الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة على خاتم النبيّين وسيّد المرسلين ، والسلام على أهل بيته المعصومين ، وصحبه المنتجبين والتابعين لهم بإحسان ، ورحمه‌الله وبركاته.

وبعد : فإن من توفيق الله لنا أن أنجزنا ما سبق من هذا التفسير المبسّط في أجزائه الأربعة السالفة ، وأن منحنا القدرة على الاستمرار في إكمال المهمة الشاقة التي لا نبتغي بها إلّا رضوان الله تبارك وتعالى ، وتيسير فهم كتابه الكريم الذي هو دستور المعاش والمعاد لسائر العباد ، آملين منه التسديد في هذا العمل ، راجين التجاوز عمّا يفرط منا من سهو أو خطأ أو هم أو نسيان ، ومبتهلين إليه سبحانه أن ينتفع به العباد ، وأن يتقبّله منّا زلفة لديه في يوم الجزاء ، بحق خاتم الأنبياء والسادة الأوصياء صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعليهم ، وهو وليّ كلّ نعمة وصاحب كلّ منّة.

المؤلف

محمد السبزواري

٥
٦

سورة الحج

مدنيّة إلّا الآيات ٥٢ إلى ٥٤ وآياتها ٧٥ نزلت بعد النّور.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤))

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) ... افتتح الله سبحانه هذه السورة المباركة بتوجيه الخطاب للناس عامة رأفة بهم ورحمة ، فأنذرهم قائلا : (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) تجنّبوا مخالفته الموصلة لعذابه (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) أي ما يقع من الانزعاج والأهوال والمخاوف عند قيام الساعة (شَيْءٌ) أمر

٧

(عَظِيمٌ) مهول مفزع. وقيل إن هذا الوصف يعني أشراط الساعة التي تسبقها كطلوع الشمس من مغربها كما عن القمي ، وكغيرها من الخوارق.

٢ ـ (يَوْمَ تَرَوْنَها ـ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) ... ذلك يوم القيامة بأهواله التي (تَذْهَلُ) تغفل وتتلهّى بها (كُلُّ مُرْضِعَةٍ) عن رضيعها لما تصاب به من الخوف فتضيع عنه ولا تذكره فتنساه (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي كلّ امرأة ماتت وهي حبلى ، حين تفيق على هذه الأهوال تسقط جنينها من الفزع والهلع (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) تشاهدهم في ذلك اليوم كالسكرانين الضائعين عمّا حولهم (وَما هُمْ بِسُكارى) وليسوا بسكرانيين بالحقيقة ولكن ظهروا كذلك من الخوف الذي لا يوصف (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) والذي أحدث كلّ ذلك الذّعر بين المراضع والحوامل والناس ، هو عذاب الله القوي العجيب الذي يبدو في ذلك اليوم.

٣ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ... نزلت هذه الآية الكريمة في النّضر بن الحارث الذي كان معاندا لدعوة الإسلام مجادلا بالباطل يقول إن الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأوّلين ، وينكر البعث والحساب ، وهي تشمله وتشمل كلّ واحد من الناس يناقش في الأمور التي يجهلها بلا برهان ، فيخاصم الله جلّت قدرته (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) أي يقلّد ويطيع كلّ متمرّد على حرمات الله. وفي الخبر أن المريد : الخبيث. ففي الناس كثيرون يعصون الرّحمان ، ويطيعون الشيطان ، ويجادلون دون برهان. ومن حاله كذلك قال الله تعالى فيه :

٤ ـ (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ ...) أي سجّل في اللوح المحفوظ ، أو في علمه تعالى ، أنّ من يتّخذ الشيطان وليّا ويحبّه ويطيع وسوسته (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) يغويه ويصرفه عن طريق الحقّ (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) ويدلّه على الطريق الموصلة لعذاب جهنّم ونارها المحرقة.

* * *

٨

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧))

٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ ...) يقول سبحانه : (أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) شكّ من (الْبَعْثِ) الرجوع أحياء يوم القيامة (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) فنحن أوجدناكم من التراب بالأصل. ومن قدر على أن يصيّر من التراب بشرا سويّا حيّا مفكرا في الابتداء ، فإنه يقدر على أن يحيي العظام ويعيد الأجسام ويبعث الأموات ، لأن هذا العمل أسهل من الخلق من العدم ومن التراب الذي هو أصعب وأعظم. فنحن خلقناكم من تراب (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) قطعة من الدم جامدة مكتّلة (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) لحم كأنه ممضوغ معلوك (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) في القمي أن المخلّقة إذا صارت تامة ، وأن غير المخلّقة السّقط ، أي مصوّرة على خلقتها

٩

التي جعلها الله لها ، أو سقطا تطرحه المرأة قبل تصويره حسب مشيئة الله تعالى ، نفعل ذلك (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) لنوضح ونظهر لكم بهذه التطوّرات وتلك الانتقالات والتبدّلات على سبيل التدرّج ، قدرتنا وحكمتنا ، ولتستدلّوا على آيات خلقكم وإعجازه من المبدأ إلى المعاد. وفي حذف مفعول « نبين » إيماء إلى أن أفعاله هذه تتبيّن منها قدرته وحكمته وعظمته وما لا يمكن أن يحاط به ليذكر (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) نبقي في أرحام الأمّهات ما نريد من الأجنّة فلا تخرج أسقاطا قبل تمام تطورها (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى زمان معيّن هو وقت وضعه. ومعلوم عنده تعالى أن أدنى زمان الوضع ستة أشهر وقد قال مولانا أمير المؤمنين أرواحنا فداه : لا تلد المرأة لأقلّ من ستة أشهر ، وأكثر زمان الوضع وأقصى حدّه تسعة أشهر ، ولا يزيد لحظة ولو زاد ساعة لقتل أمّه قبل أن يخرج كما عن الباقر عليه‌السلام أيضا (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي نخرجكم من بطون أمّهاتكم صغارا ، وإنما وحّد (طِفْلاً) والمراد به الجمع ، لأنه بمعنى المصدر فيطلق على القليل والكثير ويبيّن الحالة التي يكونون عليها ، وذلك كقولهم رجل عدل ورجال عدل ، أو المراد : نخرج كلّ واحد منكم طفلا (ثُمَ) نربّيكم شيئا فشيئا (لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) لتصلوا إلى كمال قوّتكم. والأشد جمع شدّة ، كالأنعام جمع نعمة. وهذه المرحلة تكون من ثلاثين إلى أربعين سنة ، أو قد يراد بها الحلم (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) يموت قبل الوصول إلى عمر البلوغ الطبيعي (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي إلى أسوأ العمر وأهونه عند أهله ، وهي حال الهرم والخرف. وإنما عبّر بأرذل لأنّ الإنسان لا يرجو بعد ذلك صحة ولا قوّة ، وإنما يترقّب الموت والفناء. وقد قال الإمام الصادق عليه‌السلام : إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك أرذل العمر. وعن عليّ صلوات الله وسلامه عليه : أرذل العمر خمس وسبعون سنة (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي حينها يصاب بالخرف ويصبح كالطفل في جميع أحواله وخصوصياته كما هو معروف.

هذه جهة استدلّ بها سبحانه على قدرته على البعث بعد الموت. ثم

١٠

أخذ بعدها ببيان برهان آخر بقوله سبحانه : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) أي ساكنة ميّتة يابسة دارسة ، من همد الثوب : بلي (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) فإذا أمطرناها بالماء تحرّكت بالنبات واخضرّت (وَرَبَتْ) نمت وانتفخت ولم تعد قاسية جافّة (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) من كل صنف من الزرع وكل نوع من النباتات والأشجار الحسنة ذات الرّونق والبهجة. فالقادر على أحياء الأرض الميّتة بالماء ، قادر على إحياء الموتى ومستطيع لإعادة الأجسام بعد فنائها.

وبعد أن ذكر هذين الدليلين ، رتّب عليهما وقال سبحانه :

٦ و ٧ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ...) أي ذلك المذكور من أحوال الإنسان والأرض ، كان بسبب أنه تعالى هو الثابت في ذاته الذي به تتحقّق الأشياء (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) يعيدهم بقدرته الكاملة. كما في القمي عن الصادق عليه‌السلام(وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يستعصي على قدرته شيء أراده (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) هي ساعة يوم القيامة جائية (لا رَيْبَ فِيها) بدون شكّ (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) يحييهم ويعيدهم كما كانوا بدون أدنى عناء. وقيل إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحا فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم.

* * *

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠))

٨ و ٩ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ ...) أي ومن الخلق من يناقش

١١

في قدرة الله جلّت قدرته (بِغَيْرِ عِلْمٍ) دون معرفة بقدرته ، وعن جهل بعظمته (وَلا هُدىً) ولا طريق هدى يسلكه في مناقشته إذ يهرف بما لا يعرف ولم يتلّق ذلك عن دليل (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي : ذي نور يهتدى به : أي ليس لديه حجة سمعيّة جاءته من ناحية الوحي ، كما أنه لا دلالة عقليّة مع ذلك المجادل بدون علم عمّا يجادل فيه (ثانِيَ عِطْفِهِ) لاويا عنقه معرضا عن الحقّ متكبّرا معجبا بنفسه وبلقلقة لسانه (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ليصرف الناس عن طريق الحق التي سنّها الله تعالى لعباده. فهذا الجاهل (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) من حقّه أن يكون في الدنيا مبعدا منبوذا ملعونا (وَنُذِيقُهُ) نجعله يستطعم (يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) حين يتلظّى في سقر ويذوق لفح النار في جهنم.

١٠ ـ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ...) أي نقول له : بوءت بذلك الخزي والعذاب بما كسبت يداك أيها الكافر بنا. والكلام على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ليكون التهديد أوقع وليكون التخويف أزيد (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) يجزي العبيد على قدر استحقاقهم وبحسب أعمالهم دون زيادة أو نقصان. وإيراد صيغة المبالغة « ظلام » لعلها باعتبار كثرة العبيد فإذا نسب إليهم يعدّ بعددهم ، وقيل باعتبار صفات الحق تعالى على أبلغ الكمال ، فبالالتزام كان مطلق الظلم منتفيا عنه سبحانه وتعالى.

* * *

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ

١٢

مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣))

١١ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ...) أي أن بعض الناس يعبدون الله عبادة من يقف على حرف جبل أو شرفة يكاد يقع عنها لأقلّ دفع ، وقد يتركها لأول أزمة يقع فيها ، وقيل يعبده بلسانه دون قلبه ، وقد قيل : الدّين حرفان : الأول اللسان ، والثاني القلب ، فعبادته تعالى على حرف يعني على غير ثبات ولا يقين ، بل على شكّ واضطراب في الدين ، حال فاعلها كحال القائم على حرف الجبل يكاد يقع ، ونقل أن يهوديّا أسلم وبعد مدة قليلة ابتلي بوجع العين بحيث صار نظره ضعيفا جدّا ، فجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : يا محمد أقلني عن الإسلام فإني تشأمت به إذ من أول يوم أسلمت فيه صرت مبتلى بالأمراض والحوادث ، فنزلت هذه الآية الكريمة. فبين الناس من يعبد الله عبادة على شفا جرف هار (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) أي إذا أصابه عافية أو مال أو رزق استقرّ وثبت على الإسلام وعلى عبادة الله (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) لحق به اختبار وامتحان بمرض أو خسارة أو جدب أو نقصان مال أو عسر (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) رجع عن دينه إلى وجهه الذي أتى منه ، أي الكفر ، و (خَسِرَ الدُّنْيا) بارتداده ولم يعد له ما للمسلمين من النّصر والظّفر والخير (وَ) خسر (الْآخِرَةَ) بحرمانه السعادة وبحبوط عمله (ذلِكَ) الخسران (هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) الواضح العظيم الذي لا خسران أسوأ منه ولا أقبح.

هذه واحدة من نتائج عبادة الله على حرف ، والأخرى قوله تعالى :

١٢ ـ (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ ...) أي يتّخذ معبودا من دون الله كالوثن والصنم الذي لا يضرّه إن شاء ضرره ، كما أنه يسمّي ربّا غيره سبحانه (وَ) يدعو (ما لا يَنْفَعُهُ) إذا طلب منه نفعا لأنه لا يسمع ولا يعقل ولا يقدر على شيء البتة (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) ذلك الحال

١٣

الموصوف من شأنه ، هو الكفر والضياع عن الحق الذي يبعد في مداه كثيرا.

١٣ ـ (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ ...) هو يدعو معبودا غير الله توجب عبادته الضرر لأنها تؤدي إلى عذاب الدارين : القتل في الدنيا بسيف الحق أو الأسر ، والعذاب في الآخرة بدخول النار ، فضرر ما يعبده أقرب له من نفعه لأنه لا يملك نفعا ولا يقدر عليه ولا شفاعة له عند الله إذا توسّل به إليه (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي ساء هذا الناصر الذي ولّاه أمره ، وقبح هذا الصاحب والمعاشر الذي اختاره لنفسه. والمراد به الوثن والصّنم وما شابههما من المعبودات من دون الله.

* * *

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦))

١٤ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) لمّا ذكر سبحانه حال ومآل المنكر والشاكّ في الدين ، ذكر ثواب المؤمنين على الإيمان والعمل الصالح فقال إنه تعالى يدخلهم (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فوجه الاتصاف به لأن نزهة البستان بجريان الماء فيه. وأما المراد بكون الأنهار تحت البساتين فإنها مجاز في الحذف ، والمراد مياه الأنهار حيث ان النهر ليس له جريان. وأما كونها تحتها الذي هو ضدّ الفوق فيمكن أن يكون باعتبار أن

١٤

بساتين الجنة لعلّها مشتملة على قصور وغرف يجري الماء تحتها ، أو المراد به هو الأسفلية فإن المياه جريانها نوعا يكون في الجداول والأنهار والصّغار وهما أسفل من سطح البستان ، وسطح البستان فوقهما. فيصدق أن المياه الجارية هي تحت البساتين بهذا الاعتبار فإن من على أعلى الجدار يصدّق أنه فوق من في أسفله وهو تحت من في أعلاه (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) يصنع ما يشاء.

١٥ ـ (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ ...) الظن في كتاب الله على وجهين ظنّ يقين وظنّ شكّ ، وهذا ظنّ شك. قال من شكّ أن الله عزوجل لم ينصر رسوله في الدنيا والآخرة ، بإعلاء كلمته وإظهار دينه في الدنيا وإعلاء درجته والانتقام ممّن كذّبه في الآخرة (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) أي فليجذب نفسه ويصعدها بوسيلة من الوسائل إلى السّماء (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) المسافة إليها فيجهد في دفع نصره إذا أراد الله نصره (فَلْيَنْظُرْ) أي فليتفكر (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) أي صنعه وحيلته ، ذلك غيظه. والاستفهام إنكاريّ يعني لا يتهيّأ له الوسيلة فلا يذهب صنعه ذلك ، بغيظه لأن ذلك كان ممتنعا فكان غيظه عديم الفائدة.

١٦ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ ...) أي كما أنزلنا تلك الآيات المذكورة أنزلنا القرآن بتمامه (آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات في الأحكام والمواعظ والأخبار حتى تتمّ الحجة على الناس (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) يوفّق للهدى من يشاء.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي

١٥

السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨))

١٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ...) أي أن المؤمنين بك وبالرّسل من قبلك ، والذين هادوا : صاروا يهودا (وَالصَّابِئِينَ) الذين يصبأون وينتقلون من دين إلى دين آخر من ملل الكفر أو الذين يعبدون الكواكب (وَالْمَجُوسَ) الذين يعبدون النار (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) هم عبدة الأصنام (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) يحكم في أمرهم ويفرّق بحكومته بإظهار المحقّ منهم والمبطل ويجزي كل واحد على عمله (يَوْمَ الْقِيامَةِ ، إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فهو مراقب لهم في جميع أحوالهم وناظر إلى أفعالهم ومطلع على كل شيء وكل ما يصدر عن مخلوقاته.

١٨ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ ...) ألا تنظر إلى أن جميع مخلوقات الله في السماوات وفي الأرض تسجد له؟ والسجود يستعمل على قسمين : إمّا بمعنى الخضوع والتذلّل ، وإمّا بمعنى الانقياد لقدرته والخضوع لتدبيره والاستكانة لما سخّره الله له. وعلى هذا فكلّ الموجودات تشترك وتدخل في السجود له سبحانه ، وليس شيء إلّا يسجد له تعالى. بيانه أن كلّ ما سوى الله مفتقر ممكن لذاته ، والممكن لذاته كما أن الإمكان لازم له حال حدوثه ، فكذلك حال بقائه. وفي كلتا حالتيه هو مفتقر إلى الواجب لذاته. وهذا الافتقار الذاتي اللازم لماهية الممكن أدلّ على الذلّة والخضوع من وضع الجبهة على الأرض الذي نسمّيه نحن سجودا لأن وضع الجبهة على الأرض علامة وضعيّة للدّلالة على الذلّة والانقياد ، وقد يتطرّق إليه الكذب بخلاف الافتقاد الذاتي فيمتنع التغير وتطرّق الكذب إليه ، فجميع الممكنات من الدرّة

١٦

إلى الذرّة ساجدة وخاضعة ومبتهلة إليه تعالى بهذا المعنى فثبت عموميّة (مَنْ) لذوي العقول وغيرهم. وقوله (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) إلى قوله سبحانه (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) بيان لهذا المجمل. أي من في السّماوات ومن في الأرض. والقسم الثاني هو المعنى المتعارف والكيفية المعهودة أي وضع الجبهة على الأرض وهو خاصّ بالأصناف الثلاثة من الإنسان والملائكة والجنّ ، فلا عموميّة في كلمة (مَنْ) لغير ذوي العقول ، فذكر الشمس والقمر إلى قوله : والدّواب ، لبيان غير ذوي العقول. ورفعها إما لكونها مبتدءا وخبرها : ينقادون لأمر خالقهم ، وإما بتقدير : يسجد المقدّر بقرينة المذكور في الكلام. غاية الأمر الأول بمعنى وضع الجبهة على وجه الأرض أو ما في حكمها. والثاني بمعنى الخضوع والتذلل التكويني الذّاتي الذي أشرنا إليه آنفا (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) أي من الناس بكفره لإبائه الانقياد والطّاعة والسّجود (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) أي من يحتقره (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) لا يكرمه أحد (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) عن الصّادق عليه‌السلام عن أبيه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام : أنه قيل له إن رجلا يتكلم في المشيئة فقال عليه‌السلام : ادعه لي. قال فدعي له فقال له : يا عبد الله خلقك الله لمّا شاء أو لمّا شئت؟ قال : لمّا شاء. قال فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال : إذا شاء قال فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال إذا شاء. قال فيدخل حيث يشاء أو حيث شئت؟ قال حيث يشاء. قال فقال علي عليه‌السلام لو قلت غير هذا لضربت الذي فيه عيناك.

* * *

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ

١٧

وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥))

١٩ ـ (هذانِ خَصْمانِ ...) أي جمعان من المؤمنين والكفار من أهل الملل الخمس المذكورة يعني : اليهود والنّصارى والصّابئين والمجوس والمشركين (اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي المؤمنون على حدة ، والكفار بأجمعهم على حدة ، تنازعوا وتجادلوا في ذاته تعالى وصفاته. فالمؤمنون مثبتونهما له تعالى ، والكفرة نافونهما عنه سبحانه. وهذا الاختصام والتنازع لا يزال بينهما الى يوم لقاء الله فثمّت ينقطع كما أشار اليه بقوله عزّ من قائل (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وأشارها هنا بكيفيّة التفصيل بقوله سبحانه : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي فصّل لهم ألبسة ناريّة من جنس النار على قدر جثثهم الخبيثة. وقال ابو سعيد الخدري : ثياب من نحاس أذيب بالنّار يلبسونها. كقوله تعالى سرابيلهم من قطران وقيل إن المراد نيران تحيط بهم وتشملهم كالثياب (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ

١٨

الْحَمِيمُ) أي الماء المغلي ، قيل لو تقطّرت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها عن ابن عباس.

٢٠ ـ (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) : أي يذاب به أحشاؤهم وأمعاؤهم (وَالْجُلُودُ) كما يذاب به جلودهم كما في قوله تعالى في سورة محمّد : وسقوا ماء حميما فقطّع أمعاءهم. فباطنهم كظاهرهم في التّأثر به.

٢١ ـ (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) : أي السياط أو أعمدة من حديد المقمعة ما يدق به وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما نقلوها وما أقلعوها عن الأرض.

٢٢ ـ (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) : أي قاربوا الخروج من جهنم (مِنْ غَمٍ) أي ألم العذاب (أُعِيدُوا فِيها) ضربا بتلك الأعمدة والسّياط (وَذُوقُوا) يقال لهم احتقارا : ذوقوا (عَذابَ الْحَرِيقِ) أي النار البالغة في الإحراق غايته. وهذا العذاب الموصوف يكون لواحد من الخصمين ، وهم الكفرة بأقسامهم. أما القسم الآخر ، وهم المؤمنون ففيهم يقول سبحانه وتعالى :

٢٣ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي كما أنه سبحانه يدخل الكافرين النار ويذيقهم العذاب الأليم لكفرهم ، كذلك يدخل المؤمنين الجنة الوارفة الظّلال الجارية المياه العالية القصور ، وهم (يُحَلَّوْنَ فِيها) يلبسون في الجنّة حليّا (مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) وهي ما يلبس في اليد ومفردها سوار ، وقال : من ذهب ليبينّ جنس الأساور (وَ) يحلّون كذلك (لُؤْلُؤاً) من أنواع الجواهر (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) يلبسون في الجنّة الدّيباج الخالص الجيّد.

٢٤ ـ (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) : أي كلمة الإخلاص والتوحيد أو قول : الحمد لله ، أو القرآن أو إلى القول الذي يلتذّونه ويشتهونه وتطيب به

١٩

نفوسهم (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) أي دين الله المحمود ، أو طريق المحل المحمود وهو الجنة. والحاصل أن الله تعالى أنعم على المؤمنين بأربعة أشياء أو خمسة : المسكن جنات تجري الآية ، الثاني الحلية والزينة يحلّون فيها إلخ والثالث اللّباس : لباسهم فيها حرير والرابع : الهداية الى القول الطيب ، الخامس : الهداية إلى الجنة. وهذه أنعم النعم وأحسنها اللهم ارزقنا.

٢٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) ثم إنه تعالى بعد بيان حال الخصمين في القيامة أخذ في الإخبار عن صفات الكفرة الذميمة بقوله (يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعون الناس عن طاعة الله وعطف المضارع على الماضي للدّلالة على الاستمرار ، فالمعنى أنهم مستمرّون على الصّد لم يزلوا ولا يزالون مانعين عن طريق الحق ، لا أن المراد به الحال فقط أو الاستقبال حتى لا يكون عطفه على الماضي غير مستحسن. ويحتمل كون الجملة حالا عن فاعل كفروا ، وحذف خبر (إِنَ) لدلالة آخر الآية عليه أي : معذبون. قال ابن عباس نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدّوا رسول الله وأصحابه عام الحديبيّة عن المسجد الحرام وعن أن يحجّوا أو يعتمروا وينحروا الهدي ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قتالهم وكان محرما بعمرة. ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عطف على سبيل الله أي عن المسجد الحرام (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً) سواء بالرفع خبر مقدم (الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) أي المقيم في مكّة والغريب مساويان في القبلة أو في الأمن من القتل والأسر. وعن ابن عباس وقتادة أن المراد بالسويّة في السّكنى والنّزول في منازل مكة ، وليس لأحد من أهل مكة أن يصدّ أو يمنع البعيد الذي خارج الحرم. نعم ليس للخارج أن يخرج من سبقه إلى مكان ومنزل ، فالسابق أحقّ به من غيره فمكة بجميعها في حكم المسجد. والمراد بالمسجد الحرام هو مكة بتمامها كما في قوله تعالى : (أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ

٢٠