الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

وكلمة الكفر هما على الاكثرية الساحقة مسامتان ، برجاجة ظاهر الايمان على النفس ، لذلك رخّصت التقية واعتبر المضحي بنفسه صادعا بالحق فهنيئا له.

فلو اكره قائد اسلامي على كلمة الكفر حرمت عليه التقية لأنه بذلك يشرح بالكفر صدورا ، ولو أكره مسلم بسيط عليها ، وبحيث لا يطلع عليها احد ام لا يؤثر فيه ، فالتقية هنا واجبة ، وعند تساوي الضررين فهو بالخيار ، وفي رجاحة أحدهما فهو بين رخصة التقية والصدع بالحق فهنيئا له.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) ١٠٧.

ولماذا عليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم؟ (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) تقديما للايمان على الكفر ، ليكسبوا زهرة من الحياة الدنيا ويشرحوا بالكفر صدور آخرين الى صدورهم (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) الصامدين على كفرهم ، لا يوم الدنيا ولا يوم الدين.

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) ١٠٨.

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (٧ : ١٧٩).

قلوب مقلوبة عن الفقه ، وأسماع مصدودة عن سمع الإنسان ، وأبصار مغشية عن إبصاره ، فهم إذا في عقلية حيوانية بل هم أضل

٥٠١

(أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ).

(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) ١٠٩

ويكأنهم هم الخاسرون هناك لا سواهم ، ومن اهل النار من هم أدنى منهم كفرا وغفلة ، إلا ان هؤلاء هم حصب جهنم ووقودها ، وأولاء إنما يحرقون بنارهم وهم أخف منهم خسارا وبوارا.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ١١٠.

فهنا ضفّة الإيمان وصفته مهاجرة في الله وافتنانا ومجاهدة وصبرا لله (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

وهناك ضفّة الكفر وصفته ، كفرا بالله وافتراء للكذب على الله. وكفرا بعد الإيمان شرحا بالكفر صدرا نكرانا بالله ، (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ـ (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) ـ (فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ).

واين ضفّة من ضفّة وصفة من صفة؟!.

ولقد ابى بعض المؤمنين ان يظهروا الكفر بألسنتهم مؤثرين الموت على لفظة الكفر باللسان ، كما صنعت سمية ام ياسر وهي تطعن بالحربة في موضع العفة حتى تموت ، كما صنع زوجها ابو ياسر.

وقد كان بلال يفعل به المشركون الأفاعيل حتى ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر حتى يلفظ بكلمة الشرك وهو يقول : أحد أحد ، ويقول : والله لو أعلم كلمة هي اغيظ لكم لقلتها!

وفي هذه المهاجرة الهاجرة الى رسول الهدى في المدينة اقتسموا قسمين ،

٥٠٢

منهم من قضى نحبه صادعا بالحق فهنيئا له (١) ومنهم من أخذ بالتقية الرخصة (بَعْدِ ما فُتِنُوا) ضربا وشتما اما هيه من أساليب التعذيب ، ثم جاهدوا في المهجر في سبيل الله وصبروا على كل الأذيات والحرمان في الله (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لسيئاتهم سابقة ولا حقة ، ولتقياتهم حيث كانت مسموحة مهما لم تكن مشكورة ، حيث الأفضل كان هو تقديم الأفضل ، ليرى اعداء الله صمود المؤمنين بالله في سبيل الله ، والطرق الى الله بعدد أنفاس الخلائق.

او انه من اتقى وقاية لنفوس جموع من المسلمين ، فلو كانت فقط نفسه لم يتق ، ولكنها نفوس طابت وطهرت وفي هدرها هدر لقوة اسلامية كبيرة ، وهذا جمع بين الأمرين(٢).

__________________

(١) ومن هؤلاء من يذكر الحافظ في ترجمة عبد الله بن حذيفة ـ احد الصحابة ـ انه أسرته الروم فجاءوا به الى ملكهم فقال له تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك بنتي فقال له لو اعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب ان ارجع عن دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) طرفة عين ما فعلت ، فقال : اذن أقتلك فقال أنت وذاك قال : فامر به فصلب وامر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى ثم امر به فانزل ثم امر بقدر وفي رواية : بقرة من نحاس فأحميت وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح وعرض عليه فأبى فأمر به ان يلقى فيها فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى فطمع فيه ودعاه فقال : اني انما بكيت لان نفسي انما هي نفس واحدة تلقى في هذا القدر الساعة في الله فأحببت ان يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله.

(٢) وهذه رواية ثانية بالنسبة لهذا الصحابي الكبير انه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أياما ثم أرسل اليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه ثم استدعاه فقال : ما منعك ان تأكل؟ فقال اما انه قد حل لي ولكن لم أكن لأشتمك في فقال له الملك فقبل رأسي وانا أطلقك فقال تطلق معي جميع أسارى المسلمين فقال : نعم فقبل رأسه فأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده فلما رجع قال عمر بن الخطاب حقّ على كل مسلم ان يقبل ـ

٥٠٣

وترى متى (غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لهؤلاء الذين شرحوا بالكفر صدرا ، والمغفرة والرحمة للذين صمدوا على الايمان؟

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ١١١ (١).

في ذلك اليوم العصيب (تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) فانه يوم الجمع الحشر ، حال انها (تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) لا سواها ، فان (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).

فالنفس الناسية نفسها يوم الدنيا ، الذاكرة لمتعلقاتها ، الهائمة فيها ، تذكر نفسها يوم الاخرى ، وتنسى ما سواها ، وكذلك النفوس المؤمنة ، الذاكرة المتذكرة يوم الدنيا ، اللهم إلا لمن اذن له بشفاعة نفوس تستحقها.

و «نفسها» هنا هي «كل نفس» بعينها ، كما تقول نفسي وانفس

__________________

ـ رأس عبد الله بن حذافة وأنا ابدا فقام فقبل رأسه» (ذكره ابن كثير في التفسير).

(١) نور الثقلين ٣ : ٩٠ القمي في الآية قال : نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له البليان وكانت بلادهم خصبة كثيرة الخير وكانوا يستنجون بالعجين ويقولون هذا ألين فكفروا بأنعم الله واستخفوا بنعمة الله فحبس الله عليهم البليان فجدبوا حتى أحوجهم الله الى ما كانوا يستنجون به حتى كانوا يتقاسمون عليه وفيه عن محاسن البرقي

وفيه عن محاسن البرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان قوما وسع الله عليهم في أرزاقهم حتى طغوا فاستخثنوا الحجارة فعمدوا الى النقي وصنعوا منه كهيئة الأفهار فجعلوه في مذاهبهم ، فاخذهم الله بالسنين فعمدوا الى أطعمتهم فجعلوها في الخزائن فبعث الله على ما في الخزائن ما أفسده حتى احتاجوا الى ما كان يستطيبون به في مذاهبهم فجعلوا يغسلونه وما يأكلونه وفي تفسير العياشي عنه (عليه السلام) انهم قوم من بني إسرائيل.

٥٠٤

الآخرين ، دون اختلاف بين النفس الآتية والمجادلة ، (تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) دفاعا عنها ، ولكنها لا تفيدها جدالها إذ (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) من خير او شر ، فالأعمال هي بنفسها جزاء أصحابها ، وهي حاضرة كما عملت : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣ : ٣٠).

وقد يستثنى عن «كل نفس» هنا اصحاب اليمين ، فان (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) (٧٤ : ٣٩) وباحرى السابقون والمقربون ، ثم الآخرون مؤمنون وكافرون هم مرتهنون بأعمالهم.

ولان التوفية هناك ليست الا بما عملت (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) إذا (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) نقصا عن الثواب او زيادة في العقاب ، اللهم الا زيادة الثواب فضلا ، وحطا عن العقاب نفلا.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ

٥٠٥

إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ

٥٠٦

اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(١٢٨)

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ١١٢ وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) ١١٣.

تحذيرة خطيرة عن كفران نعمة الله بعد ما بذلت ، وتكذيب آية الله بعد ما نزلت ، ولقد جمعت في هذه القرية الممثل بها النعمتان : رزق رغد من كل

٥٠٧

مكان ، ورسول منهم ، فكفرت بهما (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ).

ففيما سبق حذر الكافرون باليم العذاب في الآخرة ، وهنا العذاب في الدنيا ، جمعا بين النقمتين إذ جمعوا بين كفرهم بالنعمتين!

لا علينا ان نعرف ما هي هذه القرية حيث القصد الى النبهة عن هذه المواصفة ، ولكنها فيما نعرف طول التاريخ الرسالي صادقة على مكة المكرمة كأصدق مصاديقها.

فهي (كانَتْ آمِنَةً) عن غيرها : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (٢٩ : ٦٧) و «مطمئنة» في نفسها ، فساكنها يأمن بأس ما حولها ، ويطمئن عن باس ما فيها ، لأن الله تعالى جعلها حرما آمنا.

وقد (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) في المعمورة كما في دعاء ابراهيم (عليه السلام) (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (١٤ : ٣٧).

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ) محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) «فكذبوه» ـ (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) في فتح مكة (وَهُمْ ظالِمُونَ).

هذا ـ ولكن اهل مكة لم يعذبوا هنا تدميرا ، وفتح مكة فتح الى قلوبهم نور الهدى فآمن ثلة ونافق آخرون ، إذا فلا ينطبق هذا المثل عليها إلا في النعم الأربع ، دون ذلك العذاب.

وعلّ ذلك المثل في ذلك التشابه مع مكة المكرمة ، يهدد أهليها الكافرين بعذاب اليم.

٥٠٨

فقد انطبق ذلك المثل الأمثل على حالهم ، وعاقبة المثل تحذرهم عن مآلهم ، مهما كانت البلدة غيرها كما قد يروى (١) حيث الأمثال تحذر كما هي تبشر ، وهذه طريقة قرآنية سامية في التحذير والتبشير.

وهنا يجسّم ذلك التعبير العبير الخوف والجوع فيجعلهما لباسا ، إذ يلبسانهم في أرواحهم وأبدانهم ، شمول الجوع لابدانهم ، وشمول الخوف لأرواحهم ، وذلك العذاب الشامل هنا مسّ وذوق وليس كلّ العذاب ، فيا ويلاه لكل العذاب يوم القيامة!

فهذه الاستعارة اللطيفة يخرج المثل مخرج الخبر عن العقاب النازل ، ام ما يحق نزوله ، حيث البلاء شامل شمول اللباس ، وهو بعد ذوق وليس أصل البلاء.

ومهما كانت حقيقة الذوق في المطاعم والمشارب ، لا في الكسيّ والملابس ، فذلك معروف في مذهب البلاغة ان يقال لمن عوقب على جريمة او أخذ بجريرة : ذق فعلك ، وأجن ثمرة جهلك ، وان كانت عقوبته ليست مما يحس بالطعم ويدرك بالذوق.

وكما الملابس تشتمل على الجلود ، كذلك ما يظهر منهم عن مضيض

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٩٠ القمي في الآية قال : نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له البليان وكانت بلادهم خصبة كثيرة الخير وكانوا يستنجو بالعجين ويقولون هذا النبي فكفروا بأنعم الله واستخفوا بنعمة الله فحبس الله عليهم البليان فجدبوا حتى أحوجهم الله اليه ، كانوا يستنجون به حتى كانوا يتقاسمون عليه وفيه عن من سن البرقي عن أبي عبد الله (ع) قال : ان قوما وسع الله عليهم في أرزاقهم حتى طغوا فاستخشنوا الحجارة فعمدوا الى النقي وصنعوا منه كهيئة الأفهار فجعلوه في مذاهبهم فاخذهم الله بالسنين فعمدوا إلى أطعمتهم فجعلوها في الخزائن فبعث الله على ما في الخزائن ، أفسده حتى احتاجوا الى ما كان يستطيبون به في مذاهبهم فجعلوا يغسلونه ويأكلونه وفي تفسير العياشي عنه (ع) انهم قوم من بني إسرائيل.

٥٠٩

الجوع واليم الخوف ، من سوء الأحوال وشحوب الألوان وضئولة الأجسام ، هي ايضا كاللباس الشامل لهم ، والظاهر عليهم.

وعلى أيّة حال فهذه القرية ليست هي مكة بعينها ، بل هي ما وصفها الله (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) ولم تذق مكة جوعا ولا خوفا ، وانما يتهدد أهلوها بذلك المثل إن واصلت في كفرها بأنعم الله وتكذيبها رسولها أنها ستذوق ما ذاقت نظيرتها.

وانما (بِأَنْعُمِ اللهِ) جمع قلة دون «النعم» جمع كثرة ، وهم كانوا في نعم كثيرة فعندهم امن واطمئنان! ورزقهم رغد من كل مكان؟

علّ القلّة اشارة الى الجموع الثلاثة من النعم ، وكل واحدة منها في نفسها كثرة ، ام ولأنها بجنب نعمة الرسالة قلة فان متعة الحياة الدنيا قليلة مهما كثرت ، ولذلك لم يدخل نعمة الرسالة خلالها ، بل أفردها بالذكر وخص لتكذيبها العذاب وهم ظالمون.

ويا لها من نعمة جامعة تجمع القمة الروحية الى القمة المعيشية ، دون أية زعزعة إلّا كل أمنة وطمأنينة ، ورغدة الرزق من كل مكان ، فحقّ لها لباس الخوف بدل الأمن والطمأنينة ، ولباس الجوع بدل وفير الرزق والنعمة ، ولباس العذاب في الأخرى بدل الرحمة.

وهذه هي سنة الله في كل قرية وأمة يوم الدنيا قبل الآخرة : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٨ : ٥٣) فان (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) (١٣ : ١١) إذا :

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ١١٤.

٥١٠

«فكلوا» سماح لأكل ما فيه مواصفات ثلاث : (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) فيخرج عنه مال السرقة والغصب وأية خيانة من ربا او بخس في المكيال ، فانها ليست من رزق الله لمن يكسبها خلافا لشرعة الله.

٢ «حلالا» : كلوا حلالا .. ـ مما رزقكم الله حلالا ، فمن رزق الله ما لا يحل اكله ذاتيا ام عرضيا ، ومن الأول أكل الحيوانات المحرمة المملوكة ككلب الصيد وأمثاله ، ومن الثاني التبذير او الإسراف في الاكل ، او الاكل نهار رمضان ، وكونه كغير الطيب من رزق الله لا ينافي عدم حلّه للأكل ، حيث الرزق لا يختص بالأكل. «طيبا» : مما رزقكم الله طيبا للأكل ، فما لا تستطيبه الطباع السليمة فتستخبثه ، هي محرمة الأكل ، مهما كانت من رزق الله ، حلالا في أصلها مثل اللحم الذكي الذي نتن وتعفن.

ثم (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) أيا كانت من مأكولة وملبوسة ومسكونة ومنكوحة امّا هيه ، وشكرها هو صرفها في مرضات الله ، وإظهار انها من الله : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) وإنفاقها للمحاويج من عباد الله ، (وَاشْكُرُوا .. إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فان الشكر لنعمة المعبود من لزامات العبودية الموحدة.

وقد يكون (حَلالاً طَيِّباً) حالين ل (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) فهي إذا ضابطة عامة في كل مأكول ، انه حلال طيب كأصل أوّليّ شامل حتى يرد الحظر ، فهي من ادلة أصالة الحل في كل ما يؤكل.

أو أنها ، وصفان وحالان فالمعنيان إذا معنيّان ، وأصالة الحل هنا تختص بكل حلال طيب ، وإذا ترددنا في حل او طيب فالأصل هو الحل ، وإذا ورد حظر فلا هو حل ولا طيب.

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ

٥١١

اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ١١٥.

أترى «إنما» هنا وفي ثلاث أخرى هي لحقيقة الحصر؟ وهذه قلة من ثلة محرمة في الشرعة الإسلامية كتابا وسنة! فهنالك مكية اخرى نزلت قبل هذه : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦ : ١٤٥).

وأخريان ، مدنية اولى نزلت في أولياتها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢ : ١٧٣).

واخرى هي من أخريات ما نزلت فيها : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥ : ٣).

هذه جماع الآيات النازلة في محرمات المأكولات ، محلّقة على العهدين مكيا ومدنيا ، وفي كلّ أولا وأخيرا مما يبرهن بوضوح ان الضابطة التي تحملها قائمة صامدة بأسرها.

ومن الضرورة الاسلامية ان السنة ليست لتنسخ الكتاب على أية حال ، اللهم إلا تقييدا لمطلقه ام تخصيصا لعمومه على شروطهما ، فما ذا يصير إذا مصير سائر المأكولات المحرمة كالوحوش والسباع والمسوخ؟

وكيف تنسخ المحرمات الأربع من المأكولات توسعة ام تضييقا وهي

٥١٢

محصورة في العهدين أولا وأخيرا دونما تأشير طول العهد الرسالي الى نسخ ولا في شطر آية.

نقول انها اربع كما تقول الآيات الثلاث الأول ، والسبعة الاخيرة في المائدة هي من مصاديق الميتة الا ما ذبح على النصب فانه مما اهل لغير الله به ، فتطابقت الآيات الأربع في المحرمات الأربع دون اختلاف إلا توضيحا وتفسيرا وكما في (دَماً مَسْفُوحاً) كما في آية الأنعام ، حيث يقيد نصوص الدم بالمسفوح عند الذبح ام اي جرح ، فالدم المتخلّف في الذبح الشرعي ، ام اي دم غير مسفوح في بيضة ام شجرة أمّا هيه ، إنه غير محرم الاكل فطاهر قطعا ، فان بين حرمة الاكل والنجاسة عموما مطلقا ، فالنجس أيا كان محرم اكله ولا عكس كليا ، فغير المحرم اكله طاهر دون ريب ، فلا ان دم البيضة نجس ولا محرم يحتاج الى محوه حتى يحل ، سنادا الى نص الآية (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) حيث تخص حظر الأكل في الدم بالمسفوح.

وظاهر الخطاب في «عليكم» لأقل تقدير ، شموله للمسلمين وقد اختصوا به في آية البقرة والمائدة ، فلا يختص بغير المسلمين حتى يبرّر به اختصاص الحرمة بهذه الأربع حيث كانوا يحّرمونها ، ولم يكونوا محرّميها!

أترى «انما» هنا لغير الحصر ، بتأويل انها مركبة من «إن وما» حرف تأكيد تتصدر موصولا ، يعني : في الحق الذي حرم عليكم : الميتة .. كما في (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) فرفع «كيد» دليل ان ما موصولة؟

ولكن «الميتة» نصبا تنقض كون «ما» موصولة ، إذ يقتضي نصبها خبرا ل «إنّ» و «ما» اسمها!

ثم آية الانعام (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) نص في الحصر ولا تقبل هذا التأويل العليل!

وأخيرا فكون «ما» موصولة لو صحت لا يحوّل الحصر الى سواه ،

٥١٣

حيث المعدود في القرآن من المحرمات بهكذا تعبير يفيد فائدة الحصر! وليس اجمالا يحتاج الى تفصيل : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) (٦ : ١١٩).

الجواب ان آية المائدة لا حصر فيها لمكان «حرمت ..» فقد يجوز اضافة محرمات اخرى فرعية في السنة وليست لها ناسخة حيث رفع فيها حصر الآيات السابقة مكية ومدنية.

وباحرى ان نقول : محور الحصر هو الأنعام الا في لحم الخنزير حيث كان متعوّد الاكل مع الانعام ، فقد ذكرت (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) : الأنعام ، في الأنعام ، ثم ندد بمن يحرّم منها : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) مرتين ، بعد الضأن والمعز ، وبعد الإبل والبقر ، ومن ثم التهديد الشديد (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ ..) ثم يذكر ثلاثا من الانعام ، ولحم خنزير متعود اكله فيما بينهم من غير الانعام ، ثم يذكر تحريم قسم مما أحل ، على الذين هادوا جزاء ببغيهم.

وآية الانعام هذه هي أصرح الآيات في الحصر ، حيث تستأصل الحرمة فيما اوحي اليه ، الشامل لوحي الكتاب والسنة ، إلا هذه المذكورات ، ولكنها في نطاق خصوص الانعام.

والانعام هي المقصودة ام ضمن القصد من (طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) في النحل والبقرة ، ومن ثم تحريم الأنعام في حالتي الموت والإهلال لغير الله بها ، والدم المسفوح بصورة مطلقة ولحم الخنزير.

ف «انما حرم» و (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) هما تعبيران اثنان عن

٥١٤

أمهات المحرمات في الانعام وسواها ، والمشركون كانوا يحللونها ويحرمون حلّها ، معاكسة لحكم الله وكما هنا : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) ١١٦.

ومن الشاهد على انها اصول المحرمات في الانعام إلا لحم الخنزير ، آية المائدة الاولى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ..) ثم الثالثة تبين ذلك الأصل بعد إحلال الصيد حرما (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ..) وكأن ذلك الإحلال لم يعد من محرمات الانعام وهو الحق ، حيث القصد الى سرد المحرمات الاصيلة على اية حال كما بينّ ، دون المحرم في بعض الأحوال كإحلال الصيد وأنتم حرم ، ام أكل الأنعام سرقة ام ربا ام خيانة ام حالة الصوم اما هيه من حالة محرمة.

لذلك فالحصر في هذه الأربع اضافي محصور في نطاق الانعام ، بيانا لأصول المحرمات فيها على اية حال ، فلا تعارضه الآيات المحرّمة لها عرضيا في بعض الحالات ، او التي تحرم سواها من المأكولات كالربا والسرقة والاكل بالباطل ككل ، وبخس الميكال والاكل حالة الصوم وأضرابها ، كما لا تعارضها السنة المحرّمة لا كل لحوم السباع والوحوش والمسوخ واضرابها من حيوان محرمة ، ام وسائر الاكل من سائر المأكولات المحرمة ، اصلية وفرعية.

ثم «الميتة» هي الميّتة حتف أنفها ، او المذبوحة ام المقتولة بغير الطريقة المأمور بها ، كما تفصلها آية المائدة وفصلناها فيها.

و «الدم» مطلقة هنا تشمل كل دم ، ولكنها مخصوصة في الانعام بكونه «مسفوحا» فغير المسفوح إذا غير محرم أكلا ، وباحرى فيما سوى الاكل ، وأحرى منهما عدم النجاسة ، فالدم داخل البيض طاهر حل

٥١٥

اكله ، دون حاجة الى خلطه إمحاء لحمرته ، وكما الدم المتخلّف كالعادة في الذبيحة حلّ بنفس السند.

(وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) محرم على اية حال ، وان عولج بإذهاب الدودات الصغيرة فيه أمّاذا من علاجات.

(وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) من الانعام وان ذبحت بطريقة شرعية ، حيث الذبح لغير الله ، وباسم غير الله ، ام بغير اسم الله ، مما يحرّم المذبوح (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) (٦ : ١٢١).

(فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى أكل شيء من هذه ، فالضرورات تبيح المحظورات ، ولكنها تقدّر بقدرها (غَيْرَ باغٍ) لم يبغ قصدا الى أكل الحرام ، كمن عمد الى حالة الاضطرار ، فاضطر الى أكل شيء من هذه باختيار ، فهو مضطر باغ ، ام لم يقصد اكله ، وانما اختار امرا يضطره الى اكله وهو يعلم ان اختياره ينهيه الى اضطرار ، كمن يسافر دونما ضرورة الى بلاد الكفر ، وهو يعلم اضطراره فيها الى أكل الحرام ، والبغي هو التجاوز فان كان عن العدل الى الإحسان فإحسان ، ام عن العدل الى الظلم فعدوان وهو المعني هنا ان يتجاوز عن العدل الى الظلم جنفا.

(وَلا عادٍ) في طريق الاكل الاضطرار ان يتجاوز عما تقتضيه الضرورة ، و (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) بيان آخر ل (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) حيث التجانف لإثم هو القصد اليه إعراضا عن الحق ، سواء في سبيل الوصول الى الاضطرار ، ام تجاوزا عما يسمح للمضطر.

فليس الاضطرار الى أكل الحرام بنفسه مبررا له وانه مغفور له ، وانما الاضطرار غير المختار ، حيث الاضطرار بالاختيار لا ينافي الإختيار ، وكذلك الاضطرار في غير عدوان ، وانما اضطرار صالح دون بغي ولا عداء ، وهو قاصر دون تقصير ، فهنالك (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قضية

٥١٦

عدله وفضله ، كما ان عدم غفره ورحمته لمضطر باغ او عاد ، هو قضية عدله.

هذا ما يتلى عليكم من اصيلة المحرمات في الأنعام ، ومن سواها أصيلا لحم خنزير ، فلا يحل تحريم ما سواها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٥ : ٨٧) وكما فعل المشركون : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ. وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (٦ : ١٤٠) فرد الله عليهم بما ردّ ، وب (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٥ : ١٠٣) :

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) ١١٦. (١)

(لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) هو قول اللسان ان يقول بفيه ما لا حجة فيه ، بل هي حجة عليه قاطعة قاصعة ، و «ما» هنا مصدرية فهي : لوصف ألسنتكم الكذب ، وصفا للكذب باللسان ، دون اصل له في الجنان (لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) دونما اصل في شرعة الله (يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٩٢ في كتاب التوحيد بسند متصل عن عبد الرحيم القصير قال كتب ابو عبد الله (عليه السلام) على يدي عبد الملك بن أعين : إذا أتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصي او صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عز وجل عنها كان خارجا ـ

٥١٧

الْكَذِبَ) الذي وصفه لسانكم ، وهذا كذب مزدوج ان يصف كذبا لا يعتقده ، فلا اصل له باطنا ولا واقعا.

ثم «لا تقولوا» نهي عن ان يدين بما وصفه لقرنه بوصف اللسان فهو إذا ذو ابعاد ثلاثة من الكذب ، وذلك خارج من الايمان والإسلام معا ان كان مسلما.

فقد يصف لسان الإنسان كذبا يعتقده صدقا ، وهو قاصر فيما يعتقد دون تقصير فله اجر واحد ، وقد يصف كذبا لا يعتقده ولا يقول به فهو كاذب مقصر خارج عن الايمان ، او يقول به وهو كذب فهو خارج عن الإسلام بعد الايمان ، او يصف كذبا يعتقده مقصرا في دليله وان كان يراه مصيبا فهو كاذب غير مفتر ، او يصف صدقا يعتقده مصيبا في دليله واقعا في مدلوله فله أجران.

فالثلاثة الوسطى كذب بدركاته ، والاولى كذب مأجور ـ ان صح التعبير ـ والاخيرة صدق مطلق محبور مشكور و (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) تشمل الثلاثة دون الأولى والأخيرة.

ثم لا فلاح كما لا صلاح للذين يفترون على الله الكذب وإنما (مَتاعٌ قَلِيلٌ) وكل متاع الدنيا قليل (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

ثم القول الكذب في الشرعة تحليلا وتحريما قد يكون مشاقة لله ، انني احكم كما الله يحكم ، فهذا إشراك في ربوبية التشريع وان وافق حكم الشرع أحيانا ، وإن لم تشمله الآية وهو انحس من كل مصاديق الكذب.

__________________

ـ من الايمان وساقطا عنه اسم الايمان وثابتا عليه اسم الإسلام فان تاب واستغفر عاد الى الايمان ولم يخرجه الى الكفر والجحود والاستحلال ، فإذا قال للحلال هذا حرام وللحرام هذا حلال ودان بذلك فعندنا يكون خارجا من الايمان والإسلام الى الكفر وكان بمنزلة رجل دخل الحرم ثم دخل الكعبة فأحدث في الكعبة فاخرج عن الحرم والكعبة فضربت عنقه وصار الى النار.

٥١٨

ام هو افتراء على الله خلافا للضروري من حكم الله ، او نص من كتاب ام سنة ثابتة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا انحس دركات افتراء الكذب على الله.

ام يفتي تأويلا لنص او ظاهر مستقر من كتاب او سنة ، تفسيرا له برأيه وتأويلا له الى خلاف مآله ، وهذا مصداق ثان لما تشمله الآية.

ام يفتي فيما لا نص فيه بقياس او استحسان واضرابهما مما لا حجة فيه ثم ينسبه الى الله ، وهذه دركة ثالثة من دركات افتراء الكذب على الله.

فليس لأي مفت في احكام الدين ، المختلفة فيها الأنظار وغير الضرورية اسلاميا ، ان ينسب فتواه الى الله ، وانما : أقول هذا كما وصل الي بحجة والله اعلم ، اللهم إلا فيما يقطع به من احكام لنص كتابي او سنة قاطعة دون تفسير برأي لا تتحمله حجة شرعية «ومن فسر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب» (١) وكل ابتداع في الدين افتراء على الله الكذب سواء أكان بتأويل حجة كمفسر برأيه ، ام باختلاق حجة خلاف حجج الله ، ام ليست في كتاب الله او سنة رسول الله فان «العلم ثلاثة كتاب وسنة ولا ادري».

فمن دان الله بقياس او استحسان ام أيا كان من حجة غير شرعية ، كان ممن افترى على الله كذبا وله عذاب اليم!

ف (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) دون نص ولا أيّة حجة قاطعة ، هي القولة الكاذبة ، الكالحة الكاسحة ، وكما يقولها جماعة من الوهابية السلفية في الجزيرة العربية وسواها ، حيث يحرّمون أمورا كثيرة دونما أية حجة ، وأصالة الحظر التي هي من أصولهم الفقهية هي ايضا مما تصف ألسنتهم الكذب حيث الضوابط القرآنية تؤصّل الحلية ك (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٩٣ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى عبد الرحمن بن سمرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : حديث طويل يقول فيه : ...

٥١٩

حَلالاً طَيِّباً) هنا ، و (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) في البقرة اما هيه من آيات تضم اصالة الحل في كافة التصرفات الحيوية ايجابية وسلبية.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ١١٨.

(ما قَصَصْنا عَلَيْكَ) هو المقصوص في الأنعام قبل النحل : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٦ : ١٤٦).

ومنه صيد الحيتان يوم السبت : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٧ : ١٦٣).

وذلك تحريم ابتلائي جزاء بما كانوا يعملون ، وقد نسخته شرعة المسيح : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) (٣ : ٥٠).

وليس التحريم او التحليل اصليا ام ابتلائيا الا لشارع الشرعة من الدين وهو الله لا سواه حتى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فضلا عن سائر الرسل أو الأمم.

ومما يحير عقول الأمة الإسلامية تصرفات خاطئة في أحكام الله من قبل الخلفاء الثلاث والأئمة الأربع والبعض من فقهاء الفريقين ، مما يخالف كتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فان كانت جهلا فكيف يقود الامة الإسلامية جاهل ، ام كان عمدا فمن اظلم ممن افترى على الله الكذب ، وسرد افتراآت من هؤلاء وأولاء بحاجة الى مؤلّف فذّ فظ لسنا نحن بمؤلفيه حفاظا على الوحدة الاسلامية ، وهنا نشير الى

٥٢٠