الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ٦٨ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ٦٩

«واوحى» إلهاما الى الغريزة «ربّك» الذي رباك بأعلى قمم الوحي «الى النحل» وحيا من أدناه تكوينا غريزيا وأدنى منه للأرض : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) بمجرد الرمز لكيانها فأصبحت مسجّلة الأصوات والصور دون غريزة أم فوقها ، وفوقه الوحي إلى الصالحين إلهاما في إنباء دون نبوة ووحي رسالة كما (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (٢٨ : ٧) وفوقه الوحي إلى المعصومين ، وحي رسالة ونبوة كسائر المرسلين ، ام وحي إلهام كسائر المعصومين ، مهما يفوق الإلهام إلى بعضهم كلّ وحي فيما سوى الرسالة المحمدية كما ألهم الى الأئمة الإثني عشر والصديقة الطاهرة. صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

والوحي على أية حال هو إشارة في رمز لا يعرفه غير المرموز اليه أمن هو إليه ، سواء أكان بإشارة كلام ، ام عضو ، كما في وحي خلق الى خلق (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١٩ : ١١) بل و (إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) (٦ : ١٢١) فهو يعم وحي الخير والشر.

ام اشارة تكوينية دون لفظ كما في الوحي للأرض والى النحل فانه رمز خاص في تكوينهما ، ام بلفظ وسواه كما في وحي الإلهام ووحي النبوة ، فكل ذلك من الوحي ، إلا انه اختص من وجهة اخرى برجالات الوحي ، ولكيلا يختلط مع سائر الوحي فيما يطلق اللهم إلا بصارف كما في آيات عدة مضت واضرابها ، فحتى الإلهام الى الأئمة المعصومين الكرام لا يسمى في العرف الديني وحيا ، بل والوحي الى من سوى محمد (ص) كأنه ليس

٤٠١

وحيا بل هو وصية بالنسبة الى وحيه ، (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) (٤٢ : ١٣).

فالوحي في أعم إطلاقاته يعم كل اشارة في رمز خيرا او شرا ، وفي أخصها يخص وحي الرسالة الختمية ، وبينهما عوانات متوسطات.

وقد تكون تسمية النحل نحلا فتسمية هذه السورة باسمها ، لأن النحلة والنحلة عطية على سبيل التبرع ، والنحل بعسلها عطية ربانية في المشروبات والمأكولات قد تربو على كلها غذاء ودواء حيث (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) من كثير من الأدواء ظاهرة وباطنة.

ولأن صدقات النساء لا تقابلها إلا متعة الجنس وحظوة النسل لذلك سميت نحلة (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) (٤ : ٤).

وان كتاب وحي النحل ذو مواد ثلاث : (أَنِ اتَّخِذِي ..) (ثُمَّ كُلِي ...) (فَاسْلُكِي ..) ثم النتيجة المرغوبة (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) وفي نهاية المطاف عبرة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

وعلّ هناك في إحياء الأرض (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) وفي (ثَمَراتِ النَّخِيلِ) ـ (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وهنا (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) حيث العبرة بالحياة والموت المتواترين يكفيها السمع ، حتى لمن ليست لهم تلك العقول الناضجة ، وانما ساذجة رائجة ، ثم النظر في الثمرات عبرة الى فاعل واحد مختار يفعل تلك الأفاعيل ، هو بحاجة إلى تعقل ، واما امر النحل في حياتها العجيبة فلا ينكشف الا بتدبر عقلي وعلمي وكما ألف العلماء حول حياة النحل كتابات عدة.

٤٠٢

ثم النحل امة من الأمم ، لها ملكتها على سائر النحل ، وقد قسمت امر الامة كما اوحي إليها ومعها السقاء ـ مربي الذرية ـ راع ـ بناء ـ معماري ـ مهندس ـ جندي ـ زبّال وخدام (١).

__________________

(١) فالسقاء يمد الكوارة بالماء والمربي يربي الصغار ، والراعي يجمع غبار الازهار وعسلها وما بعدها لبناء بيوت العسل وامر البقية ظاهر ، ثم هنا شغل عليها نفسها وعلى العمال ، فعليها نفسها وضع البيض حيث تبيض في كل ثلاثة أسابيع من ستة آلاف الى اثنتي عشرة الف بيضة ، ثم على الشغالة عندها سائر الاشغال وهي كلها خنائى ، وعدد الخلايا من عشرين ألفا الى ثلاثين ألفا ، منها البواب الذي لا يسمح لغير اصحاب الخلية ان يدخلها ، ومنها المنوط بخدمة البيض ، وثالثة بتربية صغار النحل ، ورابعة لبناء الخلايا ، وخامسة هي جناة الشمع التي تبنى منها الخلايا ، وسادسة جناة رحيق الأزهار الذي يستحيل في بطونها عسلا تخرجه من فمها غذاء لصغار النحل حيث تخرج من بيضاتها ولشراب الناس ، وكل من هذه العاملات تؤدي الأوامر الموجهة إليها من قبل الملكة «اليعسوب» او «الخشرم» وهي ام النحل وأعظمها جثة.

ومن عجيب أمرها انها تقتل كل ما وقع على نجاسة من رعاياها ، ومن سياستها حين تريد الحمل ان ترتفع في الهواء وتختار ذكرا من غير خليتها ترفعا عما تحت ادارتها.

فان عندها ذكورا لا شغل لها وعددها من خمسمائة الى الف في الخلية ، وهي تبقى فيها الى ان تحمل الملكة وتحبل ، وحينئذ تقتل الخنائي هؤلاء الذكور لئلا يضيق المكان ويفنى العسل ، سبحان الخلاق العظيم!

ثم من النحل ما لها شعر يرى بالعيون المسلحة اسود او احمر او اصفر ، والنحلة الكبيرة التي تعيش في الكلاء والحقول تموت شتاتا الا قليلا تتوارى في أماكن تدفئ جثتها حتى إذا جاء الربيع وانتشرت الحرارة نفخ الله فيها أرواحها ، فإذا قامت أخذت تطير في الحقول لتبحث عن أماكن تبني فيها أعشاشها ، فمنها ما تتخذ حشائش تصنعها مساكن ذات منافذ من أعلى ليدخل النور وتقفلها عند مسيس الحاجة إليها إذا اقبل الليل او نزل المطر او الندى ثم تضع على حيطانها اقراصا وقاية من الرطوبة ، ومنها ما يبحث عن شقوق ومغاور في الأرض او في الجبل فتضع اقراصها فيها ، وهذان النوعان من البناء هما اللذان اتخذتهما النحل فوق الأرض وتحتها وبعد ذلك تضع بيوضها في البيوت التي تتكون منها الاقراص وتسير سير كل حشرة في القانون العام ، فتكون دودة ـ

٤٠٣

إذا فعلينا ان نتفكر في حياة النحل ما يهدينا الى عجائب صنعها وصنعتها وحياتها الراقية والفائقة التصور.

وأول ما تبرز هنا لمحة لامعة من (وَأَوْحى رَبُّكَ) هي الصلة القريبة بين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والنحل ، ومنها «واوحى» مهما بان البون بين الوحين ومن ثم (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) إذ تصلح ان تكون مثالا لكافة الثمرات الروحية لكافة درجات الوحي ومحتوياتها ، التي حوتها الروح الرسالية القمة المحمدية ، ثم (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) انسلاكه في كافة السبل الى الله ، فالى قمة الصراط المستقيم ، ثم النتيجة بعد هاتين المرحلتين (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) اشارة الى خروج الهدى بعد تمكنها في قلبه المنير ، الى مخارج الاهتداء بقول وعمل او تقرير ، وأفضل قوله هو القرآن العظيم : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ..) (١٧ : ٨٢) و (إِنَّ فِي ذلِكَ) مثلا ، كما هو حقيقة (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)! فالرسول الأقدس نحلة غالية من رب العالمين (١) ، ثم الأئمة (٢) من

__________________

ـ فتنام في كرة نسيجها كما تنسج دودة القز في حريرها ، ثم تقوم وقد أكمل الله خلقها وخلق أجنحتها وخرجت من مهدها ، باحثة عن غذائها فتذهب الى الازهار وتحبني منها العسل الذي في أسافلها وتحمل تلك المادة الصفراء في سفط (المقطف) على ارجلها الخفيفة المكونة من شعر يحفظ تلك المادة ثم يجعل جزء منها شمعا يبني منه الاقراص يملؤه عسلا مما شربه من أسفل الزهرة وجزء آخر يصنعه خبزا لصغار النحل!

(١) نور الثقلين ٣ : ٦٥ في رواية أبي الربيع الشامي عن أبي عبد الله (ع) في الآية فقال (عليه السلام): رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) قال : تزوج من قريش (وَمِنَ الشَّجَرِ) قال : في العرب (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) قال : في الموالي (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) قال : انواع العلم (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ).

(٢) المصدر عن تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه

٤٠٤

آله الطاهرين ، ثم من يحذو محذاهم من السابقين والمقربين واصحاب اليمين وان كانوا درجات ، كما النحل ايضا درجات والعسل درجات ، حيث الثمرات درجات.

ثم اولى المراحل لعملية النحل العجيبة هي (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) وكل هذه الثلاثة خلقية وصناعية مرتفعات فانها أبعد عن القذارات وسائر النازلات ، و «من» فيها تبعّض فانها بكل مكاناتها ليست صالحة لبيوت النحل ، وانما الآمنة المطمئنة الطيبة ، اتخاذا لها بما أوحى الله إليها ، وآمنها وأمتنها الجبال ثم الأشجار ، ثم ما يعرشون من عروش الأعناب وسواها من مرتفعات مصطنعة لمختلف الحاجيات ومنها مكانات بيوتات النحل.

ويا لهذه البيوتات من هندسات عجيبة دقيقة ، مسدسات مثل بعض ولصق بعض وهي امتن الأشكال الهندسية منعة عن التخلل ، فانها مكتنفات في هذه التسديسات العويصات ، كما وان أجساد النحل مهندسة كما تناسب

__________________

ـ السلام) في الآية : فالنحل الأئمة والجبال العرب والشجر الموالي عتاقة ومما يعرشون يعني الأولاد والعبيد ممن لم يعتق وهو يتولى الله ورسوله والائمة والثمرات المختلفة ألوانه فنون العلم الذي قد يعلم الائمة شيعتهم وفيه شفاء للناس ، يقول : في العلم شفاء للناس والشيعة هم الناس وغيرهم الله اعلم بهم ما هم ، ولو كان كما تزعم انه العسل الذي يأكله الناس إذا ما أكل منه وما شرب ذو عاهة الا شقي لقول الله (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) ولا خلف لقول الله ، وانما الشفاء في علم القرآن لقوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) فهو شفاء ورحمة لأهله لا شك فيه ولا مرية واهله أئمة الهدى الذين قال الله (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا).

أقول قد يعني نفي العسل عن العسل نفي الحصر استنكارا لمن ينكر باطن الآية هذا ومما يدل عليه الأحاديث المتظافرة عنهم (عليهم السلام) في التعريف بخواص العسل سنادا الى هذه الآية.

٤٠٥

هندسة العمار ، فأوساط أجسادها مكعبات ومؤخراتها مخروطات ورءوسها مدوّرات مبسوطات ، مركوبة في أوساط أبدانها أربعة أرجل ويدان متناسبات المقادير كأضلاع المسدسات ، لتستعين بها على مختلف الحركات الهندسية لهذه البيوتات.

والهدف من تساوي أضلاع هذه المسدسات المتساويات ألّا يتداخلها الهواء فيضر بأولادها ويفسد شرابها ، وهي تجمع بيديها وارجلها الأربع من ورق الأشجار وزهر الأثمار الرطوبات الدهنية التي تبني بها تلك البيوتات المهندسة ، وعلى أكتافها أربعة اجنحة حريرية النسج وسائل لطيرانها ، ومؤخرات أبدانها مخروطة الأشكال مجوفة مدرجة مملوءة بالهواء لتكون موازنة لثقل الرئوس في الطيران ، وجعلت لها حمة حادة كشوكة شائكة سلاحا لها أمام اعدائها ، وجعلت رقبتها خفيفة ليسهل بها تحرك رأسها يمنة ويسرة بلا عسرة ، وجعل رأسها مدورا عريضا وبجنبيه عينان براقتان كأنهما مرآتان مجلوّتان ، وسيلة لتمييز الأشكال والألوان في الظلمات والنور ، وعلى رأسها شبه قرنين لطيفين لينين آلة لاحساس الملموسات ، وفتح لها منخران لإحساس المشمومات الطيبة ، وفما مفتوحا فيه قوة ذائقة قوية ، ومشفران حادّان تجمع بهما من ثمرات الأشجار رطوبات لطيفة ، وفي جوفها قوة جاذبة ماسكة هاضمة طابخة منضحة تحّول تلك الرطوبات عسلا مصفى شرابا مختلفا ألوانه فيه شفاء للناس.

والمرحلة الثانية بعد بناء البيوت (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) والكلّ هذا بطبيعة الحال يعني طيبات الثمرات ، ولها مرحلتان ، الأمهات وهي ازهارها ، والمواليد وهي أثمارها ، والنحل تأكل من أمهات الثمرات وهي أزهر واظهر واطهر ، مهما أكلت أحيانا من الثمرات أنفسها.

والمرحلة الثالثة مفرّعة على الأوليين وتكملة لهما (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ

٤٠٦

ذُلُلاً) من الذل وهو خلاف الشّماس ، كما الدابة الذلول خلاف الشّموس ، ف «ذللا» تعني مطاوعة مستسلمة غير متمنعة ، سواء السبل الأولى في اتخاذ بيوتها ، ام الثانية في أكلها من كل الثمرات ، ام سبل الحفاظ على البيوتات والمأكولات ، ولكي يكون العسل الناتج عن هذه العمليات (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) من كل داء ، اللهم الا الموت من أجله المسمى او المعلق على سبب أقوى.

فكافة السبل الربانية كما ألهمت مسلوكة للنحل شاءت ام أبت ، ولكي تكون امانة العسل امينة غير خليطة.

ثم «ذللا» هذه قد تكون حالا لسبل ربك ، واخرى للنحل والجمع أجمل ، والسبل الذلل هي الطرق الموطأة للقدم ، السهلة على الحافر والمنسم ، تشبيها لها بالإبل الذلل وهي التي قد عوّدت الرحل وألفت المسير.

والنحل الذلل هي المطاوعة في سلوك السبل ، دون تفلّت عنها ولا تلفّت ، فالنحل الذلل في السبل الذلل ، هما بعد ان من الذلل كما اوحى الله إليها.

ثم هناك المرحلة الرابعة : النتيجة :

(يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ)

ولماذا (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) دون «أفواهها» أم «أدبارها»؟ علّها تعني خروجه من مخرجها و «من بطونها» تأدب في التعبير ولكيلا ينغّص عيش في ذلك الشراب الشفاء.

ولكنه رجيع القيء من أفواهها دون مخارجها ، الا ان صيغة القيء ـ كما المخرج ـ غير سائغة في ذلك المساق المساغ. و «من بطونها» بيان لمصدر العسل دون مخرجه ، فما كان ام مخرجا ، وهذه بلاغة في التعبير تناسب البيان القمة القرآنية.

(شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) كما النحل مثلثة الألوان (اسود واصفر واحمر)

٤٠٧

كذلك شرابها العسل لكنه الأسود بدل الأبيض والحمرة الضاربة الى السواد ، والأصفر منه اكثر.

(فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) وتنوين التبعيض في «شفاء» مما يسد ثغرة الاستغراق ، لأنه مبالغة وإغراق ، فان من الأدواء ما ليس العسل له دواء بل ويزيده بلاء كالمرار والصفراء وكما القرآن الممثل له بالعسل (ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) وكما

يروى عن رسول الهدى (ص) «عليكم بالشفائين العسل والقرآن» (١).

ثم (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) قد تلمح انه شفاء للأكثرية الساحقة من الأدواء ، فانه يلحمّ الجراحات ظاهرة وباطنة (٢) وحقّ له ان يحلّق شفاء

__________________

(١). الدر المنثور ٤ : ١٢٣ ـ اخرج جماعة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : انه قال : ....

(٢) المصدر اخرج احمد والبخاري ومسلم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري ان رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان اخي استطلق بطنه فقال اسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال ما زاده الا استطلاقا قال اذهب فاسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال ما زاده الا استطلاقا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه فشفي.

وفي نور الثقلين ٣ : ٦٦ عن تفسير العياشي عن عبد الله بن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه قال جاء رجل الى امير المؤمنين (عليه السلام) فقال يا امير المؤمنين بي وجع في بطني فقال له امير المؤمنين (عليه السلام) ألك زوجة ، قال : نعم ـ قال : استوهب منها شيئا طيبت به نفسها من مالها ، ثم اشتر به عسلا ثم اسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه فاني اسمع الله يقول في كتابه (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) وقال (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) وقال (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهناء والمريء شفيت ان شاء الله تعالى ففعل ذلك فشفي.

٤٠٨

من كل داء فانه. محلّق من كل الثمرات.

فذلك الشفاء في العسل هو طبيعة الحال بإذن الله ، فانه سلالة من كل الثمرات ، والثمرات هي أدواء كما هي ادام وغذاء ، ونحن لا نعرف ما تعرفت اليه النحل بما اوحي إليها من كل الثمرات ، وكيفية تعسيلها ، بعيدا عن الموذيات العالقة بها أحيانا والخليطة بها اخرى ، إذ لا نستطيع ان نسلك سبل ربنا كما هي سالكة بوحي الله ، مهما تقدمنا في علم الطب ومعرفة الثمرات ، و (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

لذلك فالعسل المصطنع البشرى ليس كعسل النحل ، حيث البشر لم يوح إليه ما اوحي إلى النحل ، فالبشر غير الموحى اليه لا عصمة له علميا ولا عمليا ، والنحل معصومة علما بالوحي وليست معصومة عمليا ، حيث تشذ البعض في أكل الثمرات فتمنع من الدخول في الخليّة ، فيصبح العسل معصوما عن كل خلل تطارد (شِفاءٌ لِلنَّاسِ) ، ولا دواء معروفا وغير معروف أدوى من العسل لاختصاصه في ذلك النص دون سواه ، كما لا دواء للأرواح والقلوب معصوما أدوى من القرآن حيث يعسل الروح

__________________

ـ وفيه عن سيف بن عميرة عن شيخ من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كنا عنده فسأله شيخ فقال : بي وجع وانا اشرب له النبيذ ووصفه له الشيخ فقال : ما يمنعك من الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي قال : لا يوافقني ـ قال : فما يمنعك من العسل؟ قال الله : فيه شفاء للناس. قال : لا أجده ـ قال : فما يمنعك من اللبن الذي نبت لحمك واشتد عظمك؟ قال : لا يوافقني قال له ابو عبد الله (عليه السلام):أتريد ان آمرك بشرب الخمر ، لا أمرك والله لا أمرك

وفيه عن علي (عليه السلام) قال : لعق العسل فيه شفاء للناس.

وفي الدر المنثور ٤ : ١٢٢ ـ اخرج ابن أبي شيبة عن حشرم المجمري ان ملاعب الاسنة عامر بن مالك بعث الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأله الدواء والشفاء من داء نزل به فبعث اليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعسل او بعكة من عسل ـ

٤٠٩

ويؤصله لكافة الفروع القيمة القمة الروحية.

ولقد جربنا شفاء العسل لتسكير الدم من اي جرح كان مما غمر الأطباء الجراحين استعجابا ، وكذلك للأمراض المعوية مائة في المائة ، وللاضطرابات والتشنجات العصبية العسيبة ، صعبة العلاج او منقطعته.

وحين يصرح خالق الأدواء ، وخالق الطب والأطباء في هذه الاذاعة القرآنية الخالدة صارخة على ممر الزمن : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) فما دائنا وما هو بلاءنا ألّا نستشفي بذلك الشفاء المعصوم ، الذي لا يضر وينفع ، مهما لم ينفع أم ضر في القليل القليل في داء العليل كالصفراء والمرار.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) ٧٠.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ (١) الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٢٢ : ٧) (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) (٣٦ : ٦٨).

نكسة في الخلق وركسة ، قلبا لآخرة الى اوّله لمن يعمره الله أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا ، فقد كان لا يعلم شيئا في البداية ولا سيما حين كان من الأجنة (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (١٦ : ٧٨) ثم علّم شيئا فعلم شيئا ثم ازداد حين بلغ أشده ، ثم قد يرد الى أرذل العمر ، الى حالة الأجنة وما بعدها في صغره وطفولته ، وذلك تنقل ملموس من موت علمي الى حياة وأحيى منها ، ثم ردا الى

٤١٠

موته الاول وهو أرذل العمر ، أفلا يدل ذلك التنقل المعرفي بين موت وحياة ، على تنقل في حياة البدن وبالأولى ، عن الأولى الى الاخرى ، بلى! (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)!

«يتوفاكم» هو الأخذ وافيا ، أخذا وافيا حيث المأخوذ فيه هو الروح كله انسانيا وحيوانيا ونباتيا بجسمه البرزخي. في حالك وافيا ، حيث بلغت أشدك دونما نكسة ، ولان «يتوفاكم» هنا تقابل (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) فقد يعني توفي الحياة الخيّرة بجنب التوفي عنها ، فمن يرد الى أرذل العمر هو غير متوفّى من هذه الجهة مهما كان متوفى من الأخرى.

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) فقد بدء بارذل العمر حين كان من الأجنة وبعده الى حين ، إذ كان لا يعلم شيئا كإنسان ، مهما كان يعرف أشياء كحيوان ، بها يدبر حالته الحيوانية في طفولته على قلته ، ومن قبل ـ في بطن امه ـ ما كان يعلم شيئا لا كإنسان ولا كحيوان! اللهم إلا شيئا ضئيلا على تردد! والرد إلى أرذل العمر قد يعم الحالتين وللجنين ارذلهما (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً)! وأرذل العمر قد يكون في البنية الجسمية ، أو العقلية والعلمية ، أو الايمانية ، أو اثنتان منها أو الجمع وهو أرذل الأرذل ، إذا فأرذل العمر مراحل عدة تختلف في قدر الرذالة.

ولان «يرد» تعطف الى أول العمر الرذيل الا في اللاإيمان لمكان عدم التكليف ، فأصل المعني من (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) لا يعني رذالة الكفر ، اللهم إلا اللاإيمان المعذور لعدم التكليف ، ولكن يشمل على هامش الأصل أرذل اللاإيمان دون قصور.

ولان العمر يبدأ منذ الولادة دون الحياة الجنينية حيث الرد الى أرذل العمر لو كان الى الحياة الجنينية استلزم مثل مأكلها ومشربها ومكانها ، فلا تعني (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) الحياة قبل الولادة ، وانما منذ الولادة الى حين يعلم

٤١١

شيئا كإنسان ، ويقوم على ساقه كإنسان ، واما حياة الحيونة فهي تعم منذ الجنين ، وهو بداية حياته كحيوان ، ثم منذ الولادة هو بدايتها كإنسان.

إذا فبداية ذلك العمر هي منذ الولادة ونهايته الموت ، دون الحياة البرزخية والاخروية فإنهما لا رذالة فيهما حتى للأرذلين ، إلّا عذابا بما عصوا.

ثم العمر قد يكون كله رذيلا ام أرذل كما في من محض الكفر محضا وهو قليل العقل والعلم والحظ الحيوي المادي ، ام كله فضيلا كالمعصومين الذين هم أنوار منذ الأصلاب والأرحام والى الولادة والموت ، والقبيلان خارجان عن نطاق الآية.

ام هو مراحل. من الأرذل الى الرذيل والى الأفضل والفضيل ، وأرذل العمر هو الخاوي عن القوة البدنية والروحية ، نباتية وحيوانية ، وانسانية : عقلية وعلمية وايمانية.

أتراه مهانا بذلك الرد الرديء ، فمعاقبا بترك الواجبات او اقتراف المحرمات؟ وليس رده الى أرذل العمر من فعله ، بل هو رد الى غير حالة التكليف ام تخفّ!؟

كلّا ـ إلّا ان يستحق ذلك الرد بما ارتد عما يتوجب عليه ، فإلى نكسة مؤقتة وكما يختم على قلوب مقلوبة ، فذلك امتهان.

واما المؤمن المراقب فرده الى أرذل العمر امتحان له وابتلاء ، فيه حط سيئة او ترفيع درجة ، ويكتب الله ما يتفلت منه من واجبات ولا يكتب عليه من محرمات.

ثم ليس كل تعمير طويل مهما كان عشرات أم مئات المرات بالنسبة للأعمار المتعودة ، ليس ذلك ككل ردا الى أرذل العمر ، فقد «يتوفى»

٤١٢

نفس أخذا وافيا متكاملا متكافلا لدرجات من الكمال كما عمّر نوح اكثر من الف حيث رسالته (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) وقد يعمر صاحب العصر وبقية الله في الدهر القائم المهدي من آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، يعمّر آلافا من السنين ، ثم يظهر في صورة شاب في أربعين ، ثم «يتوفى» موتا أخذا وافيا ارتحالا الى حياة اخرى.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ) تشمل منذ النطفة حتى إنشاء الروح ، والعمر عله منذ خلق الروح ، ف (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) يعم الحياة الرذيلة الجنينية إذ لا يعلم حينئذ شيئا حتى حيوانيا ، ثم منذ الولادة حتى يعلم شيئا انسانيا والى ان يبلغ أشده ، ف (لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) تشمل حالتي الرذالة والاولى أرذل من الثانية «فهذا ينتقص منه جميع الأرواح وليس بالذي يخرج من دين الله لان الفاعل به رده الى أرذل العمر فهو لا يعرف للصلاة وقتا ولا يستطيع التهجد بالليل ولا بالنهار ولا القيام في الصف مع الناس فهذا نقصان من روح الايمان وليس يضره شيئا» (١).

فنعوذ بالله من أرذل العمر كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٦٧ في اصول الكافي بسند متصل عن الأصبغ بن نباتة عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه : ثم ذكر اصحاب الميمنة وهم المؤمنون حقا بأعيانهم جعل فيهم اربعة أرواح ، روح الايمان وروح القوة وروح الشهوة وروح البدن وقال قبل ذلك : وبروح الايمان عبدوا الله ولم يشركوا به وبروح القوة جاهدوا عدوهم وعالجوا معاشهم وبروح الشهوة أصابوا لذيد الطعام ونكحوا الحلال من شباب النساء وبروح البدن دبوا ودرجوا ـ وقال متصلا بقوله : وروح البدن : فلا يزال العبد يستكمل هذه الأرواح الاربعة حتى تأتي عليه حالات فقال الرجل يا امير المؤمنين ما هذه الحالات؟ فقال : اما أولهن فهو كما قال الله عز وجل (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) فهذا ينتقص ...

٤١٣

وسلم) يستعيذ بالله من أرذل العمر (١) لأنه حط من كرامة الانسانية والايمان مهما لم يكن فيه الإنسان مقصرا ، فان كان مؤمنا قبله «كتب الله له مثل ما كان يعمل في صحته من الخير وان عمل سيئة لم تكتب عليه» (٢).

ويا لها من لمسة قوية في الحياة ، تهددا بارذل العمر ، حيث يرد القلب الصّلد الصّلب الى حالة من الرخوة ، والتخوف عليها قد يستجيش وجدان التقوى والحذر والالتجاء الى واهب الحياة الحسنة ، الراد لها الى ارذلها ، غضا عن الكبرياء والغرور ، ونبهته عن الغفوة المتسربة اليه من الغرور.

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) ٧١.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٢٣ ـ اخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال كان دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعوذ بالله من دعاء لا يسمع ومن قلب لا يخشع ومن علم لا ينفع ومن نفس لا تشبع اللهم اني أعوذ بك من الجوع فانه بئس الضجيع ، ومن الخيانة فانها بئس البطانة ، وأعوذ بك من الكسل والهرم والبخل والجبن وأعوذ بك ان أرد الى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدجال وعذاب القبر. واخرج عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) جماعة آخرون ألفاظا مختلفة فيها كلها «وأعوذ بك ان أرد الى الرذل العمر».

(٢) المصدر ـ اخرج ابن مردويه عن انس بن مالك قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المولود حتى يبلغ الحنث ما يعمل من حسنة اثبت لوالده او والديه وان عمل سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه فإذا بلغ الحنث وجرى عليه القلم امر الملكان اللذان معه فحفظاه وسدداه فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام آمنه الله من البلايا الثلاثة من الجنون والجذام والبرص فإذا بلغ الخمسين ضاعف الله حسناته فإذا بلغ ستين رزقه الله الانابة اليه فيما يحب فإذا بلغ سبعين أحبه اهل السماء فإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفعه في اهل بيته وكان اسمه عند الله أسير الله في ارضه فإذا بلغ الى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا كتب الله له مثل ما كان يعمل في صحته في الخير وان عمل سيئة لم تكتب عليه.

٤١٤

تنديد بالمشركين شديد انهم يفضلون أنفسهم بأصنامهم على الله فبيناهم لا يسوّون بين أنفسهم وما ملكت ايمانهم فيما رزقهم الله ، إذ أهم يسوون بين الله وأصنامهم ، وهو خالقهم وخالق أصنامهم ، بل ويفضلون أصنامهم على الله في عبادتهم لها دونه ، والتسوية بين الفاضل والمفضول ظلم في ميزان الحق.

والآية في نطاق آية الروم : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٢٨).

وذلك التفضيل الفضيل في مختلف الرزق هو لحكمة بالغة جماعية بين المرزوقين : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) (٤٣ : ٣٢).

و «الرزق» المفضّل فيه بين متصل ومنفصل ، من رزق العقل والعلم وجودة الفكر والسلطة الروحية أو الزمنية او اموال وأولاد وأهلين ، ومن رزقهم انهم يملكون عبيدا وإماء.

وذلك الرزق بين حالات عدة ، من ممكنة متمكنة : مسموحة او ممنوحة او ممنوعة ، وواجبة اصلية او فرعية ، ام مستحيلة ذاتية او عرضية.

ومن المستحيلة تفويض الفضائل النفسية لما ملكت ايمانكم ام سواهم ، ومن الممنوعة تخويلهم أهليكم ام تحويلهم لهم ، وكذلك انفاق كلّ أموالكم (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً).

(فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) تعني ـ بعد الرد المستحيل ذاتيا ام ممنوعا ـ ردّ السلطة المالكية على مماليكهم

٤١٥

دون كمالها ، بل لحد العوان (فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) سلطة متقابلة لكل على الآخر مع اختلاف الاستحقاق والاستعداد ، ام إزالة لهذه السلطة عن بكرتها وان كانت بعيدة عن ردها عليهم.

(ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) في معنى أوسع هم كافة المولّى عليهم في مختلف الولايات حالية ومالية ، وفي رد الولايات على المولّى عليهم تفويضا ام تسوية تقويض لنظام المجتمع ، إذ لا يقوم اي مجتمع الا بولايات عادلة عاقلة ، مساعدة للضعفاء وتكميلا لنقصهم.

فإذا لا يصح في ذلك رد او يستحيل ، ممن فضّل في رزق ليس منه نفسه ، فكيف يرد الله ألوهيته الى عبيده ، او يردونها هؤلاء إلى أصنامهم وطواغيهم ، تسوية لها برب العالمين في عبادة ام اية ناحية من نواحي الربوبية (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) انه فضلهم فيها فيردونها الى مماليكهم؟ ام بنعمة الفطرة والعقل ، المتأبية لهذه التسوية الظالمة يجحدون ، بحق الله فقط لا بحق أنفسهم؟

ام بنعمة التوحيد ، المدلول عليها بكافة الادلة يجحدون ، وبصورة سائرة بنعمة الإنسانية يجحدون ، فيسوّون ، بين من لا يستوون ، ولسوف يعترفون (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ).

ذلك! واما التسوية في رزق المال بين المرزوق ومماليكه ، من اهله وسواهم ، وباختيار منه وطوع ، انه من الممدوح الممنوح ، بل و «لا يجوز للرجل ان يخص نفسه بشيء من المأكول دون عياله» (١) وبالنسبة للماليك يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله : «انما هم إخوانكم فاكسوهم مما تكسون وأطعموهم مما تطعمون فما رؤي عبده بعد ذلك إلا وردائه ردائه

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٦٨ ـ عن تفسير القمي في الآية قال : لا يجوز ...

٤١٦

وإزاره إزاره من غير تفاوت» (١).

وهنا (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا .. فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) في نطاقها الخاص موجّه إلى المشركين الذين ما كانوا يعتبرون مواليهم شيئا ، وهم يسوّون أصنامهم برب العالمين ، وفي نطاق عام يخص بما لا يصح أو يستحيل من رد الرزق.

فالآية في معنى جامع تعني التنديد بالتسوية الظالمة ، ام محاولة في تسوية مستحيلة ، والمشركون جامعون بين التسويتين ، والمستحيلة منهما هي جعل غير الواقع واقعا في زعمهم من التسوية في الربوبية بين الرب والمربوبين ، فهم حين لا يشركون عبيدهم بأنفسهم فيما رزقهم الله من الملكة ، يشركون عبيدا لله فيما لله من ربوبية غير مرزوقة لله ، فانها ذاتية و (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى)!

ثم وذلك التفضيل امر عرضي ممكن لمصلحة عرضية كما فعله الله : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) ، والتسوية فيه معذلك مرجوحة ام مستحيلة ، فضلا عن فضل الله تعالى ذاتيا وصفاتيا على خلقه ، المستحيل انتقاله إليهم ، بعضا فتسوية أو كلا فتخويل.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) ٧٢.

الجعل هنا يعم التكوين والتشريع ، و «من أنفسكم» تعم الابتداء والتبعيض والتجنيس ، و «أزواجكم» ك «أنفسكم» تعم الذكور والإناث ، و «كم» في هذه الخمس تعمهما ، دون أصالة لذكور أم إناث في هذه المجالات ، فقد جعل الله لكلّ زوجه ذكرا وأنثى ، وشرع الزواج

__________________

(١) المصدر في جوامع الجامع ويحكى عن أبي ذر انه سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ....

٤١٧

بينهما بحدودها ، وكل منهما ناشئ من الآخر ، وكلّ بعض وجنس من الآخر (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) (٤ : ٢٥).

و «جعل» الثانية تكوينية في اصل (بَنِينَ وَحَفَدَةً) وتشريعية في أحكام الأولاد بنين وحفدة ، وترى لماذا فقط «بنين» دون بنات «وحفدة» وهم أولاد البنات بنين وبنات (١)؟.

عل «بنين» لأنهم انفع واثمر ، ام تعم البنات تغليبا لجانب البنين كما ان «كم» عمت القبيلين.

ثم الحفيد وهو لغويا السريع ـ الخادم ـ الناصر ـ التابع ، تعم كافة الخدم الناصرين

الأتباع (٢) السريعين ، ومن أقربهم واحراهم أولاد الأولاد ذكورا وإناثا ، أصولا وفروعا.

إذا ف (بَنِينَ وَحَفَدَةً) تشملان كافة الذرية دون سواهم من التابعين الأنصار إذ ليسوا «من أزواجكم» والإنسان الفاني العاني في حياته يحس امتداده في بنيه وحفدته ، فهم له نعمة في حياته ، ونعمة بعد مماته.

ثم «ورزقكم» جميعا «من الطيبات» التي تستطيبها طباعهم كأناسي على الفطرة والطباعة الإنسانية ، في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمعمل واي مشغل ، كما «رزقكم» من طيبات الأزواج والأولاد ، أبعد كل هذه

__________________

(١) في تفسير العياشي عن عبد الرحمن الأشل عن الصادق (عليه السلام) في الآية قال : الحفدة بنوا البنت ونحن حفدة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٢) المصدر عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الحفدة قال : وهم العون منهم يعني البنين أقول فالأول تفسير ببعض المصاديق والثاني أوسع منه ثم الأوسع كل مناصر وقد تعني الآية بين الأخيرين وهم أولاد الأولاد بنين وبنات والدين ومولودين ، وكما هو قضية الحال في استعراض النسل دونما استغلال لذكران ام إناث.

٤١٨

النعم الوفيرة (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) إشراكا لبعض هذه النعم بالله (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) كفرا او كفرانا.

ومن ايمانهم بالباطل تحريم بعض النعم التي أحلها لهم ، ووأد البنات وهن من أنعم النعم ، وما الى ذلك من تصرفات سلبية او ايجابية في نعم الله بما لا يرضاه الله ولم يأذن به الله.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) ٧٣.

هم يكفرون بنعمة الله وبالله (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من؟ (ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً) لذواتهم او صفاتهم او أفعالهم ، لا بداية ولا استمرارا ، إذا فهم «ما» في موقف الجماد اللاشعور إذ لا يملك شيئا لنفسه فضلا عنهم ، لا «في السماوات» ولا «في الأرض شيئا» من اصل الرزق وفرعه.

«لا يملك» بالفعل ـ ولا مستقبلا إذ (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) ملك الرزق فضلا عن تمليكه ، عجزا او قصورا ذاتيا فإنهم كعابديهم فقراء الى الله (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) (٣٦ : ٧٥)!

وان هذا لشيء عجاب ان تنحرف الفطرة وتنجرف الى هذا الحد الساقط الماقت ان يتجه الإنسان بالعبادة الى ما لا يملك لهم رزقا ولا يستطيعون ، وآلاء الله بين أيديهم وهم غارقون في خضمّها الملتطم لا يملكون نكرانها ، ثم يضربون لله الأمثال :

(فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ٧٤.

فليس لله مثل ولا مثال ، ولا مثل يمثل ذاته او صفاته او أفعاله حتى تضربوا لله الأمثال ، إجراء لأوصاف الخلق عليه ان له بنين وبنات وان الملائكة بناته ، وان بينه وبين الجنة نسبا وما الى ذلك من مثل السوء ، وقد

٤١٩

ندد بهم من ذي قبل بصيغة اخرى (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) ـ (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) ما هو عليه وخلقه (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) حتى خلقه فضلا عن ذاته المقدسة ، سبحانه وتعالى عما يشركون.

وهنا الله يضرب لتوحيده مثلا (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ٧٥.

(فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) الباطلة ولله المثل الحق ومن ذلك (ضَرَبَ اللهُ ..).

وفي ذلك المثل الأمثل تقابل بين متقابلين : عبدا ـ مملوكا ـ لا يقدر على شيء ، وحرا ـ مالكا رزقناه رزقا حسنا ـ فهو ينفق منه سرا وجهرا ـ زوايا ثلاث من الحالات لكلّ وجاه الآخر.

فهنا وان كان فارق العبودية والحرية فيه الكفاية لعدم التسوية ، إلا أنّ : مملوكا لا يقدر على شيء ، مقابل المالك القادر على شيء ، مما يزيد في اللاتسوية ف «هل يستون» الفريقان على عديد لكل منهما ، دون اختصاص بفرد دون سواه.

ولان الجواب من اي مجيب كان هو المنفي دون ريب ، تراه لا يذكر هنا بعد السؤال لشدة نصوعه ووضوحه وضح النهار.

وهم يسوون بين الله وبين البعض من عباده ، من طواغيت وأصنام وسواهم ، فمنهم من هم عباد كأمثالهم ملكا ام بشرا أو جنا ، خيرا أو شريرا ، ومنهم من هم من مماليكهم كاصنامهم التي ينحتونها ويمتلكونها ،

٤٢٠