الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

او لأن «المتقين» هنا وجاه «الغاوين» : الكافرين ، فهم إذا الموحدون ، الذين اتقوا الإلحاد في الله والشرك بالله فماتوا موحدين فان مصيرهم الى الجنة مهما كان لهم قصور او تقصير ، ولكنه لا يشمل الموحدين المحكوم عليهم بالنار كما في آيات عدة ، فقد تعني «المتقين» تقوى العقيدة والعمل ، من استقرت فيهم ملكة التقوى ، أن ملكتهم التقوى دون الطغوى ، ثم العوان بين «الغاوين» و «المتقين» منهم مستضعفون مرجون لأمر الله ، ومنهم من يعذّبون في النار ثم يخرجون عنها قريبا ام بعيدا ، ومنهم الأطفال والمجانين ، لا طاغين ولا متقين ، فإنهم ايضا من اهل الجنة ، إذا فالمتقين تخص من عاش حياة التقوى مهما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، ما دام الأصل فيها خلاف الطغوى.

ألا وإن التقوى مطايا ذلل حمل عليها ، واعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة ، وفتحت لهم أبوابها ، ووجدوا ريحها وطيبها وقيل لهم (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ)(١).

والباء في «بسلام» تعم السببية والمعية : ادخلوها مصاحبين سلام ، بسبب سلام قدمتموه لأنفسكم ، سلام تحية وإكرام ، لفظيا وواقعيا «آمنين» من كل اضطراب من غل في صدور او نصب ام خروج.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ)(٤٨).

وهنا نتأكد ان «المتقين» يخص غير المخلصين إذ ليس في صدورهم غل ، فهم المرسل إليهم المؤمنون العاملون الصالحات على درجاتهم بدرجاتها :

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٩ في روضة الكافي خطبة لأمير المؤمنين وفيها : ...

٢٠١

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٧ : ٤٣).

والغلّ هو العداء والضغن ، ولا يخلوا عن لمم منه مؤمن إلّا مخلص : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٥٩ : ١٠).

فالعداء والضغن إذا كانا للذين آمنوا بايمانهم فهما عداء للايمان ، ولكنهما هنا غبطة ام تحسّد على من سبق في ايمان وهي رذيلة باطنية قد تجمع مع الايمان ، ثم في الجنة وفيها تظهر معالي السابقين ، وهي بطبيعة الحال مسرح الاغتباط ، فمن فضل الله على اهل الجنة نزع ما في صدورهم من غل أيا كان سببه ، قبل الجنة وفيها ، وبذلك يصبحون (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ).

اجل ليس بين المتقين عداء وضغن إلّا لمم من الغبطة المنزوعة عنهم هناك ف (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٤٣ : ٦٧).

فهناك تزول كافة الخلافات بين كتلة الايمان ، حيث تظهر الحقائق والاستحقاقات عن بكرتها ، فلما ذا إذا التحسّد والاختلاف.

ففي قبال الحقد المكين اللعين الذي يغلى به صدر إبليس والغاوين ، ينزع عنهم كل حقد فانه نصب ف (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) أيا كان وأيان (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) طبعا ولا خارجين فان الجنة عطاء غير مجذوذ ، مهما كانت النار ـ قضية العدل ـ بلاء هو مجذوذ.

وقد يلمح المضي في «نزعنا» ان الله ينزع عنهم كل غل قبل الخطاب :

٢٠٢

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) والغل خلاف الأمن والسلام.

وكما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا ويدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غل (١) (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) المتحابين في الله في الجنة ينظر بعضهم الى بعض (٢).

فهم ـ إذا ـ في زوايا ثلاث من مثلث الرحمة الإلهية في الجنة ، دخول فيها بسلام وأمن بما اتقوا من جانب الرب ، ومن أنفسهم ، ومن العوامل الخارجية ، خلاف الغاوين العائشين كل سأم من كل الجوانب.

والأخوة الايمانية بطبيعة الحال درجات في كافة النشآت فمثل علي (عليه السلام) ليس إلّا أخا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكما آخى بينه وبين نفسه يوم الدنيا ، فقد آخى بين عمر وأبي بكر ، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف في المرة الأولى ، ثم في الثانية بين أبي بكر وخارجة بن زيد ، وبين عمر وعتبان بن مالك.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٠١ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بلغني ان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال : .. وأخرجه مثله ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن قتادة في الآية قال حدثنا ابو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا اذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفسي بيده لأحدهم اهدى لمنزله في الجنة من منزله كان في الدنيا.

(٢) المصدر اخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابو القاسم البغوي وابن مردويه وابن عساكر عن زيد بن اوفى قال : خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتلا هذه الآية : ...

٢٠٣

اما علي (عليه السلام) فكان في كلتا المرتين أخا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تفضيلا له على من سواه كما تواتر عن الفريقين (١). وكما كان يقول له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنت اخي في الدنيا والآخرة» (٢) «اما أنت يا علي فأخي وابو ولدي ومني والي» (٣) «مكتوب على باب الجنة : لا اله الا الله محمد رسول الله علي أخو رسول الله .. قبل ان تخلق السماوات والأرض بالفي عام» (٤).

وقد وردت حول تفسير الآية مصداقيا إلّا «من غل» روايات عدة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرر فيها هذه الاخوة السامية بينه وبين علي عليه السلام (٥) مما يجتث جذور المختلقات الزور والغرور.

__________________

(١) حديث المؤاخاة ذكره العلامة الاميني في الغدير ٣ : ١١٣ ـ ١٢٥ عن خمسين مصدرا من طرق إخواننا وممن رواه ابن عباس وابن عمر وزيد بن أرقم وزيد بن أبي اوفى وانس بن مالك وحذيفة بن اليمان ومخدوج بن يزيد وعمر بن الخطاب والبراء بن عازب وعلي بن أبي طالب ونفر آخرون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ ـ ١٤ عن ابن عمر من طريقين صحيحين واخرج الذهبي في تلخيصه مسلما لصحته والترمذي فيما نقله عنه ابن حجر في ٧٣ من صواعقه ، وأرسله كل من تعرض لحديث المؤاخاة من اهل السير والاخبار إرسال المسلمات.

(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ ـ ٢١٧ بسند صحيح على شرط مسلم واعترف الذهبي بذلك في تلخيصه.

(٤) مناقب احمد ـ تاريخ الخطيب ٧ : ٣٨٧ ـ الرياض النضرة ٢ : ١٦٨ ـ تذكرة السبط ١٤ مجمع الزوائد ٩ : ١١١ ـ مناقب الخوارزمي ٨٧ ـ شمس الاخبار ٣٥ عن مناقب الفقيه ابن المغازلي ـ كنز العمال ٦ : ٣٩٩ عن ابن عساكر. فيض الغدير ٤ : ٣٥٥ ـ كفاية الشنقيطي ٣٤ ـ مصباح الظلام ٣ : ٥٦ نقلا عن الطبراني (الغدير ٣ : ١١٧).

(٥) البرهان ٢ : ٣٤٨ من طريق المخالفين ما نقله ابو نعيم الحافظ عن رجاله عن أبي هريرة قال قال علي بن أبي طالب يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انا أحب إليك ام فاطمة ، قال : فاطمة أحب الي منك وأنت أعز علي منها وكأني بك وأنت على حوضي ـ

٢٠٤

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ

__________________

ـ تذود عنه الناس وان عليه أباريق عدد نجوم السماء وأنت والحسن والحسين وحمزة وجعفر في الجنة (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) وأنت معي وشيعتك ثم قرء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) لا ينظر أحدكم في قفاء أخيه.

وفيه عن احمد بن حنبل في مسنده يرفعه الى زيد بن اوفى قال دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسجده فذكرت قصة مؤاخاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أصحابه فقال علي له يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقد ذهبت روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت باصحابك ما فعلت بغيري فان كان هذا من سخط فلك العتبى والكرامة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : والذي بعثني بالحق نبيا ما أخرتك الا لنفسي فأنت مني بمنزلة هرون من موسى الا انه لا نبي بعدي وأنت اخي ووارثي ، قال : وما أورث منك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ما أورثت الأنبياء قبلي ، قال ما أورثت الأنبياء قبلك ، قال : كتاب الله وسنة نبيهم وأنت معي في قصري في الجنة مع ابنتي فاطمة وأنت اخي ورفيقي ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) المتحابون في الله ينظر بعضهم الى بعض.

أقول : في تركه (صلى الله عليه وآله وسلم) صدر الآية (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) دليل انها لا تصدق في مثل الرسول وعلي (عليه السلام).

٢٠٥

الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي

٢٠٦

إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٨٤)

تذييل لما سبق وتقدمة لما يلحق بالنسبة للصالحين والطالحين ، يتضمن نماذج من رحمة الله وعذابه ، ممثّلة في بشرى ابراهيم بغلام عليم ، وإنذار قوم لوط واصحاب الأيكة والحجر وما حلّ بهم من عذاب اليم :

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ)(٥٠).

هنا نبأ الرحمة يتقدم نبأ العذاب جريا على أصله الموعود : (كَتَبَ عَلى

٢٠٧

نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) فهي تشمل المتقين ، بطبيعة الحال ، والطاغين إذا اقتضت الحال ان يثوبوا الى ربهم قبل فوات المجال ، فما دام يصح الغفران عدلا او فضلا لم يكن للعذاب مجال ، إلّا إذا كان الغفران ظلما بالمتقين ، وعبثا للطاغين ، وتسوية بين المحسنين والمسيئين.

والنبأ هو خبر ذو فائدة عظيمة وعائدة جسيمة ، فنبأ الرحمة فائدة لمن يستحقون الرحمة ، ونبأ العذاب تحذير لهم عن التورّط في استحقاق العذاب ، وحجة على الغاوين غير الآوين الى ربهم.

وقد ينبئ «عبادي» ان محور الرحمة والغفران هو ربقة العبودية ابتداء من العقيدة وانتهاء الى العمل ، فما لم يتحول عبد الشيطان الى عبد للرحمن لم يستحق تلك الكرامة الغالية.

ونبأ الرحمة والغفران اضافة الى تقدمه ذكرا متأكد في البيان بمثلث التأكيد (أَنِّي ـ أَنَا ـ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) حيث اللام الداخلة على الوصفين لها دلالتها على تأكيد.

ثم نبأ العذاب الأليم اضافة الى تأخره ذكرا لم يصرّح فيه بالنبإ إلّا عطفا على نبإ الرحمة ، ولا فيه ما في الرحمة إذ لم يقل : «اني انا المعذب ..» تدليلا على اصالة الرحمة ما أمكنت ، وهامشية العذاب إذا وجب عدلا من أحكم الحاكمين.

فهي ـ إذا ـ أرجى آية في الذكر الحكيم بعد آية الزمر : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (٥٤).

آيتنا تلك تجعلنا بين الخوف والرجاء دون فوضى جزاف لا في الرحمة ولا

٢٠٨

في العذاب ، وقد يعنيه المروي عن رسول الهدى «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام ولو يعلم قدر عذابه لجمع نفسه» (١). فليعلم العبد القدرين جميعا حتى يجمع نفسه متورعا من الحرام ، غير قانط من رحمة الله ، لا مستهتر لا يرعوي ، ولا آيس غوي.

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ)(٥٢).

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (٥١ : ٢٨) (٢).

«ونبئهم» نبأ الرحمة الخارقة للعادة ، البارعة لنبي الرحمة (عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) الخليل ، انباء مختصرا غير محتصر ، فالذاريات بما معها من آيات تفصله تفصيلا (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) فجأة دونما استئناس ولا تعريف بأنفسهم أمّا يقصدون ، وإلا فكيف (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ)؟ فانما (قالُوا سَلاماً) وهو عليه السلام رد عليهم السلام (قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) لا نعرفهم!.

وهنا نتأدب بالأدب الرسالي ، وهو واجب تكريم الضيف وتقديم

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٠٢ ـ اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية. قال : بلغنا ان نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ... وفيه «اطلع علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الباب الذي يدخل منه بنوا شيبة فقال ألا أراكم تضحكون ثم أدبر حتى كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال : اني لما خرجت جاء جبرئيل فقال ، يا محمد ان الله يقول لم تقنط عبادي : نبئ عبادي ..

(٢) راجع الفرقان ٣٦ : ٣٢٤ ـ ٣٣١ ـ تجد فيه تفصيل القصة.

٢٠٩

الإضافة الميسورة له مهما كان منكرا لا نعرفه ولم يستأنس معنا من ذي قبل.

و «سلاما» بعد «قالوا» ليس فقط صيغة السلام ، وإلّا كان «سلام» كما في جوابهم ، فقد يكون : كلاما سلاما ، او قولا سلاما ام اي سلام يحق على الوارد ان يقوله ومنه تحية السلام ، وحتما كانت في قولهم سلاما ، وإلّا لما كان له الجواب «سلام» و «عليكم» المحذوفة ، وهنا نتأدب بأدب الدخول للضيف المكرمين مهما كانوا منكرين ، ومنه واجب السلام قولا وفعلا (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) (٢٤ : ٦١).

ثم (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) لم يكن إلّا بعد (سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) وبعد ما قدم لهم ما قدم (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) (١١ : ٧٠) وليكن إيجاس الخيفة والوجل مسنودا الى سبب ظاهر ، دون انهم ـ فقط ـ قوم منكرون! فلا تحل اية تهمة على من لا تعرفه بسند انك أنت لا تعرفه ، وحتى إذا صدر منه ما يخيف فلا توجس منه خيفتك ، بل أظهر هاله مصارحا كما صرح ابراهيم : (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) مصارحة بالحق ما أحلاها ، دون مسايرة محايرة بايجاس الخيفة ، وقد تخلّف تبعات سيئة شئت ام أبيت.

(قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)(٥٣).

ونفس البشارة بهذه الخارقة الغريبة لمحة صارخة مصارحة انهم لم يكونوا بشرا ، بل هم ملائكة يحملون وحي الله اليه في هذه البشرى السارة (بِغُلامٍ عَلِيمٍ) ومن قبل في إسماعيل (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) (٣٧ : ١٠٧) وطبعا لا حلم صالحا دون علم.

وفي الصافات (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)(١١٢) ف «عليم» هنا تعني علم الوحي النبوة؟ (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها

٢١٠

بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) (١١ : ٧١)(١).

(قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ)(٥٤).

مس الكبر ضعفا في القوة جنسية وسواها من ناحية ، وامرأته سارة (عَجُوزٌ عَقِيمٌ) (٥١ : ٢٩) من اخرى ، عقم مثلث الزوايا بين الزوجين! هذا الذي يحيره في هذه البشارة (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) استبعادا لها عن صدقها ، فعلهم ـ إذا ـ ليسوا ليحملوا وحي الله في هذه البشرى ، وكما هم في ظاهر حالهم ليسوا بملائكة! فقد لا تكون بشارة بالحق ، فلم يكن ـ إذا ـ استغرابا من قدرة الله ، ولا قنوطا من رحمة الله ، فلما :

(قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ)(٥٥).

صدّقهم حينذاك ، ونفي عن نفسه القنوط ناسبا له الى الضالين ، وهو من اهدى المهتدين.

(قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)(٥٦).

استفهام انكاري كتعريض بالملائكة ، أتنسبوني الى القنوط من رحمة ربي وليس إلّا للضالين؟ فما كان استعجابي لبشراكم استبعادا رحمة ربي ، وقنوطا منها ، وانما ترددا هل إنها من ربي؟ وكيف اطمئن الى حالهم الملائكية من قالهم ، طبعا هو بوحي من الله ، فما كان يعرفهم وهم في صورة البشر إلّا بوحي وقد انكرهم في البداية ، ثم اطمئن الى بشراهم بما عرفه الله إياهم.

فالضالون عن الله هم الذين لا يستروحون روحه ورحمته ، ولا يستشعرون رأفته ورعايته ، فاما القلب الندي بالايمان ، الموصول بالرحمن ،

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٠ وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل : والغلام العليم هو إسماعيل من هاجر .. أقول وهذا خلاف نص الآيات في بشارة ابراهيم ولا سيما الاخيرة.

٢١١

فلا ييأس من رحمة ربه مهما كانت غريبة خارقة ، ومهما كان هو في شدة مدلهمّة يغيب

معها الأمل في ظلام الحاضر ، ف (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) مهما كانت بعيدة عن المسيئين.

فالقنوط من رحمة الرب خروج عن الحالة الوسطى الايمانية : بين الخوف والرجاء ، وتهمة على الرب وسوء ظن به (١) انه عاجز ام ضنين ام غير رحيم ، فمهما كانت الرحمة غالية ، والعبد غير لائق لها ، ولكن الرب اهل للرحمة إذا كان العبد أهلا للرحمة ، ف «الفاجر الراجي لرحمة الله أقرب منها من العابد القنط» (٢) حيث الفاجر الراجي قد ينجو برجائه فيصلح ، والعابد القنط لا ينجو مهما عبد فيفسد ، فالقانط من رحمة ربه ضال عن ربه معرفة وعملا ، إذ لم يعرفه بالقدرة والرحمة الواسعة ، فلا يعمل عمل الراجي ، إذا أذنب لا يرجو غفرانه ، وإذا أطاع لا يرجو مزيده!

وهكذا انسان ضال عقائديا وعمليا ، واين ابراهيم شيخ المرسلين من هؤلاء الضالين؟.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ)(٥٧).

الخطب هو الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب والحوار ، وكيف عرف ان لهم خطبا غير ما بشروا؟ علّهم قدّموا أمورا بعدها تدل على أمر عظيم غيرها ، فلذلك يسألهم استفهاما واستعلاما بعد ما تأكد انهم مرسلون ، وهم بدأوا ببشارة الغلام العليم ، ليتهيأ الجو لبيان الخطب العظيم ، حتى

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٢ عن التوحيد للصدوق باسناده الى معاذ بن جبل حديث طويل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه : قال الله يا بن آدم باحساني إليك قويت على طاعتي وبسوء ظنك بي قنطت من رحمتي.

(٢) الدر المنثور ٤ : ١٠٢ ـ اخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن مسعود قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

٢١٢

تخف دهشته ، ثم وهذه البشارة يكفي لها منهم واحد ، فلما ذا ذلك الجمع إلّا لخطب غيرها ، مهما كانت هي منها.

(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ)(٦٠).

صحيح ان رسالة العذاب كانت على قوم لوط المجرمين ، ولكن ابراهيم إمام عليه وعلى قومه ، فحفاظا على كرامة القيادة العليا الرسالية ، لا بد وان يخبر أولا ماذا يقصد لقيادة جزئية وهنا بين المستثنى منه والمستثنى مقالة لإبراهيم إذ استوحش من عموم العذاب : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ. قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٢٩ : ٣٢). (قالُوا إِنَّا .. لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) (٥١ : ٣٤) أترى ابراهيم لم يحر كلاما مع ربه بعد ما سمع ذلك الخطب الجلل؟ اجل (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ. يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (١١ : ٧٦).

(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا) كأصل في هذه الرسالة مهما حملت لك بشارة (إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أجرموا وقطعوا ثمار الحياة الانسانية ، حيث قطعوا أنسالهم بما تعودوا من إتيان الرجال (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) وتقطعون السبيل» وهذا من أنحس الإجرام.

«أرسلنا» ، (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ ..) ، (إِلَّا آلَ لُوطٍ) وهم لوط وأهله الآهلون للنجاة من أقارب أم اغارب ، وهم كل من آمن به (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) لا لقرابة ونسبة فلذلك (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ)

٢١٣

الماضين في المستثنى منهم في (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ).

والغابر ـ لغويا ـ هو الماكث بعد مضي من هو معه ، وهو هنا يعم مكوث العمر انها كانت (عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) (٣٧ : ١٣٥) ومكوث أمر الكفر حيث ظلت كافرة وقد مضى من معها من اهله عن الكفر وآمنوا به كلهم أجمعون ، وكذلك غابر كلمة العذاب التي حقت على الكافرين.

و «قدرنا» هنا يعم تقدير عمرها ، وتقدير كفرها ، ثم تقدير عذابها ، تقديرا دون تسيير في أوسطها حيث اختارت هي الكفر : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ثم الاخيرة هي من مخلفاته ، وتقدير غابر العمر إملال وامهال لفسح المجال علّها ترجع عن غيها ، ام تطول حجة الله عليها فيطول عذابها جزاء وفاقا.

ذلك عرض العذاب على آل لوط في لقياهم لإبراهيم وقد جادل وسمع الجواب.

ثم من عند القائد الأعظم الى صاحب لواء في رسالته الجزئية ليخبروه بذلك الخطب :

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)(٦٢).

«آل لوط» هنا هم لوط واهله ، وهو شخصيا محط لهذه الرسالة ، لذلك هو الذي (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) وهنا نصدق تماما أن «سلام على آل ياسين» يعني ياسين : محمدا وآله المعصومين ، وكذلك سائر الآل إلّا ان تدل قرينة على خروج الأصل لاختصاصه كما نصلي على محمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٢٩ : ٣٣)

٢١٤

وهذه دلالة منفصلة ان «منكرون» فيه ضيق ذرعه ، ولكونهم بصورة غلمان مرد حسان وهو يعرف شأن قومه الشائن بحق الغلمان ، لذلك طمئنوه من أنفسهم و «قالوا» ما قالوه.

وقد يعني (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) فيما يعنيه ، اني لست لأصدقكم فانكم غير معروفين ، لذلك استدركوا و :

(قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٦٤).

وهنا يصدّقون مرة ثانية في خطبهم بنفس النمط الذي صدقهم ابراهيم ، إلّا ان هنا بين النكران والعرفان امرا فادحا إمرا : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ..) فلو كان يعرفهم عند مجيئهم لما استوحش قائلا (فَلا تَفْضَحُونِ) فانما عرفهم بعد ما خرجوا ام عنده ثم العذاب ، فيا له من موقف حرج مرج امام هؤلاء المرسلين قبل ان يعرفهم ، فهو في حيرة بين واجبه لضيفه وضعفه عن حمايتهم في وجه قومه المجرمين ، فجاءه التوكيد بعد توكيد يطمئنه (بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ).

و «بالحق» هنا الوعد الحق على قومه ، ثم امر الإسراء ، وطبعا بعد ان عرفهم :

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)(٦٦).

السري ـ كما فصلناها في الأسرى ـ هو سير الليل ، ثم (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) يؤكد ليله ام ويعني أليل الليل وأظلمه ، «قطع من الليل» من أواخره حيث العيون نائمة ، والأجواء ناعمة ملائمة.

(وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) سرا في مؤخرهم أجمعين ، لكيلا يبقى احد منهم إلا

٢١٥

سائرا ، او يتلكأ تلفّتا الى ارض الوطن لحاجة وسواها ، فتفلتا عن موكب الخلاص ، ام تثاقلا عن السرعة اللازمة ، بل : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) الى الوراء نظرا فضلا عن وقفة ، او رجعة (إِلَّا امْرَأَتَكَ) (١١ : ٨١) حيث المنظر المنتظر عاجل هائل قد يبعث لقطع الحراك ، ام لفتور عن العراك «وامضوا» في ذلك السري ليلا (حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) فان أمامكم هدي رباني ، مهما كان إمامهم لوط أم رسل الوحي.

هذا ولذلك الموكب الناجي بشرى القضاء على المجرمين ، نجاتهم أولاء أجمعين : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ) لوط ، وحيا صارما مقضيا لا قبل له (ذلِكَ الْأَمْرَ) العظيم الإمر وهو : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ) المجرمين (مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (... وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (١١ : ٨١) (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦ : ٤٥).

وقطع دابرهم لا يعني ـ فقط ـ قطع حياتهم عن بكرتهم ، بل وكل ما دبروه وادبروه من حاجيات الحياة ، حيث (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) (١١ : ٨٢) فما أبقى ذلك الأمر لهم كيانا ولا كائنا إلّا دمّر.

نرى السياق يقدم ذلك المساق لعظمه ، بارعا للمؤمنين وقارعا للكافرين ، ولكي لا يفاجأ القارئ بما يفجع من الحالة الهائلة لآل لوط لما جاء اهل المدينة الى ضيفه يهرعون :

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ)(٦٧) :

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ..) (١١ : ٧٨) : يساقون بعنف وتخويف حيث هم سيّقة الشيطان ، وهم «يستبشرون» بما تسامعوا من الضيف الواردين «يستبشرون» بالعثور على

٢١٦

شبّان بمختلف الجمال الرائع فهم إليهم هارعون.

فاجعة فاجئة بشعة منقطعة النظير في تاريخ الحيونات والشهوات الشاذة ، المريضة العريضة ، اهل مدينة يهرعون مستبشرين الى بيت النبوة السامية ليرتكبوا ابشع الجرائم اللّاإنسانية بحق ضيف النبي الكريم ، لا يكاد يتصور لو لا وقوعه!.

فحتى لو كانت هذه العملية طبيعية او شرعية ، يختجل الإنسان ان يأتي بها جهارا ، وهؤلاء النحسون النجسون يتجمهرون للحصول عليها جهارا وهي ابشع الشذوذات الجنسية المتخلفة ، حالة من الارتكاس والحمأة الحيوانية عديمة النظير ، هم يتلمظون عليها ، هارعين مستبشرين إليها!.

وترى (أَهْلُ الْمَدِينَةِ) هم كلهم رجالا ونساء وأطفالا؟ طبعا لا! إلا رجالا يأتون الذكران ، وهم كلهم ام جلهم لحد يعبر عنهم ب (أَهْلُ الْمَدِينَةِ) دون (مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ).

فما هو دور لوط في هذه الجيئة الفجيعة ، وليست له قوة ظاهرة قاهرة مدافعة؟ :

(قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ)(٦٩).

(قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) (١١ : ٧٨).

هنا يستحث لوط حسّهم الإنساني ، ويستثير رواسب المروءة والحياء (إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) فللضيف حق تجب رعايته على أية حال ، وللمضيف حق وجاه ضيفه ألّا يفضح ولا يخزى ، فحتى لو كانت هذه العملية النكراء مباحة ، فالتهجّم على بيتي وحمل ضيفي على ما يكرهون محرمة في شرعة الانسانية ، وكيف يأمرهم بتقوى الله وهم كافرون بالله؟ علّه لجوء

٢١٧

الى اقل قليل من معتقدهم بالله ، انه الله مهما كان له شركاء ، وهذه العملية محرمة في شرعة الله وفي شرعة الناس ، فلا اقل من انكم من الناس ، لكم ما لسائر الناس من عطف انساني وسنة متبعة عند الناس ، ولا اقل انكم تعترفون بالله الذي حرم هذه العملية النكراء (فَلا تَفْضَحُونِ. وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ)!

(قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ)(٧٠).

«قالوا ..» وهم يؤنبون لوطا بدل ان يتأنبوا ، كأنما هو الجاني إذ خالف مناهيهم ومنها «عن العالمين» فالواو هنا تعطف الى محذوف من قبيل المذكور : الم ننهك عن الأمر والنهي فينا ، وعن التطهّر بيننا وعن. (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) الذين نرغب فيهم ضيوفا لك وسواهم ان تمنعنا عنهم ، ونهيناك ان تضيف أحدا من العالمين حتى لا نهرع إليهم عندك ، إذا فأنت السبب في هذه الهجمة الجماهيرية إذ هيأت لها جوها ، فأنت أنت المقصر في هذا البين ونحن الواصلون هنا الى بغيتنا!.

(قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ)(٧١).

«بناتي» طبعا هن من صلبه ، دون تجوّز في التعبير ان يريد بنات المدينة كلهن ، او الخليات من الأزواج ، وتأكيدا للحقيقة قولهم (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ) (١١ : ٧٩) فإنهم لم يكونوا ليؤمنوا ان اهل المدينة ولده تنزيليا كما قيل حتى تكون بناتها بناته حسب هذا القيل ، إذا فهن بناته صلبيا دون ريب.

ثم (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) تعني ان كنتم ولا بد فاعلين فعل الجنس فهؤلاء بناتي وقد خلقهن الله لحظوة الجنس!.

وترى لوط النبي يعرض بناته ليفجر بهن الفجرة؟ عرضا لما هم عنه

٢١٨

معرضون! : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) (١١ : ٧٩)؟.

كلا! انه عرض يلائم عرض النبوة السامية في ذلك المسرح المحرج المهرج ، فحتى لو كان عرضا للسفاح لكان أهون مما هم يريدون من اللواط ولكنه ـ بطبيعة الحال ـ عرض للنكاح : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ..) (١١ : ٧٨) ولا طهارة في السفاح فضلا عن كونه أطهر؟ ، اللهم إلّا ان يعني من «اطهر» هنا ادنى حرمة ودناءة ، والتخفيف عن الحرمة هو من واجبات الداعية ، وهو يعلم انهم لا يأتون إلّا حراما لواطا ام سفاحا لا حلالا ونكاحا.

ثم إنكاح المسلمة للكافر وان كان محرما في شرعة الإسلام ، ولكنه كان محللا قبلها ، بل وفي بداية الإسلام قبل الهجرة وقد زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنته من أبي العاص بن الربيع وهو كافر قبل الهجرة! ، ثم حرم بآية البقرة (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) وقد تلمح له آية الممتحنة (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ)(١٠) بالاولوية القطعية في تزويج المؤمنة بالكافر.

وحتى لو كان محرما في شرعة ابراهيم ـ ولوط من أمته ـ لكان نكاحا محرما تكليفيا لا وضعيا وهو ادنى حرمة من السفاح ، كما السفاح ادنى من اللواط ، وفي دوران الأمر بين محظورين يؤخذ باخفهما ، ولا ريب ان بناته ام سائر البنات المؤمنات هن أخف حرمة على أية حال من اللواط (١) ومما يلمح له عرض البنات للذين يريدون اللواط حلية إتيان النساء من أدبارهن ولا ناسخ لها في القرآن (٢) والسنة ليست لتنسخ القرآن ، ولا فرق بين حكم القرآن صراحا

__________________

(١) تفصيله الى سورة هود فلا نعيد

(٢) راجع آية الحرث في البقرة حيث رجحنا فيها الحرمة.

٢١٩

اسلاميا ، ام نقلا عن شرايع سابقة ، في عدم تقبّل النسخ ، إلّا أن ينسخه القرآن نفسه ، ولا نسخ لجواز إتيان النساء من أعجازهن ، وقد نسخت حلية التناكح بين المؤمنة والكافر ، فآية لوط ـ إذا ـ منسوخة من هذه الجهة ، كما نسخت حلية التناكح بين مؤمن ومشركة ، فآية امرأة نوح وامرأة لوط منسوخة من هذه الجهة.

وعلى اية حال انه هتاف للفطرة الانسانية مهما كانت دخيلة غير سليمة لعلها تستيقظ في هذا العرض لعرض النبوة السامية.

ولكنما القوم المرضى هم غارقون في سعارهم وشعارهم المتهتك اللعين ، ولحد القول :

(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)(٧٢).

فهم لا يفيقون ولا يسمعون هواتف الفطرة ، وعواطف الانسانية ، والشرعة الإلهية ، لا! وحتى الفطرة الحيوانية السليمة ، دائبون في سكرتهم ، غارقون في سعرتهم «يعمهون» تشبيها للمتلدد في غمرات الغي ، بالمتردد في غمرات السكر ، حيث يترددون في غيهم ، ويتسكعون في ضلالهم!.

«لعمرك» هنا قسما بحياة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) يخصه في سائر القرآن دون سائر النبيين (١) فهو فضيلة له خاصة لا يدانيه فيها ولا يساميه احد من العالمين ، ولا نجد قسما إلهيا في القرآن بهذه الدرجة السامية إلّا «وربك» فانها فوقه بغير حساب.

«لعمرك» وأنت في أعلى عليين «انهم» وهم في أسفل سافلين (لَفِي

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٠٢ اخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ما حلف الله بحياة احد الا بحياة محمد قال : لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون وحياتك يا محمد!.

٢٢٠