الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

سَكْرَتِهِمْ) بسعار حيواني ، وثورة جنسية متخلفة في أسفل دركات البهيمية «يعمهون» : يترددون حائرين مائرين.

وقد يعني العمر فتحا ما هو أوسع من العمر ضما ، انه حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) في كافة النشآت وليس لها انقطاع ، فانه ممن شاء الله ألّا يصعق في الصعقة العامة : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ)(٣٩ : ٦٨).

أترى بعد انه خطاب للوط (عليه السلام) ولم يخاطب إمامه ابراهيم (عليه السلام) هكذا ولا إمامهما محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)! فلعمره (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه ليس «لعمرك» إلّا له ، حيث الخطابات القرآنية هي بطبيعة الحال موجهة إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلّا بقرينة قاطعة هي هنا فاقدة ، بل ولا لمحة هنا لخطاب غيره ، فلم يقل «قالوا» حتى يكون الخطاب من الملائكة وهو بطبيعة الحال في هذا المجال للوط (عليه السلام) وانما «لعمرك» دون «قال ـ أو ـ قالوا».

وقد بدأت الإنباتات موجهة إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذي قبل (نَبِّئْ عِبادِي ..) (وَنَبِّئْهُمْ ..) وكل ما هنالك فيما بعد هي مواد الإنباتات للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والى قوله تعالى «لعمرك» فأين لوط ومن فوق لوط في ذلك المسرح مخاطبا ب «لعمرك»؟!.

وما يصنع لوط بهؤلاء السكارى العمهين (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ. قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ..) (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (١١ : ٨٣) :

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ

٢٢١

حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ)(٧٤).

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) بعد ما أسرى باهله بقطع من الليل «مشرقين» داخلين هؤلاء الحماقى في شروق الشمس ، وآل لوط عنهم بعيدون لا يرون العذاب ولا يحسونه!.

فهنالك (الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) عذابا في البداية (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) تدميرا كاملا عن بكرتها ، فما أبقت الصيحة عاليا إلا أسفله ، ثم (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) ـ فهل ترى لهم من باقية؟.

وهذه الصيحة نموذجة يسيرة من صيحة الإماتة في قيامة التدمير ، تجعل عالي المدينة سافلها ، ولكي لا تبقى منهم باقية (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) وكما في اصحاب الفيل واضرابهم من اهل السجيل.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ)(٧٥).

الوسم هو التأثير ، والسمة هي الأثر ، ف «المتوسمين» هم المتأثرون بتأثير ، الناظرون المتفكرون المعتبرون ، والمتفرسون (١) المتبصرون «فأول

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٠٣ ـ اخرج البخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن السنى وابو نعيم معا في الطب وابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله ثم قرأ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال : المتفرسين وفيه اخرج الحكيم الترمذي والبزاز وابن السنى وابو نعيم عن انس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ان لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم.

وفي نور الثقلين ٣ : ٢٤ عن بصائر الدرجات عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : ليس مخلوق الا وبين عينيه مكتوب مؤمن او كافر وذلك محجوب عنكم وليس محجوبا عن الائمة من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم ليس يدخل عليهم احد الا عرفوه مؤمن او كافر ثم تلا هذه الآية : ان في ذلك لآيات للمتوسمين. ورواه مثله عن أبي عبد الله (عليه السلام) : وفي آخر عنه (عليه السلام) قال : نحن المتوسمون والسبيل فينا مقيم.

٢٢٢

المتوسمين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم امير المؤمنين (عليه السلام) من بعده ثم الحسن والحسين والائمة من ولد الحسين عليهم السلام الى يوم القيامة ..» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٤ عن عيون اخبار الرضا (عليه السلام) بسند عن الحسن بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون يوما وعنده علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وقد اجتمع الفقهاء واهل الكلام من الفرق المختلفة فسأله بعضهم فقال : يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باي شيء تصح الامامة لمدعيها؟ قال : بالنص والدليل ، قال له : فدلالة الامام فيما هي؟ قال : في العلم واستجابة الدعوة ، قال : فما وجه اخباركم مما يكون؟ قال : ذلك بعهد معهود إلينا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : فما وجه اخباركم مما في قلوب الناس؟ قال له : اما بلغك قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله على قدر ايمانه ومبلغ استبصاره وعلمه ، وقد جمع الله للائمة مناما فرقه في جميع المؤمنين وقال عز وجل في كتابه العزيز : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) فأول المتوسمين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم .. قال : فنظر اليه المأمون فقال له يا أبا الحسن زدنا مما جعل الله لكم اهل البيت ، فقال الرضا (عليه السلام) ان الله تعالى قد أيدنا بروح منه مقدسة مطهرة ، ليست بملك ، لم تكن مع احد ممن مضى الا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي مع الائمة (عليهم السلام) منا تسددهم وتوفقهم وهو عمود من نور بيننا وبين الله تعالى.

وفيه عن معاني الاخبار للصدوق ـ الهلالي امير المدينة يقول : سألت جعفر بن محمد فقلت له : يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفسي مسألة أريد ان اسألك عنها قال : ان شئت أخبرتك بمسألتك قبل ان تسألني وان شئت فاسأل ـ قال فقلت له : يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وباي شيء تعرف ما في نفسي قبل سؤالي عنه؟ قال : بالتوسم والتفرس اما سمعت قول الله عز وجل : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) وقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله.

وفيه عن تفسير العياشي عن جابر بن يزيد الجعفي قال قال ابو جعفر (عليه السلام) بينما امير المؤمنين (عليه السلام) جالس بمسجد الكوفة قد احتبى بسيفه والقى برنسه وراء –

٢٢٣

والتوسم فرع الإيمان والتقوى ، فهو درجات كما الايمان درجات ولحد القمة المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم).

فالتوسم في وجه عام هو التفرس للسر من العلن ، وليس ليعلن لكل احد ، وانما لمن ينظر بنور الله من المتفرسين ، فالسيما وسم للمتوسمين كما يعرف الفقراء غير السائلين : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) (٢ : ٢٧٣) وكما يعرف غير المؤمنين في لحن القول : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ

__________________

ـ ظهره إذ أتته امرأت مستعدية على زوجها فقضى للزوج على المرأة فغضبت فقالت : لا والله ما هو كما قضيت ، لا والله ما تقضي ولا تعدل بالرعية ، ولا قضيتك عند الله بالمرضية قال : فنظر إليها امير المؤمنين (عليه السلام) فتأملها ثم قال لها : كذبت يا جرية يا بذية ، أيا سلسلع أيا سلفع ، أيا التي تحيض من حيث لا تحيض النساء ، قال : فولت هاربة وهي تولول وتقول : يا ويلي ويلي ويلي ثلثا ، قال فلحقها عمرو بن حريث فقال لها : يا امة الله اسألك ، فقالت : ما للرجال والنساء في الطرقات؟ فقال : انك استقبلت امير المؤمنين عليا بكلام سررتيني به ثم قرعك امير المؤمنين بكلمة فوليت مولولة؟ فقالت : ان ابن أبي طالب والله استقبلني فاخبرني بما هو كتمته من بعلي منذ ولى عصمتي ، لا والله ما رأيت طمثا من حيث يرينه النساء ، قال : فرجع عمرو بن حريث الى امير المؤمنين (عليه السلام) فقال له يا امير المؤمنين (عليه السلام) ما نعرفك بالكهانة ، فقال له : وما ذلك يا بن حريث؟ فقال له : يا امير المؤمنين ان هذه المرأة ذكرت انك أخبرتها بما هو فيها وانها لم تر طمثا من حيث تراه النساء؟ فقال له : ويلك يا بن حريث ان الله تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأبدان بالفي عام وركب الأرواح في الأبدان فكتب بين أعينها كافر ومؤمن وما هي مبتلاة به الى يوم القيامة ثم انزل بذلك قرآنا على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : ان في ذلك لآيات للمتوسمين ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المتوسم ثم انا من بعده ثم الأوصياء من ذريتي من بعدي ، اني لما رأيتها تأملتها فأخبرتها بما هو فيها ولم أكذب.

٢٢٤

بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٤٧ : ٣٠) كما (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) (٧ : ٤٦) و (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (٤٨ : ٢٩). فكل من سيما الخير وسيما الشر لأهليهما بارزة للمتوسمين ، وقد يتفرس المتوسمون دون رؤية الى سيماهم ، وذلك اسمى التوسم لأسمى المتوسمين (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ).

وتلك بصيرة لمن يخرق حجب النور بعد خرقه حجب الظلمات ، فليس جدار الظاهر حاجبا له عن رؤية الباطن ، والتوسمات درجات حسب الدرجات ، كما الغفلات دركات حسب الدركات.

ثم «ذلك» هنا هو الأمر البعيد المدى ، عالي الصدى ، وهو مثنّى البشرى ، بشرى الغلام العليم لإبراهيم ، وبشرى العذاب العظيم على قوم لوط المجرمين ، آية لتحقيق الحق ، وآية لإبطال الباطل ، وفيها آيات عقلية وفطرية وواقعية ، يتفرسها المتوسمون على قدر أوعيتهم بوعيهم ، وواقعية الآيات في بشرى ابراهيم وبشرى العذاب ، واقعة بسبيل مقيم.

(وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ)(٧٦).

ففي إبراهيم نسله الميمون من ولديه إسماعيل وإسحاق ، ولا سيما النسل المحمدي الإسماعيلي ، ثم سائر الرسل الابراهيميين من إسحاق ويعقوب.

فهذه الآية المباركة منذ ابراهيم مستمرة على مدار الزمن الرسالي ، مقيمة بسبيل الرسالات وإلى القايم المهدي (عليه السلام) الذي يحمل كافة الرسالات ويطبقها في دولته المباركة العالمية.

وقد يروى عن أئمة الهدى (عليهم السلام): «نحن المتوسمون

٢٢٥

والسبيل فينا مقيم» (١) وهو السبيل الرسالي مهما لم يكونوا هم من المرسلين ، و «لا يخرج منا ابدا» (٢) إذ لا نبي بعد محمد ولا أئمة بعدهم فالى اين يخرج ذلك السبيل؟ و «السبيل طريق الجنة» (٣) إذ لا سبيل إليها إلّا دعوة الرسالة والولاية.

واما الآيات في قوم لوط ، ومنها العلامات الدالات على واقع الواقعة المزمجرة المدمرة ، من بقايا الآثار (إِنَّها لَبِسَبِيلٍ) للعابرين «مقيم» سبيل هو مقيم لم ينمح بعد ولم يعف اثره ، فالذين يمرون بين الحجاز والشام يشاهدون تلك الآيات ، فان قرى لوط هي في طريق مطروق بينهما ، والسبيل الى الحجاز مقيم ما قام الإسلام ، وهي بنفس السبيل.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)(٧٧).

هناك «في ذلك آيات للمتوسمين» وهنا (لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) علّه حيث التوسم ظرف للتعرّف الى آيات وهو لبالغي الايمان ، واما الايمان ـ فقط ـ أيا كان ، فلأهله «آية» : ان الله (يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ).

ولكنما «المتوسمين» تشمل كافة المؤمنين ، لأنهم درجات كما هم ، إذا

__________________

(١). نور الثقلين ٣ : ٢٢ عن اصول الكافي احمد بن مهران عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني عن ابن أبي عمير قال اخبرني أسباط بياع الزطي قال : كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فسأله رجل عن قول الله عز وجل : ان في ذلك لآيات للمتوسمين «وانها لسبيل مقيم» قال : ..

(٢) المصدر بسند عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية فقال : هم الائمة وانها لبسبيل مقيم قال : لا يخرج منا ابدا.

(٣) المصدر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : نحن المتوسمون والسبيل فينا مقيم ، والسبيل طريق الجنة.

٢٢٦

ف «آيات» هي واقع العلامات ، و «آية» هي الدالة تبشيرا وإنذارا مهما قلت او كثرت ، تعددت ام تفردت.

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ)(٧٩).

(وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) (٥٠ : ١٤) (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (٢٦ : ١٧٨) (١) (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٩٠) ، فأصحاب الأيكة هم من قوم شعيب ف «ان مدين واصحاب الايكة امتان بعث الله إليهما شعيبا» (١) والأيكة واحدة الأيك وهو الشجر الملتف بعضه ببعض ، إذ كانوا يسكنون في بقعة كثيفة الأشجار ومتلفتها ، وقد ذكر مدين في آيات عشر ولم يذكر اصحاب الايكة إلّا في اربع دون ان يذكر هنا شعيب إلّا هنالك مما يدل على ان المحور الرئيسي لدعوته هم مدين وعلى هامشهم اصحاب الأيكة ، ولكلّ عذاب خاص ، فأولاء لهم (عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) وهؤلاء اخذتهم الصيحة.

وعل «ان» هنا شرطية ام وصلية (إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) ـ (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) فسبيلهم كقوم لوط مقيم (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) كما من أولاء «وانهما» معا (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) وهو السبيل الممر ، فهما في سبيل واحد بين الشام والمدينة وهذا «امام مبين» ثم إمام في الاخرى هو كتابهم الذي يؤتونه بشمائلهم ، وهو رسلهم الذين يعرضون عليهم وعلى كتاباتهم ، وهو

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٠٣ اخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمرو قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان مدين واصحاب الايكة ..

٢٢٧

أئمة الضلال : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) وكل ذلك مبين في حقه وباطله ، في أولاه وأخراه.

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ)(٨٠).

الحجر اسم واد كان يسكنه ثمود قوم صالح ، فهم ثمود المذكورون في القرآن (٢٦) مرة ، مما يدل على مدى طغيانهم وعذابهم ، فلذلك تتسمى هذه السورة باسم واديهم دون الطغاة الآخرين المذكورين فيها! وكيف هنا وفي اصحاب الأيكة «كذب المرسلين» ولكلّ رسول واحد معروف؟ لأنهم كانوا مكذبين بالرسالة الإلهية عن بكرتها ، كانت مع شعيب ام صالح امّن هو ، إذا فتكذيبهم برسول واحد تكذيب المرسلين أجمعين ، وهناك بين المكذبين من يصدقون رسولا ام رسلا ويكذبون آخرين.

ولان الرسالة الإلهية ذات طبيعة وسنة واحدة ، ففي الحق تصديق بعض وتكذيب بعض لا يساعد حق الرسالة ، فالمؤمنون ببعض وهم كافرون بآخرين ، في الحق هم كافرون بالكل ، مهما كانوا حسب الظاهر مصدقين بمن يشتهون.

ولكنما الكفر الصراح بأصل الرسالة هو انحسه وأنجسه كما في اصحاب الايكة واصحاب الحجر ، ولذلك يفرد تكذيبهم المرسلين بالذكر ، دون المصدقين بعضا.

(وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ)(٨١) والإعراض عن آيات الرسالة اعراض عن الرسالة ككل دونما تبعيض ، و «آياتنا» هنا تعني خاصة الآيات التي تصلح لهم وتصلحهم دون آيات الرسالات كلها ، ام إن آية واحدة لرسالة هي آيات الرسالات كلها ، لأنها كلها ذات دلالة واحدة ، مهما اختلفت صورها ، حيث السيرة واحدة.

٢٢٨

(وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ)(٨٢).

حيث كانوا يسكنون غيرانا مصطنعة زعما منهم انهم آمنون عن بأس الله (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ. وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) (٢٦ : ١٤٩).

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٨٤).

لمحة لامعة خاطفة ، من الأمن في الغيران الصلبة في صلب الجبال ، الى الصيحة المصبحة المدمرة المزمجرة ، دون ان يغني عنهم ما كانوا يكسبون من حياد وحائطة ..

انها مما تلمس القلوب لمسة عنيفة ، وتذكر اصحاب القلوب ان كل شيء لا محالة ذاهب ضائع ، فلا وقاية من بأس الله إلّا وقاية تقوى الله.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩)

٢٢٩

كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(٩٩)

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)(٨٥).

هنا حصر للكون كله المعبر عنه دوما بالسماوات والأرض ـ او ـ وما بينهما ـ حصر له بسبب الحق ومصاحبة مصدرا وصدورا وغاية ، فلو لا ان الساعة آتية لكان الخلق لعبا وباطلا (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) (٤٤ : ٣٩) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٣٨ : ٢٨).

٢٣٠

فللخلق غاية لا بد وان ينتهي إليها وهو الساعة (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) لا محالة وإلّا لبطل الخلق وكان لعبة جارفة ظالمة ، مجازفة غير هادفة ، وجملة القول هنا ان الصنع الحكيم وصنع الحكيم لزامه الغاية الحكيمة ، فليس خلق السماوات والأرض وما بينهما دون غاية حكيمة ، ولنأخذ مثالا ماثلا لنا أنفسنا فاننا خلقنا في احسن تقويم ، فليكن في خلقنا وما خلق من أجلنا غاية حكيمة ، وهي هنا بطبيعة الحال التكامل بالاختيار ، ثم ليكن هناك حياة اخرى (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) لولاها لبطلت الغاية الأولى من السعي للكمال ، واختلت العدالة الإلهية التي من قضاياها الجزاء العدل!.

وهنا تقرير غرير في تصميم الكون كله ، أن لم يصاحب ذلك التصميم بخداع ام باطل سواه ، فأي باطل في الكائنات طارىء بسوء الاختيار ممن يسيء منهم ، وليس عنصرا أصيلا من عناصر التصميم في الخلق الاوّل.

فهنالك «الحق» كله في اصل الخلق ، في قوامة العناصر المتألّف منها ، والنواميس التي تحكمها ، دون فوضى او تزعزع واضطراب.

و «الحق» في التدبير ، تكوينا وتشريعا ، والحق في المسير والمصير ، وكلّ يظهر عند الساعة المصير ، (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ..).

فمهما خلط حق الخلق بباطل من بعض الخلق ففي الساعة يخلص الحق من الباطل ويقتص من اهل الباطل.

ف (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) والجزاء فيها لا محالة آت (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) ولا تك في ضيق مما يمكرون ، فلولا الساعة بعد الدنيا لكانت المكافاة هنا فرضا لزاما ، وعراكا دواما ، فزعزعة في الحياة ، وغصة دائبة ، إذ لا يسطع المظلومون ان ينتصروا من الظالمين ، وإذا الظلم لا يطاق و (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) حيث يدمر الظالمين قبل الساعة ، فالعدل

٢٣١

هنا وفي قيام الساعة هو لزام خلق السماوات والأرض بالحق ، فكما انه لولا الساعة لكان الخلق لعبا باطلا ، كذلك لولا عذاب الاستئصال في قارعة الأحوال والأهوال لكان باطلا لعبا.

فلأن الساعة آتية فاصفح الصفح الجميل ، جميلا في المواجهة وهو «العفو من غير عتاب» (١) فقد يعفو بعتاب وليس صفحا ، لذلك (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (٢ : ١٠٩) وقد يصفح ولا يغفر (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٤ : ١٤).

فالصفح وسط بين الأمرين ، إذ لا يغفر عن مشركي مكة حينذاك وهم ظالمون ، وانما يصفح عنهم جملا بعفو مؤقّت من غير عتاب ، وجميلا في الحفاظ على الأهم تقية ، حيث السورة مكية ولا سبيل هناك لأي انتقام مهما كان صالحا لزاما ، فالجميل في التقية قبيح في غيرها ، كما الصفح تقية في مكة هو قبيح في المدينة إذ لا تقية.

ولماذا «فاصفح ..» ل (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) فقد رباك لحمل هذه الرسالة السامية الاخيرة وهو الخلاق العليم ، يعلم ماذا خلق ، ولماذا خلق ، وكيف يحافظ على خلقه ، فمما يحافظ على كيانك الرسالي في مكة (الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) ثم في المدينة وقد قويت شوكة الإسلام ، فللجميل جمال آخر منه حرب الأعداء الذين لا ينتهون.

ولعل «الصفح» هنا دون «صفحا» للتدليل على ان الصفح في العهد المكي لزام على أية حال ، فلا يكفي «صفحا» في بعض الأحوال ، فالفترة

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٧ عن عيون اخبار الرضا (عليه السلام) حديث طويل وفيه قال في الآية : العفو من غير عتاب وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه وابن النجار عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الآية قال : الرضا بغير عتاب.

٢٣٢

المكية هي فترة التقية الواقية لأصل الدعوة وكيان الداعية ، ثم في المدينة صفحا جميلا ام انتقاما جميلا.

فآية السيف المدنية تبدل جمال الصفح تقية في مكة ، الى جلال الحرب ، مهما كان الصفح في المواجهة دون تقية ثابتا دون تبديل ، (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) الصالح لهذه الرسالة والمرسل إليهم ، دون سكوت عن الظالمين المصرين إلا في تقية حفاظا على أهم الفرضين.

«فاصفح ..» ولا تشغل قلبك بالحنق والحقد ، فالحق لا بد أن يحق والباطل لا بد أن يزهق (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)(٨٦) خلق ما علم وعلم ما خلق ، دونما جهل ام فوضى جزاف ، لا في تكوين ولا في تشريع.

فيا صاحب الرسالة السامية ، صحيح انك يضيق صدرك بما يمكرون وما يفتعلون ، صدا عن الدعوة ، واستاصالا للداعية ، ولكنا آتيناك قوة هي أقوى من كل محاولة :

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)(٨٧).

فقد يختصر الحق كله ويحتصر في (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ففي صلة ذلك الإيتاء بخلق (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ..) ان فيها إعلانا صارخا ، ان القرآن هو العنصر الأصيل ، وهو رأس الزاوية في الخلق كله ، كما (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ) خير بيان لذلك الإعلان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟!.

فهنالك السماوات السبع والأرضون السبع ، وهنا (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) واين سبع من سبع؟.

فكما انه لو لا الساعة لبطل الخلق كله ، كذلك لو لا القرآن لبطل

٢٣٣

الخلق كله ، لأنه هو الذي يعرف لنا المبدء والمعاد وما بين المبدء والمعاد ، نسخة كاملة تدوينية عن كتاب التكوين تحلّق عليه ، وتوجّه اليه ، الى آيات آفاقية وانفسية ، استجاشة للقلوب لإدراكها ، وترى ما هي «سبعا» وما هي «المثاني» معطوفا عليها (الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)؟.

فهل ان «سبعا» هي السبع الطوال (١)؟ والآية مكية وهي كلها مدنيات ، و «آتيناك» دليل نزولها بمكة قبل آية المثاني! ثم ولا فضل لها على سائر القرآن يقتضي إفرادها بالذكر مقدما على القرآن العظيم!.

أم هي القرآن كله لأنه (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ..) (٣٩ : ٢٣)؟ وليس القرآن سبعا مهما كان مثاني! ثم هذه السبع من المثاني وليست هي المثاني ككل! والقرآن هو المثاني كلها! وأخيرا هو عطف للشيء على نفسه ان تكون «سبعا» هي (الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)!.

ام هي البطون السبعة في القرآن ، الخاصة بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وذويه المعصومين؟ وهو غير صحيح ولا فصيح ، فهنا «سبعا» والبطون «سبعة»! ومع الغض عن الغلطة الأدبية فالفصيح ـ إذا ـ «القرآن العظيم وسبعة منه»!.

لا ريب ان «سبعا» هي الآيات ، حيث «المثاني» هي القرآن كله بدليل آية الزمر: (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ..) (٢٢) ولا مثاني في القرآن إلّا هذه التي تعني القرآن كله.

__________________

(١) كما يروى عن ابن عمر وسعيد بن جبير في بعض الروايات ومجاهد وهي : البقرة ـ آل عمران ـ النساء ـ المائدة ـ الانعام ـ الأعراف ـ الأنفال والتوبة معا ، قالوا : وسميت هذه السور مثاني ولان الفرائض والحدود والأمثال والعبر ثنيت فيها! ..

٢٣٤

ف (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) هي آيات سبع من القرآن المثاني ، ولا سبع في القرآن منضّدة تليق بهذه المكرمة البارعة إلّا فاتحة الكتاب (١) كما تواتر بها الحديث من طريق الفريقين ، وكما ان لهذه السبع منزلتها بين سائر القرآن ، كذلك مثانيها ، وقد ذكرنا سبعا من مثانيها في تفسير السبع المثاني : فاتحة الكتاب ، فلا نعيد.

ولان مثانيها تفوق سائر المثاني نراها تتسمى في الروايات ب «السبع المثاني» والنص هنا (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) وان كانت «المثاني» علّها تعم القرآن وسواه مما يثنى ، وهذه السبع خير ما يثنى قرآنا وسواه ، فلا تعني (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) إلّا سبع الفاتحة وكما تواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «فاتحة الكتاب هي السبع المثاني» (٢).

ف (الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قرينا وقسيما لما آتاه الله يلمح ان السبع أعظم القرآن وأقواه مثاني ، وهو الحق يقال انها تجمع القرآن كله محكمة مختصرة ، والقرآن العظيم تفسير وتفصيل لها عظيم.

و «آتيناك» في جمعية الصفات ، وبعد تاكيدي : لقد ، تجمع في السبع والقرآن العظيم كافة العطيات الربانية لأعلى قممها وأعلى قيمها!.

ولو كانت للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عطية مثلها لردفت بها ، ام لو كانت فوقها لفضلت عليها ، لكنها عطية منقطعة النظير في كيان

__________________

(١) هو قول علي وعمر وابن مسعود وأبي هريرة والحسن وأبي العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة ، وأئمة اهل البيت اجمع.

(٢) منها ما في الدر المنثور ٤ : ١٠٥ ـ اخرج الدارمي وابن مردويه عن أبي بن كعب قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أقول : وقد فصلنا البحث حول المثاني وأخرجنا شطرا من أحاديثها في سورة الحمد فراجع.

٢٣٥

البشير النذير وعلى حد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ومن اوتي القرآن فظن ان أحدا من الناس اوتي أفضل مما اوتي فقد عظم ما حقر الله ، وحقر ما عظم الله» (١) وايتاءه ليس فقط نزوله ، بل وقراءة وتفهما وايمانا وتطبيقا ونشرا ، وفي كل ذلك يربو القرآن على ما سواه على مرّ الزمن ، ولان فيه تبيان كل شيء ، وليس في سواه إلّا تبيان لبعض الشيء مهما كان وحيا او سواه.

و «المثاني» جمع علّها لمثنى : المعطف ، فهي المعاطف ، يعطف بعضه الى بعض ، وينطق بعضه ببعض ، وكما يعطف الفطر والعقول الى نفسه ، وهو متعاطف مع الكون كله ، وأثناء الوادي معاطفه وأجراعه ، وكل شيء عطفته فقد ثنيته.

ام لمثنى الاثنين لما يثنى ويتجدد حالا بعد حال من فوائده «لا يعوج فيقام ولا يزيغ فيستعتب ولا تنقضي عجائبه» وكما تتكرر عجائبه لفظيا ومعنويا بقمة الاعجاز فيهما ، وكما هو مثنى النزول محكما ومفصلا.

ام من الثناء ، فان القرآن ثناء على الله ، وثناء على اهل الله ، وثناء ممن يتلوه حق تلاوته ، ومثلث المثاني صادق في تلك المثاني.

و (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) وهي ام الكتاب لها رءوس الزوايا من معاني المثاني ، عطفا وثناء وتكرارا ، في نفسها وبالنسبة للقرآن العظيم ، ثم ومثاني أخرى ليست فيما سواها من القرآن.

فالسبع المثاني آيات سبع تغلق أبواب الجحيم السبع ، ولأنها تقضي على

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٩ عن اصول الكافي بسند عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

٢٣٦

الرذائل السبع ، ويا للسبع من مكرمات في التكوين والتدوين ، سماوات سبع دأر صنون سبع ، وايام الأسبوع السبعة كآيات آفاقية سبع ، ومعها آيات انفسية سبع (١) ثم الطواف بالبيت سبع والسعى سبع ورمى الجمرات سبع.

والسبع الثاني تحلق على المثاني الآفاقية والأنفسية والأحكامية ، نسخة اجمالية عن كتابي التكوين والتدوين ، منقطعة النظير بين المثاني كلها.

فلما أوتيت يا حامل لواء الحمد (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ف :

(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)(٨٨).

(لا تَمُدَّنَ ... مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى. وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (٢٠ : ١٣٢).

ترى الرسول قد يمد عينيه الى ما متّعوا به رغبة فيه وطلبا له وهو اعبد العابدين وازهد الزاهدين؟ كلا! ومد العينين هنا قد يعني استعجابا من متاعهم او استعظاما لما أوتوا وهم كافرون ، لا! (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (٢٣ : ٥٦). والرسول لم يكن ليمد عينيه باي مدّ ، رغبة او استعظاما ، والنهي لا يدل على اقتراف سابق ، فقد يكون تأكيدا لاستمرار الترك وليعلم الناس انه ترك مفروض فيتبعوه في تركه.

__________________

(١) هي : الفطرة ـ العقل ـ الصدر ـ القلب ـ اللب ـ الفؤاد ، ومع الكل الروح ، وهذه هي وجوه الانسانية الباطنة ، ثم الوجوه الظاهرة هي الحواس الخمس ، واقامة الوجه للدين حنيفا في آيتها تعني هذه الوجوه كلها بكل الوجوه.

٢٣٧

اقصر نظرك على ما آتيناك (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) (١٨ : ٢٨) ف (ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى .. وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) ، فلا يمدن إليهم ومتاعهم نظرة اهتمام ، او نظرة استجمال او تمنّ على أية حال ، فانه شيء زائل باطل ، وهو معه الحق الباقي (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)!.

وليس القصد هنا اقتناع المحرومين بحرمانهم دون تعرض للمتميعين ، حين تختل الموازين الجماعية وينقسم المجتمع الى حارمين ومحرومين! وانما القصد الى معنى خاص في ذلك السياق بمكة التقية للحفاظ على كيان الدعوة والداعية والمؤمنين ، والموازنة بين الحق الكبير والعطاء العظيم الذي أوتيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمتعة الصغيرة الحقيرة التي اوتوها! ومن ثم في المدينة القوة يتصدى لهم كما يجب ، ودون طمع في مال او منال على أية حال!.

وهنا (أَزْواجاً مِنْهُمْ) تقصر متاع الحياة على بعض الكفار دون بعض ، والأزواج الممتّعون أعم من ازواج الجنس ذكرا وأنثى ، ام ازواج الاقتصاد ، او العقيدة كسائر الكفار فإنهم ازواج ، فالكفر ملة واحدة ، و (ما مَتَّعْنا بِهِ) هي (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) من أعوان وبنين ، ام دولة المال او دولة الحال ، ام اية زهرة دنيوية فانية ، وذلك عزاء الله لرسوله العظيم وعلى حد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات ، ومن رمى ببصره الى ما في يدي غيره كثر همه ولم يشف غيظه ، ومن لم يعلم ان لله عليه نعمة إلّا في مطعم او ملبس فقد قصر علمه ودنا عذابه ، ومن أصبح على الدنيا حزينا أصبح

٢٣٨

على الله ساخطا ..» (١) «وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينظر الى ما يستحسن من الدنيا» (٢).

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) لماذا ظلوا كافرين (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) هؤلاء القلة القليلة المؤمنة في مكة ، الصابرة على كل أذى ، المحاطة بكل لظى وشذى.

(لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) فهم الذين يحق عليهم ان يحزنوا لحالتهم الرديئة ، ومسيرهم ومصيرهم الرديء ، وأنت تعلم انه قضية عدل الله لكل مسيء ، وان حق الساعة يقتضيه ، فدعهم ومصيرهم ، فذلك هو الحزن الممنوع ، وهنالك حزن ممنوح هو ان يحزن على ان الله مولاه يعصى ، وهو قضية الإيمان ، وليس هو حزنا عليهم حتى يدخل في نطاق النهي.

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) هنا ، وفي الشعراء (.. لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢١٥) ، وطبعا قضية الايمان هي الإتباع ولا سيما في ذلك الظرف الحرج المرج.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٠ عن تفسير القمي بسند عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من لم يتعز ... ومن شكى مصيبة نزلت به فانما يشكو ربه ، ومن دخل النار من هذه الامة ممن قرأ القرآن فهو ممن يتخذ آيات الله هزوا ، ومن أتى ميسرة فتخشع له طلب ما في يديه ذهب ثلثا دينه ، وفيه عن تفسير العياشي عن حماد عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السلام في الآية قال : ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل به ضيقة فاستسلف من يهودي فقال اليهودي والله ما لمحمد ثاغية ولا راغية (هما الشاة والناقة) فعلى ما اسلفه؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اني لامين الله في سمائه وارضه ولو ائتمنتني على شيء لأديته إليك ، قال : فبعث بدرقة (الرّس من الجلود) فرهنها عنده وأنزلت عليه هذه الآية.

(٢) المصدر عن المجمع.

٢٣٩

والطائر يخفض جناحه لأفراخه تلطفا بها وتعطفا ، فلا يطير عنها وإن في أحرج الحالات وأهرج المجالات ، فمعناه هنا : ألن كنفك لهم ، ودم على لطفك بهم ما دمت وداموا ، تعبير عبير يمثل لطف الدعاية والرعاية ، وحسن المعاملة ورقة الجانب في صورة محسوسة وسيرة مدروسة ، لا تلفّت منها ، ولا تفلّت عنها لأنها قضية الرسالة السامية الحانية.

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ) ايّ جناح ، وباي خفض يطمئن إليك المؤمنين ، الخائفين من بأس الكافرين. فلا يطير طيرك ، ولا يهفو حلمك ، ولا يطيش وقارك وقرارك ، بل كن بهم لطيفا رؤوفا رحيما كما كان (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٩ : ١٢٨) مع ما كان يرى من بعضهم من جفاوة ، فلم يكن يجابههم إلّا بكل حفاوة ، وحتى بالنسبة لغير المؤمنين علّهم يؤمنوا (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ..) (٣ : ١٥٩).

وهكذا كان معهم طيلة الحياة الرسالية دون اية فظاظة وغلظة وحتى بالنسبة لمن يستحقها! فضلا عن (مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)!.

(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ)(٨٩).

و «اني انا» تأكيد في بعدين ، و (النَّذِيرُ الْمُبِينُ) محلى باللام كحصر النذارة فيه ام حصره في النذارة ، تأكيد ثالث ، كأن لا شأن له إلّا النذارة وهو شأن الداعية أمام الكل ، ثم هو بشير للمؤمنين.

وقد يعني «المبين» هنا اضافة الى إبانة الحق كما يحق ، إبانته لنذارته بدعوة جاهرة باهرة دون تقية وستار ، وكما تلمح له (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) انه كان في تضييق وتقية في اصل الدعوة بداية الرسالة.

٢٤٠