصم العباسيّ سأل الإمام محمدا الجواد عليه‌السلام عن قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) ، فقال : هي الأعضاء السبعة التي يسجد عليها.

١٩ ـ ٢٠ ـ (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ ...) أي لمّا أخذ عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (يَدْعُوهُ) يدعو ربّه عزّ وعلا ويقول : لا إله إلا الله ، ويدعو إلى توحيد ربّه تاليا القرآن (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي تجمّع الجنّ من حوله وركب بعضهم بعضا من شدّة الزّحام رغبة باستماع تلاوته ودعوته. وقيل هذا القول قالته الجنّ حين رجعوا إلى قومهم ووصفوا لهم ازدحام أصحاب النبيّ (ص) من حوله حرصا على أن لا يفوتهم شيء ولذلك يتلبّد بعضهم فوق بعض. بل قيل إنما قصد بذلك دعوة النبيّ (ص) لقريش بأن يؤمنوا بالله ويوحّدوه ، فتكاثروا عليه ليحولوا بينه وبين دعوته وليزيلوه عمّا هو فيه ، ولكن الله تعالى نصره عليهم ، وعلى هذا التفسير يكون ابتداء الكلام : (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً)

٢٥١

وذلك أنهم أنكروا دعوته ورفضوها ، والله تعالى أعلم بما قال.

* * *

(قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤))

٢١ ـ ٢٤ ـ (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً ...) أي قل يا محمد للناس : إني لا أدفع عنكم ضررا ولا أوصل لكم خيرا من عند نفسي ، ولكنّ الله تعالى هو القادر على ذلك ، وأنا رسوله إليكم وما عليّ إلّا البلاغ والدعوة إلى الهدى والرشاد. والآية تفصح عن أن الحول والطّول لله عزوجل ، وأن النبيّ (ص) عبده ورسوله (قُلْ) يا محمد للمكلّفين : (إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي) أي لا يمنعني ويحميني (مِنَ اللهِ أَحَدٌ) فيدفع عنّي ما قدّره الله تعالى لي (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي ولا أجد غيره ملجأ التجئ إليه طلبا للسلامة (إِلَّا بَلاغاً) أي تبليغا (مِنَ اللهِ) من وحيه (وَرِسالاتِهِ) ما جئت به عنه جلّ وعز ، أما قبولكم لذلك وإيمانكم به فإنه ليس إليّ ولكنه راجع إليكم. ثم عقّب سبحانه بوعيد شديد لمن لم يختر الهدى لنفسه فقال : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) يخالفهما ويبقى على الكفر والشّرك واقتراف الذنوب (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) فالنّار مثواه إلى أبد الأبد. والضمير في (لَهُ) عائد إلى (مِنَ) وإن كانت من تعبّر عن المفرد والجمع ، ولذلك ـ أيضا ـ عبّر ب (خالِدِينَ) أي جميع من يعصون يخلدونه في النار (حَتَّى إِذا رَأَوْا

٢٥٢

ما يُوعَدُونَ) أي عاينوا ما وعدناهم به من عقاب الدنيا وعذاب الاستئصال (فَسَيَعْلَمُونَ) يومئذ (مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) من كلّ من المؤمنين والمشركين. وقيل إن الكافرين كانوا يفتخرون على النبيّ (ص) بكثرتهم ويعيّرونه بقلّة أتباعه فبيّن سبحانه أن ذلك سيكون بالعكس يوما ما.

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

٢٥ ـ إلى آخر السورة ـ (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ...) إن محقّقة إنّ بمعنى ليس ، أي لست أعرف (أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) من العذاب (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) أي وقتا ومهلة وحدّا ينتهي إليه. وقال عطاء : أراد أنه لا يعرف يوم القيامة إلّا الله وحده ، فهو (عالِمُ الْغَيْبِ) يعرف متى يكون يوم القيامة الغائب علمه عن الناس (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) أي لا يطلع عليه واحدا من عباده. ولكنه جلّ وعزّ استثنى بعض عباده المختارين فقال : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أي الأنبياء صلوات الله عليهم فإن نبوّتهم تثبت بأن يخبروا الناس ببعض المغيّبات عند المعجزة وإظهار الآية الدالة على صدقهم. فمن ارتضاه واختاره لرسالته يطلعه على ما شاء وما رأى له مصلحة فيه وذلك قوله سبحانه (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) أي يجعل له طريقا إلى معرفة ما كان قبله وما يكون بعده ، والرّصد هو الطريق. وقيل إنه تعالى يحفظ ما يطلع على رسوله فيجعل من بين يدي رسوله ومن خلفه رصدا من الملائكة يحرسونه من الأعداء وكيدهم

٢٥٣

(لِيَعْلَمَ) أي ليعرف الرسول ويوقن (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) أي الملائكة. فعن سعيد بن جبير : ما نزل جبرائيل بشيء من الوحي إلّا ومعه أربعة من الملائكة حفظة ، فيعلم الرسول أنه قد أبلغ الرسالة على الوجه الذي أمر به. وقيل : ليعلم محمد (ص) أن الرّسل الذين سبقوه قد أبلغوا ـ جميعهم ـ (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) كما أبلغ هو رسالته (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) يعني : وعلم الله تعالى بما جرى بين رسله وخلقه وأنهم ـ هم ـ لا يحيطون إلّا بما يطلعهم الله سبحانه عليه (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي عرف جميع ما خلقه ولم يفت علمه شيء حتى مثقال الذرّة.

* * *

٢٥٤

سورة المزّمل

مكيّة إلّا الآيات ١٠ ، ١١ و ٢٠ فمدنية ، وآياتها ٢٠ نزلت بعد القلم.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥))

١ ـ ٤ ـ (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ...) المزّمّل هو المتزمّل بثيابه أي الملتفّ بها ، وقد أدغمت التاء في الزاي لأن مخرجهما الصوتيّ متقارب والخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعني يا أيها المتزمل بسربال النبوّة الحامل لأثقال الرسالة ، قم الليل للصلاة ولا تنم منه إلّا قليلا. ولفظة (اللَّيْلَ) منصوبة على الظرفية ، كما أن (قَلِيلاً) نصب على الاستثناء ، وهي تعني : إلّا شيئا قليلا من الليل (نِصْفَهُ) أي نصف الليل ، وهو بدلّ منه جاء بيانا للمستثنى ، يعني : قم نصف الليل إلّا قليلا بدليل قوله (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) من النصف الذي تقومه للصلاة (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي زد في قيام الليل للصلاة عن مقدار نصف الليل ، وقال بعض المفسرين : أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث ، أو زد على

٢٥٥

النصف إلى الثلثين ، ولكنه روي ان الصادق عليه‌السلام قال : القليل النصف أو انقص من القليل قليلا ، أو زد على القليل قليلا. كما أنه قيل : معناه قم نصف الليل إلّا قليلا من ليالي العذر كالمرض وغيره. وعن سعيد بن هشام انه قال لعائشة : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالت : ألست تقرأ يا ايّها المزّمّل؟ قلت : بلى. قالت فإن الله افترض قيام الليل في أول السورة ، فقام نبيّ الله وأصحابه حولا وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف ، فصار قيام الليل تطوّعا بعد أن كان فريضة. وقيل كان هذا بمكة قبل فرض الصلوات الخمس ثم نسخ بالخمس. والقيام بالليل سنّة مؤكّد وليس بفرض على كل حال (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) أي اقرأه مرتلا بفصاحة وتجويد متمهلا بحيث تنطق نطقا صحيحا بجميع الحروف وتوفّي الحق من الإشباع والعنّة والإدغام وغيرها ، وتفعل ذلك مترسّلا ، وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : بيّنه بيانا ولا تهزّه هزّ الشّعر ولا تنثره نثر الرمل ، ولكن أقرع به القلوب القاسية ، ولا يكوننّ همّ أحدكم آخر السورة. وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : إذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فاسأل الله الجنّة ، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فتعوّذّ بالله من النار. وعنه عليه‌السلام أيضا : هو أن تتمكّث فيه وتحسّن صوتك. وعن أنس أن النبيّ (ص) كان يمد صوته مدّا (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) أي سننزل عليك من الوحي ما يثقل عليك لما فيه من تبليغ الرسالة وما يلحق ذلك من أذى الناس وما يلزم من جهاد النفس ، وما يثقل على الأمة لما فيه من الأمر والنهي والحدود. وقيل إن ذلك القول ثقيل لأنه لا يحمله إلّا قلب مؤيّد بالتوفيق ونفس مؤيّد التوحيد كما في المجمع. وهو ثقيل في الميزان لأنه كلام ربّنا جلّ وعلا ، وكذلك قيل إنه ثقيل على الكفار لما فيه من تجهيلهم وسفه أحلامهم وقبح ما هم عليه من العقيدة الفاسدة والعمل الباطل.

* * *

٢٥٦

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠))

٦ ـ ١٠ ـ (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً ...) أي إن ساعات الليل المتوالية لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة ، والتقدير : إن ساعات الليل الناشئة هي أشدّ وطأ : أي أكثر ثقلا ومشقّة على قائم الليل للصلاة لأن الليل وقت الراحة والسكون. وقرأ : أشدّ وطاء : أي أشدّ مواطأة للسمع والبصر إذ يتوافق فيها سمع المصلي وبصره ولسانه على التفكّر لأن القلب لا يكون منشغلا بأمور الدنيوية (وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي أكثر استقامة للقول لانقطاع القلب الى العبادة وانصراف الفكر إلى التدبّر. وروي عن الصادق عليه‌السلام أنه : هو قيام الرجل عن فراشه لا يريد به إلّا الله تعالى (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) أي أن لك يا محمد في النهار منصرفا إلى حوائجك ومشاغلك الكثيرة التي من أهمّها تبليغ الرسالة ودعوة الناس وإصلاح معيشتك ومعيشة عيالك ، إلى جانب جهاد الكافرين والكلام مع المعاندين. أما في الليل فيفرغ قلبك للعبادة فتأخذ حظك للدنيا والآخرة (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي اذكر أسماء ربّك التي تتعبّد بها في الدعاء والسؤال والابتهال ، وأخلص له في عبادتك إخلاصا ، والتّبتيل هو الانقطاع في عبادة لله تبارك وتعالى. وكان يجب أن يقول سبحانه : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) ولكنه طابق أواخر الآيات. وروي عن الصادقين عليهما‌السلام أن معنى التبتّل هنا رفع اليدين في الصلاة (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أي رب العالم جميعه لأنه يقع بين المشرق والمغرب ،

٢٥٧

ومالكه المتصرّف فيه والمدبّر له (لا إله الّا هو) أي لا تحق العبادة لسواه (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) اجعله حافظا لأمرك. وفوّض أمرك إليه فهو خير كاف وحافظ لك (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي تحمّل أذى ما يقوله الكفّار من تكذيبك ورفض دعوتك (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) أي اتركهم ولكن لا تتخلّ عنهم في ترك دعوتهم إلى الحق وثابر على نصحهم ، وهذا هو معنى الصبر على الأذى في سبيل نشر الدعوة لأن الرفق أدعى إلى الاجابة وسماع القول.

* * *

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤))

١١ ـ ١٤ ـ (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ...) ذر بمعنى : دع ، ولا يقال وذر ، ودع ، والنّعمة بفتح النون هي لين اللمس وضدّها الخشونة في حين أن النّعمة بالكسر هي الثروة ، والمعنى : دعني واتركني يا محمد مع هؤلاء المكذّبين لك في الدعوة إلى التوحيد والإيمان والإخلاص في العبادة من المتنعّمين بثراء الدنيا ولا تشغل نفسك بهم (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) اي أعطهم مهلة قليلة لينزل بهم غضبنا. ولم يكن إلّا وقت يسير حتى كانت وقعة بدر التي أزهقت أولئك الصناديد من منافقي قريش والمستهزئين بالنبيّ (ص) (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) أي عندنا قيود لأن الأنكال واحدها نكل وهو القيد الذي لا يفك (وجحيما) ونارا عظيمة الاستعار ، وقيل هو اسم من أسماء جهنم (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) أي طعاما شائكا فلا يدخل الحلق فيبتلعه الإنسان ، ولا يخرج منه فيرتاح بل يتردد في الحق ويؤذي آكله وهو الزقوم والضريع (وَعَذاباً أَلِيماً) وعقابا موجعا ، وذلك يكون (يَوْمَ تَرْجُفُ

٢٥٨

الْأَرْضُ) أي تضطرب بشدّة وتهتزّ (وَكانَتِ الْجِبالُ) أيضا تضطرب فيها (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) أي وتصير رملا سائلا يتناثر هنا وهناك وإذا وطأته قدم زال من تحتها وينهار أعلاه على أسفله بعد أن تنقلع الجبال من أصولها.

* * *

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩))

١٥ ـ ١٩ ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ ...) يعني إنّنا بعثنا إليكم محمدا (ص) رسولا من عندنا يهديكم لما فيه صلاحكم في الدنيا والآخرة ، ويشهد عليكم في الآخرة بما كان منكم في الدنيا (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) هو موسى بن عمران سلام الله عليه بعثناه الى فرعون مصر (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) لم يطعه ولم يقبل منه النصح (فَأَخَذْناهُ) بالعذاب والغرق (أَخْذاً وَبِيلاً) شديدا مدمّرا له ولقومه مع كثرة قومه. وهذا تحذير لكفّار مكة بأن يتّقوا كيلا يصيبهم ما أصاب فرعون وأتباعه ، ولذلك سألهم سبحانه : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً؟) أي تتجنّبون إذا كفرتم برسولنا محمد (ص) يوما تشيب فيه الأطفال من شدّة الأهوال؟ وبأي شيء تتحصّنون من عذاب الآخرة وتدفعون عنكم وهو يشيب النواصي لما فيه من مخاوف؟ والشّيب : جمع أشيب. والسؤال منه سبحانه سؤال إنكار لحالهم واستهجان لما هم فيه ، وتخويف من يوم مرعب (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) أي متشقّق وقد انفصلت أجزاؤه من الهول؟ وقد ذكّر (منفطر) لأن السماء يذكّر ويؤنّث ، وقيل

٢٥٩

يوم تكون السماء ذات انفطار كما يقال : امرأة مطفل أي ذات أطفال (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) أي حاصلا لا خلف فيه ولا تبديل لوعده به (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) أي أن هذه الصفة التي ذكرناها من الهول وبيّنّاها من المخاوف ، هي عظة لمن أهمّته نفسه (فَمَنْ شاءَ) أراد (اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) سلك طريقا إلى نيل الثواب من ربّه ، فهو قادر على أن يكون مطيعا كما أنه قادر على المعاصي وإذا فعل الطاعة وصل إلى الثواب بحسن اختياره لنفسه.

* * *

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

٢٠ ـ (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ...) الخطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول له مقال فيه : إن ربك على علم بقيامك للصلاة إلى ما يقرب أو يقل عن ثلثي الليل (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) وأقلّ من نصفه وثلثه. أي تقوم في بعض الليالي قريبا من الثلثين ، وفي بعضها قريبا من النصف ، وفي أخرى قريبا من الثلث ، وبالاختصار إنه يعلم أنك تقوم ثلثه أو نصفه (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) وجماعة من أصحابك تقوم

٢٦٠