الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٤

سورة التكوير

مكيّة وآياتها ٢٩ نزلت بعد المسد.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤))

١ ـ ١٤ ـ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ...) ما زال سبحانه يتحدث عن علامات وأحوال يوم القيامة الذي ذكر بعض حالاته في سورة (عبس) السابقة. والتكوير : أصله التلفيف على جهة الاستدارة كتكوير العمامة ، والانكدار : انقلاب الشيء رأسا على عقب. والمعنى أنه إذا كوّرت الشمس فذهب ضوؤها وخفت نورها وأصبحت كرة

٣٢١

مطفأة بعد أن لفّت على بعضها ، وإذا تساقطت النجوم وانتثرت وتزعزعت عن أماكنها وأفلاكها (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أي نسفت عن وجه الأرض وأصبحت كالسراب كما عبّر سبحانه في غير مكان (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) العشار هي النوق الحوامل التي أتي عليها عشرة شهور ، وهي تسمّى عشارا حتى بعد الوضع وهي أغلى ما عند العرب ، فإذا تركت هذه العشار بلا راع مهملة لا صاحب لها ولا مسئول عنها (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي إذا جمعت يوم القيامة ليقتصّ بعضها من بعض (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي حيل ما بين عذابها ومالحها وتفجّر بعضها على بعض فصارت بحرا واحدا ـ وقيل أوقدت فصارت نارا تضطرم (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي إذا قرن كلّ شكل من الناس مع شكله من أهل الجنة أو من أهل النار. وقيل يقرن الغاوي بمن أغواه ، كما أنه قيل : قرنت نفوس المؤمنين بالحور العين ، ونفوس الكافرين بالشياطين (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) أي وإذا سئلت البنت التي دفنها أهلها حية خوفا من عارها إذا كبرت ، فقد كانت المرأة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة وقعدت إليها ، فإن ولدت بنتا رمتها حيّة في الحفرة ، وطمرتها بالتراب لتموت وإن ولدت غلاما أبقته واحتفظت به. فإذا سئلت هذه البنت التي طمرها أهلها بالتراب (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) يعني إذا فتحت كتب أعمال الناس التي كتبتها الملائكة الحفظة عليهم ليقرأها أصحابها وليعرفوا ما يستحقونه من ثواب أو عقاب جزاء ما عملوه (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) أي أزيلت عن موضعها كما يكشف الجلد حين يسلخ عن الحيوان المذبوح ، وقيل : إذا رفعت وكشفت عمّن فيها لأن الكشط رفع شيء عن شيء غطّاه (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أي إذا أوقدت وازداد ضرامها (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) يعني إذا قربت من أهلها ، فيزداد أهلها سرورا بمرآها ، كما يزداد الكافرون عذابا وحسرة بمرأى جهنّم ... إذا كان ذلك الذي ذكره تبارك وتقدّس (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي علمت ما وجدته حاضرا من عملها

٣٢٢

الذي جنته وكأنها أحضرته هي بنفسها لأنه جاء معها مكتوبا تحمله في يمينها أو في شمالها.

* * *

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

١٥ ـ ٢٢ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ ...) الخنّس : جمع خانس ، وهو المستتر ، والكنّس : جمع كانس ، وهو الذي يختفي في الكناس ، كالظبي يختبئ في كناسه. فقد أكدّ سبحانه وتعالى كلّ ما ذكره في نصف السورة الذي مضى بالقسم ، فلا أقسم : يغني : أقسم ، لأن «لا» زائدة كما مرّ سابقا ، فهو تعالى يقسم بمخلوقاته الدالة على عظمته (بِالْخُنَّسِ) أي النجوم التي تظهر في الليل وتخنس في النهار ، أي تختفي ، و (الْجَوارِ) هي صفة للنجوم لأنها تجري في أفلاكها الخاصة بها و (الْكُنَّسِ) صفة من صفاتها أيضا لأنها تطلع وتتوارى في بروجها كما تتوارى الظّباء في كناسها. وعن عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أن هذه النجوم التي أقسم بها هي الخمسة الأنجم : زحل والمشتري والمريخ والزّهرة وعطارد (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) يعني إذا أدبر بظلامه كما عن أمير المؤمنين

٣٢٣

عليه‌السلام، وقيل إذا أقبل بظلامه أيضا والعسعسة تعني الضدّين (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) إذا أسفر وأضاء وامتدّ ضياؤه حتى يصير نهارا (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) هذا جواب القسم ، أي وحقّ ما ذكرناه أن القرآن قول رسول كريم على الله تعالى ، وهو جبرائيل عليه‌السلام ، قد حمل كلام الله سبحانه الذي أنزله على لسانه إلى نبيّه (ص) والمعنى أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله سمعه منه ، ولم يقله من عند نفسه. وقد أضاف القول سبحانه إلى جبرائيل عليه‌السلام لأنه قال له : ائت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وقل له كذا وكذا. ثم وصف هذا الملك العظيم فقال : (ذِي قُوَّةٍ) على تبليغ ما حمّلناه من الرسالة ، وذي قدرة في نفسه لأن منها اقتلاع مدائن لوط بمن فيها بقوادم جناحه ، ورفعها إلى عنان السماء وقلبها رأسا على عقب ، فهو كذلك من حيث القوّة ، وهو (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي هو ذو مكانة عند صاحب العرش تبارك وتعالى ، رفيع المنزلة ، مقرّب لديه (مُطاعٍ ثَمَ) أي أنه مطاع هناك في السماء ، تطيعه الملائكة فيها ، ومن ذلك أنه أمر خازن الجنّة بفتح باب الجنّة ليلة المعراج ففتحها فدخل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ورأى ما فيها ، ثم أمر خازن النار ففتح له عنها حتى نظر إليها. وهو إلى جانب ذلك (أَمِينٍ) مؤتمن على الوحي والرسالات السماوية ..

وفي المجمع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لجبرائيل عليه‌السلام : ما أحسن ما أثنى عليك ربّك : ذي قوّة عند ذي العرش مكين ، مطاع ثمّ أمين ، فما كانت قوّتك ، وما كانت أمانتك؟ فقال : أمّا قوّتي فإني بعثت إلى مدائن لوط في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري ، فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماوات أصوات الدجاج ونباح الكلاب ، ثم هويت بهنّ فقلبتهن. وأمّا أمانتي فإني لم أؤمر بشيء فعدوته إلى غيره. ثم خاطب الله تعالى بعد ذلك جماعة الكفّار قائلا : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) أي ليس هذا الذي يدعوكم إلى الله

٣٢٤

وإلى الإخلاص في معرفته وطاعته مجنونا قد غطّى على عقله فلا يدرك الأمور ، وهذا أيضا من جواب القسم الذي يفيد أن القرآن نزل به جبرائيل الأمين عليه‌السلام ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس بمجنون بحسب ما يريده به كفّار مكة (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى ان جبرائيل عليه‌السلام بحسب صورته التي خلقه الله تعالى عليها حيث تطلع الشمس ، وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق كما عن قتادة وغيره (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي : ليس ببخيل فيما يؤدّي عن الله تعالى فهو يعلّم النبيّ كما علّمه الله تعالى. وقريء بظنين ـ بالظاء لا بالضاد ـ أي : وليس هو بمتّهم على وحي الله تعالى ، وعلى ما يخبر به عنه لأنه صادق أمين (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي ليس هذا القول بقول شيطان ملعون ، رجمه الله باللعنة كما يرجم بالشّهب ، فقد قال المشركون إن الشيطان يلقي إلى النبيّ بهذا القول ، فوبّخهم الله تعالى وأنّبهم بقوله : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي فيما هذا المسلك الذي تسلكونه وهذا المذهب الذي تذهبون ولم تميلون عن هذا القرآن الذي هو هدى وشفاء من عمى الكفر (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ليس القرآن سوى موعظة للخلق وعن طريقه يتوصلون الى الحق (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) وإنه سيكون كذلك لمن أراد منكم الاستقامة على أمر الله وطاعته ، فإنه هو الوحيد الذي يستفيد من تذكير القرآن (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي وما تريدون الاستقامة على الحق إلّا إذا أرادها الله تعالى لكم لأنه خلقكم لها وكلفكم بها فمشيئته قبل مشيئتكم. وقيل إنه خطاب للكفّار : أي لا تشاؤون الإسلام الّا ان يشاء الله إجباركم عليه وإلجاءكم إليه ، ولكنه لا يفعل لأنه يريد أن تؤمنوا مختارين لتستحقوا الثواب ، كما أنه قيل : وما تشاؤون الإسلام إلّا أن يشاء الله أن يلطف لكم في اعتناقه ، والله تعالى أعلم.

٣٢٥

سورة الانفطار

مكيّة وآياتها ١٩ نزلت بعد النازعات.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥))

١ ـ ٥ ـ (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ...) أي إذا انشقّت السماء وتقطّعت قطعا ، ومثله : إذا السماء انشقّت ، ويوم تشقّق السماء بالغمام. فإذا كان ذلك وانتثرت النجوم : أي تساقطت هنا وهناك ووقعت سوداء لا ضوء لها كما عن ابن عباس (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) أي فتح بعضها على بعض فاختلط عذبها بمالحها ، وقيل ذهب ماؤها (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أي قلب ترابها وبحثت عن الموتى فأخرجوا منها يوم البعث والنشور ، إذا كان ذلك (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) أي عرفت ما قدّمت من خير فيما أحضرته من سجلّ عملها ، وما عملته من سنن تستحق عليها الثواب ، وما أخّرت من سنن حسنة كان ينبغي أن تعمل بها لتستحق الثواب ، وبالعكس. وهذا كقوله سبحانه : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ). وفي الحديث أن سائلا سأل عن ذلك فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : من

٣٢٦

استنّ خيرا فاستنّ به ، فله أجره ومثل أجور من اتّبعه غير منتقص من أجورهم ، ومن استنّ شرا فاستنّ به فعليه وزره ومثل أوزار من اتّبعه غير منتقص من أوزارهم. فنعوذ بالله من استنان الشر ونسأله أن ينجينا من ذلك.

* * *

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢))

٦ ـ ١٢ ـ (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ...) أي ما الذي خدعك أيّها الإنسان بخالقك ورازقك وغشّك بأن سوّل لك بالباطل حتى أنكرته وعصيته مع أنه كريم خلقك ولم يبخل عليك بنعمة من نعمه التي لا تحصى؟ وروي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال حين تلا هذه الآية الكريمة : غرّه جهله.

أما لفظة (الْكَرِيمِ) هنا فقالوا : هذا المنعم المحسن الذي لا يجرّ لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضررا بل يعطي ما عليه وما ليس عليه ، وقالوا : هو الذي يعطي الكثير ويقبل اليسير. وقيل إن من كرمه أنه لم يرض بالعفو عن السيئات بل بدّلها بالحسنات. ومن جميل الالتفات أنه قيل للفضيل بن عياض لو أقامك الله يوم القيامة بين يديه فقال : ما غرّك بربّك الكريم ، ماذا كنت تقول له؟ قال : أقول غرّني ستورك المرخاة. وقال يحيى بن معاذ : أقول غرّني بك برّك بي سالفا وآنفا. وقال بعضهم : أقول غرّني حلمك. وقال أبو بكر الوراق : أقول غرّني كرم الكريم.

وبالحقيقة إنه سبحانه وضع لفظة (الْكَرِيمِ) هنا دون سائر صفاته الشريفة ، ليلقّن الإنسان الإجابة على السؤال فيقول : غرّني كرم الكريم.

٣٢٧

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : كم مغرور بالستر عليه ومستدرج بالإحسان إليه. أجل سيقال للإنسان : ما غرك بربك الكريم (الَّذِي خَلَقَكَ) ابتدعك من نطفة ولم تكن شيئا مذكورا (فَسَوَّاكَ) جعلك إنسانا سميعا بصيرا قادرا مفكّرا مختارا (فَعَدَلَكَ) صيّرك معتدلا في خلقتك وأعضائك (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي في أي صورة تشبه الأب أو الأم أو العم أو الخال أو الجد أو غيرهم جعلك. وفي المجمع عن الرضا عن آبائه عليهم‌السلام جميعا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال لرجل : ما ولد لك؟ قال : يا رسول الله وما عسى أن يولد لي ، إمّا غلام وإمّا جارية؟ قال : فمن يشبه؟ قال : يشبه أمّه أو أباه. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تقل هكذا. إن النطفة إذا استقرّت في الرحم أحضرها الله كلّ نسب بينها وبين آدم. أما قرأت هذه الآية : في أيّ صورة ما شاء ركّبك؟ أي فيما بينك وبين آدم. والمعنى أنه سبحانه يقدر على جعل الإنسان في أية صورة شاء (كَلَّا) أي مهلا فليس الأمر كما تزعمون أيّها الكافرون بالبعث مع وجود الدليل عليه (بَلْ) أنتم (تُكَذِّبُونَ) يا معاشر الكفّار (بِالدِّينِ) الذي جاء به رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو الإسلام ، ونحن نعلم ذلك منكم (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) رسلا من الملائكة يحفظون ما تعملونه ويحصونه عليكم ويسجلونه في صحائف أعمالكم ، وصفهم سبحانه بقوله (كِراماً) أي مكرّمين عند ربهم (كاتِبِينَ) ما تقولونه وما تفعلونه (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) يعرفون أعمالكم ويميّزون بين الخير والشر بقدرة من الله عزوجل ولا يخفى عليهم من أفعالكم إلّا ما شاء الله أن يخفيه من بواطن الأمور التي يلطف بها.

* * *

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ

٣٢٨

عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

١٣ ـ آخر السورة ـ (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ...) فصّل سبحانه هنا حالة الناس فأكّد أن الأبرار : المؤمنين المطيعين من أوليائه وعباده الصالحين ، يكونون منعّمين بنعيم الجنّة (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) أي وإن الكفّار المكذّبين للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله العاصين لأوامر ربّهم في الجحيم : أي النار العظيمة الاشتعال والحرارة (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) يعني يكونون فيها معرّضين لحرّها ويلزمونها يوم القيامة (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) لا يغيبون عنها ولا يغيّبون لأنهم مؤبّدون في عذابها. وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن أهل الكبائر من المسلمين لا يخلّدون في النار ، لأنه تعالى ذكر المكذّبين بالدّين لا المعترفين به (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) أي وما حدّ معرفتك عن يوم الدّين ، وماذا تدري من شأنه : (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) كرّرها سبحانه تعظيما لشأنه وتنبيها لشدته وعظيم حاله وكبير أهواله ، فذلك (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) أي لا يملك حق الدفاع عن مستحقّي العذاب أحد ، ولا تقدّم نفس لنفس نفعا بل كلّ امرئ بما كسب رهين (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) فالحكم بيده سبحانه وهو يثيب ويعاقب ، ويعفو وينتقم. وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ـ كما عن عمرو بن شمر ، عن جابر ـ أنه قال : إن الأمر يومئذ واليوم كلّه لله ، يا جابر ، إذا كان يوم القيامة بادت الحكام ، فلم يبق حاكم إلّا الله ... أما إذا قيل إنه لا يصح على هذا أن يشفع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فالجواب أن الشفاعة تكون بأمر الله تعالى وبإذنه ، وهو قوله تبارك وتعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ...)

* * *

٣٢٩

سورة المطففين

مكيّة وآياتها ٣٦ نزلت بعد العنكبوت وهي آخر سورة نزلت بمكة.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥))

١ ـ ٥ ـ (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ...) التطفيف هو نقص المكيال والميزان. والطّفيف هو الشيء القليل الذي يؤخذ عند الكيل والوزن. والمعنى : ويل لأولئك الذين يسرقون في الميزان والمكيال الشيء الطفيف ، ويبخسون الناس حقهم عند ذلك. والمطفّفون هؤلاء الذين ذمّهم الله وخوّفهم ، هم (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) أي الذين إذا كالوا لأنفسهم ما على الناس (يَسْتَوْفُونَ) فيأخذون حقّهم وافيا (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) أي إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم يردّوا إليهم حقهم ، ينقصون من ذلك الحق.

وهذا يعني أنهم إذا كالوا لغيرهم أو وزنوا له ، ينقصون. وروي أن

٣٣٠

ابن مسعود قال : الصلاة مكيال ، فمن وفى وفى الله له ، ومن طفّف قد سمعتم ما قال الله في المطفّفين ، وبعد هذا التحذير من بخس المكيال والميزان لفت الله تعالى نظر خلقه إلى غفلة المطفّفين وأمثالهم عن أوامره ونواهيه فسأل متعجبا (أَلا يَظُنُ) أي أفلا يعتقد (أُولئِكَ) المخسرون (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) معادون أحياء (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) هو يوم القيامة الذي وصفه بالعظمة لما فيه من العدل الذي لا تتحمّله نفوس البشر ، وذلك (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) بعد الموت (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي لأمره وبأمره للجزاء والحساب. وفي الحديث أنهم يقومون حتى يبلغ الرشح ـ أي العرق ـ إلى أطراف آذانهم ، وذلك من شدة الفزع والهلع. ويمكن أن يكون معنى الشريفة ألا يحسب هؤلاء أنهم يبعثون؟ لأن من ظنّ الحساب ، والجزاء فإنه يجب عليه أن يتحرّز منه ويخاف من الحساب ، وذلك كمن يتحرّز من سلوك طريق فيتجنبه ويحيد عنه عقلا. وأورد مسلم في صحيحة عن المقداد بن الأسود أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون الشمس بقدر ميل أو ميلين. ثم قال : صهرتهم الشمس فيكونون في العرق بقدر أعمالهم ، فمنهم من يأخذه إلى عقبه ومنهم من يلجمه إلجاما ، وقال : فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يشير بيده إلى فيه ويقول : يلجمه إلجاما. فنستجير بالله من شر ذلك اليوم.

* * *

(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ

٣٣١

عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦))

٦ ـ ١٦ ـ (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ...) كلّا : كلمة ردع وزجر ، والمعنى : انزجروا عن المعاصي فإن الأمر ليس على ما أنتم عليه فإن كتاب الفجّار الحاوي لما ارتكبتموه من الفجور وعظائم الأمور لفي سجّين ، أي مسجّل فيه. فالفجار يكونون في سجّين التي هي الأرض السابقة كما عن ابن عباس وكثيرين. وقيل إن روح الفاجر يصعد بها الى السماء فتأبى قبولها فيهبط بها إلى سجّين وهو موضع جند إبليس ، فكتاب عملهم أيضا يوضع هناك. وقيل إن سجين جبّ في جهنم مفتوح ، والفلق جبّ في جهنّم مغطىّ كما في رواية أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) أي وما علمك به يا محمد ، فلست تعلمه أنت ولا قومك. ثم فسّر سبحانه كتاب الفجّار بقوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي مسجّل رقم لهم فيه ما عملوه من السيئات وختم لهم فيه بشرّ وسوء (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) هذا تهديد لمن يكذّب بالبعث والجزاء ، فالمكذّبون هنا هم (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي بيوم الجزاء لأنه يكذّب بحقّ لا ريب فيه (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أنه يكذّب به التارك للحق المتّبع للباطل الكثير الإثم الذي (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إذا قرئ عليه القرآن قال هذا من أباطيل الأمم السابقة التي لا أصل لها (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي : لا ، فليس الأمر كما زعموا ، بل غلب على قلوبهم الرّين وهو أن يتراكم الذنب فوق الذنب حتى يموت القلب ولا يعدّ الذنب ذنبا. وفي العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ما من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء ، فإذا أذنب ذنبا خرج من تلك النكتة نكتة سوداء ، فإذا تاب ذهب ذلك السواد ، وإن

٣٣٢

تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطّي البياض ، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا ، وهو قول الله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) ، الآية ... وفي المجمع عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : نعيد القلب فإذا ذكّرته بآلاء الله انجلى عنه. (كَلَّا) أي : لا فإنهم لا يصدّقون كما عن ابن عباس ، ثم استأنف فقال : (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) أي أن هؤلاء الفجّار يحال بينهم وبين رحمة ربّهم وإحسانه يوم القيامة ويحرمون من كرامته ويدفعون عن ثوابه (ثُمَّ إِنَّهُمْ) بعد ذلك (لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي أنهم يلازمون حرّ جهنّم وهم غير مفارقيها بحيث يصيرون صلاها يعني وقودها (ثُمَّ يُقالُ) لهم تقريعا وتوبيخا : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي هذا هو العقاب الذي أنكرتموه في دار الدنيا واعتبرتم الوعد به كذبا فلم تؤمنوا به فذوقوه الآن.

* * *

(ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨))

١٧ ـ ٢٨ ـ (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ...) بعد أن بيّن سبحانه حال الكفّار والفجّار ، قال : كلّا ، أي حقّا إن كتاب المطيعين العاملين بما يرضي الله تعالى في (السماء السابعة) حيث أرواح المؤمنين وصحائف

٣٣٣

أعمالهم قد قبلت راضية مرضيّة ، وقيل بل هي في (سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) كما قيل إنها (الجنة) بالذات ، وعلى كل حال فإنها في ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية بعد ارتفاعها لأنها شملتها رحمة الله ولطفه وكرمه. وعن البراء بن عازب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : في علّيين : في السماء السابعة تحت العرش (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) وهذا تعظيم لشأن تلك المنزلة السامية وإشارة إلى أن عظمتها لا تمكن الإحاطة بها ، ثم وصف ذلك الكتاب بقوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي مسجّل فيه جميع أعمالهم الصالحة وطاعاتهم وفيه ما يسرّهم بخلاف كتاب الفجّار الذي فيه ما يسوؤهم ، فقد رقم وختم لهم فيه بالخير في ساق العرش بدليل قوله تعالى : (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) يعني يحضره ويشهد عليه الملائكة المقرّبون. وفي المجمع أن عبد الله بن عمر قال : إن أهل علّيين لينظرون إلى أهل الجنّة من كذا ، فإذا أشرف رجل منهم أشرقت الجنّة وقالوا : قد اطّلع علينا رجل من علّيّين (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) أي أنهم في أنواع من النعمة ، وفي ملاذّ من الجنّة وهم (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) أي يجلسون على الحجال والسّرر والكراسي الوثيرة ويتأمّلون ما منحهم الله من النّعم والعطايا الكريمة (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) يعني إذا شاهدتهم عرفت أنهم من أهل النعمة لأن وجوههم تطفح نورا وسرورا وبهجة وجمالا لا يستطيع الإنسان وصفهم ، وهم (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) أي يشربون خمرا صافية خالية من الغش ختمت برائحة المسك ومنع فضّ ختمها حتى يفضه الأبرار (خِتامُهُ مِسْكٌ) آخر طعمه ريح المسك. وقيل ختم الإناء بالمسك بدلا عن الطين وغيره وقد قال أبو الدرداء : هو شراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم ، ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل إصبعه فيه ثم أخرجه ، لم يبق ذو روح إلّا ونال طيبها (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي ففي مثل هذه النعمة يتبارى المتبارون ، ويتنازع المتنازعون السّبق إليه ، وفي الحديث : من صام في يوم صائف ، سقاه الله على

٣٣٤

الظمأ من الرحيق المختوم. وفي وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام قال : من ترك الخمر لله ، سقاه الله من الرحيق المختوم (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) أي أن ذلك الرحيق المختوم (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) أي أن ذلك الرحيق المختوم يمزج من عين في الجنة تسمّى تسنيما فيها أشرف شراب في الجنّة ، قال مسروق : يشربها المقرّبون صرفا ، ويمزج بها كأس أصحاب اليمين فيطيب ، وقد وصف الله سبحانه تلك العين فقال : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) فهي خالصة لهم يشربونها صرفا ويمزج بها السائر أهل الجنّة.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

٢٩ ـ آخر السورة ـ (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ...) أي أن مرتكبي الجرائم والمعاصي من كفرة مكة ومشركيها كأبي جهل وغيره كانوا يسخرون من المؤمنين برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ويستهزئون بهم في دار التكليف ويعيبون عقيدتهم وعبادتهم ، وذلك بسبب إنكارهم للبعث وإعادة الأجسام للحساب (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) أي وكانوا إذا مرّ بهم المؤمنون يشير بعضهم إلى بعض بالسخرية منهم لاعتقادهم بصدق نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدق

٣٣٥

الوحي وصدق الرسالة. وقيل إن هذه الآية الكريمة نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام وذلك أنه كان في نفر من المسلمين جاؤوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فرآهم المنافقون فسخروا منهم وتغامزوا عليهم وقالوا : رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه ، فنزلت الآية المباركة قبل أن يصل عليّ ومن معه إلى النبيّ (ص) وعن ابن عباس ، فيما أخرجه الحاكم الحسكاني ، قال : إن الذين أجرموا : منافقو قريش ، والذين آمنوا : علي بن أبي طالب (ع) وأصحابه (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أي إذا عاد هؤلاء الكفّار إلى أهلهم وذويهم عادوا وهم يتفكّهون ويضحكون ممّا عملوه مع المؤمنين (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) أي إذا شاهدوهم كانوا يقولون : إنهم ضائعون عن طريق الصواب ، قد خدعهم محمد (ص) فهم يصلّون ويصومون ويعملون رجاء ثواب لا حقيقة له. ثم سخر الله تعالى من قولهم فقال عزوجل : (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) أي ولم يجعل الكفار حافظين على المؤمنين ، ولا أحد كلّفهم بمراقبة أعمالهم وتقييمها ، فليسوا شهداء عليهم بل العكس هو الصحيح (فَالْيَوْمَ) يوم القيامة والجزاء (الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) منهم ويسخرون كما سخر الكفّار منهم في الدنيا. وقيل إنه يكون ذلك حيث يفتح للكفار باب إلى الجنة ويقال لهم : اخرجوا إليها ، فإذا وصلوا إليها أغلق الباب دونهم ، يفعل ذلك بهم مرارا فيضحك منهم المؤمنون. وقيل إن ضحك أهل الجنّة من أهل النار يكون بالسرور الذي يحصل لهم من جرّاء رؤية الكفّار معذّبين لأنهم أعداؤهم الذين آذوهم في الدنيا. فالمؤمنون يومئذ (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) يعني ينظرون إلى عذاب أعدائهم (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) يعني : هل جوزي الكفرة بأعمالهم السيئة؟ وقد استعمل لفظة (الثواب) في مجال (العقاب) لأن الثواب في اللغة (جزاء) والعقوبة (جزاء) أيضا. وهذا السؤال الذي معناه الاستهزاء يمكن أن يقوله المؤمنون بعضهم لبعض ، ويمكن أن يقوله الملائكة إذا

٣٣٦

كانت الحملة مستأنفة. أما إذا تعلّقت بينظرون فمعناها أن المؤمنين ينظرون من على آرائكهم ويقولون : هل جوزي الكفّار على عملهم ، وهو الأصح والله العالم.

* * *

٣٣٧

سورة الانشقاق

مكية وآياتها ٢٥ نزلت بعد الانفطار.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦))

١ ـ ٦ ـ (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ ...) الانشقاق الافتراق بالشّق بعد الالتئام ، وأذن : يعني استمع وقد قال الشاعر :

وإن ذكرت بشرّ

عندهم أذنوا

أي استمعوا لذلك. والمعنى أنه : إذا تصدّعت الأرض وانفرجت ، وذلك من علامات القيامة والبعث ، وقد مرّ ذلك بتعبير آخر في القرآن الكريم ، وإذا أذنت الأرض : أي استمعت لأمر ربّها وانقادت لتدبيره وحقّت : يعني حقّ لها الإذن بالانقياد لذلك الأمر والإطاعة له (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) أي انبسطت بعد دكّ الجبال ونسفها وصارت كالصحراء التي لا كثبان فيها ، وهذا يعني أنها تسوّى بحيث لا يبقى فيها جبل ولا تلّة

٣٣٨

ولا بناء مطلقا (وَأَلْقَتْ ما فِيها) لفظت ما فيها من الموتى (وَتَخَلَّتْ) أي تركت كلّ ما في بطنها. وقيل : ألقت ما في بطنها من كنوزها ومعادنها ، وتخلّت ممّا على ظهرها من الجبال وغيرها (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) وهذا ليس تكرارا لأن الآية الأولى في صفة السماء ، وهذه الآية في صفة الأرض ، وكلّ ذلك من أشراط الساعة ومجيء يوم القيامة. ومجمل الكلام أنه إذا حصلت هذه الأمور العظام التي ذكرها الله تعالى ، رأى الإنسان ما قدّمه لنفسه في ذلك اليوم. يدل على ذلك قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) أي : إنك ساع إلى ثواب ربّك سعيا متعبا ، وأنت تعمل عملا تتحمّل مشقته لتحمله معك ليوم الله العظيم. والخطاب لسائر الناس لأنه سبحانه قصد بالنداء النوع لا واحدا بالذات. فأنت تعمل لتلقى ربك بهذا الزاد (فَمُلاقِيهِ) فأنت ملاق لجزائه ، فكأن لقاء الثواب أو العقاب لقاء له. وأنت في هذه الحال صائر إلى ربّك إذ لا حكم في الآخرة إلّا له.

ثم قسّم سبحانه أحوال الناس فقال عزّ من قائل فيما يلي :

* * *

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))

٧ ـ ١٥ ـ (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ...) أي من أعطي صحيفة أعماله التي أثبتت فيها جميع طاعاته وأعماله بيده اليمنى (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً

٣٣٩

يَسِيراً) أي أنه لا يناقش بشيء ولا يعاتب على السيئات التي تاب عنها وأقلع إقلاعا تاما إذ عفا الله تعالى عنها. وقيل إن الحساب اليسير هو التجاوز عن السيئات والإثابة على الحسنات ، ومن نوقش في الحساب عذّب. وفي حديث مرفوع : ثلاث من كنّ فيه حاسبه الله حسابا يسيرا وأدخله الجنّة برحمته. قالوا : وما هي يا رسول الله؟ قال : تعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ، وتعفو عمّن ظلمك (وَيَنْقَلِبُ) يعود بعد الحساب (إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) فرحا بما أوتي من رحمة وكرامة. وأهله هنا هم ما أعدّه الله له من الحور العين وأزواجه وأولاده وعشيرته التي سبقته إلى الجنّة (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) ذلك أن يده اليمنى مغلولة إلى عنقه ، فإنه يعطى صحيفة أعماله بيده اليسرى المشدودة إلى وراء ظهره ، وهذه إمارة على أنه من أهل النار ، ودلالة على أن صاحب الكتاب سيناقش الحساب ويأوي إلى سوء المآب ولذلك (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) أي ينادي بالويل والهلاك معولا باكيا صارخا (وَيَصْلى سَعِيراً) يدخل في النار ويعذّب فيها ، ويكون حطب جهنّم ويلزم النار إلى أبد الآبدين (إِنَّهُ كانَ) في دار الدنيا (فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) ناعما فرحا لا يهتمّ بشؤون الآخرة ولا يتّقي الله ولا يتحمّل مشقة العبادة والعمل الصالح. وقيل إن من عصى وسرّ بالمعصية فقد ظنّ أنه لا يبعث ولا يحاسب. ذلك (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي اعتقد في الدنيا أنه لا يرجع إلى الحياة بعد الموت ، ولذلك قال الله تعالى : (بَلى) أي ليرجعنّ وليحاسبنّ (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) لم يغب عنه شيء من أمره منذ خلقه إلى أن توفّاه وبعثه.

* * *

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ

٣٤٠