الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

حَمَإٍ مَسْنُونٍ) فلم يقل «جسم الإنسان» او «روحه» وانما «الإنسان» وأحرى بروحه ان يعنيه الإنسان فيما يطلق دون قرينة.

وفي استعراض أصله (صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ـ مرات ثلاث في آيات ثلاث تستعرض خلقه منه ، وامر الملائكة بالسجود له ، وتأبّي إبليس سنادا الى ذلك الأصل ـ ان في ذلك عناية خاصة بهذا الأصل ، امتحانا للملائكة وقد نجحوا ، وامتهانا لإبليس كما بجه ، حيث نظر الى نارية نفسه تغافلا عن نورية آدم على طينيته ، ولقد وصف طين آدم والمخلوق منه بصفات عدة ، فهنا (صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وفي المؤمنون (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ)(١٢) وفي الصافات (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ)(١١) فمطلق الطين المذكور في آيات هو سلالة من طين لازب صلصال من حماء مسنون ، إضباره ذات قواعد اربع على أصل الطين.

واصل الصلصال هو تردد الصوت من الشيء اليابس ، فهو الطين الجاف (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) (٥٥ : ١٤)(١) والفخار يصنع الفخار من يابس الطين ، سلالة خالصة طيبة ناعمة ، فليس هو المنتن منه ، والحمأ طين اسود ، وقد يقال : منتن ، وتنافيه «سلالة من طين ـ من صلصال كالفخار».

و «مسنون» هو المتغير ، فحتى إذا عني بالحمإ الأسود المنتن ، فقد يعني تغيره ـ فيما يعني ـ طيبه بغياره بعد نتنه ، وهو طين لازب لازق ، فقد خلق الإنسان من سلالة من ذلك الطين ، ام من سلالة من طين حيث أصبح صلصالا من حمأ مسنون ، تغيرا من كل طينية خشنة غير لائقة لفخار الإنسان ، الى سلالة وحصالة بسنّه وغياره التصفوي الصالح

__________________

(١) راجع تفسير الآية في الفرقان ٢٧ : ٢٣.

١٦١

لفخاره ، ولأنه مفخر الكائنات! وقد يعني المسنون المتغير الى نتن ، وكالفخار يخص لينة الطين دون طيبته وفي ذلك عبرة لاولي الألباب ، وكما في عرض خلق الجنين من نطفة من مني يمنى ، وماء مهين ، ولحد القول : (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) إذ يختجل من ذكره لرداءته وعفونته وقذراته.

وهكذا خلق الإنسان الاوّل دون سواه ، حيث (بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٣٢ : ٨).

ولماذا «الإنسان» هنا دون «آدم» حين يخصه ذلك الخلق؟ لان نسله ليس إلّا منه فهو محكوم بحكمه ، وان خلق الأجنّة والأنسال ينتهي الى تراب : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (١٨ : ٣٧) (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ..) (٢٢ : ٥).

وآية الصلصال من الأدلة القاطعة على أن الإنسان الاول خلق قفزة من طين ، دون انتسال من حيوان او إنسان آخر ، سواء أكان ولادة القفزة ، ام تكامل التسلسل الدارويني(١).

__________________

(١) والدارون نفسه لم يكن متأكدا بصحة نظريته فانها لم تعد عن كونها فرضية ان الإنسان تكامل من القرد كما القرد تكامل من حيوان ادنى الى حيوان له واحدة.

ثم المائلون الى ان آدم الاول ولد من آدم ام أوادم في زمنه قد يستدلون بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣ : ٣٣) بتقريب ان اصطفاءه ، يتطلب انه كان بين أوادم آخرين فاصطفاه الله من بيتهم ، ويرده ان الاصطفاء وهو طلب الاصفى يكفيه اثنان فيصطفي أحدهما على الآخر ، ولقد كانت معه زوجه حواء فاصطفي عليها ، ثم والملائكة ، كانوا من الأصفياء ومن الجن أصفياء ، واصطفي آدم عليهم كلهم ، فأصبح رسولا على الجن كما على زوجه ثم ولده.

١٦٢

وهنا «لقد» تأكيد أن اثنان على هذه القفزة الخارقة للعادة ، المنقطعة النظير في خلق الإنسان اللهم إلا المسيح بن مريم (عليه السلام) : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣ : ٥٩).

وإذا كان الإنسان الأول من صلصال من حمإ مسنون ، فنسله المنتسل منه ـ ككل ـ هو من نفس الصلصال دون اختصاص بطينة الناصب (١) وأضرابه ، كما والصلصال دون حمأ ليس أصلا للصالحين ولا سواهم (٢) اللهم إلّا بتأويله الى سائر الطينات الروحية ، عليينية وسجينية ،

__________________

(١) تفسير البرهان ٢ : ٣٢٨ محمد بن يعقوب بسنده المتصل عن عبد الغفار الجازي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان الله خلق المؤمن من طينة الجنة وخلق الكافر من طينة النار ، وقال إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرا طيب روحه وجسده فلا يسمع شيئا من الخير الا عرفه ولا يسمع من المنكر الا أنكره؟ قال : وسمعته يقول : الطينات ثلاث طينة الأنبياء والمؤمن من تلك الطينة الا ان الأنبياء من صفوتها وهم الأصل ولهم فضلهم والمؤمنون الفرع من طين لازب كذلك لا يفرق الله بينهم وبين شيعتهم وقال : طينة الناصب من حمأ مسنون وامّا المستضعفون فمن تراب لا يتحرك المؤمن عن ايمانه ولا ناصب عن نصبه ولله فيهم المشية.

(٢) فيه عن العياشي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قال امير المؤمنين (عليه السلام) قال الله للملائكة : اني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ، قال : وكان ذلك من الله تقدمة منه الى الملائكة احتجاجا منه عليهم وما كان الله ليغير ما بقوم الا بعد الحجة عذرا او نذرا فاغترف الله غرفة بيمينه ـ وكلتا يديه يمين ـ من الماء العذب الفرات فصلصلها في كفه فجمدت ثم قال : منك اخلق النبيين والمرسلين وعبادي الصالحين الائمة المهتدين الدعاة الى الجنة واتباعهم الى يوم القيامة ولا ابالي ولا اسئل عما افعل وهم يسألون واشترط في ذلك البداء فيهم ولم يشترط في اصحاب اليمين البدائة فيهم ثم خلط المائين في كفه ـ

١٦٣

مهما كانت الأرواح بأجسادها متنسلة من آدم الصلصال من حمإ مسنون.

وشاهدا على انها روحية خلق المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، فإذا كان الوالد الكافر سجينيا في جسمه فالولد كذلك بطبيعة الحال! فانما

__________________

ـ جميعا فصلصلها ثم أكفاها قدام عرشه وهما بلة من طين.

وفيه عن العلل باسناده الى إسحاق القمي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) : حديث طويل يقول فيه : لما كان الله متفردا بالوحدانية ابتدأ الأشياء لا من شيء فأجرى الماء العذب على ارض طيبة طاهرة سبعة ايام مع لياليها ثم نضب الماء عنها فقبض قبضة من صفاء ذلك الطين وهي طينتنا اهل البيت ثم قبض قبضة من أسفل ذلك الطينة وهي طينة شيعتنا ثم اصطفانا لنفسه فلو ان طينة شيعتنا تركت كما تركت طينتنا لما زنى احد منهم ولا سرق ولا لاط ولا شرب المسكر ولا ارتكب شيئا مما ذكرت ، ولكن الله عز وجل اجرى الماء المالح على ارض ملعونة سبعة ايام ولياليها ثم نضب الماء عنها ثم قبض قبضة وهي طينة ملعونة من حمإ مسنون وهي طينة خبال وهي طينة أعدائنا ـ فلو ان الله عز وجل ترك طينتهم كما أخذناها لم تروهم في خلق الآدميين ، ولم يقروا بالشهادتين ولم يصوموا ولم يصلوا ولم يزكوا ولم يحجوا البيت ولم تروا أحدا منهم بحسن خلق ولكن الله تبارك وتعالى جمع الطينتين طينتكم وطينتهم فخلطهما وعركهما عرك الأديم ومزجهما بالمائين فما رأيت من أخيك المؤمن من شر : لواط او زنا او شيء مما ذكرت من شرب مسكر وغيره فليس من جوهريته ولا من ايمانه انما هو بمسحة الناصب اجترح هذه السيئات التي ذكرت وما رأيت من الناصب من حسن وجهه وحسن خلق او صوم او صلاة او حج بيت الله او صدقة او معروف فليس من جوهريته انما تلك الأفاعيل من مسحة الايمان اكتسبها وهو اكتساب مسحة الايمان.

أقول : لا نصدق من هذه الأحاديث الا ما يصدقه نص القرآن او ظاهره ، والشطر الذي لا يوافق القرآن ولا يخالفه نتردد فيه ، والطينة فيها ليست هي الأصل المخلوق منه آدم ، ولا الطين المنتهى اليه النطفة ، بل هي الطينة الروحية ، قد نصدق منها ما لا يرجع الى الجبر ـ ولان الطينة فعلة فهي هيئة خاصة من الطين ، إذا فهي الروح لأنها منبثقة من البدن (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) فقد انشئ البدن ببعضه روحا وهو الخلق الآخر.

١٦٤

هي الأرواح ـ فقط ـ دون الأجساد.

هنا نقطة التركيز في السياق هي سرّ التكوين في الإنسان ، وسر الهدى والضلالة وعواملهما الاصيلة في كيان الإنسان ، ومن ثم النص في ابتداء الابتداع في خلق الإنسان الأول.

وفي البقرة كانت النقطة الرئيسية هي استخلاف آدم في الأرض عمن سلفه من أنسال منقرضة مقضيّة. وفي الأعراف هي الرحلة الطائلة من الجنة الى الأرض ثم الرجعة إليها ، وإبراز عداء إبليس لهذا النسل.

وهنا في ذلك الافتتاح البارع يقرر الاختلاف بين طبيعتي الانس والجان ، فهنا طين وهناك نار السموم.

فأما كيف ارتقى هذا الطين من طبيعته العنصرية المعروفة الى أعلى الآفاق الحيوية عضوية وروحية؟ فان ذلك من أسرار الخلقة الحكيمة المتعالية ، لا نعرف منها إلّا ما عرّفها القرآن ، ام تعرّف العلم القاطع إليها على ضوء القرآن ، ثم وكل زيادة عليه او نقيصة عنه تحمل عليه بضرب من التمحل ، فهو خارج عن التحمل ، فللبحث العلمي ان يمضي في طريقه بوسائله الميسرة له ، فيصل الى افتراضات خاطئة أو نظريات قاطعة ، ولكنه ليس له تعسيلها فتأصيلها وتفريع القرآن عليها بتوجيهات بعيدة غامرة غامضة.

فالنص هنا ـ وفي سائر القرآن ما يوضحه ويفسره ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) فكيف يوجّه الى مضادّه انه خلق تطورا من سائر الأطوار الحيوانية او الانسانية أماهيه؟!

فالأمر المستيقن على ضوء القرآن باق ليست لتعارضه النظريات حتى الآن وبعد الآن ، اللهم إلّا ان تتبنّاه في سلك الحق ، وتستزيد منه نورا

١٦٥

على نور ، وكما هو الواقع في الملاحم الغيبية القرآنية على مدار الزمن وغائر التأريخ بمستقبله وحاضره وغابره.

فالخليّة الاولى لنشوء الإنسان لا تزال عبر التاريخ والأعصار الخالية ، تنتقل بين الخيالات ، خافية ليس يزعم أحد انه اهتدى إليها سبيلا ، وكما تتخبط النظريات حول الحياة ، على حين يفسرهما القرآن التفسير المجمل الواضح البسيط : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)!.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ومن قبل :

(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ)(٢٧).

فحين لا يدري الإنسان كيف خلق من صلصال وهو يعيش نفسه ، كيف له ان يدري كيف خلق الجان من قبل من نار السموم ، وهو لا يعيشه ولا يراه؟ إلا ان يدريه الله إياه كما أدراه.

وكما الإنسان هناك هو الاول دون نسله ، كذلك الجان هنا ، وقد يشهد «من قبل» حيث الأنسال منه هي المخلوقة في مثلث الزمان ، لا ـ فقط ـ من قبل.

والشيطان الذي هو من الجان ـ (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ) (١٨ : ٥٠) ـ إن له ذرية بالولادة فأين هنا (نارِ السَّمُومِ) ام (مارِجٍ مِنْ نارٍ) (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) (٥٥ : ١٥) والقول بالفصل بين إبليس وغيره من الجن في نسل الذرية قول غير ذي فصل.

فهنا اصل الجان (نارِ السَّمُومِ) وفي الرحمن (مارِجٍ مِنْ نارٍ) والمارج

١٦٦

هو المازج القلق (١).

فليست هي نارا عادية كسائر النار (٢) بل هي خليطة مازجة بسموم ، لأنها نار ملتهبة من سموم ، ومختلف المادة الصّلى للنار يخلّف مختلف النار ، إن سموما فسموم وان طيبا فطيبة كنار العود ، وان شديدا فشديدة كالنار اللاهبة من الأكسيجين وما فوقه ام دونه ، ام خفيف فخفيفة.

ولماذا هنا الجان وفي الرحمن (٣) والجن والجنة في سائر القرآن؟ علّه لان الجانّ مفرد والمخلوق من نار السموم كذلك مفرد ، ولكن الجن جاء فيما جاء جمعا ام جنسا ولا جمعية في الخلق من نار السموم.

وترى كيف كان نسل الذرية من الجان؟ لا ندري إلّا أن له ذرية ، ولكنها كيف انتسلت فلا ندري! وإنما ندري أنه خلق قبل الإنسان ، وقد ندرك من صفاته بعض حالات السموم ، واللطافة على وجه العموم ، وان هناك قسما منه شيطان ، وآخر كما الإنسان بين معصوم يوحى اليه على هامش الوحي إلى انسان ، وغير معصوم هو بين متق ومأثوم ، وكما فصلت في سورة الجن والحاقة.

هناك يخلق هذا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون ، ومن مني

__________________

(١) فان كان من المرج فهو الخلط والمزج ، ومن المرج هو القلق والاضطراب ، ونار السموم قرينة الجمع .. راجع الفرقان ٢٧ : ٢٣ ـ ٢٥ تجد فيه تفصيلا للمارج.

(٢) الدر المنثور ٤ : ٩٨ ـ اخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : رؤيا المؤمن جزء من سبعين جزء من النبوة وهذه النار جزء من سبعين جزء من نار السموم التي خلق الله منها الجان وتلا هذه الآية (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ).

(٣) ذكر الجان في الرحمن ثلاث مرات ، و ٢٧ : ١٠ و ٢٨ : ٣١ «كَأَنَّها جَانٌّ» ضرب من الحيات الصغار.

١٦٧

يمنى ، ويجعل في احسن تقويم كالقمة المحمدية العليا التي يغبطها العالمون من الجنة والملائكة وسائر الروحيين أجمعين.

وهنا يخلق الجان من نار السموم ، ويجعل في تقويم منه النخبة المختارة لاستماع الوحي في الملإ الأعلى ام من النبيين ، حتى يرجعوا الى قومهم منذرين ، فانما الأصل في الزلفى الايمان والعمل الصالح ، لا الأصل المخلوق منه حتى يفتخر به جماعة ويترذل فيه آخرون :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)(٢٨).

(بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) هو «خليفة» في البقرة ، وكما فصلناها هناك خليفة عمن انقرض من جنسه كتعريف لمثل حالته السابقة عمليا ، وهنا (بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) تعريف بأصله في جسمه ، والاصلان حسب الظاهر رديئان ، أولهما يتطلب سؤال الاستفهام ، وثانيهما حيرة! وترى أيهما أقدم ، ام هما في عرض واحد؟ (فَإِذا سَوَّيْتُهُ ..) دليل ان عرض البشر كان قبل خلقه ، ثم و (إِنِّي جاعِلٌ .. أَتَجْعَلُ ..) قد تلمح بنفس الموقف ، لكن (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) دون ذكر لخلقه قد تلمح انه كان مخلوقا عند قوله : «اني جاعل» لا سيما وان «فاعل» لا يعنى به المستقبل إلا بقرينة ، و «أتجعل» و «علم» قرينتان متكافحتان نفيا واثباتا ، فتبقى «جاعل» تلمح انه واقع حاله ..

وهنا «اني جاعل» مقرون بقرينة قاطعة تصرفه عن الحال وهي (فَإِذا سَوَّيْتُهُ ..).

إذا ، فقد يكون عرض البشرية قبل عرض الخلافة ، تقديما لظاهر رداءة الجسم قبل رداءة الروح ، ووا ويلاه إذا كانا قبل موقف السجدة ، امتحانا قاسيا للملائكة وقد نجحوا من الناحية الجسمية فسجدوا دون

١٦٨

سؤال ، ولم ينجحوا تماما من الناحية الروحية في عرض الخلافة (أَتَجْعَلُ فِيها) ولكنهم على أية حال سجدوا لله احتراما لأمره ، وتعبدا له على إمره.

وهنا يظهر الموقف لتكرار (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) انه عرض حاله الجسمي للملائكة ، وقبله عرضها لكافة المكلفين في هذه الإذاعة القرآنية ، وفي حجة عاذره لإبليس في ترك السجدة! : (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ، إذا ففي هذا المكرر امتحان للملائكة وامتهان لإبليس.

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)(٢٩).

وهنا قد يجبر «من روحي» على أية حال ، ظاهر رداءة الروح لتلك الخلافة وهذه الظاهرة الجسمية ، وانا لا أدري لما سأل الملائكة بعد (أَتَجْعَلُ فِيها ..) والروح «من روحي» كافيا في التدليل على محتد هذه الخلافة.

فقد تكون (إِنِّي خالِقٌ) قبل (إِنِّي جاعِلٌ) والسجدة بينهما ، فهم ـ إذا ـ ناجحون في امتحان السجدة لبشر من صلصال من حمأ مسنون عرضا للحالة البدنية الفعلية والروحية ، حيث ينظرون بنور الله الى روح الله «روحي» المنفوخة في آدم دون ان تصدهم طينته النتنة عن ان يسجدوا له ، وواقفون في امتحان عرض الخلافة بعد السجدة حيث حيرهم ذلك الجعل مع تلك السابقة السوء من المستخلف عنهم ، وقد جهلوا إمكانية التفاوت بين الخليفة والمستخلف عنه.

قال : (إِنِّي خالِقٌ) قبل خلقه ، ثم (إِنِّي جاعِلٌ) بعد خلقه والسجود له ، وكما نتلمح من الجعل مركبا انه جعل ما خلقه خليفة ، ولا نرى الأمر بالسجدة في آيات الخلافة ، بل (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ..) بعدها قد تدل على اختلاف الموقفين.

١٦٩

ثم (إِنِّي خالِقٌ) تعم تسوية الجسم ونفخ الروح : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) وهي مقابل (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ..) تسوية البدن. ترى وماذا تعني تسوية بشر من صلصال من حمأ مسنون ، إلّا تبديل الصلصال الى جسم بشر.

والبشر جسم كثيف يلاقي ويباشر ، خلاف الجن والملائكة إذ لا يباشرون ، والبشرة ظاهر الجلد من كل حيوان والإنسان بشر بمعنييه.

وفي صيغة اخرى يخص خلقه بجسمه البشري ، وبكلمة «كن» يخلق روحه الانساني: (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣ : ٥٩) فخلق الروح بعد خلق البدن في الإنسان الاول وكما في سائر الأناسي : (.. ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (٢٣ : ١٤) وبذلك يؤوّل الحديث «خلق الله الأرواح قبل الأجساد» بما لا ينافي الآيات ، من قبلية رتبية اماهيه؟ ..

ثم «ونفخت» هنا دليل ولوج الروح في البدن بعد اكتماله كما وتصرح به آية الإنشاء ، والنفخ هو اجراء الريح في تجاويف ، فليكن الروح كالريح جسما رقيقا قد ألبس قالبا كثيفا وكما في الحديث (١) فالنفخ دليل كونها ريحا حيث المجرد عن المادة لا ينفخ ، و «فيه» دليل ثان على كونها منبثقة من مادة ، حيث الظرف : المادة ، ليس ليحوي مظروفا غير مادي ، ثم بين المجرد

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١١ عن التوحيد للصدوق باسناده الى عبد الحميد الطائي عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) كيف هذا النفخ؟ فقال : ان الروح متحرك كالريح وأنما سمي روحا لأنه اشتق اسمه من الريح وانما أخرجت على لفظة الروح لان الروح مجانس للريح وانما اضافه الى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح ....

١٧٠

عن المادة والمادة تناقض ، فكما لا يجتمعان في موضوع واحد ، كذلك لا يحمل أحدهما الآخر ، سواء أكان كحمل ذات لصفة ، ام حمل ظرف لمظروف ، فمن المستحيل إذا تجرد الروح المظروف لظرف الجسم.

وماذا تعني «من روحي» أجزء من روح الله؟ ولا جسم له ولا روح! ولا جزء لذاته المقدسة! وحتى لو كان ليس لينفخ في جسم الخلق ، وإلّا لأصبح الخالق خلقا والخلق خالقا.

ثم ومن ناحية النص القرآني (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وأمره تكوينيا وتشريعيا هو من خلقه ، فليس ـ إذا ـ من ذاته ، ولا من صفات ذاته وهي هي ذاته ، وانما من صفات فعله ، وبتعبير أصح هو من فعله : (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وليس «كن» التكوينية إلا لغير الكائن ، والله كائن إذ لا «كان».

ثم الاضافة قد تكون اضافة شيء الى نفسه ك «نفسي» واخرى اضافة جزء الى كله ك «يدي» وفي صاحب الروح والجسم «روحي ـ جسمي» وثالثة الى غيره دون رباط لخلق وصنعة بينهما ك «داري» «ثوبي» ورابعة الى مخلوقه «ربي» وخامسة الى خالقه ك «روحي» هنا و «عبدي ـ بيتي» واضرابهما كما في آيات أخرى.

وكيف تتحمل «روحي» هنا الحمل على الاضافة الثانية بين هذه الخمس ، والقرائن القاطعة القاصعة عقلية ونقلية معسكرة على استحالتها ، فإحالتها الى ما يصح كالخامسة.

إذا ف «هذه روح مخلوقة والروح التي في عيسى مخلوقة» (١) .. صورة محدثة مخلوقة اصطفاها الله واختارها على سائر

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١١ عن الكافي بسنده عن ابن أذينة عن الأحول قال سألت أبا عبد الله

١٧١

الصور المختلفة فأضافها الى نفسه كما أضاف الكعبة الى نفسه والروح الى نفسه فقال : «بيتي» (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)(١) «خلقه واضافه الى نفسه وفضله على جميع الأرواح فنفخ منه في آدم» (٢).

فنفخ الروح هكذا لم ينقص من ذاته تعالى شيئا إذا لا تركّب فيها ولا نفخ منها ، ولا من قدرته الذاتية وسواها من صفات ذاته ، إذ هي عين ذاته ، ف «ليست بالتي نقصت من الله شيئا ، هي من قدرته تبارك وتعالى عنه» (٣) بكلمة «كن» التكوينية ، فعل من الله تعالى كسائر فعله ، ولكنه اختص نسبته بنفسه بين خلقه لكرامته على الله ، واختصاصه بين خلق الله ، اضافة تشريفية ، لا كونية اشراقية ، وانما تكوينية ، فلأن «روحي» هي روح الإنسان ككل ، المفضلة بهذه الاضافة على سائر الأرواح ف «من» إذا تبعيضية ، أنها بعض من تلك الأرواح الانسانية التي أخلقها ، ومنها أرواح في نسله أعلى منها واشرف تستحق هذه النسبة باحرى واعرف هي أرواح اولي العزم من الرسل وفي قمتهم روح محمد وآله المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وفي قول فصل إيضاحا لهذه الآيات ، عرضا من الامام علي (عليه

__________________

ـ (عليه السلام) عن الروح التي في آدم «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» قال : هذه ..

(١) المصدر عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عما يروون ان الله خلق آدم على صورته؟ فقال : هي صورته محدثة ..

(٢) المصدر عن كتاب التوحيد باسناده الى محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الآية قال : روح اختاره الله واصطفاه وخلقه ...

(٣) المصدر عن تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : خلق خلقا وخلق روحا ثم امر الملك فنفخ وليست بالتي ...

١٧٢

السلام) لواقع خلق الإنسان وإسجاد الملائكة وإباء إبليس : ثم جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها تربة سنّها بالماء حتى خلصت ، ولاطها بالبلّة حتى لزبت ، فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول وأعضاء وفصول ، أجمدها حتى استمسكت ، وأصلدها حتى صلصلت ، لوقت معدود واجل معلوم ، ثم نفخ فيها من روحه فمثّلت إنسانا ذا أذهان يجيلها ، وفكر يتصرف بها ، وجوارح يختدمها ، وأدوات يقلّبها ، ومعرفة يفرق بها بين الأذواق والمشام ، والألوان والأجناس ، معجونا بطينة الألوان المختلفة والأشباه المؤتلفة ، والأضداد المتعادية ، والأخلاط المتباينة ، من الحر والبرد ، والبلّة والجمود ، والمساءة والسرور ، واستأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لديهم ، ووصيته إليهم في الإذعان بالسجود له ، والخنوع لكرامته ، فقال تعالى : اسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس وقبيله اعترتهم الحمية ، وغلبت عليهم الشقوة ، وتعززوا بخلقة النار ، واستوهنوا خلق الصلصال ، فأعطاه النظرة استحقاقا للسّخطة ، واستتماما للبلية ، وإنجازا للعدة فقال : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)(١).

ثم (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) هي ـ كما فصلناها في البقرة (٣٤) وسواها ـ سجدة العبودية والشكر لله ، لآدم النعمة المشكور له ، خنوعا لكرامته ، وتصديقا عمليا لفضيلته ، بعد ما بهروا في السؤال ، ام عرفوا المسؤول عنه انه من صلصال ، لا سجدة عليه كتربة ، ولا اليه كقبلة ، ولا له كعبادة او احترام وانما هو مادة الشكر له ، سجدوا لله ، حيث اللام بين محتملات : الانتفاع والاختصاص والملكية ، مهما كانت ـ كما هنا ـ للتعدية ، فالسجود له قد يعني الاختصاص والملكية ، فليسا ـ إذا ـ إلا لله شكرا واحتراما وعبودية ، او يعني الانتفاع ولا يكون ـ إذا ـ لله إذ لا ينتفع من السجود.

__________________

(١) نهج البلاغة في الخطبة القاصعة عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام).

١٧٣

(فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) او (اسْجُدُوا لِآدَمَ) ليس ليعني هنا الأولين ، فانه الحاد بالله فرية عليه انه بأمره ، بل هو الثالث حيث ينتفع الساجدون شكرا لله ، وينتفع المسجود له مادة للشكر مكسبا في اظهار كرامته بانه معلم الملائكة فأفضل منهم أجمعين فضلا عن الشيطان الرجيم.

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)(٣٠) هنا الجمع المحلى باللام بتأكيدين اثنين (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) يستغرق كلهم أجمعين دونما استثناء ، من جبريلهم وميكالهم ومن فوقهما او دونهما ، فكل ملائكة الله سجدوا لله شكرا لله ، وتكريما لآدم ، بمن في صلبه من المحمديين الطاهرين (صلى الله عليه وآله وسلم). وهم الأصلاء في ذلك التكريم ، فإنهم هم الأسماء التي علّمها آدم ، وفضّل بمعرفة علمية لهم عليهم ، فهو الفرع الذي يحمل في صلبه هؤلاء الفضلاء الأصلاء : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (٧ : ١١) وتراخي السجدة ليس ليعني السجدة الأولى من الشيطان الاول للإنسان الاول فحسب ، بل هو تلميح ان هذه السجدة لم تكن لآدم فقط كشخص ، بل ولمن في صلبه على اختلاف درجاتهم ، والأخرى منهم كلهم المحمديون صلوات الله عليهم أجمعين.

إذا ف (لَهُ يَسْجُدُونَ) الحاصرة سجدتهم ام كبارهم بالله ، لا تحسرهم عن هذه السجدة الجماهرية ، فإنهم كلهم ساجدون لله (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٦٦ : ٦) (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٧ : ٢٠٤) وهذه السجدة كانت له وبأمره دونما استكبار ، ولو تركوها لكانوا من المستكبرين ، كما استكبر إبليس وكان من الكافرين.

ولأن الأمر كان مؤقتا مضيقا (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) وانه استغرقهم أجمعين ، فلا بد وأن سجدوا دفعة واحدة دونما فصل زمني او انفصال ، سواء أكانوا من ملائكة الأرض أم من ملائكة

١٧٤

السماوات ، فأصبح الكون كله مسجدا لملائكة الله في ذلك السجود كما في سائر السجود.

ويا عظماه لهذه المنزلة الرفيعة لذلك المسجود له شكرا! ويا قبحاه لإبليس حيث أبلس ونكص! :

(إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)(٣١).

استثناء منقطع تأكيدا لذلك الاستغراق ، إذ إن إبليس (كانَ مِنَ الْجِنِّ) (١٨ : ٥٠) دون الملائكة ، ومتصل مع الانقطاع ، إذ كان مأمورا بالسجود معهم : (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (٧ : ١٢) أمرا مستقلا ام معهم ، إذ كان فيهم يعبد الله معهم في ظاهر الحال ، لحد كانوا يحسبونه منهم وليس من الضروري ان يكون مأمورا مع الملائكة جماعا ، فقد يصدر اليه منفردا ولا يذكر تهوينا له ، ويصدر اليه معهم لاجتماعه بهم في ملابسة وعشرة عشيرة ، إظهارا للملائكة موقفه ، وعلى أية حال لم يكن هو من الملائكة ، مهما كان مأمورا مع الملائكة.

فرغم انه كان مع المأمورين بالسجود في بعد الأمر ، ام ومعية العشرة ، (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) :

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)(٣٢).

فطبيعة الحال قاضية ان يكون مع الساجدين ، امرا من رب العالمين ، فحشرا مع الساجدين الذين عاشرهم تعبدا لله طيلة سنين ، متفوقين عليه أصلا وفي الحال ، وعلى آدم في ظاهر الحال ، فلم يبق إذا له مجال (أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) فلا بد من منعة تتغلب على هذه الدوافع.

فهنا (مَعَ السَّاجِدِينَ) زمنا وفعلا كما تقتضيه الحال ، وكان الأمر بالمعية ، والتنديد بتركها ، وفي الأعراف (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)(١١) وهي

١٧٥

أوسع من المعية حيث تعم انفصاله عنهم في السجدة في المكان والزمان ، تفردا باستكبار ، ولكنه لم يكن مع الساجدين ولا منهم.

(قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)(٣٣).

وقد تغافل اللعين عن أصله نار السموم وهي انحس وأنكى من صلصال من حمأ مسنون ، ثم ولم ينظر الى نورية آدم ، لذلك تردى في جحيم الاستكبار ، تجاهلا عن امر الله ، وعن النفخة العلوية التي تلابس هذا الطين ، وان الملائكة ـ وهم أشرف منه في اصل النور والحالة الحاضرة النور ـ سجدوا له كلهم أجمعون!.

وهنا «لم أكن» تنفي اصل السجود مع الساجدين معهم ام لا معهم ، سلبا لاهلية آدم ، وإيجابا لا فضيلته هو عليه ، تشامخا برأسه ، وترفعا بخرطومه ، وتكبرا على الله نقضا لأمره بقياس قاسه خلاف النص الجلي : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٧ : ١٢) و (٣٨ : ٧٦) (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (١٧ : ٦١) واين خيرية الطين من نار السموم؟ ، وخير منهما في الأصل هم الملائكة وقد سجدوا! فلو كان خيرا منه اما كان يعلمه خالقه؟ ام ان الله يأمر جزافا؟ ثم الملائكة كلهم أجمعون يأتمرون دونما تردد وسؤال عن ذلك الأمر الإمر؟.

وقد تلمح «لم أكن» ان كينونته النارية آبية عن السجود لكائن طيني لأنها اشرف منه وكما في قالته الأخرى (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ولمحة اخرى انها استغراق لذلك النفي ، فلا سجدت له ولا اسجد مستقبلا حيث الكينونة النارية المفضلّة دائبة.

ثم «لأسجد» بحذف «ان» الناصبة ، لتحولها الى مصدر السجدة ،

١٧٦

قد تعني «لم أكن لسجدة» فلو كان كياني ككل لسجدة كيفما كانت ولأي كانت كنت ولا بد من ان اسجد كالملائكة دونما استصلاح ولكنّ لي كيانا ناريا فأسجد أحيانا واتركها اخرى كما أرى وهنا لست لأسجد ، إذ (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) وكأن في ذلك تعريضا بالملائكة ، فكأنهم لسجدة حتى سجدوا على أدنى منهم دونما سؤال واعتراض! فهم ـ على ما هم عليه ـ لسجدة ولم أكن أنا لسجدة!.

لا هنا ولا في سائر القرآن لا نجد جوابا لقياس إبليس إلّا امرا بخروجه عن الجنة وعن جوار القرب ، رجما ولعنة الى يوم الدين كما هنا ، أمّا شابهه (مَذْمُوماً مَدْحُوراً) أماهيه.

لماذا؟ لان سخافة هذه القالة بالغة لدرك أسفل ، لحدّ لا يصلح كلمة الجواب إلّا واقعه : «فاخرج» ام ولمحة كجواب (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) والتكبر على الله ذنب لا يساوى باي ذنب حتى الشرك والإلحاد!.

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ)(٣٤).

هنا وفي غيرها «فاخرج» دليل انه كان مع آدم في الجنة ، فهل أخذ الله طينة آدم من الأرض ، وسوّاه ونفخ فيه من روحه في الجنة ، ام في الأرض ثم عرج به الى الجنة ، ام خلقه من تراب الجنة؟.

قد تلمح (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) لثالث ثلاثة ، حيث السجدة واقعة بعد خلقه دون فصل ، فلا تفسح مجالا لعروجه قبلها الى الجنة ، ام كانت السجدة بعد خلقه في الأرض ثم عرج به الى الجنة للامتحان ثم أهبط ، كما و (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ترجحه؟ إلّا أن تعنى الغاية الواصل إليها بعد خلقه في الجنة وهي الخلافة في الأرض! انا لا أدري وربي اعلم بما قال.

١٧٧

ثم (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) بيان لسبب إخراجه عنها فانها من الملاء الأعلى ، وإخبار بأن إخراجه منها هو برجم الأحجار السماوية والنيازك النارية ، ثم هو وذريته (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) (٣٧ : ٩) فهو ـ إذا ـ رجيم في البداية والى النهاية ، وذريته ترجم إذا تسمعت الى الملإ الأعلى منذ خلقت ، واما سائر الجن فغير مرجمين ولا مدحورين إلّا منذ الرسالة الإسلامية كما فصلناه في الجن : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً).

(وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ)(٣٥).

هنا (عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) وفي ص (عَلَيْكَ لَعْنَتِي)(٥٨) والفارق ان «اللعنة» أعم من «لعنتي» فتلك لعنة من كل لا عن خالقا ومخلوقا ، فممن سوى الله دعاء ان يلعنه الله بما يضلّل ، ومن الله تحقيق اللعنة عليه جزاء بما التعن ، واجابة لمن دعى عليه باللعن.

فما من عصيان إلّا وللشيطان فيه نصيب قل او كثر ، فهو شريك كافة اللعناء بعصيان في الالتعان ، وكذلك كافة المؤمنين وقاية لهم عن العصيان ، اضافة الى مآسيه ومعاصيه الشخصية ومنذ ترك السجود لآدم.

وحتى في العصيانات التي هي استمرارية لما بدء وفتح ، إذا لم يكن له دخل مستقيم في كل فرد منها ، فعليه لعنة من كلّ منها لان «من سن سنة سيئة فعليه وزر من عمل بها الى يوم القيامة ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيئا»! لعنة ذات بعدين بعيدين في أغوار الزمن منذ بداية التكليف الى يوم الدين.

ولماذا (إِلى يَوْمِ الدِّينِ)؟ لأنه يحمل مثل كل عصيان الى يوم الدين حيث سنّه ، وأنه عزم على استكباره هذا الى يوم الدين ، وعلم الله تعالى ذلك منه ولو لم يقل (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ)! فانه اجتث عن نفسه ذلك السجود

١٧٨

على طول الخط دونما رجعة.

ولماذا اللعنة ـ فقط ـ (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) ويوم الدين نفسه ـ الخارج هنا عن اللعنة ـ هو مكان واقع اللعنة بعقوباتها المناسبة لها جزاء وفاقا؟ وليس يوم الدنيا إلّا دار تكليف فاستجرار لعنة او رحمة ليوم الدين؟.

لان اللعنة لها ابعاد ثلاثة ، اللاعن والملعون ومادة اللعنة وهي المعصية ، وكل ذلك سوى الله محدودة الى يوم الدين ، فلا معصية ولا عاص ولا لاعن او ملعون إلّا محدودا بزمن التكليف وهو الى يوم الدين.

والله ـ غير المحدود بيوم وسواه ـ ليس ليلعن بمعنى ان يحق كلمة العذاب الا الى يوم الدين ، لأنه منتهى زمن التكليف بخيره وشره ، فلا لعنة منذ يوم الدين إذ لا عصيان فيه ، اللهم الا جزاءه بما أسلف.

ومن ثم مادة المعصية تظهر بتمامها يوم الدين ، وان كانت تظهر بعضا يوم البرزخ ، واقل منه يوم الدنيا : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٥٣ : ٣٩) فيوم الدين هو يوم الجزاء الأوفى ، وفي البرزخ (أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) ولكنما المكلفون المتجددون تلو بعض الى يوم الدين ، منهم اللعنة على الشيطان الى يوم الدين ، وطبعا هو يوم قيامة الإماتة قبل قيامة الإحياء.

فهناك لعنة الى يوم الدين هي مادتها بما يلعنه الله ويلعنه اللاعنون دون جزاء أوفى ، وهنا لعنة في يوم الدين الى ابد الآبدين في الجحيم هي ظهور لمادة اللعنة ، وهي معاصيه ومآسيه ـ بما أضل ـ تماما يوم الدين.

وقد تلحمح (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) ان الله لا يجدد عالم التكليف بعد يوم الدين لايّ كان من المكلفين ، ارجاعا لهم الى الحياة الدنيا بعد وفاء

١٧٩

الجزاء ، ام خلقا لآخرين يكلّفون كما هم ، ام وإذا جدّد فليس هذا الشيطان راجعا لما كان ، والله اعلم بما يكون وما كان.

ثم اللعنة الى يوم الدين قد تكون مع حياته المنظرة الى يوم الدين ، واخرى ان تستمر اللعنة عليه وهو ميت قبل يوم الدين.

وهنا يتمسك بما هو العدل في قياسه ان ينظره الله قدر ما يلعنه جزاء وفاقا ، بل وفوق ذلك ألّا يموت في قيامة الإماتة ، حياة مستمرة الى يوم يبعثون ، التي حرم عنها حتى (مَنْ شاءَ اللهُ) ألّا يصعقوا بالصيحة الأولى.

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٣٦).

وهذه نظرة غالطة غير لائقة بمثله ان يعيش عيشتهم وفي موتتهم لقيامة الإماتة ثم بعثتهم وفي كل ذلك هو منظر! وليس ذلك إلّا لأفضل الطيبين الأبرار كما في المحمديين ومنهم يحيى والمسيح (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) وهم ميتون قبله عن الحياة الدنيا.

فبطبيعة الحال ليس لينظر الشيطان (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) اللهم إلا (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) «استحقاقا للسخطة ، واستتماما للبلية ، وإنجازا للوعد» (١) وهنا لمثلث الحكمة مثلث الإنظار : بقاء حياته المضللة دون عقوبة.

وعلّ الفاء في «فانظري» تفريع لأمد الإنظار على أمد اللعنة ، ولكنها لم تكن إلّا الى يوم الدين ، لا يوم يبعثون ولا يعني (يَوْمِ الدِّينِ) هنا إلّا اوّل يوميه وهو قيامة الاماتة ، دون قيامة الإحياء ، لذلك

__________________

(١) قد مضى تمام هذه الخطبة في ختام تفسير الآية (٢٩) عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام).

١٨٠