الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ١

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧١

١
٢

٣
٤
٥
٦

بين يدي الكتاب

الحمد لله الذي شرح صدورنا بكتبه السماوية ، ونور قلوبنا بلوامع آياته المنزلة وكرمنا برسالة المحمدية ، وشرفنا بتقبل ولاية العلوية ، والصلاة والسلام على من دنا فتدلى ، وعلى وصية الذي قرب إليه قاب قوسين أو أدنى : وعلى آله الهداة المهتدين بهداية العلي الأعلى.

والحمد له إذ أنزل الكتاب الكريم ، على النبي ذي الخلق العظيم الذي جعله نبيا وآدم بين الماء والطين ، والسلام عليه وعلى أهل بيته الطبيين الهداة المطهرين ، معادن علوم الأولين والآخرين ، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين ، ورحمة الله وبركاته.

محمد بن حبيب الله

المعروف بالسبزواري النجفي

٧

بسم الله الرحمن الرحيم

قال النبي صلى الله عليه وآله :

إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى ، فتعلموا مأدبته ما استطعتم ..

٨

سورة الفاتحة

*

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

آ ـ فضلها :

لا يخفى أن أفضل سور القرآن سورة الحمد.

ذلك أن أفضل الطّاعات هو الصلاة التي عبّر عنها بعماد الدّين في قوله عليه‌السلام : الصلاة عماد الدين ، إن قبلت قبل ما سواها ، وإن ردّت ردّ ما سواها. وأمثال هذه الرواية كثيرة في فضلها. وقد جعل الله تعالى سورة الحمد جزءا من الصّلاة (٢) ، بحيث لا يسدّ مسدّها شيء من سور القرآن (٣).

__________________

(٢) قال عليه‌السلام : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. كما أنه قال : لا صلاة إلا بطهور ، ولا صلاة إلا إلى القبلة ، إلخ ..

(٣) طوالها وقصارها.

٩

بخلاف سورة الإخلاص ، فإن المصلّي مخيّر بينها وبين غيرها من السّور. وهذا يكشف عمّا ذكرناه.

ب ـ نزولها :

هي مكّية ، وعلى قول أنها نزلت في المدينة ثانيا. (١) ولها أسماء :

١ ـ فاتحة الكتاب : لأنها مفتتحه أو مفتاحه.

٢ ـ وأمّ الكتاب : لاشتمالها على جمل معانيه ، أي على خلاصة ما فصّل في الكتاب.

وبيان ذلك : أنها مشتملة على معاني القرآن بصورة اللّف ، من الثّناء على الله بما هو أهله ، ومن التعبّد بالأمر والنّهي ، والوعد والوعيد (٢). فكأنّ الكتاب نشأ وتكوّن منها بالتفصيل بعد هذا الإجمال. أو أنها كمكّة التي سميّت أمّ القرى ، لأن الأرض تكوّنت ودحيت منها. والعرب من شأنهم أن يسمّوا ما يحتوي على أشياء ، أو هو جامع لمطالب وأصول ومقاصد ورؤوس مطالب : أمّا ، كما يسمّون الجلدة الجامعة للدّماغ بمختلف حواسّه : أمّ الرّأس.

ونذكر في المقام رواية واحدة عن عظمة فاتحة الكتاب :

ففي مجمع البيان ، روي عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن النبيّ صلوات الله عليهم : لما أراد الله عزوجل أن ينزل فاتحة الكتاب ،

__________________

(١) هذا القول يجيء بنظري ساقطا ، لأن نزولها ثانيا لا يترتب عليه إلا التكرار ولا وجه له ، ففي المدينة جرى تحويل الوجوه في الصلاة نحو البيت الحرام بعد ان كان التوجه نحو بيت المقدس وقد كان المسلمون يصلّون بقراءة الفاتحة قبل الهجرة الى المدينة. ولم يحصل في الصلاة أي تبدل أو تغير في سورة الفاتحة أو في غيرها من أجزاء الصلاة ، فلا حاجة الى الأخذ بقول لم نقع فيه على آية أو رواية.

(٢) وهذه الأمور أصوله وأركانه.

١٠

وآية الكرسيّ ، وآية شهد الله ، وقل اللهمّ مالك الملك ، إلى قوله : بغير حساب ـ تعلّقن بالعرش وليس بين الله وبينهنّ حجاب وقلن : يا رب ، تهبطنا دار الذنوب وإلى من يعصيك ، ونحن معلّقات بالطّهور والقدس؟. قال : وعزّتي وجلالي ، ما من عبد قرأكنّ في دبر كلّ صلاة ، إلّا أسكنته حظيرة القدس على ما كان فيه ، ونظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة ، وإلّا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ، وإلّا أعذته من كل عدوّ ونصرته عليه ، ولا يمنعه عن دخول الجنة أن يموت.

٣ ـ الحمد : وهو من أسمائها لذكره في ابتدائها (١).

٤ ـ السبع المثاني : الأول ، لكونها سبع آيات اتّفاقا في جملتها ، إلّا أن هناك خلافا بين عدّ البسملة آية ، أو «أنعمت» دون البسملة.

والثاني ، لأنها تثنّى في الفريضة ، ولنزولها في مكة أولا ، وفي المدينة ثانيا. نزلت في مكة حين افترضت الصّلاة ، وفي المدينة ـ كما قيل ـ حين حوّلت القبلة لمناسبة خفي مقتضاها علينا ، فإن أفعال الله كأقواله قد تصدر عن مصلحة مكنونة ، كما تصدر عن مصلحة مكشوفة.

٥ ـ لها أسماء أخر ، كالشافية ، والكنز ، والوافية. والأشهر ما ذكرناه أولا.

ج ـ التفسير :

__________________

(١) وقد يقال بأن ابتداءها البسملة ، والأوجه تسميتها بها لورودها في أولها. والجواب : أن البسملة جزء من كل سورة ، بل آية منها. ولو تسمّت بها سورة لتسمّت بها جميع السّور ما عدا براءة. فأسماء السور أمر تعبديّ ، لا علاقة له بورود الاسم في الأول أو الوسط أو الآخر.

١١

١ ـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) :

هي آية من كلّ سورة عدا براءة بإجماعنا (١) وغيرنا ، بين موافق لنا ومخالف. وذكر الموافق والمخالف ليس فيه كثير فائدة.

والباء للاستعانة ، ويترجّح ذلك بأن الإنسان في جميع أموره يطلب الإعانة منه سبحانه ويشعر بكثرة مدخليّة اسم الله تعالى في تسهيل أعماله. فكأنّه جعل اسمه تعالى آلة للفعل مشعرا بزيادة مدخليته فيه حتى كأنه لا يوجد بغيره.

أو للمصاحبة ، والحجة فيه التبرّك باسمه تعالى ، أدخل في أدب الإسلام من أجل الرّد على المشركين الذين كانوا يتبرّكون بأسماء آلهتهم كاللات والعزّى وغيرهما. والحق أن التبرّك يحصل بكلّ من الاستعانة والمصاحبة ، ولا فرق بينهما عند النظر الدقيق.

والسورة مقولة على ألسنة عباده على ما هو الرائج بينهم في محاوراتهم تعليما للتبرّك باسمه وحمده ومسألته. ومتعلّق الظّرف فعل مقدّر مؤخّر ، لأهمية اسمه تعالى وقصر التبرك عليه سبحانه. هكذا : «بسم الله أتلو». حذف المتعلّق لدلالة الحال عليه ، أو لأن كل فعل يضمر له ما يناسبه المقام ، مثلا في الذبح والحلّ والارتحال : «كأذبح ، وأحلّ ، وأرتحل». أو يقدّر من الإبهام العام : «كأبدأ ، وأعمل ، وأفعل.» من الأفعال العامة المبهمة ، ما يناسب كل فعل وفعله.

__________________

(١) ويدل عليه روايات نذكر منها ما جاء في تفسير العيّاشي عن يونس بن عبد الرحمن ، عمّن رفعه ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) إلخ .. قال : هي سورة الحمد ، وهي سبع آيات منها بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ». ولا يخفى أن المناسبة تقتضي أن يكون ذكر هذه الرواية عند قولنا في بيان وجه تسمية السورة المباركة بالحمد.

١٢

والاسم من السّمو : بفتح السين وسكون الميم ، وهو مصدر (١) فمعناه جعل الاسم. فحذف عجزه وسكن أوّله وزيدت همزة مبتدأ بها ، يشهد بمبدإ اشتقاقه التكسير والتصغير اللذان يردّان الأشياء إلى أصولها.

أو من السّمة : وأصله أي مصدره : وسم ، معناه العلامة بالكيّ ونحوه. وحذفت الواو ، وعوّض عنها الألف.

ولم يقل سبحانه : «بالله» لأن التبرّك باسمه أدخل في الأدب مضافا بأن التبرّك بالاسم يلازم التبرّك بالذّات بالأولى بخلاف العكس وليعمّ كل أسمائه.

الله : أصله إله. حذفت الهمزة وعوّض عنها أداة التعريف فصار مختصّا بالمعبود بالحق بالغلبة ، بخلاف الإله فإنه كان لكل معبود ، ثم غلب في المعبود بالحق. وهو من : أله بالفتح ، بمعنى : عبد أو تحيّر ومعنا هما عام. وبالكسر (أله) بمعنى سكن أو فزع أو ولع لأنه معبود تتحيّر فيه العقول وتطمئنّ بذكره القلوب ويفزع إليه ويولع بالتضرّع لديه. وقيل أصله لاه (مصدره : ليها ولاها) بمعنى احتجب وارتفع. وأدخلت عليه الأداة فصار علما شخصيّا للذّات المقدّس الجامع لكل كمال ، لا اسما لمفهوم واجب الوجود ، وإلّا لم تفد كلمة شهادة التوحيد ، لاحتمال اعتقاد قائلها تعدّد أفراد ذلك المفهوم العام ، وعورض بأنه لو كان كذلك لم يفده (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) لجواز علميّته لأحد أفراد الواجب مع عدّهم السورة من أدلة التوحيد. ويجاب بأن ذيلها يفيد الواحديّة ، وصدرها الأحديّة ، أي نفي قبول القسمة بأنحائها.

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : صفتان مشبّهتان من رحم بكسر عين الفعل ، كغضبان من غضب ، وعليم من علم. والرحمة هي رقّة القلب المقتضية للإحسان. واتّصافه تعالى بها باعتبار غايتها التي هي فعل ، لا مبدئها الذي هو

__________________

(١) سما يسمو سموا الرجل زيدا ، أي جعل اسمه زيدا.

١٣

انفعال. والرّحمن أبلغ لاقتضاء زيادة البناء زيادة المعنى. وهي هنا باعتبار «الكمّ» حسب كثرة أفراد المرحومين وقلّتها. وعليه حمل : يا رحمان الدنيا لشمول المؤمن والكافر ، ورحيم الآخرة لاختصاصه بالمؤمنين. وأما باعتبار «الكيف» فيصير الأمر في الأبلغيّة بالعكس لجسامة نعم الآخرة فتنخرط القاعدة.

وملخص القول أن معنى الرحمن أي البالغ في الرحمة غايتها ، ولذا اختصّ به سبحانه.

قال الصادق عليه‌السلام : «الرّحمن اسم خاصّ بصفة عامّة ، والرّحيم اسم عام بصفة خاصة» على ما رواها عنه أصحاب التفاسير في كتبهم. وإنما قدّم في البسملة وغيرها من موارد اجتماعهما على الرحيم ، لصيرورته بالاختصاص كالواسطة بين العلم والوصف ، فناسب توسيطه بينهما وخصّت البسملة بهذه الأسماء الثلاثة إعلاما بأن التحقيق أن يستعان به تعالى في جميع الأمور ، دنيوية وأخروية ، لأنه المعبود الحقيقيّ البالغ في الرحمة غايتها ، المولي للنّعم الجسيمة كلها. ولعلّ وجه التقديم ـ مضافا إلى ما قلناه آنفا ـ كون الرحمانيّة دنيوية ، وهي مقدّمة على الأخروية. فالذي يدل عليها طبعا مقدّم (١) على الذي يدل على صفة أخروية. ولا منافاة بين الوجهين.

٢ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) :

الحمد : هو الثناء على أمر جليل جميل صدر عن اختيار نعمة وغيرها. وحمده تعالى على صفاته ، حمد على الآثار الاختيارية الصادرة عن ذاته المقدّسة كما هو الحق. ونقيضه : الذّم ، ويراد منه المدح. وقيل يعم غير

__________________

(١) ولا يخفي أنه تعالى أردف اسمه الذي هو علم لذاته ، المستجمع للقهر والرحمة ، بصفة الرحمة دون القهر ، تنبيها للعباد بأن «رحمتي غالبة على غضبي وقهري» وهذا سرّ من أسرار البسملة. يا من سبقت رحمته غضبه : أي غلبت.

١٤

الاختياري ، والحق هو الأول من القولين أما الشكر فهو ما قابل النعمة من قول أو عمل أو اعتقاد. ومن الشكر الحمد على النعمة وهو أظهر أفراده وشعبه دلالة عليه ، لخفاء الاعتقاد ، واحتمال عمل الجوارح. ولذا قال (ص): «الحمد رأس الشكر ، ما شكر الله من لم يحمده» فجعله كأشرف الأعضاء ، فكأن الشكر منتف بانتفائه. ونقيضه الكفران.

والحمد مبتدأ وخبره الظرف ـ أي لله ـ وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة. فأصله النصب ، وعدل إلى الرفع ليفيد الثبات دون التجدد والحدوث. ولامه يحتمل أن يكون للجنس أو الاستغراق أو العهد ، أي حقيقة الحمد أو كلّ أفراده أو أكملها ، أي المعهود من الحمد بين العبد ومولاه هو أكمل أفراده ثابت له تعالى على وجه الاختصاص كما تفيد اللام ولو بمعونة المقام.

ربّ العالمين : مالكهم وسائسهم ، أي مدبّر أمورهم على ما ينبغي.

والرب مصدر ، بمعنى التربية ، وهي تبليغ الشيء كماله المقدّر له تدريجيّا ، وصف به سبحانه للمبالغة على ما قيل. بيان ذلك أنه لا يقدر أحد تبليغ الموجودات طرا إلى كمالها ـ كلّ على حسبه تدريجيّا ـ إلّا الله. فهذا من أوصافه الخاصة به جلّ وعلا التي تدل على أن قدرته فوق ما يتصوّر من القوى ، ولا يطلق على غيره تعالى إلّا مضافا : كربّ الدار ، أو مجموعا : كالأرباب. لكنه فيه تعالى كما يطلق مفردا يستعمل مضافا كقوله (ص): «ربّ الماء والتراب واحد».

والعالم : اسم لما سوى الله ، أو اسم لما يعلّم به كالطابع ، غلبت في كل جنس مما يعلم به الصانع تعالى من الجواهر والأعراض ، كما يقال : عالم الأرواح ، وعالم الأفلاك ، وعالم العناصر. ويطلق على مجموعها أيضا

١٥

كالماء يطلق على القليل كالقطرة وعلى الكثير كالبحر. وهذا شأن كل اسم جنس لا يختصّ ببعض دون بعض.

ولا يجمع إلا بالإطلاق الأول فيتعيّن هنا. وإنما جمع ليشمل مسمّاه كلّ الأجناس وأفرادها. ويجمع بالواو والنون لتغليب جانب العقلاء. وأما وجه أنه جمع مع كونه معرّفا بالألف واللام الاستغراقية وهي تفيد الشمول ، فللدلالة على كون العالم أجناسا مختلفة الحقائق كما عدّدنا آنفا المشهور منها. وهذا المعنى لا يستفاد من حرف التعريف وإن كان مفيدا للشمول الاستغراقي».

٣ ـ (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : كرّرا في مفتاح الكتاب الكريم إشعارا بشدة اعتنائه سبحانه بالرحمة ، وتثبيتا للرجاء بأن مالك يوم الجزاء هو البالغ في الرحمة غايتها فلا يقنط من عفوه وغفرانه المذنبون. والوجه الثالث لتكرارهما ، هو أنهما بيان لعلة تخصيص الحمد به تعالى.

٤ ـ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) :

مالك : بالألف على قراءة عاصم والكسائي ، ويؤيّده : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ..) وقرأ الباقون : «ملك يوم الدين» ويؤيّده : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). وهذه أدخل في التعظيم وأنسب بالإضافة إلى يوم الدين ، ولوصفه تعالى بالملكية بعد الربوبية في سورة مباركة خاتمة للكتاب ليوافق الافتتاح الاختتام.

والفرق أن المالك من له التصرّف فيما في حوزته وتحت يده ، والملك من له التصرف في الأمور كلها أمرا ونهيا للسلطة والغلبة على الناس وما في يدهم وتحت تصرفهم طرّا.

والدّين : هو الجزاء ، ومنه : «كما تدين تدان». وعن الباقر عليه‌السلام : «أنه الحساب» وتخصيص اليوم بالإضافة ، مع أنه تعالى مالك وملك

١٦

لجميع الأشياء في كل الأوقات ، لتعظيم ذلك اليوم ، أو لتفرّده تعالى بالملك والسلطان فيه ، لأن ما حصل منهما لبعض في الدنيا ظاهرا ، يزول ويفنى ، فينفرد سبحانه بهما على ما يستفاد من قوله جلّ وعلا : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

وفي التعبير باسم الذات الدالّ على استجماع جميع الكمالات وتعقيبه بالصفات المنتفية عمّن سواه ، دلالة على انحصار استحقاق الحمد فيه ، وقصر العبادة والاستعانة عليه تعالى ، وإرشاد إلى المبدأ والمعاد ، وتنبيه على أن من يحمده الناس إما لكماله الذاتي ، أو لرجائهم إحسانه في المستقبل ، أو لخوفهم من كمال قهره. فكأنه تعالى يقول : أيها الناس ، إن كنتم تحبّون أن تحمدوا للكمال الذاتي فأنا المستجمع له ، أو للإنعام والتربية فأنا «ربّ العالمين» أو للرجاء في المستقبل فأنا «الرّحمن الرّحيم» أو للخوف والسطوة فأنا «مالك يوم الدّين».

فالله تعالى سدّ طرق العباد في عباداتهم من جميع الجهات التي يتصوّر أن تكون عباداتهم لها ، وحصرها بذاته المقدّسة جلّ وعلا ، فما بقي للعباد عذر في عبادة من سواه سبحانه .. وبعد ذكر الأوصاف الثابتة لذاته المقدّسة التي لا تعلم ولا تعرف إلّا بعد انكشافها من ناحيته عقّبها بقوله : («إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إلخ ...» تعليما للعباد طرق المخاطبة له حين تخضّعهم وتخشّعهم لربّهم ، وتربية لهم حينما يدعونه تعالى على كيفية الدعوة.

١٧

٥ ـ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) :

إيّا : ضمير منفصل منصوب ، ولواحقه من الهاء ، والكاف ، والياء ، والنون ، حروف لبيان الغيبة ، والخطاب ، والتكلّم ، لا محلّ لها من الإعراب ، نحو كاف «ذلك» على أصحّ الأقوال. وهو منصوب على المفعولية. وانفعاله وتقدّمه على فعله لإفادة الحصر ، لأن تقديم ما هو حقه التأخير يفيد الحصر. أي قصروا العبادة والاستعانة عليه.

والعبادة أعلى مراتب الخضوع والتذلّل ، لا يستحقها إلّا المنعم لأعظم النّعم من الوجود ، والحياة وتوابعهما.

والاستعانة طلب المعونة في الفعل ، ويراد هنا طلب المعونة في كل المهمّات ، ولذا أبهم المستعان فيه ، أو في أداء العبادة بوظائفها المقرّرة بقرينة توسّطها بين : «نعبد واهدنا» فحذف اختصارا للقرينة. وتقديم المفعول لقصر العبادة والاستعانة عليه تعالى.

وأما وجه الاقتصار أنه تعالى بيّن صغرى وكبري بذكر أوصافه الخاصة له ، وعقّبها باسمه الخاصّ الذي يدل على ذاته المستجمعة للكمالات بأجمعها من المذكورات وغيرها ، فيستفاد منه أنه سبحانه واجد لوصف الرحمانية في الدنيا ، والرّحيمية والملوكيّة في العقبى ، حيث إنه «ملك يوم الدين» أي هو الذي أزمّة الأمور طرّا بيده ، هذه صغرى. وكل من كان هذه الصفات وهذه القوة والقدرة صفته ، فهو الذي يستحق أن يعبد ويستعان به لا غيره. فنستنتج أنه جلّ وعلا مستحقّ للعبادة والاستعانة من دون غيره ، فلا معنى لقصر العبادة والاستعانة عليه تعالى إلّا هذا. فثبت الحصر ووجهه ظهر. والحصر حقيقيّ ثبوتا ، وأما إثباتا فإضافيّ بالنسبة إلى المؤمنين بالله ، والوجه الآخر لتقدّم المفعول ، تقدمه سبحانه في الوجود ، وللتّنبيه على أن العابد والمستعين ينبغي

١٨

أن يكون نظرهما بالذات أولا إلى الحق المتعال ، ثم منه إلى أنفسهم ، لا من حيث ذواتها بل من جهة أنها وسيلة إلى لحاظه تعالى ، ثم إلى عبادتهم ونحوها ، لا من حيث صدورها عنهم ، بل من حيث أنها وصلة بينهم وبين الخالق جلّ وعلا.

وتكرير الضمير : «إيّاك وإيّاك» للتنصيص على التخصيص بالاستعانة ، فينتفي احتمال تقدير مفعول لها غيره تعالى مؤخرا. ولبسط الكلام مع المحبوب كآية : (هِيَ عَصايَ).

وتقديم العبادة على الاستعانة ليتوافق الفواصل في متلوّ الآخر ، ولأن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة. ولمناسبة تقديم مطلوبه تعالى من العباد على مطلوبهم منه. ولأن المتكلّم ، لما نسب العبادة إلى نفسه ، كان كالمعتدّ بما يصدر منه ، فعقّبه بقوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إيذانا بأن العبادة لا تتمّ إلا بمعونته ،

وإيثار صيغة المتكلّم مع الغير ليؤذن بحقارة نفسه عن عرض العبادة وطلب المعونة منفردا على باب الكبرياء ، فلا بد من انضمامه إلى جماعة تشاركه في العرض والطلب كما يصنع في عرض الهدايا ورفع الحوائج إلى الملوك. وفي الجمع يمكن أن يقصد تغليب الخلّص على غيرهم ، فيصدق : «وليدرج عبادته وحاجته في عبادة المقرّبين وحاجتهم ، ولعلها تقبل وتجاب ببركتهم».

والعدول من الغيبة إلى الخطاب : أولا من عادة العرب العدول من أسلوب إلى آخر تفنّنا في الكلام ، وثانيا لأن في العدول من الغيبة إلى الخطاب تطرية وتنشيطا للسامع ليس في غيره ، فإن في الخطاب اعتناء بشأن المخاطب بل لطف وإحسان إليه ، ولا سيّما إذا كان من شخصية سامية : فكيف بذات

١٩

رفيعة مقدّسة جامعة لجميع الكمالات والأوصاف العظيمة التي لا توجد في غيرها.

على ان مواقع العدول وتختصّ بنكت ورموز :

فممّا اختصّ به هذا الموضع أن العبادة والاستعانة ينبغي كتمانها عن غير المعبود المستعان لتكون أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرّياء. فالمناسب له طريق الخطاب ، فلذا عدل إليه. ومنه التلويح إلى ما في الحديث : «أعبد الله كأنك تراه». إذ العبادة الكاملة هي ما يكون العابد حال اشتغاله بها مستغرقا في الحضور كأنه مشاهد لجناب معبوده. فظنّ أنه وصل إلى مقام المقرّبين ، فقال :

٦ ـ (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) : بيان للمعونة المطلوبة ، كأنه قال : «كيف أعينكم؟» فقالوا : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

والهداية : الدلالة بلطف إلى المطلوب. وقيل هي الموصلة ، وغيرها إراءة الطريق. ويدفعه قوله تعالى : (فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) ويرفع الدفع أنّه من الممكن أن يوصل الإنسان شخصا إلى مطلوبه ومع ذلك يصير المطلوب مبغوضا له ويرفع اليد عنه ويؤثر الغير عليه لسبب من الأسباب. والحاصل أن الآية مصداق من مصاديق المعونة ، وآثره الطالب إيذانا على أنه أسماها وأعلاها ، ثم إنّ أصناف هدايته جلّ وعلا وإن لم يحصرها العدّ على أربعة أوجه :

الأول : إفاضته القوى والحواسّ لجلب النفع ودفع الضّرر ، يدل عليه : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى).

الثاني : نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل ، يدل عليه (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ).

الثالث : إرسال الرّسل وإنزال الكتب : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ). أي

٢٠