الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

الإحرام وسائر مناسك الحج والعمرة ، وفي غيرهما للوافدين والقاطنين ، فلذلك يختص بانه بلد آمن (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (٣ : ٩٧) (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) (٢٩ : ٦٧) (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) (٢٨ : ٥٧) (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) (٣٤ : ١٨).

هذا ـ ومن مخلفات هوي الأفئدة والثمرات اليه طائف من الأمن تكوينا ، فقد جمع فيه الأمنان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)! ثم الأمن هذا يعم امن الروح والجسم عن كل ما يصيبهما ، ومن ذلك الأمن عن عبادة الأصنام وكما حصل منذ الهجرة إلى المدينة ، وكذلك الأمن عن العذاب وكما هو حاصل منذ تكونها حتى الآن والى يوم القيامة.

(وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) .. «بني» قد تجمع كل الانسال الناسلة من ابراهيم يوم دعى والى يوم الدين ، وكيف يدعو «واجنبني» وهذه المجانبة هي من التكاليف

المختارة للعالمين؟ لأنها بدوامها وكمالها بين محاولة بشرية حسب المستطاع ، وبين توفيق رباني لولاه لكانت الحواجز الآفاقية والأنفسية تعرقل دون تحقيقها أم ثباتها وتكاملها ، لذلك يتطلب من الله ان يجنبه وبنيه بعد ما اجتنبوا وكما نقول (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ). وهل استجيب في بنيه كلهم؟ طبعا لا ، إلّا من آمن منهم ، وكما دعى (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢ : ١٢٤) فليس جنب تسييرا على مجانبة عبادة الأصنام ، بل توفيقا لمن آمن ، فان الخير كله بيديه والشر ليس اليه.

ولماذا «بني» دون من آمن ككل؟ انه تطبيق لأمر الله : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) (٦٦ : ٦) وقاية بدعاء بعد وقاية بسائر السعي ، ومن ثم سائر المؤمنين (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ) وقد تعني «بني» ولد ابراهيم وإسماعيل وإسحاق.

٨١

ولماذا «بني» بعد «واجنبني» دون المؤمنين اجمع ، او من بنيه ، او الناس أجمعين؟ .. انه تطبيق لترتيب التربية في الدعوة كما قال الله : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) (٦٦ : ٦) (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢٦ : ٢١٤) ابتداء بنفس الداعية في بعدي التحقيق والدعاء للمزيد ، ثم الأقرباء والأنسباء ، ثم سائر الناس.

وقد يعني من «بني» الأنبياء من ذريته كإسماعيل وإسحاق وذريتهما ، وكما تلمح له (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) إسلاما لهم كما لهما ، ام وفوقه كما في محمد (ص) وعترته المعصومين عليهم السلام.

ولماذا «الأصنام» فقط وعبادة الطواغيت اشر واطغى؟ لأنها أعم حيث يعبدها المستضعفون المضلّلون بطواغيتهم الدعاة إليها مهما كانوا هم معبودين لهم كوساط في تلك العبادة.

ففرعون نفسه ونمرود واضرابهما كانوا يعبدون أصناما كما كانوا يعبدون ، فالأصنام اشمل صيغة تعمّ كل معبود سوى الله ، هكذا ، ام وهي أعم من أدناها النفس الامارة بالسوء ، وأعلاها الطواغيت ، وهذا المثلث هو الأصنام مهما اختلفت دركاتها ، كما وان عبادة الله ـ ايضا ـ درجات.

ولماذا «واجنبني» ضما لنفسه في بنيه وهو صون بالعصمة الإلهية عما دون ذلك فضلا عن عبادة الأصنام؟ انه طلب للثبات على شرعة التوحيد ، كما يطلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ضمن سائر المكلفين (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

ودرجات ذلك الجنب تختلف حسب درجات المجنبين كدرجات الهداية الإلهية حسب المهتدين.

٨٢

(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٦).

نسبة الإضلال الى الأصنام وهي لا تعقل لأنها مادة الضلال ، وهو بين زوايا ثلاث ثانيتها المضلّل نفسه حيث يتقبل الضلال ، وثالثتها المضلل حيث يدعو الى الضلال ، فيصح نسبة الإضلال إلى كل واحدة منها كما إليها كلّها ، وقد ينسب الى الله حين لا يمنع عن الضلال تسييرا ام توفيقا (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) فلو لا مادة الضلال لم يكن هنالك دور لضال ولا لإضلال ، ولو لا تقبّل للضلال فلا دور للآخرين ، كما لو لا المضلّل فلا دور لمادة الضلال وتقبّله اللهم إلا قليلا في هذا الأخير.

كما ان الله لو منع أيا من هذه الثلاث لم يوجد هناك ضلال ، فنسبة المضل الى ايّ من هذه الثلاث وحتى الى الله ، صالحة ، بفارق انه من الله عدل ، ومن المضلّل والمضلّل ظلم ، وفي مادة الضلال كالأصنام لا عدل ولا ظلم الا إذا كان هو المضلّل نفسه ، فمادة الضلال «الأصنام» تضل ، كما الضال يضل نفسه بتقبل الضلال ، والمضلّل يضلله بدعايته ، والله يضله بعد ما ضل حيث يتقبل ، وعند ما ضل حيث لا يحول بينهما.

ثم (فَمَنْ تَبِعَنِي) يعم اتباعه في اصل التوحيد وسائر الشرعة الإلهية عقيدية وعلمية وتطبيقية ، مهما كان متابعوه في مثلثة المنازل ، ممن هو فوقه كالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ام مثله كسائر اولي العزم ، ام دونه كسائر النبيين والمرسلين وسائر المؤمنين ، وهم كلهم اولى الناس به : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٣ : ٦٨) فقد يعني (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) أمثاله في ولاية العزم ، ام اصحاب المنازل الثلاث كلهم تعميما قبل تخصيص ، وعلّه اولى ، مهما كانت متابعة هذا النبي في اصل السلوك والمسلك لا في رتبته وكما في (الَّذِينَ آمَنُوا) فقد

٨٣

يعم (فَمَنْ تَبِعَنِي) متابعيه من ولده وسواهم (فَإِنَّهُ مِنِّي) وان بعدت لحمته ، كما (وَمَنْ عَصانِي) يعم العصاة من ولده وسواهم ـ فليس مني ـ وان قربت لحمته.

إذا ف (وَمَنْ عَصانِي) يعم كافة العصاة لشرعة الله ، المجانبين سلوكه ومسلكه ، سواء أكانوا ملحدين او مشركين ، ام موحدين عصاة متخلفين عن عملية الايمان كلا او بعضا ، وبذلك تنحل المشكلة العويصة في (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ـ (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٢ : ١٢٦) (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ... مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ، وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ...) (٩ : ١١٤).

فان الاستغفار لأصحاب الجحيم محرم في شرعة الله ولا سيما للمشركين ، فكيف يرجو ابراهيم لمن عصاه وأشرك (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) غلطة ذات بعدين ثانيهما التحقق من غفر الله ورحمته؟.

والجواب ان «عصاني» يعم كل عصيان وقد يستثنى الإشراك بالله ممن مات مشركا ، واما العصاة في غير الإلحاد والإشراك ، ام المشركون التائبون (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مهما كانت هنالك شروط ، وهنا الخليل الحنون تبدو سمته العطوفة حين لا يطلب الهلاك لمن عصاه من نسله وسواه ، فلا يستعجل لهم العذاب بل ولا يذكر العذاب ، وانما يكلهم الى غفران الله ورحمته ، ويلقي على الجو ظلال الرحمة والمغفرة ، حيث يتوارى ظل المعصية!.

فبرحمته يهدي من ضل منهم ان شاءوا ، وبغفره يغفر العصاة من المهديين وسواهم ، كمن أشرك ثم تاب.

٨٤

هنا (وَمَنْ عَصانِي) يفصل بينه وبين كافة العصاة مهما كانوا من ولده الأقربين ، فليسوا ـ إذا ـ من اهله ، كما هناك (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) تجعل كافة المؤمنين من اهله ، فانما هي آصرة التقوى آهلة لتجعل أهلها أهلا ، والطغوى قاحلة مستأصلة لكل اهل عن أهليته : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (٢٣ : ٢٧).

فمواصلة التقوى لا تعرف وتميّز قريب اللّحمة عن بعيدها ، كما مفاصلة الطغوى لا تفرق بين قريبها وبعيدها وكما يروى عن رسول الهدى محمد (ص) «ان ولي محمد من والى الله ورسوله وان بعدت لحمته وان عدو محمد من عادى الله ورسوله وان قربت لحمته» فلا يصدّق ما اختلق عليه «الصالحون لله والطالحون لي».

هنالك بين الناس ناس وأشباه ناس ونسناس ، فالمعصومون ـ على درجاتهم ـ هم الناس وأشياعهم هم أشباه الناس ، وسائر الناس هم نسناس ، وقد شملت الآية الطوائف الثلاث (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٥٤٧ في روضة الكافي ابن محبوب عن عبد الدين غالب عن أبي عن سعيد بن الميت قال سمعت علي بن الحسين (ع) يقول : ان رجلا جاء الى امير المؤمنين (ع) فقال : أخبرني ان كنت عالما عن الناس وعن أشباه الناس وعن النسناس فقال امير المؤمنين (ع) يا حسين أجب الرجل فقال الحسين (ع) اما قولك أشباه الناس فهم شيعتنا وهم موالينا وهم منا ولذلك قال ابراهيم (ع) (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) ... أقول وفي حديث آخر سأله (ع) رجل عن الناس فقال للحسن (ع) أجبه فقال : نحن الناس وشيعتنا أشباه الناس وسائر الناس نسناس ثم أقول : وهذا التقسيم الثلاثي تستفاد من كلام الحسين (ع) مهما كان ظاهر الجواب عن أشباه الناس ، فالناس ـ إذا ـ هم الناس ، وسائر الناس لا ناس ولا أشباه ناس ، فهم ـ إذا ـ نسناس. وفيه عن امالي الطوسي باسناده الى عمر بن يزيد قال ـ

٨٥

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(٣٧).

«من ذريتي» هو إسماعيل وامه ، فقد تدخل الزوجة في نطاق الذرية اعتبارا بالتبعية ، كما و (لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) هنا تدل عليه ، حيث لم تكن له هناك من ذرية الولادة إلّا إسماعيل (عليه السلام).

و (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ ..) عرض له بتطبيق ما امر به ، استعطافا بجماع الصفات من ربوبيته «ربنا» حين يرى واديا غير ذي زرع ، وذلك عند انصرافه بعد إسكانهم «لما بلغ كدى وهو جبل بذي طوى ..» (١).

(بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) وبطبيعة الحال ولا ضرع لأنه غير ذي زرع ، لعدم ظهور الماء ، وتوفر الرمال والصخرات ، فلا يصلح ـ إذا ـ لزرع او ضرع ، وبطبيعة الحال لا يهوي اليه الناس ، وعلى اية حال (إِنِّي أَسْكَنْتُ ...) بأمرك على إمره.

__________________

ـ قال ابو عبد الله (ع) يا بن يزيد أنت والله من اهل البيت ، قلت : جعلت فداك من آل محمد (ص) ص؟ قال : اي والله من أنفسهم ، قلت : من أنفسهم جعلت فداك؟ قال : أي والله من أنفسهم يا عمر أما تقرأ كتاب الله عز وجل : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) او ما تقرأ قول الله عز اسمه : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أقول وقد تظافرت الروايات في هذا المعنى عن الرسول (ص) وأئمة أهل بيته (ع).

(١) نور الثقلين ٢ : ٥٤٨ ـ القمي حدثني أبي عن النضر بن سويد عن هشام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان ابراهيم (عليه السلام) كان نازلا في بادية الشام فلما ولد له من هاجر إسماعيل اغتمت سارة من ذلك غما شديدا لأنه لم يكن له منها ولد ـ

٨٦

(عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) محرما في تملّكه لغير الله فانه بيت عتيق ، فمحرما

__________________

ـ وكانت تؤذي ابراهيم في هاجر وتغمه فشكا ابراهيم (عليه السلام) ذلك الى الله عز وجل فأوحى الله اليه : انما مثل المرأة مثل الضلع العوجاء ان تركتها استمتعت بها وان أقمتها كسرتها. ثم امره ان يخرج إسماعيل وامه عنها فقال : يا رب الى اي مكان؟ قال : الى حرمي وامتي واوّل بقعة خلقتها من الأرض وهي مكة فانزل الله عليه جبرئيل (عليه السلام) بالبراق فحمل هاجر وإسماعيل وابراهيم (عليه السلام) عليها وكان ابراهيم لا يمر بموضع حسن فيه شجر ونخل وزرع الا وقال : يا جبرئيل الى هاهنا الى هاهنا؟ فيقول جبرئيل : لا ـ امض امض حتى وافى مكة فوضعه في موضع البيت وقد كان ابراهيم عاهد سارة ألّا ينزل حتى يرجع إليها فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجرة فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها فاستظلوا تحته فلما سرحهم ابراهيم ووضعهم وأراد الانصراف عنهم الى سارة قالت له هاجر : يا ابراهيم لم تدعنا في موضع ليس به أنيس ولا ماء ولا زرع فقال ابراهيم : الله الذي امرني ان أضعكم في هذا المكان حاضر عليكم ثم انصرف فلما بلغ كدى .. فقال : ربنا .... وفيه عن الفضل بن موسى الكاتب عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال : ان ابراهيم (عليه السلام) لما اسكن إسماعيل وهاجر مكة ودعها لينصرف عنها بكيا فقال لهما ابراهيم ما يبكيكما فقد خلفتكما في أحب الأرض الى الله في حرم الله ، فقالت له هاجر : يا ابراهيم ما كنت ارى ان نبيا مثلك يفعل ما فعلت ـ قال : وما فعلت؟ قالت : إنك خلفت امرأة ضعيفة وغلاما ضعيفا لا حيلة لهما بلا أنيس من بشر ولا ماء يظهر ولا زرع قد بلغ ولا ضرع يحلب! قال : فرقّ ابراهيم ودمعت عيناه عند ما سمع منهما فاقبل حتى انتهى الى باب بيت الله الحرام فأخذ بعضادتي الكعبة ثم قال : «اللهم اني أسكنت من ذريتي ..» قال ابو الحسن (عليه السلام) : فأوحى الله الى ابراهيم : ان اصعد أبا قبيس فناد في الناس : يا معشر الخلائق ان الله يأمركم بحج هذا البيت الذي بمكة محرما من استطاع اليه سبيلا فريضة من الله ، فمد الله لإبراهيم في صوته حتى اسمع به اهل المشرق والمغرب وما بينهما من جميع ما قدر الله وقضى في أصلاب الرجال من النطق وجميع ما قدر الله وقضى في أرحام النساء الى يوم القيامة فهناك يا فضل وجب الحج على جميع الخلائق والتلبية من الحاج في ايام الحاج هي إجابة لنداء ابراهيم (عليه السلام) يومئذ بالحج عن الله.

٨٧

لحرمة التعرض له والتهاون به ، وكما جعل من حوله حرما شاسعا حفاظا على مكانته وحرمته ، حمى يحومه ، ومحرما لم يزل منذ خلق الله الأرض ، عزيزا ممتنعا متمنعا يهابه كل جبار وكما امتنع من طوفان نوح ومن اصحاب الفيل حيث جعل كيدهم في تضليل ، ومحرما على زائريه الوافدين او القاطنين فيه ما لا يحرم على سواهم في سلوب من الإحرام ومحرماته ، ومحرما قتل اللاجئين اليه والقتال عنده الا إذا اقتضت الضرورة.

(لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) فانه قبلة المصلين ، والمحور الرئيسي لإقام الصلاة ، وهو اوّل بيت وضع للناس مباركا وهدى للعالمين.

وفي إقام الصلاة كما يحق إقام للدين كله ، وقد (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) قياما في كل ما تتطلبه شرعة الله ، في صلاة كعبادة وفي صلات في ذلك الجم الغفير والجمع الوفير بتلك الصور الوضاءة الجامعة للمسلمين المستطيعين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله.

ف (لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) ليست لتختص بالصلاة كصلة فردية بين العبد والمعبود ، بل وكافة الصلات في كافة الحاجيات الإسلامية القائمة بين المصلين في مناسك الحج والعمرة ، العبادية السياسية الحركية ، دون انعزالية في تقشف عبادي جاف ، تفكيكا للدين عن السياسة وللسياسة عن الدين ، في حين ان الدين هو السياسة والسياسة الصالحة هي الدين دون فكاك إلّا بافتكاك الدين عن حالته القيادية.

ثم إن إقام الصلاة عند البيت المحرم ـ وهو قبلة المصلين ، ومولد الوحي ومهبطه ، وعاصمة الرسالة القدسية الاخيرة ـ ان ذلك يجعل مكان البيت أسوة للمؤتسين وقدوة للمقتدين ، فإقام الصلاة فيها أقوم من غيرها إقاما لها بين جموع المسلمين.

٨٨

(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) والهوي هو النزول من عل إلى انخفاض كالهبوط ، مبالغة في صفة الأفئدة ـ وهي هنا القلوب المتفئدة بنور الهدى ـ مبالغة بالنزوع الى المقيمين بذلك المكان ، فالهوي ـ إذا ـ هو انزعاج الهاوي من مستقره الى ذلك المكان لمكانته.

وقد جعل الله افئدة من الناس تهوي إليهم ، من استطاع منهم اليه سبيلا ومن لم يسطع هويا في بعدي التكوين والتشريع ، فمن لا يستطيع يهواه كمن يستطيع.

وانما (أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) دون «افئدة الناس» ليحور على محوره كل الناس؟ لان من الناس نسناس ، ففي هوي افئدتهم اليه هويه عن موقفه ، وزوال لأمنه ، واطاحة بكرامته ، و «الناس» هنا هم المسلمون المستطيعون فرضا ونفلا : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ). «اما انه لم يعن الناس كلهم ، أنتم أولئك ونظراءكم» (١).

(وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) ومن أهمها «ثمرات القلوب» (٢) ثم وسائر الثمرات «حيث تحمل إليهم من الآفاق وقد استجاب الله له حتى لا يوجد في بلاد الشرق والغرب ثمرة لا توجد فيها حتى حكي انه يوجد فيها في يوم واحد فواكه ربيعية وصيفية وخريفية وشتائية» (٣).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٥٥١ في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) (أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) اما انه .. وانما مثلكم في الناس مثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود ..

(٢) المصدر في عوالي اللئالي قال الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية هو ثمرات القلوب.

(٣) المصدر عن العوالي وقال الباقر (عليه السلام) ان الثمرات .. أقول : علّ حتى حكى ـ

٨٩

(لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) نعمة الأمن وهويّ الافئدة ورزق الثمرات ، «يشكرون» في ذلك البلد الآمن وسواه ، وقد نرى في ذلك التعبير العبير رفرفة ورقة تصوّر القلوب رفافة مجنحة ، وهي تهوي الى البلد الآمن واهله حيث تهواه ، في ذلك الوادي الجدب اليابس ، حيث يندّى برقة القلوب ورفرفتها.

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ)(٣٨).

هنا «ما نخفي» يعني عن أمثالنا ، (وَما نُعْلِنُ) لأمثالنا ، فكل ذلك لك علن ، وبصيغة سائغة عامة (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ) دون «شيء» إذ قد يعلم شيء ويخفى منه شيء ، ف «من شيء» يستأصل في هذا السلب «ما يخفى» كل شيء بكل شيئه وكافة جوانبه ونواهيه في اي زمان او مكان وأيا كان (وَما يَخْفى ... فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ولأن الأرض والسماء هما عبارة اخرى عن الكون كله ، فذلك حيطة مستغرقة للكون كله.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ)(٣٩).

(إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) في البداية كانت في طفولة إسماعيل (عليه السلام) و (الْحَمْدُ لِلَّهِ ..) هي في رجولته وقد رزق بعده إسحاق ، فبين الدعائين بون بين الطفولة والرجولة ، وكما بين (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) و (إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ..) وكذلك البون ـ علّه ـ بين (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) انه حين اسكن من ذريته فيه ،

__________________

ـ الى ـ شتائية ، من كلام الراوي فان الامام لا يحتاج في أمثال هذه الأمور البسيطة الى النقل وهو يشهد الحرمين سنويا اكثر من غيره.

٩٠

وبين (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً).

هنا (لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) تلمح انه سأله تعالى ان يهب له ذرية فوهبه ، وهبة الذرية على الكبر وتقضّي العمر وقضاء الأمر انه أوقع في النفس ، فانها امتداد ، وما اجل الإنعام بها عند شعور الإنسان بقرب الأجل ، ولكن إذا كانت ذرية طيبة ، ولذلك يشفّع دعاءه بإصلاح ذريته بعد إصلاحه نفسه.

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ)(٤٠).

أو لم يكن شيخ الأنبياء وامام المرسلين مقيم الصلاة ، حتى يتطلب في منحدر عمره ونهاية امره (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ)؟ اجل ، ولكنه يتقاضى اقام الصلاة في قمة الإسلام والتسليم وكما في شطر آخر من دعاءه : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ..) (٢ : ١٢٨).

دعاء بارع ، ضارع خاشع ، يضم فيه الى نفسه «من ذريتي» إذ يرى ان كل ذريته لا يستأهلونه ، وما ألطفه إقام الصلاة وأعطفه ، حيث تضم في جنباته كل مدارج التسليم لرب العالمين ، ولان البيت محطّ إقام الصلاة ، فيه ومن كل فج عميق ، حيث يقيمون وجوههم شطر المسجد الحرام ، وفي إقام الصلاة إقام لكافة الصلات بين العبد وربه وسائر العباد.

(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (٤١).

أترى «لوالدي» محرف عن «لولدي إسماعيل وإسحاق» (١)؟ ام هما

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٥٥٢ عن المجمع وقرأ الحسين بن علي وابو جعفر محمد بن علي «ولولدي». وعن العياشي عن أحدهما مثله باضافة يعني إسماعيل وإسحاق وفيه عن جابر قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن ـ

٩١

«آدم وحوا» (١) فإن أباه آذر كان مشركا ومات مشركا فهو من اصحاب الجحيم ، و (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ، وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ..) (٩ : ١١٤) أفبعد ما تبرء منه وبعد كبره وتكامله في محتد النبوة يكذب ربه في (تَبَرَّأَ مِنْهُ) فيدعو له في ختام دعواته؟.

ولكن «والدي» ليست لتخص آدم وحوا وله آباء وأمهات منذ والديه إليهما هم كلهم مؤمنون! ومنهم من هم أفضل منهما كنوح (عليه السلام).

و «ولدي» تخريج فيه تهريج وتحريج لموقف القرآن ذودا عن موقف ابراهيم دون تأمل في مغزى الآية!

وتهريج موقف القرآن اهرج واحرج من تهريج ابراهيم القرآن!

ثم الوالد أخص من الأب ، فانه يعمه والجد للأم ، والعم ، والوالد يخص من ولّدك ، فقد كان ـ إذا ـ والده غير أبيه ، صيانة للعصمة الابراهيمية وأحرى منها العصمة الإلهية عن صراح الكذب : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ

__________________

ـ قول الله (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) قال : هذه كلمة صحفها الكتاب ، انما كان استغفاره لأبيه عن موعدة وعدها إياه وانما كان (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) يعني إسماعيل واسحق ، والحسن والحسين والله ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). أقول وهذه فرية جاهلة قاحلة على الإمامين (عليهما السلام) وليست الا من خلفيات جهالات من رواتها ، إذ لم يعرفوا المعني من «والدي» ولم يمعنوا النظر في هذه الآيات.

(١) المصدر عن العياشي عمن ذكره عن أحدهما (عليهما السلام) انه قرأ (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) قال : آدم وحوا ، أقول والتعارض بين الروايتين في لفظ الآية دليل قصور الفهم عن معناها.

٩٢

عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) فلم يستغفر له بعد ، أفبعد ذلك بردح كبير من الزمن يستغفر له؟.

ولماذا يطلب الغفر ـ فقط ـ يوم يقوم الحساب ، وموقفه الأحرى قبل يوم الحساب ، يوم الدنيا ام في البرزخ؟ علّه لأنه أحرج المواقف وأحوجها الى الغفر ، ثم وقد يغفر يوم الدنيا ثم يرجع المغفور له مذنبا ، ام يغفر في البرزخ مؤقتا ، لأنه ليس موقف العذاب الفصل ، ثم يعذب يوم الحساب ام يغفر له ، إذا فهامة الغفر وعامته هي (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ).

ام ان (يَوْمِ الْحِسابِ) يشمل يومي البرزخ والمعاد مهما اختلف حساب عن حساب.

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ

٩٣

الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٥٢)

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ)(٤٣).

قد يحسب الجاهل بالله وبيوم الله أن الله غافل عما يعمل الظالمون حيث لا يجازيهم يوم الدنيا ، وليس الخطاب هنا لخصوص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بل لعامة المكلفين على الأبدال ، من بالإمكان ان يتطرق الى خلده ذلك الحسبان ، فهو بالنسبة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن حذى حذوه تأكيد على سلبية الحسبان الكائنة فيهم ، ولان

٩٤

الغفلة هي التجاهل والتساهي بعد العلم والقدرة ، فسلبها اثبات لهما كما يثبت حضور العلم والقدرة ، فالنص «غافلا» وليس «عاجزا» او «جاهلا» ام «ظالما» على علم وقدرة ، وانما «غافلا» كأقل ما قد يحسبه الجاهلون بجنب الله ، انه على علمه وقدرته وعدله ورحمته ، كأنه غافل عما يعمل الظالمون! وذلك عجز في القدرة ، ونقص في الحيطة العلمية.

وترك مجازات الظالمين هنا ـ على قدرته تعالى وعلمه وعدله ورحمته وعدم غفلته ـ هو من الادلة القاطعة على ان هناك بعد الدنيا يوما للجزاء (تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) و «لا تحسبن» في مواصفات حاذرة لذلك اليوم ، هي تعزية للمظلوم ووعيد للظالم.

وشخوص الأبصار هو سكونها من شديد الهول ، محدقة اليه دون حراك ، وناظرة نظر المغشي عليه من الموت ، تراه ميتا وما هو بميت ، وهذه حالة الظالمين يوم الحساب.

«مهطعين» : مصوّبين أعناقهم ورافعين (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) ورافعيها (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) لهول الموقف ، فهم في ثالوث الشخوص ، أبصارهم بطرفها والرءوس (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) هاوية خاوية كأن لا افئدة لهم إلّا هباء.

فالأفئدة الهواء هي الخالية من عزائم الصبر والجلد ، لعظيم الإشفاق والوجل ، فقد يسمى الجبان يراعة جوفاء ، كأن ليس بين جوانحه فؤاد ، حيث القلب هو محل الشجاعة ، وإذ لا شجاعة فلا قلب ولماذا هنا «الأفئدة» دون «القلوب»؟ لأن الفؤاد هو القلب المتفئد إما بنور الهدى المعرفة حيث تنير الدرب على الضالة كفؤاد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (٥٣ : ١١) أم بنار الردى والجهالة حيث تحرق من تمسه : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ. الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (١٠٤ : ٧).

٩٥

فأفئدتهم هذه ، المتسعرة بسعير المظلمات ، سوف تخمد حين يرون العذاب ، وتهوى هباء كأنها تخرج منهم فهم ميتون.

فالسرعة المهرولة المدفوعة ، في الهيئة الشاخصة المشدودة ، مع القلب الفارغ الهواء ، الخواء الهارع ، الفارغ من كل وعي وتصميم ، وكل ذلك تشي بالهول الذي تشخص فيه الأبصار ، وهذه مسيرة ومصيرة الظالمين ، انتصارا للمظلومين ، إلّا من ساعدوهم في ظلمهم ، وساندوهم في تطاولهم على سائر المستضعفين ، فإنهم ـ ايضا ـ في عداد الظالمين مهما كانوا في عديد المظلومين ولا يظلمون فتيلا.

وهنا «الظالمون» فقط دون «الكافرون» لان الظلم هو انحس كفر وأتعسه.

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ)(٤٤).

(يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) كبداية هو يوم عذاب الاستئصال ، ام الموت البادئ فيه العذاب (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٢٣ : ١٠٠).

ام كعذاب بعد البرزخ وهم صالوا النار : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٥ : ٣٧).

ولكن «أخرنا» قد تلمح الى بادرة العذاب يوم الموت ، او العذاب الذي يستأصل الظالمين ، فهو ـ إذا ـ الزاوية الاولى من ثالوث العذاب ،

٩٦

الذي يهدد الظالمين قبل يوم الموت ويوم الدين (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) ولمّا يغشاهم العذاب ويهلكهم ـ (رَبَّنا أَخِّرْنا) في عذابنا المستأصل (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) غير بعيد ، (نُجِبْ دَعْوَتَكَ) الصارخة في فطرنا وعقولنا ، ثم على ضوءها (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) فإذا هم بالجواب الحاسم القاصم : (أَوَلَمْ تَكُونُوا ...) وقد يشبهه (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٦٣ : ١٠) مهما اختلف الموقفان في الإفراد هنا والجمع هناك وفي غير ذلك مما هناك.

وقد تعني (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) كل هذه الأيام ، يوم الرجعة ويوم الموت بعذاب استئصال وسواه ، ويوم القيامة ، حيث تتحملها الآية ، مهما اختلفت في الأصالة المعنية وسواها.

والواو هنا يعطف الى محذوف معروف كالذي في الفاطر (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ..) : فهنا (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ .. أَوَلَمْ تَكُونُوا)» كما هناك «(أَوَلَمْ تَكُونُوا .. أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ)» ، والذي في «المؤمنون» : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ..) فهنا وهناك (إِنَّها كَلِمَةٌ .. أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ .. أَوَلَمْ تَكُونُوا) ..» ، والذي في السجدة جوابا عن (.. رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ .. فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ..)(١٤).

وهنا (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) كأنحس وأتعس ما كانوا يتقولون : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) (١٦ : ٣٨) أقسمتم ما لكم من زوال من هذه الحياة الى حياة اخرى ، وانما هو موت الفوت.

او (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) في القوة والمال والحال على أية حال ، فليس العذاب المهدد به بالذي يزيلنا : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) فقد جاءكم ما

٩٧

أقسمتم من عذاب الاستئصال.

وقد تلمح «الناس» باطلاقه ، ك (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) في تحتّم ذلك المستقبل ، انه العذاب الآتي للكلّ ، الجامع المكافح لكافة القوات البشرية ، فعلّه يوم قيام القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فانه عذاب على الظالمين ، ورحمة للصالحين.

ف «الناس» هم كل الأمم الرسالية ، وكما تلمح له (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) ، وذلك العذاب هو الأدنى حيث يأتيهم يوم الدنيا : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣٣ : ٣١) وطبعا لمن له ان يرجع.

فلان الايمان عند رؤية البأس ليس هو حق الايمان ، لا يقبل من هؤلاء الظالمين قولهم (رَبَّنا أَخِّرْنا ..) بل ليس هنا إلا رد بتنديد (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) وانتقال الى حياة اخرى ، ام زوال عن قوة الحياة وشوكتها ، فكيف ترونكم اليوم؟ زلتم أمّا زلتم ، ولقد تقولتم قولتكم هذه وآثار الغابرين شاخصة ماثلة أمامكم :

(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ)(٤٥).

طغاة هم ـ بطبيعة الحال ـ يسكنون مساكن الذين ظلموا أنفسهم حيث يتوارثون سكنات الطغيان وثكناته ، فليس مجرد السكون في مساكن الظالمين ظلما ، فقد يكون عدلا كما الدولة الاسلامية تسترد مساكن الظالمين الى أصحابها المظلومين ، ام تسكنها الشعب المستضعفين لأنها مجهولة المالكين.

(وَسَكَنْتُمْ .. وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) حيث خرّت عليهم السقف

٩٨

من فوقهم ودمّروا عن بكرتهم ، (تَبَيَّنَ لَكُمْ) إذ أشهدناكم مساكنهم بساكنيها ، (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) لهؤلاء من الغابرين (١).

ويا لهذه الأمثال المتجددة عبر الأجيال والقرون من عبر حيث تتجدد في طول الحياة ، فكم من طغاة سكنوا مساكن آخرين ، بعد ما هلكوا ، وأحيانا على أيديهم أنفسهم ، ثم هم أولاء يتجبرون ويطغون ولا يبالون او يتذكرون ، سائرين سيرة الهالكين ، دون ان تهز آثار الغابرين ضمائرهم ، وتوقظ أعينهم وتصوّر لهم مصائرهم في مسايرهم :

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ)(٤٦).

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) الكافر الغادر المائر كما اسطاعوا ، مكرا على الله ورسالاته ورسله وتشريعاته ، لكن (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) فالله لا يمكر مهما مكروه ، حيث المكر كله «عند الله» و (ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٦ : ١٢٣) فحتى (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (٣٥ : ٤٣) (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) (١٣ : ٤٢).

فليمكروا ما تزول منه الجبال ام اكبر منه وأنكى ، ف (عِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً).

أترى (عِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) و (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) تعنيان فاعلية المكر كله ، انها لله وعند الله؟ نقول (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) إذ لا يستطيع الماكرون ان يمكروا إلا باذنه تكوينا مختارا دون تشريع ، ألّا يمنعهم من مكرهم ، ويأذن لمكرهم بعد ما اختاروه بمقدماته الاختيارية ، ثم (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) عندية الحيطة العلمية وفي القدرة ، فلا يغلب او يمكر بمكرهم عجزا عن

__________________

(١) الواو هنا حالية تعني «أَوَلَمْ تَكُونُوا ..» حال انكم سكنتم وتبين لكم.

٩٩

مكافحة ، وانما امتحان الامتهان تخييرا دون تسيير.

ثم «مكرهم» تعم اضافة المصدر الى فاعله : ما يمكرون ـ او مفعوله : ما يمكر الله بهم جزاء مكرهم : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) فمكرهم فاعليا ومفعوليا هو عند الله في حيطة علمية وفي القدرة والحكمة غير المحدودة المحلقة على كل شيء بكل شيء ، واللام في «لتزول» للغاية وهي المعنية هنا من مكرهم كأكثر ما قد يتصور من فاعلية المكر ، ولا سيما في مكر الإشراك بالله مصورين له كأنه الحق من ربهم (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) (١٩ : ٩١) هنا فاعلية إلهية من عظم هذه الدعوة الفاتكة ، وهناك لمكرهم فاعليته إلهية وسواها وكلها عند الله وبإذن الله.

وترى من هم أولاء الذين مكروا مكرهم وان كان مكرهم ..؟ انهم كل حماقى الطغيان طول التاريخ الرسالي ، من كل هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم واخلافهم الذين سكنوا في مساكنهم ، قبل الرسول وزمنه ثم من بعده الى يوم الذين ، فالمكر هو المكر والله هو الله (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) فمهما كان المكر له فاعليته الخارقة للعادة ، المزمجرة المدمرة ، فهو عند الله» دون ان يغلب عليه فيمكره ، حيث الممكور انما يمكر لضعف في العلم والقدرة والخبرة ، والله خبير بما يصنعون ، وقدير على ما يفعلون ، وما الله بغافل عما يعملون.

وقد تشير «لتزول» الى محاولات ماكرة تؤثر هكذا تأثيرات هائلة كما السحر وأضرابه ، ولكنها ليست إلّا بعلم الله ونفاذ قدرته (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٧ : ٩٧).

ولان الجبال هي أصلب شيء وأثقله وأبعد شيء عن تصور الحراك والزوال في متناول العرف العام ، لذلك يمثل هنا بالجبال ، مثالا لأقوى قوة

١٠٠