الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

وسلاليم يستمع فيها الى الملأ الأعلى : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٥٢ : ٣٨) (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) (٣٧ : ٨).

وأبواب يصّعّد منها الى مسارح الوحي ومصارحه في السماء ، رؤية وسماعا (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ..).

فلو انهم عرجوا في هكذا باب ، ورأوا ما يرى من عالم الغيب شاهدا على حق الوحي ومنه الملائكة (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) من تسكير السّكر ، او السّكر : الصّد ، فهي على أية حال لا ترى الحقيقة كما هيه ، لا فحسب أبصارنا (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) في العروج والدخول والخروج وإبصار العجائب كالملائكة ، سفسطة امام الواقع المحسوس الملموس ، حيث الكفر والنكران سالك في قلوبهم المقلوبة ، فهي حالكة (١) هالكة لا تكاد تعرف الحقيقة كما هيه.

فإذا هم ينكرون ويكابرون في المحسوس الذي لا يكابر فيه اي حيوان ، فبأحرى ان يكابروا في غير المحسوس ، وقد يكفي تصورهم هكذا لتبدو مكابرتهم السمجة الهمجة ويتجلى عنادهم المزري المغري ، ويتأكد ان لا جدوى في جدالهم ، فما عذر (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) عذرا حيث لا يصدقونهم لو فتح عليهم باب من السماء فرأوا الملائكة ، حيث يقولون (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ).

ومن ذلك المشهد المنكور ـ لو فتح عليهم باب من السماء ـ الى مشاهد ملموسة وسواها من السماء ، يفتح علينا منها أبواب ، ومن الأرض

__________________

(١) شديدة السواد ، فهالكة عن كونها قلوبا انسانية.

١٤١

ومعايشها ، ومن كل شيء خزائنها :

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ)(١٦).

أترى «بروجا» في السماء هي كواكبها كلها؟ وهي القصور المرتفعة ، وليست الكواكب كلها قصورا! إنما هي أبنية عالية في مدن من السماء (١) وقد زينت للناظرين ، الساكنين فيها ، والقريبين منها ، والبعيدين عنها ، حيث ينظرون إليها بعيون مسلحة أمّاهيه ، ام يسافرون إليها في مستقبل مجهول ، وهنالك باب في السماء يعرج فيه الى هذه البروج وسواها من مغيبات السماء ، ولكن شياطين الجن والإنس محرومون عنها كما لمحت «لو» وكذلك صرحت :

(وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ)(١٧) من إنس وجان أن يصّعّدوا إليها ، حيث يرجمون عنها ، فلا هم قادرون على الصعود لها ولا الاستماع الى الملاء الأعلى فيها (٢) وذلك الحفظ منه الحفظ عن التسمّع الى الملإ الأعلى ، الكائنين في بروجها ، فلانهم هم المحفوظ عنهم ، إذا فالجن المؤمنون هم غير محفوظ عنهم ذلك التسمع ، ولا الانس المؤمنون أن يصّعدوا الى الملإ الأعلى ، ولكنهم ايضا منعوا عن ذلك التسمع منذ الوحي المحمدي (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (٧٢ : ٨) فان محادثات الملإ الأعلى وحي أو إلهام لا يصلحان غير المؤمنين ، ولا المؤمنين الرسل حيث ختم الوحي فضلا عن غير المرسل!

(إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ)(١٨) فإنهم (يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) (٣٧ : ٩).

__________________

(١) راجع تفسير سورة البروج ـ الفرقان ٣٠ ـ ٢٥٨ تجد تفصيل هذه البروج.

(٢) راجع نظيرة الآية في سورة الملك والجن والصافات.

١٤٢

فالشياطين عن السمع هناك معزولون ، لكن المؤمنون قد يكون لهم نصيب من هذه البروج ، سواء الإنس منهم والجان ، إلّا ان الرسالة الاخيرة صدت دونهم ـ كما صدت من ذي قبل لسواهم ـ صدّات التسمع الى الملأ الأعلى : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (٧٢ : ٩).

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ)(١٩).

«والأرض .. رواسي» مذكورة في (٥٠ : ٧) ثم (هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) (١٣ : ٣) آيات ثلاث تمد الأرض حين تكميلها وتلقي فيها رواسي ، وفي فصلت (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها)(٢٦).

وما هو كل شيء موزون أنبتها في الأرض؟ علّه ، (كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) كما في «ق»: (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) بل ما هو إلّا هو فان خلق الله كله زوج وكله بهيج ، فلا زوج إلّا وهو بهيج ولا بهيج إلا وهو زوج : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (٣٦ : ٣٦) (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (٦٧ : ٣ ـ ٤) وعدم التفاوت والتهافت ذاتيا وخلقيا في خلق الرحمن هو أبهج بهجة فيه.

وكل زوج بهيج موزون نابت في الأرض قد تشمل كل نابتات الأرض ، من نبات وحيوان وانسان : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (٧١ : ١٧) بل

__________________

(٢٦) قد فصلنا مدّ الأرض وجعل الرواسي وإلقاءها في فصلت وق والرعد فراجع.

١٤٣

والمعادن حيث تنبت من مختلف المواد المتحولة تدريجيا إليها.

وعلّ (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) هنا هو (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) هناك ، فان كل شيء سوى الله زوج ، وكل زوج هو شيء خلقه الله ، وقد تلمح «من» التبعيض هنا أن منها ما هي مخلوقة في غير هذه الأرض ، من سائر الأرضين السبع ، وسائر الكرات المعمورة ، وإلّا فلما ذا (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) لا «كل شيء» فهذه الأرض واضرابها فيها أمهات النابتات الوليدات وكلها زوج بهيج موزون (١).

ثم و «موزون» يدل على عامة الوزن في كل شيء سوى الله ، وكل زوج ، فما هو الوزن كله؟

هذه الآية هي الوحيدة في حمل الوزن لكل شيء وزوج ، وقد تدلنا على لزام الوزن لكل شيء لأنه زوج ، فللمركب وزن أيا كان ، وزنا هندسيا كالبعدين والأبعاد ، ووزنا فيزيائيا وهما لكافة المواد دونما استثناء.

ولان «فيها» تعم الأرض ورواسيها ، ام إذا خصت الأرض فالرواسي ايضا منها ومن نابتاتها ، حيث حصلت من الأمواج سطحا وعمقا حينما كانت ذائبة ومتحركة شموسا ، فالدوران خلّف الموجان وخروج شيء من أثقالها المائعة المائجة منها وبرودتها على اثر الاصطكاك بالفضاء المجاور البارد ، إذا فرواسيها كسائر مواليدها هي من نابتاتها ، ثم رواس أخرى هي الأحجار السماوية الملقاة عليها ، وثالثة هي الملقاة عليها من داخلها على اثر

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٦ في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله : «وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ» فان الله تبارك وتعالى أنبت في الجبال الذهب والفضة والجوهر والصفر والنحاس والحديد والرصاص والكحل والزرنيخ وأشباه هذه لا يباع الا وزنا.

١٤٤

التفجرات البركانية في براكينها ، فهذه رواس ثلاث ملقاة فيها مهما اختلفت حجما ورخوة وصلابة.

فكل شيء في الأرض موزون نابتا منها ، وبأحرى الأرض نفسها منبتا لنابتاتها ، حيث الموزون لا ينبت إلّا عن موزون قضية الولادة ، ولكنه يخلق من غير موزون وهو الله قضية الخالقية.

ثم الموزون يعم فيما يعنيه وزن الحكمة العالية في الخلق كله ، ووزن الحاجة اليه المقصودة من كل خلق ، كما (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (١٣ : ٨)(وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) (٥٥ : ٧) إذا فكل شيء موزون في نفسه ، وبالنسبة لبعض ، ونسبة الى الحكمة المتعالية كما (السَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) وضعا شاملا كافلا في كافة الموازين لكل زوج بهيج ، دونما خفة خلقية أماهيه إلّا ما نستخفّه نحن بخفة العقل والدراية.

كما ويعني الوزن المادي لكل شيء ، فالهواء لها وزن كما النور وسائر الطاقات والأجسام ذرية وجزئية وما فوقها وما دونها ، ومنها الأرواح فان لها اوزانا مادية كما الروحية وان كنا لم نسطع حتى الآن ان نزنها ماديا ، فليس لزام واقع الوزن ان تستطيع القدرات المحدودة بأسبابها وموازينها المحددة ان تزنها ، كما ليس لزام الوجود في كل موجود ان نعرفه او نحيط به علما.

ثم هنا وزن باطن لا يظهر إلّا تحت ضغوط الجواذب المختلفة الجاذبة ، فالشيء الكائن في جو دون جواذب ـ ان صح واقعه ـ لا يظهر وزنه ، والكائن بين جواذب متعادلة كذلك يظل في أوساطها دونما ميل الى واحدة قضية المكافئة ، والكائن بين جواذب غير متعادلة يميل الى الجاذبة الأقوى ، ككل شيء في الأرض من ماء وهواء وسواهما من زوج ، فانها تميل الى الأرض ، حيث الجاذبية فيها بالنسبة لها أقوى من جواذب السماء ، فإذا تصعّدت بجاذبة أقوى الى الجو ، تصل الى جو متعادلة الجواذب فتبقى بلا

١٤٥

ميل صاعد ام هابط ، وإذا تجاوزه الى جو أعلى حيث الجاذبية السماوية بالنسبة لها أقوى من الارضية ، تتصاعد إليها دونما حامل آخر ، وكما شوهد في الهابطين على القمر.

ومثلثة الحالات في الأجسام دليل لواقع الوزن فيها ، الظاهر أحيانا والكامن اخرى ، فهو على اية حال كائن لا مرية فيه ، فلو لم يكن لها وزن ذاتي لما انجذبت بالجواذب عند عدم تعادلها قوة وضعفا ، حيث الجاذبة لا تجذب إلّا ثقلا ، والكائن دون ثقل ذاتي لا ينجذب بأية جاذبة ، كما الله تعالى شأنه!.

فالكائن إما له وزن دائب كسائر الكون ، ام ليس له وزن كما الله تعالى ، وأما أن يكون له وزن أحيانا وليس له أخرى ، فهذه قولة لا وزن لها ، إلّا بروزا للوزن أحيانا ، وعدمه أخرى كما للكائنات المخلوقة كلها حسب مختلف اجواء الجاذبية.

والسرّ في ذلك ان الوزن هو قضية المادية والتركب وهو لزام المادة ، وكذلك الطاقة المنبثقة عن المادة ، كالجاذبية العامة ، فان لها وزنا كما لسائر الكون ، وكالنور وأمثالها ، والروح واضرابها ، وكل كائنات العالم كالجن والملائكة.

وكما (أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) فلتكن الأرض نفسها ايضا نابتة من غيرها وموزونة ، إذ لا يولد وليد إلّا من مجانسه ، والأرض وليدة المادة الام «الماء» كما السماء ، (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (١١ : ٧) حيث الماء المبني عليه عرش الخلق للأرض والسماء ليس هو الماء المولود فيهما ، وللتفصيل محله الأنسب وهو آيته هذه في هود.

(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) (٢٠).

إن في الأرض معائش لكل عائش فيها ، سواء فيها «لكم» كافة

١٤٦

المكلفين العائشين على وجهها ، ام (مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) كوسائط لرزقه ، فان الله هو الرزاق ـ ككل ـ ذو القوة المتين.

وهذه المعايش هي ما أنبته الله فيها من كل شيء موزون وبهيج حيث وزنها وقدّرها لكل العائشين عليها دون انتقاص ، فتعم هذه المعايش المآكل والمشارب والملابس والمناكح والأماكن وكل ما يحتاجه اي عائش ، من جماد ونبات وحيوان وانس وجان ام أيا كان ، عيشة شاملة كاملة كافلة «لكم» : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٧ : ١٠) ـ (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ).

ولا في الأرض فقط ولمن عليها ، بل (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١١ : ٦).

والمعايش جمع معيشة وهي ما يعيش به اي عائش حيوانا وسواه ، فمن عائش يرزقه الإنسان كالحيوانات الأهلية ، ومنه ما يعيش بنفسه من دون الإنسان كغير الأهلية ، مهما يرزقها الإنسان حين يملكها كالطير واضرابها ، ومنه ما لا يرزقه وليس ليرزقه ، سواء ما يستفيد منه كالمعادن ، او ما لا يستفيد ككل الأشياء التي لا ينالها الإنسان ، كل ذلك داخلة في (مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) و (لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) تعم رزق الإنسان نفسه وما يرزقه غيره من حيوان وسواه ، إذا ف «معايش» تشمل كافة الأرزاق الارضية لكافة مرزوقيها دونما استثناء.

واحتمال ثان في (مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) انه مجعول ثان ل «لكم» فمن المعايش ما يرزقه الإنسان من جماد ونبات وحيوان ، حيث يسعى في تسويته او تنميته ، ومنها ما لا صنع فيه للإنسان ، إذا فللانسان رزقان مما له فيه صنع وما ليس له ، وكل ذلك جعله الله تعالى من معايشه ف (هُوَ الَّذِي

١٤٧

خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ..) (٢ : ٣٩).

واحتمال ثالث فيه المعنيان معا معنيان ، ففي الأرض معايش لكل عائش ، والكل بمعايشها هي من معايش الانس والجان : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٥٥)؟.

ولا ضمير على الاول في العطف على الضير المجرور دون اعادة الجار ، حيث القرآن هو محور الأدب دون ان يحور حول سائر الأدب كما في سائر الإرب ، ثم الجمع بين الاحتمالين يرفع المحظور ادبيا لو كان.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(٢١).

(إِنْ مِنْ شَيْءٍ) استغراق مؤكد يشمل كل شيء دون إبقاء (١) اللهم إلّا شيء الذات المقدسة بصفاته الذاتية لمكان «عندنا» ومن ثم إلّا مشيئته تعالى حيث ينزّل كل شيء بقدر معلوم لمكان (وَما نُنَزِّلُهُ) ثم «عندنا» في جمعية الصفات تعني عندية العلم والقدرة والرحمة رحمانية ورحيمية ، وكل شيء بحاجة جوهرية الى هذه العنديات الإلهية ، قبل تكونه وبعده ، في ذاته ام صفاته او حالاته ، وكذا الذي لا يصلح للتكون مهما كان ممكن الذات.

ف «شيء» هنا تعني الكائن او الذي يمكن تكوينه وفقا للمصلحة الراجحة ، ام صفات او حالات لهما ، ام إعدام الكائن عن بكرته او في صفة له او حالته.

دون الشيء الممكن غير الصالح للتكوين فانه مستحيل التكوين مصلحيا ، فلا خزائن له عند الله كما لا إمكانية لها وقوعية.

__________________

(١) ف «ان» النافية قبل النكرة تفيد العموم و «من» تؤكده ، فهذه مبالغة في الاستغراق ذات بعدين.

١٤٨

واما المستحيل الذاتي فليس شيئا حتى تشمله لفظة «شيء» فلا تتعلق به القدرة فانها تتعلق بشيء كائن ام الممكن تكوينه ، وبصيغة اخرى كضابطة شاملة ، هنا شيء مطلق بحقيقته الشيئية وإطلاقها ، المستحيل عليه اللاشيئية ام اي تحول ، وهو شيء الذات المقدسة الإلهية ، فانه شيء لا كالأشياء ، سرمدية الذات أزليا وابديا ، وهو الذي شيّأ الأشياء.

ثم مطلق الشيء ، بنسبيته الشيئية ومجازها ، فعلية كالكائن ، ام شأنية كالذي يمكن تكوينه ، وافقته المصلحة الكونية ام لم توافقه ، بفارق ان الثانية لن تكوّن لأنه خلاف المصلحة.

ومن ثم لا شيء مطلق ليس بالإمكان ان يكون أيا كان وأيان ، وهو المستحيل ذاتيا كاجتماع النقيضين وارتفاعهما.

والشيء غير الصالح تكوينه في هذا البين هو شيء لاصل امكانيته ولا شيء لاستحالة وقوعه ، والذي (عِنْدَنا خَزائِنُهُ) هو الممكن الصالح تكوينه ، كائنا ام سوف يكوّن.

والخزائن جميع الخزينة وهي المحفظة ، يحفظ فيها الشيء عن الضياع ، او مادة الشيء التي تولّده ، ام يحفظ فيها ما به الشيء شيء ، تكوينا بلا ولادة ، وهي الخزانة التكوينية كما الإرادة الإلهية بعلمه المحيط على رحمته : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) (١٧ : ١٠٠) (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) (٦ : ٥٠) (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) (١١ : ٣١) (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (٣٨ : ٩) (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) (٦٣ : ٧). فخزائن الله رحمة وعلما وقدرة خاصة بالله ، لا يخوّلها لأحد من خلقه حتى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فضلا عمن سواه :

١٤٩

ف (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ؟).

إذا ف «خزائن الله الكلام فإذا أراد شيئا قال له كن فكان» (١) وهو الكلمة التكوينية : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣٦ : ٨٢) و «قوله فعله».

ولماذا «خزائنه» و (إِنْ مِنْ شَيْءٍ) تختزن كل شيء بحاله وبمفرده؟ لان كل شيء بحاجة الى جمعية خزائن العلم والقدرة والرحمة رحمانية ورحيمية! وهذه الخزائن هي الصفات الذاتية الإلهية بما هي المنشأ للصفات الفعلية خلقا وتقديرا وتغييرا وتطويرا اماهيه من شيء الذات ، خلقا لا من شيء ، ام خلقا من شيء ، ومن شيء الأفعال والصفات والحالات.

فالعندية هنا هي الصفاتية الفعلية الحاضرة للذات المقدسة بمبدإ الصفات الذاتية.

فكما الأشياء ليست عند الله كمظروف في ظرف ، او وليد في والد ، كذلك خزائنها مهما بان البون بينها وبين خزائنها ، حيث الخزائن هي الكلمة التكوينية الصادرة عن مصدر الذات منشأة من الصفات الذاتية ، والأشياء مخلوقة في البداية لا من شيء ، ثم شيء من شيء.

وليست الارادة الإلهية والدة لها كما الذات ، إذ (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) وانما

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٩٥ ـ اخرج البزاز وابن مردويه في العظمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

وفي تفسير البرهان ٣ : ٣٢٨ ـ ابن بابويه بسند عن مقاتل بن سليمان قال قال ابو عبد الله الصادق (عليه السلام) لما صعد موسى الطور فنادى ربه عز وجل قال : رب ارني خزائنك ، قال يا موسى انما خزائني إذا أردت شيئا ان أقول له كن فيكون.

١٥٠

هي سبب الإيجاد لا من شيء الذات ، وانما لا من شيء أو من شيء مخلوق من قبل.

ثم وهذه الخزائن وهي الصفات الفعلية الإلهية ، هي خزينة العلم والقدرة والحياة الصادرة عنها كلّ شيء ، المنتهية إلى الإرادة تكوينية وتشريعية.

فلا افتراق في خزائن التكوين والتشريع أن له ـ مثلا ـ خزينة الخلق ولغيره تقدير الخلق ، ام له الخلق والتدبير ولغيره تطويره وتغييره ، بل الخزائن كلها لكل شيء عنده لا سواه ، حتى اقرب المقربين محمد (صلى الله عليه واله وسلم) والمحمديين من عترته الطاهرين.

و «شيء» هنا يعم الشيء الكائن ، والذي يصح ان يكوّن ، فكما لتكوين كل شيء خزائن ، كذلك لكل كائن خزائنه بعد تكونه استبقاء لكونه ، واستكمالا.

فالشيء أيا كان ، هو الآن كما كان قبل كونه ، افتقارا الى الله ، إذ لا يكسب بتكونه استقلالا واستغناء عن الله.

ولأن «نا» حيث تعني الذات بجمعية الصفات ، ليس له مكان ، كذلك «عندنا» بعيدا عن اي زمان ومكان واي «كان» إلّا الذات المقدسة المكونة لكل الأكوان.

لذلك ، فلا يعني التنزيل نزولا من عل في مكان ، وانما نزولا عن المشيئة الإلهية أيا كان ذلك الشيء ، وكما (أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) (٢ : ٢١٣) و (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) (٣ : ١٥٤) (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) (٩ : ٢٦) (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) (٣٩ : ٦) (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) (٥٧ : ٢٥) ... كل ذلك واضرابها تشمله (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) مهما كان من الأشياء السماوية تنزل من عل

١٥١

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) (٣٩ : ٢١) ام ومن الأرضية كما انزل الحديد والأنعام.

وذلك التنزيل في اي شيء ليس جزافا ، ام يتم اعتباطا (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ): «قدر» في العلم والقدرة والحكمة العالية الربانية ، قدرا في الكون وقدرا في الكيان وقدرا في الميزان (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٦٥ : ٣) (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٥٤ : ٤٩) (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) (٢٣ : ١٨) ... فهو قدر ذاتيا ومصلحيا ، شخصيا وجماعيا ، فحتى نصيب الأرض من ماء السماء بقدر ، لا يزيد عنه ولا ينقص ، وعلّه يشمل قدر المطر في كل سنة ، ف «ليس أحد بأكسب من أحد ولا عام بأمطر من عام ولكن الله يصرفه حيث شاء» (١).

فالشيء الاوّل خلقا وهو المادة الأم ، هو منزّل إيجادا بقدر ، ثم منزّل في تطوراته بقدر ، وكافة التطورات الجوهرية والعرضية ، كيماوية وفيزيائية ام هندسية إمّا هيه كلها منزلة بقدر ، لا منزّل لها ولا مقدّر إلّا الله الواحد القهار ، حيث الخزائن كلها عند الله لا سواه.

وكل قدر من هذه الأقدار مهندسة في العلم والقدرة والحكمة الربانية على ضوء الرحمة رحمانية ورحيمية ، وهذه هي خزائن التنزيل لكل شيء بقدر ، مجموعة في كلمة «كن» التكوينية ، وقد يعنيها العرش فيما يروى

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٩٦ ـ اخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ... وفي نقل آخر وما نزلت قطرة من السماء ولا خرجت من ريح الا بمكيال او بميزان.

١٥٢

ان «في العرش تمثال جميع ما خلق الله من البر والبحر» (١) وهو عرش العلم والتكوين.

ومن خزائن كل شيء ملكوت كل شيء وناصيته ، فلا شيء منفصلا في كونه وكيانه عن ارادة الله.

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ)(٢٢).

رياح لواقح تلقح سحابا الى سحاب سحبا ركاما : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) (٢٤ : ٤٣) (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) (٧ : ٥٧) وهكذا نرى الرياح لواقح تأليفا بين منفصلات السحاب ، فإقلالا لها ثقالا (٢).

كما وانها تلقح الأشجار (٣) بعضها البعض عملية الفحولة ، من ذكر الى أنثى

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٧ في روضة الواعظين وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (عليه السلام) انه قال : في العرش ... وهذا تأويل قوله : وان من شيء الا عندنا خزائنه.

(٢) تفسير البرهان ٢ : ٣٢٨ عن الكافي بسند عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) حين سأله عن الرياح قال عز ذكره رياح رحمة لواقح وغير ذلك ينشرها بين يدي رحمته ، منها ما يهيج السحاب للمطر ومنها رياح تحبس السحاب ما بين السماء والأرض ورياح تعصر السحاب فتمطر بإذن الله.

(٣) نور الثقلين ٣ : ٧ في تفسير القمي قوله : وأرسلنا الرياح لواقح قال : التي تلقح الأشجار ، وفيه عن تفسير العياشي عن ابن وكيع عن رجل عن امير المؤمنين قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تسبوا الريح فانها بشر وانها نذر وانها لواقح فاسألوا الله من خيرها وتعوذوا من شرها.

١٥٣

لتحمل فتحبل فتثمر ، وقد تعنيهما الآية بإطلاق وعموم «لواقح» مهما تقدمت إنزال الماء وهو من مخلّفات لقاح السحاب.

فهنالك حبالى السحاب الثقال بما تلقحها الرياح لقحا عن فصل ولقحا في وصل لكي تكون ركاما ، وهناك حبالى الأشجار تلقح انثاها بذكورها بفارق ان اللقح هنا حمل نطفة الذكورة الى الأنثى لتحبل بالثمر كما في النخل واضرابها ، وهناك الجمع بين متفرقات السحاب لتحبل بركامها واندغامها ماء ، وهذه هي الرياح المبشرة ، ومن ثم منذرة كريح صرصر في ايام نحسات.

ثم لواقح الرياح لحمل السحاب ، هي قبل لواقحها لحمل الأشجار ، فلو لا إنزال الماء من السماء نتيجة اللقح الاول ، لم يكن مجال للثاني إذ لا أشجار بلا أمطار.

وهنا «فانزلنا» تفريعة ظاهرة على (أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) فاللقاح الاول هو الاول ذكرا كما هو الاول واقعا ، ومن ثم الثاني على هامشه ومن مخلفاته.

وقد تلمح «لواقح» جمعا بديلا عن «لاقحة» الى جمعية اللقاح ، فقد تكون هناك في الكون لقاحات اخرى للرياح غير هاتين ، وعلّ التصريح بلقاح السحاب لأنه أمّ اللقاحات ومصدرها ، وكما هو مصدر لقاح الأشجار ، كلقاح المعادن واضرابها.

وعلى أية حال فهناك رياح لواقح حاملة السحاب ، ثم لواقح تجعل السحاب حاملة المياه ، ثم لواقح تجعل الأشجار حاملة النبات ، ثم لواقح ولواقح علّ العلم يكشف عن وجهها النقاب.

وهنا لو لا لواقح الرياح للسحاب بصورة مستمرة دائبة لاصبحتم

١٥٤

عطاشى (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ).

فلو لا إرسال الرياح لواقح وإنزال الماء من السماء (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) لظللتم عطاشا! وكيف تحزنون الماء ، إماء الأرض وهو صاعد أبخرة الى السماء ، ام ماء السماء وهو نفسه ماء الأرض النازل منه وهو صاعد على طول الخط ، عملية اتوماتيكية بارادة الله فأين الاختزان؟ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٦٧ : ٣٠) غورا في الأرض ام غورا في السماء ، فأنتم دائبون في رحمة الله المتواترة المتواصلة ، لو انقطعت عنكم لفترة كان فترة في حياتكم على قدرها.

وهذه الآية اليتيمة المنقطعة النظير في لاقحات الرياح تحمل ملاحم غيبية ما كانت البشرية لتعرفها في سالف الزمن وعلى طول الخط ، اللهم إلّا شطرا منها أخيرا ، وعلّه على ضوء آية اللقاح! نرى الزهور ـ على اختلاف أجناسها ـ بحاجة ماسة بعضها الى بعض ، فمنها ما خلق الله فيها الطّلع ومنها ما يقبله ، وكما النخل فان لها ذكورا وإناثا ، فطلع الذكور يلقح الأناث ، وهكذا جميع الأشجار تتزاوج بلقاح ، ومهما كان الورد والرمان يلقح بواسطة الحشرات ، نرى كبار الأشجار ـ كما النخل ـ والصنوبر والغار ، ان لها تدبيرا آخر ، حيث الرياح مسخرة لعملية اللقاح بين ذكرانها وإناثها.

وقد شوهد في بلاد (استكلندة) غبار من طلع بعض الأشجار يمرّ في الهواء كأنه سحب تزجيها الرياح ، ثم يؤلّف بينها ثم تصير ركاما ويراها الناس بأعينهم المجردة تلقح إناث تلك الأشجار!.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ)(٢٣).

تأكيدات اربع : «ان ـ ل» وجمعيتي الصفات «نا ـ نحن» حصرا للإحياء والإماتة في ذاته المقدسة وحسرا عمن سواه ، وصلة الإحياء والإماتة

١٥٥

تذييلا بما قدم من مظاهر الإحياء لكل الأحياء ، متواترة دائبة ، هي صلة عريقة بين الحياة الدنيا والآخرة ، قياسا تمثيليا بالأولوية القطعية ، حيث الإحياء يوم الآخرة أعدل وأحيى منه يوم الدنيا ، فالدنيا هي من فضل الله متعة امتحان ، والآخرة من عدله وفضله بغية الجزاء العدل الوفاق.

ترى وماذا تعني (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) وطبعا بعد الإماتة جملة وتفصيلا؟ وهو المالك يوم الدنيا كما هو المالك يوم الدين؟.

علّه اشارة الى زوال الملكية العرضية التي جعلنا الله مستخلفين فيها يوم الدنيا ، فانها تزول بالموت وتتم لله راجعة إليه كما له الملك حقيقيا : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤ : ١٦) (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٣ : ١٨٠).

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ)(٢٤).

علم يحيط بكل مستقدم ومستأخر ، بكل مصاديقهما كونا وكيانا وزمنا ، دون ان نستقدم منها شطرا ونستأخر شطرا آخر ، فانه تضييق لكلام الله.

فلو اختص بمن تقدم في الخلق ومن تأخر ، لكان «المستقدمين عليكم والمستأخرين

عنكم» اسمي المفعول ، دون الفاعل مع الظرفين ، حيث التقدم والتأخر في الولادة ليس من فعل المواليد! وان كان ضمن المعني من اسمي الفاعل تلمحيا من العلم المحيط.

ثم المحور الاول والقدر المتيقن من الخطاب في «منكم» هم الموجودون زمن الخطاب فلا مستقدم فيهم ولا مستأخر ، ثم الحشر عام في تاليتها (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) دون اختصاص بالسابقين واللاحقين ، بل هو جمع بين المكلفين أجمعين ليوم الدين.

١٥٦

إذا فهما طلب التقدم والتأخر ، سعيا وكدحا ام دونهما ، عقليا وعلميا وايمانيا وعمليّا ، حيث الطلب ـ على اية حال ـ هو قضية الفطرة الإنسانية ، وأعمال الإنسان ومساعيه هي بين ما يقدّمه إنسانيا ام يؤخره شاء أم ابى ، عالما ام جاهلا او متجاهلا.

ومن الناس من يستقدم أحيانا ويستأخر اخرى (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) (٩ : ١٠٢) إذا فهما تشملان عامة المكلفين في مثلثة الحالات دونما استثناء (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٢٥).

فالمستقدمون هم الذين يقدّمون أنفسهم بما يقدمون لأنفسهم ابتغاء ما عند الله ، تقديما لإيمان وعمل الإيمان ، وكل ما يتطلبه تقدّم الإيمان بعمله الصالح ، (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) (٢ : ٢٢٣) ومن «هم المؤمنون من هذه الأمة» (١) كافضلهم ، كما المؤمنون من سائر الأمم ، فالمستقدمون ـ إذا ـ يعم المستقدمين والمستأخرين والحاضرين زمنيا ، مهما كانت الأمة الأخيرة أفضلهم.

والمستقدم في معنى خاص هو من يقدم لحياته الأخرى ، والمستأخر من لا يقدم إلا شائكة الحياة بل يؤخرها إنسانيا فهو ـ إذا ـ رجعي عما تتطلبه الإنسانية وعلى ضوء الوحي ، كما المستقدم تقدّمي يتقدم إليها ويقدمها : (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (٨٢ : ٥).

ثم المستقدم في وجه عام ـ قضية استطارة الكتب واستنساخ الأعمال خيرّة وشريرة ـ يعم كل تقدمي ورجعي ، حيث الأعمال كلها تقدّم الى الحياة الاخرى ، مهما كانت الصالحات تقدّم الإنسان والطالحات تؤخره.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٧ عن تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية قال : هم المؤمنون من هذه الامة.

١٥٧

ويقابله المستأخر كالذين يظنون ألّا بقاء واستطارة للأعمال خيرة وشريرة ، (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) (١٧ : ١٣).

وهكذا مستأخر قد يعبّر عنه بالمستقدم ، (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٣ : ١٨٢).

ثم هناك مستقدم ومستأخر خيرا او شرا حسب مختلف الأعمال ، بقاء بآثارها فمستأخرة باقية ، ام دون بقاء فمستقدمة غير باقية ، فكل سنة حسنة او سيئة مستأخرة ، وهما في غير سنة مستقدمة «فمن سن سنة حسنة كان له مثل اجر من عمل بها الى يوم القيامة ، ولم ينقص أولاء من أجورهم شيء ، ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر من عمل بها الى يوم القيامة ولم ينقص أولئك من أوزارهم شيء» (١).

وقد تستقدم الآية هنا في مسرح العلم المحيط الرباني كافة المستقدمين والمستأخرين بكل المعاني المسرودة ، استقداما لصالحات الأعمال او طالحاتها ، ومستأخرين طالحات الأعمال وصالحاتها ، حيث الأعمال كلها تستقدم بما يستنسخها الله ، ويبرزها : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ..) (٣ : ٣٠) ولكنما المؤخرة منها لحياة الجنة مستأخرة في استقدامها ، كما المقدّمة منها لحياة الجنة مستقدمة في استقدامها ، وكل من المستقدمة والمستأخرة ، الصالحة والطالحة ، بين (ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) حيث تعم الباقية بآثارها بعد الموت وغير الباقية ، مهما كانت كلها باقية بذواتها ليوم يقوم الأشهاد.

إذا ف «المستقدمين والمستأخرين» تعمان كافة الحالات والمقالات في

__________________

(١) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) متواترا

١٥٨

كل مجالات التكليف بعامليها الصالحين والطالحين أيا كانوا وأيان ، وهنا المقالة النادمة المتحسرة : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١٨ : ٤٩)!

(وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٢٥).

«ان ربك» الذي رباك بكل ربوبيته لأعلى قمم التربية ، تكوينية وتشريعية «هو» لا سواه ، حيث علم المستقدمين منهم والمستأخرين لا سواه «يحشرهم» جميعا ليوم الجمع «إنه حكيم» في حشره كسائر فعله «عليم» بمن يحشرون.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها

١٥٩

فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ)(٤٨)

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)(٢٦).

هنا «الإنسان» ككل ، وطبعا بجزئيه ، مخلوق (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ

١٦٠