الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

(كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(٩٣).

(كَما أَنْزَلْنا) كأنها تشبيه إيتاء السبع المثاني والقرآن العظيم بما انزل (عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ..) أنزلنا عليك بما آتيناك ، واين إنزال من إنزال واين منزل من منزل؟ ففي منزل القلب المحمدي خالصة النور ، مشعة على العالمين ، وفي منازل قلوب المقتسمين نار!

وترى «المقتسمين» هم ـ فقط ـ المشركون دون الكتابيين ، لان مكية السورة لا تناسب والتنديد بهم ولمّا يبتلى بهم المسلمون إذ لم يكونوا في مكة حاضرين؟ وذلك بيان لواقع مرير مضى منذ بداية الرسالات ، ويستقبل حتى القيامة الكبرى! والقرآن يواجه عامة المكلفين في خطابات على نحو القضايا الحقيقية لمثلث الزمان! فقد يعرض اهل الكتاب في ذلك العرض العريض ، ومعهم المشركون وجماعة من المسلمين ، فكل من المقتسمين!.

فمن المشركين «رهط من قريش عضهوا كتاب الله فزعم بعضهم انه سحر وزعم بعضهم انه كهانة وزعم بعضهم انه أساطير الأولين» (١).

وكيف انزل القرآن عليهم كما انزل على الرسول والمؤمنين؟ لأنه كتاب المكلفين كافة ، مهما اختلف النزول «على» في درجات ، فعلى الرسول وحيا دون حجاب ، وعلى المرسل إليهم بواسطة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٠٦ ـ اخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن مجاهد قال في الآية : وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام عن قوله : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قالا : هم قريش.

٢٤١

ومن اهل الكتاب هودا او نصارى مقتسمون «آمنوا ببعض وكفروا ببعض» (١).

ومن المسلمين مقتسمون رغم إسلامهم ، عاملين ببعض وتاركين بعضا ، ام معتقدين ببعض ، ومؤولين بعضا يخالف آرائهم ام أهوائهم ، إمّا ذا من اقتسامات للقرآن.

واما «عضين» فقد تكون جمعا من اصل العضو والعضو بمعنى الجزء من الكل ، والتعضية هي تجزئة الاجزاء ، او من العضة وأصلها عضهة وهي شجرة ، إذا فهي التشجير أن يجعل بعضه يشاجر وينافر بعضا ، ام هي

__________________

(١) وفيه اخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم والبيهقي وابو نعيم معا في الدلائل عن ابن عباس ان الوليد بن مغيرة اجتمع اليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال لهم يا معشر قريش انه قد حضر هذا الموسم وان وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا فقالوا أنت فقل وأتم لنا به رأيا نقول به ، قال : لا ـ بل أنتم قولوا لأسمع قالوا نقول كاهن ، قال : ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمة الكهان ولا بسجعهم ، قالوا : فنقول : مجنون قال : ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا بحائحه ولا وسوسته ، قال : فنقول شاعر قال : ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر ، قالوا فنقول : ساحر ـ قال : ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا بعقده ـ قالوا : فما ذا نقول؟ قال : والله ان لقوله حلاوة وان عليه طلاوة وان أصله لعذق وأن فرعه لجناء فما أنتم بقائلين من هذا شيئا الا اعرف انه باطل وان اقرب القول ان تقولوا هو ساحر يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك فانزل الله في الوليد وذلك من قوله : ذرني ومن خلقت وحيدا ـ الى قوله ـ سأصليه سقر ـ وأنزل الله في أولئك النفر الذين كانوا معه : الذين جعلوا القرآن عضين ـ اي : أصنافا ـ فو ربك لنسألنهم أجمعين. عما كانوا يعملون.

٢٤٢

الأكذوبات : نميمة وسحرا وكهانة وأساطير ، وقد جعل القرآن عضين بكل معانيها من الفرق الثلاث.

فالمشركون اقتسموا القرآن ـ على حد زعمهم ـ فيما بينهم بافترائات عدة كلها عضين : أكاذيب (١).

واهل الكتاب آمنوا ببعض وكفروا ببعض وكما تهواه أنفسهم ، فما وافق كتاباتهم صدقوه زعما انه منها ، وما خالفها كذبوه زعم الافتعال ، فقد جعلوا القرآن اجزاء مجزأة كالأعضاء المعضاة المتفرقة.

وفريق من المسلمين اقتسموا القرآن عضين ، فمنهم من آمن ببعض واوّل بعضا كما يهواه ، ومنهم من آمن به عقائديا وكفر ببعضه عمليا ، ومنهم من آمن به كهالة قدسية تقدّس ـ فقط ـ ظاهريا ، واما في الدراسة والتدبر فلا ، كما الحوزات العلمية هكذا جعلوا القرآن عضين.

ومن المقتسمين المسلمين الذين جعلوا القرآن عضين من يقول بتحريفه لفظيا بزيادة او نقصان ام في تأليفه وترتيبه ، جعلا خاطئا مسنودا الى نفس آية العضين ، خلافا لنصوص من القرآن الحكيم.

ومنهم من يحرفه معنويا بغية الوصول الى آراءه وأهواءه ، ومنهم ... كل من يقتسم القرآن خلاف تقسيمه لفظيا او معنويا ، ويبعضه ويشجره ضربا للقرآن بعضه ببعض ونثره نثر الدقل فتصبح آياته المتلائمة كأنها متناقضة!.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٠٦ ـ اخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال سأل رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : أرأيت قول الله (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ)؟ قال : اليهود والنصارى ـ قال : الذين جعلوا القرآن عضين؟ قال : امنوا ببعض وكفروا ببعض.

٢٤٣

«فو ربك» الذي رباك ب (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) دون إبقاء على احد منهم مهما اختلفت دركاتهم في عضهاتهم للقرآن (لَنَسْئَلَنَّهُمْ .. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ).

وترى كيف (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)؟ (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) ان السؤال المنفي هنا غير المثبت هناك ، فهنا سؤال الاستعلام إذ (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) فلما ذا ـ إذا ـ الاستعلام ، وهناك سؤال التوبيخ والتبكيت وهو موجّه على كل المذنبين إلّا من رحم الله.

فهنالك مسئولية كبرى على كل هؤلاء المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ، أيا كان اقتسامهم له وعضههم إياه ، فانه اكبر ناموس رباني عبر الرسالات طول الزمان وعرض المكان ، فاي مس من كرامته مس من كافة الكرامات الربانية.

وكما «المقتسمين» يقتسمون الى ثالوث المشركين والكتابيين وجماعة من المسلمين ، كذلك «عضين» بين تفرقه وتشجره للقرآن كله كما كان في نادي المشركين.

ام تبعيضا لآياته كالكتابيين ، وهما عضين عقائدي فضلا عن العلمي والعملي.

ام تبعيضا علميا او عمليا ام هما معا كما في كثير من المسلمين ، فالحوزات العلمية ـ في الأكثرية الساحقة ـ جعلوا القرآن عضين علميا ، حيث يختصون البحوث الحوزوية بغير القرآن جاعلين إياه وراءهم ظهريا ، ام يختصون آيات فقهية بالبحث دون سواها ويا ليت! ام آيات توافق نظرياتهم العلمية في بحوثهم الحوزوية دون سواها إلّا تأويلا لها عطفا للقرآن على الرأي.

٢٤٤

وإذا كان المشركون والكتابيون حيث يقتسمون القرآن عضين وهم به كافرون ـ يسألون توبيخا وتبكيتا ، فبأحرى ان يسأل المسلمون المقتسمون علميا او عمليا وهم به مؤمنون!.

وقد تلمح (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) ان مختلف الهزء بالقرآن ورسول القرآن من دركات جعل القرآن عضين.

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(٩٦).

ولمّا يجعل القرآن برسوله عضين في مختلف دوائر السوء ، وفي مطلع الدعوة القرآنية ، ومولد الوحي ورسوله ، لذلك «فاصدع ..».

والصدع هو الشق في الأجسام الصلبة ، فقد يعني هنا ـ فيما يعني ـ شقّ أمواج الفتن بسفن النجاة ، واترك التقية والاستخفاء في الدعوة الى كل استجلاء وبهور.

ام هو مأخوذ من الصديع وهو الصبح ، فيعني : بالغ في اظهار أمرك على إمره ، والدعاء الى ربك ، حتى يكون الدين في وضوح الصبح لا يشكك نهجه ، ولا يظلم فجّه ، وكما قال (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ).

فمنذ صادع الأمر وبارعه صدع بالأمر ، ولمّا يصدع به منذ بداية الرسالة ، إلّا بلاغا في تقية وخفاء ، ولا نرى في سائر القرآن مكية ومدنية امرا بالصدع إلا هنا ، مما يؤيد انه بداية الدعوة المعلنة في مكة المكرمة ، كما وردت به متظافرة الرواية (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٠٦ ـ اخرج ابن جرير عن أبي عبيدة ان عبد الله بن مسعود قال : ما زال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مستخفيا حتى نزل : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) فخرج هو وأصحابه ، وفيه اخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : هذا امر ـ

٢٤٥

ولئن قلت اين التقية والتخفّي في صدع الأمر ، وقد امر به في بادئ الأمر (قُمْ فَأَنْذِرْ ..) (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً .. إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) والقيام في الإنذار سبحا طويلا لا يلائم القليل القليل ، فانه ليس قياما فضلا عن الطويل!.

__________________

ـ من الله لنبيه بتبليغ رسالته قومه وجميع من أرسل اليه ومثله عن ابن زيد.

أقول : وقد قدر زمن اختفاء الدعوة في اكثر الروايات بثلاث سنين ، وفي بعضها بخمس كما في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى محمد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : اكتتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مختفيا خائفا خمس سنين ليس يظهر امره وعلي (عليه السلام) معه وخديجة ثم امره الله ان يصدع بما امر فظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأظهر امره وفي تفسير العياشي عن محمد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : اكتتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة سنين ليس يظهر وعلي معه وخديجة ثم امره الله ان يصدع بما يؤمر وظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب فإذا أتاهم قالوا : كذاب امض عنا.

وفي اصول الكافي بسند متصل عن أبي جعفر الثاني قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) سأل رجل أبي فقال يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سآتيك بمسألة صعبة ، اخبرني عن هذا العلم ما له لا يظهر كما كان يظهر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : فضحك أبي (عليه السلام) وقال : ابى الله ان يطلع على علمه الا ممتحنا للايمان ، كما قضى على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يصبر على أذى قومه ولا يجاهدهم الا بامره ، فكم من اكتتام قد اكتتم به حتى قيل له (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) وايم الله انه لو صدع قبل ذلك لكان آمنا ولكنه انما نظر في الطاعة وخاف الخلاف ، فلذلك كف ، فوددت ان عينك تكون مع مهدي هذه الامة والملائكة بسيوف آل داود بين السماء والأرض تعذب أرواح الكفرة من الأموات وتلحق بهم أرواح أشباههم من الاحياء ، ثم اخرج سيفا ثم قال : ها ان هذا منها ، قال فقال أبي : اي والذي اصطفى محمدا على البشر ، قال فرد الرجل اعتجاره وقال : انا الياس ، ما سألتك عن أمرك وبي منه جهالة ، غير اني أحببت ان يكون هذا الحديث قوة لأصحابك.

٢٤٦

ثم (أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) دليل ثان على جاهرة الدعوة قبل (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)! وترى المشركين كيف جعلوا القرآن عضين قبل ان يقرء عليهم فيعرفوه؟.

قلنا : القفزة في الدعوة الرسالية خلاف سنتها وطبيعتها ، فلا بد وان تتدرج حتى تستحكم عراها شيئا فشيئا ، وليس القيام في المدثر والمزمل إلا لأصل الدعوة المتدرجة ، ومثل هذه الدعوة المنقطعة النظير لم تكن لتخفى على زعماء الضلالة ، وهم المشركون المقتسمون المستهزؤون الذين جعلوا القرآن عضين ، وقد ذكر منهم خمسة (١) ، حال انهم بعد جاهرة الدعوة الباهرة ، الصارحة الصارخة ، أصبحوا مئات أضعافهم ، أتباعا ومتبوعين من المشركين في العهد المكي ، وكذلك الكتابيين والمنافقين في العهد المدني.

ثم في مستقبل الأمر (بِما تُؤْمَرُ) لمحة لامعة ان الصدع هنا ليس إلا بأمر جديد ، واما السابق عليه فقد ائتمره ، والأمران هما في بلاغ الشرعة ، خفية في الأول وجاهرة منذ الصّدع (٢).

وعلّ (بِما تُؤْمَرُ) تعم مادة الأمر «الذي به تؤمر» ونفس الأمر تأويلا

__________________

(١) لقد تظافرت الروايات من طريق الفريقين انهم خمسة مهما اختلفت فيها أسماؤهم وهم على ما رواه القمي في تفسيره : الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث والحارث بن طلاطلة الخزاعي. ومثله في الدر المنثور بتفاصيل عدة في دفع شرهم وهلاكهم ، كما و «إِنَّا كَفَيْناكَ» تلمح له.

(٢) في البحار ٦ : ٣٥٦ الطبعة القديمة نقلا عن المنتقى قال : لما انزل الله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الصفا ونادى في ايام الموسم : «يا ايها الناس (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فرمقه الناس بأبصارهم ـ قالها ثلاثا ، ثم انطلق حتى أتى المروة ثم وضع يده في اذنه ثم نادى ثلاثا بأعلى صوته يا ايها الناس اني رسول الله ثلاثا فرمقه الناس بأبصارهم ورماه ابو جهل قبحه الله ـ

٢٤٧

الى المصدر (١). «فاصدع» بأمرك في دعوة عامة جاهرة دونما تخفّ ولا تقية (وَأَعْرِضْعَنِ) مجابهة «المشركين» او الخوف منهم (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ).

وجملة القول هنا ان الرسالة كما هي مرحلية في نفسها تذرعا بالعبودية والمعرفة الى القمة المعنية بها ، كذلك هي مرحلية عدّة وعدة في المرسل

__________________

ـ بحجر فشج بين عينيه وتبعه المشركون بالحجارة فهرب حتى أتى الجبل فاستند الى موضع يقال له المتكأ وجاء المشركون في طلبه وجاء رجل الى علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقال يا علي قد قتل محمد فانطلق الى منزل خديجة فدق الباب فقالت خديجة من هذا؟ قال : انا علي قالت يا علي ما فعل محمد؟ قال : لا ادري الا أن المشركين قد رموه بالحجارة ، وما ادري احي هو ام ميت فأعطيني شيئا فيه ماء وخذي معك شيئا من هيس وانطلقي بنا نلتمس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فانا نجده جائعا عطشانا فمضى حتى جاز الجبل وخديجة معه فقال علي يا خديجة استبطني الوادي حتى استظهره فجعل ينادي يا محمداه يا رسول الله نفسي لك الفدى في اي واد أنت تلقى وجعلت خديجة تنادي من احسّ لي النبي المصطفى من أحس لي الربيع المرتضى من أحس لي المطرود في الله من أحس لي أبا القاسم وهبط عليه جبرئيل (عليه السلام) فلما نظر الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكى وقال : ما ترى ما صنع بي قومي كذبوني وطردوني وخرجوا علي فقال يا محمد ناولني يدك فأخذ يده فأقعده على الجبل ثم اخرج من تحت جناحه درنوكا من درانيك الجنة ـ ثم ساق عرض الملائكة له نقمة الله من هؤلاء وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) جوابا عن مقالاتهم : قد أمرتم بطاعتي؟ قالوا نعم فرفع رأسه الى السماء ونادى اني لم ابعث عذابا انما بعثت رحمة للعالمين دعوني وقومي فإنهم لا يعلمون ...

(١) ف «ما» على الاول موصولة حذف ضميرها الراجع إليها ، وفي الثاني مصدرية وهي القدر المتيقن.

٢٤٨

إليهم ، فليست قفزة كالسيل الجارف تجرف بكل عدّاتها كافة عدّاتها في اوّل بزوغها ، فانها جيئة فجيعة تضم غروبها حين طلوعها حيث لا تتحملها المدعون بها.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٩٩).

ضيق صدر لأشرح العالمين صدرا ، لله وفي الله ، لا عن الله ، وانما عما يرى من الكفر بالله والهزء والتكذيب بآيات الله : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٦ : ٣٣).

ف (لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) و (بِما يَقُولُونَ) ولينشرح صدرك عن هذا الضيق بعد انشراحه بروح الله (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (وَاعْبُدْ رَبَّكَ.).

هذه زوايا ثلاث من الاتجاه الى الله ، تشكّل الحياة النفسية الرسالية لاوّل العابدين ، وعلى حد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما اوحي الي ان اجمع المال وأكون من التاجرين ولكن اوحي الي ان سبح بحمد ربك وكن من الساجدين. واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» (١) فقد «صبر (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نالوه بالعظائم ورموه بها فضاق صدره فانزل الله (وَلَقَدْ

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٠٩ ـ اخرج هذا المعنى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جماعة منهم سعيد بن منصور وابن المنذر والحاكم في التاريخ وابن مردويه والديلمي عن أبي مسلم الخولاني قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : .. وعن ابن مسعود وأبي الدرداء عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مثله.

٢٤٩

نَعْلَمُ ..)(١).

والتسبيح بالحمد هو سلب ما لا يليق بساحة قدسه تعالى من خلال إيجاب ما يليق ، فقولك إنه عالم لا يصح ان يعنى منه إلّا انه ليس بجاهل ، واما إيجاب علم له تصورناه فلا ، فاننا لا نحيط علما بذاته تعالى ولا صفاته ، إذا فكل صفاته ترجع إلى سلبيات.

ثم (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) ليس يعني انه لم يكن منهم ثم امر ان يكون منهم ، وانما هو استمرارية كينونة السجدة ، ان يصبح كل كيانه سجدة لله ، فارغا عما سوى الله ، كما

«وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا حزنه امر فرغ الى الصلاة» (٢) وهكذا يستعان بالصبر والصلاة ، وكما أمرنا (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (٢ : ٤٥).

وعل «الساجدين» هنا هم «المصلين» أخذا بأهم مواضع الصلاة ومواضيعها ، ام الخاضعين لحد النهاية في صلاة وسواها ، وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كل حالاته صلاة ، ولكن الصلاة أفضل من سواها.

إن دوامة التسبيح بالحمد في كل قال وحال ، وكل حلّ وترحال ، يجعل العبد منقطعا الى الله ، موقنا انه لا يفعل جزافا ، فدوامة الكفر لهؤلاء الحماقى هي من فعلهم وليسوا ليضروا الله شيئا فلما ذا ـ إذا ـ يضيق صدرك

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٧ عن اصول الكافي بسند متصل عن حفص بن غياث قال قال لي ابو عبد الله (عليه السلام) يا حفص ان من صبر صبرا قليلا وان من جزع جزع قليلا ثم قال : عليك بالصبر في جميع أمورك فان الله بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمره بالصبر والرفق فصبر حتى ..

(٢) المصدر عن مجمع البيان عن ابن عباس ...

٢٥٠

بما يقولون؟ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ).

ثم كيان السجدة ككل ، يتمم ذلك الانقطاع ، ، حيث تريح الساجد عن اي تعلق بغير الله حتى التعلق الرسالي المزعج للرسول حين يرى بالغ التكذيب من حماقى الطغيان.

ومن ثم (اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) تحلّق على حياة التكليف ككل ، أنها ـ فقط ـ عبادة الرب.

وهناك يخاطب الرسول ثالثة (وَاعْبُدْ رَبَّكَ ...) لا سواه ، حتى تتأول العبادة بغرض اليقين ، فإذا جاء اليقين فلا عبادة كما يقوله بعض الصوفية ، ولكم تكلمة في ختام البحث حق اليقين.

وترى كيف يخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو اوّل العابدين والموقنين ان (اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) وكأنه حتى الآن ما أتاه اليقين وهو بالغ أعلى ذروة من حق اليقين؟ ولأنه منذ بداية الرسالة ـ بل بداية التكليف ـ كان حاصلا على يقين فليكن تاركا لعبادة ربه ، فكيف يؤمر الحال (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)؟.

فهل اليقين هو الموت حيث تنقطع به العبادة وكما (كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) (٧٤ : ٤٧)؟.

كلّا! حيث اليقين هنا هو اليقين : كشف القناع عما كان عليه القناع لمن كان يكذب بيوم الدين ، أم ومن كان عليه قناع دون تكذيب والرسول ليس له قناع عن أية حقيقة قبل الموت حتى يكون الموت له حالة اليقين!.

ثم التعبير الصحيح والفصيح عن الموت هو الموت دون اليقين الذي هو لزام الموت لمن لم يبلغ قبله الى درجة اليقين!.

ومن ثم ليس الرسول ليترك عبادة ربه بعد الموت مهما اختلفت صورتها

٢٥١

ام وسيرتها عما قبل الموت ، فنفس الاتجاه الى الرب ، ولا سيما في الذروة الخالصة بعد الموت ، انها عبادة ومخ العبادة ، فكيف يقال له (اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) : الموت؟ وتركه لعبادة ربه وإن في لحظة في أية نشأة من النشآت ، انه موت عن القدسية المعرفية والعبودية!.

أم إن اليقين هنا هو المتيقن مفعولا لا مصدرا ، ف (حَتَّى يَأْتِيَكَ) العالم المتيقن موتا وقيامة؟ فكذلك الأمر إلّا في البعض من مشاكله.

أم إن اليقين هو اليقين ، ولكنه له درجات ، كل حصيلة درجة من العبودية ، كما ان كل درجة من العبودية حصيلة درجة تناسبها من اليقين ، فكما ان اليقين المعرفة لا حدّ له ولا نهاية ، كذلك العبودية ـ هي على غرارها ـ دون حدّ ولا نهاية.

ولان المعرفة متدرجة الى كمال وأكمل في النشآت الثلاث ، كذلك العبودية المناسبة له ، ولا نهاية للنشأة الاخيرة للصالحين ، فلا نهاية فيها ـ إذا ـ لليقين الناتج عن عبودية ، مهما اختلفت زمن التكليف عما بعده صورة ام وسيرة متعالية.

لكلّ من زوايا اليقين الثلاث درجات ، من علمه وعينه وحقه ، ولا نهاية لدرجات حق اليقين ، وهكذا يؤمر الرسول ان يعبد ربه ما هو حي في أية نشأة من النشآت ، وهو لا تصعقه الصعقة المميتة للأحياء في الدنيا وفي البرزخ ، فهو إذا ـ عبادة لربه ويقين منذ الدنيا إلى يوم الدين لا نهاية له في يوم الدين.

أتراه تهنأ له الجنة دون عبادة ، وليست جنته الروحية إلا ذروة العبادة ، وطبعا دون تعب ولا شغب.

وقد يوسع نطاق الخطاب هنا في «واعبد» فيشمل سائر المكلفين ، فمن اليقين لهم موتهم الا المحمديين المعصومين ، فالدنيا لمن سواهم حجاب ،

٢٥٢

فإذا جاء الموت فلا حجاب ، وفرض العبادة انما هو في نشأة التكليف ، لكن العارفون ليسوا ليتركوا العبادة بعد الموت وان لم يكن هناك تكليف ، إذ لا تكلّف هناك في عبادة الرب ، بل التكلف ان يكلّف العارف بالله ان يترك عبادة الله ، (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) تشتمل ـ بأحرى ـ شهيّات روحيات معرفيات من عبادات لله تعالى.

فقيلة القائل ان العبادة انما هي لغاية المعرفة اليقين ، فإذا جاء اليقين فلا عبادة ، إنها قيلة باطلة في أصلها وفرعها ، فحتى لو كان لليقين نهاية فلا نهاية للعبادة ، حيث العبادة هي قضية المعرفة ، لزاما دائبة معها ، ففي ضعف المعرفة ضعف العبادة ، وفي قوتها قوتها ، فكيف يصح ترك العبادة إذا قويت المعرفة ، فحتى لو كلف العارف بالله ان يترك العبادة كان تكليفا شاقا لا يطاق!.

ف (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) فيما تعني اليقين المعرفة ، ليست لتحدد واقع العبادة لحد المعرفة اليقين ، مهما كان الخطاب في «فاعبد» لغير أول العابدين ، واما فيما هو له يخصه ام ويعم على هامشه سائر العارفين ، فلان العبادة من وسائل المعرفة ، كما المعرفة من بواعث العبادة ، لذلك (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) بل (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فالعبادة غرض أقصى من خلقهم ، وهي لزام خلقهم ما هم كائنون ، ولكي يأتيهم اليقين حتى يعبدوه اكثر مما كانوا يعبدون.

فالعبادة والمعرفة هما فرقدان كل لزام زميله ، وتقدمة له وتكملة ، فكلما ارتقى كلّ ارتقى قرينه ، والفصل بينهما صعب ام لا يمكن حين يصل كل الى ذروة عالية من مدارجه.

أتراك حين تعرف مولاك اكثر مما كنت تعرفه تخف له طاعتك؟ ام تشف على قدر معرفتك؟ فكما المعرفة كمال العارف بالله ، كذلك العبادة كمال

٢٥٣

العابد لله ، فكيف بالإمكان ان يترك العبادة في يقين المعرفة ، وقضيتها الذاتية كمال للعبودية اكثر وأقوى وارقى؟.

وحتى لو أمر العارف اليقين ان يترك العبادة او يخف فيها ، ام لا يؤمر بالعبادة ، كان ذلك عذابا عليه وعقابا ، فكيف يفسر (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) بأنه إذا أتاه اليقين فلا عبادة ، لان العبادة هي ذريعة الوصول الى المعبود ، فإذا وصل بطلت الذريعة.

فانه لا وصول الى المعبود ، وانما هي درجات المعرفة يتدرجها العارف بالله بسلّم العبودية ، كما درجات العبودية يتدرجها بسلّم المعرفة ثم لا حدّ لها يقف عنده حتى بالموت.

واما قيلة القائل ان العابد مثله مثل الفحم يحرف فيحترق حتى يصبح كله نارا يحرق ولا يحترق ، فالعابد يصل في القرب الى معبوده لحدّ تفنى نفسه فيه ، فيمحو العابد بعبادته ثم ليس هناك إلّا المعبود لا عابد ولا عبادة ، وكما يقول قائلهم «انا هو وهو أنا» «ليس في جبتي الا الله».

فانها قيلة عليلة في كافة الموازين ، وكيف بالإمكان الوحدة الحقيقية في غير الواحد ، ان يتوحد الثاني السالك مع الأول المسلوك اليه ، فهل يفنى عن بكرته حقيقيا ـ ولم يفن ـ! فأين إذا «انا» حتى يكون «انا هو وهو انا»؟.

ام يفنى عن انيته نفسه معرفيا ، فلا يعرف العارف إلّا ربه ، جاهلا متجاهلا نفسه؟ فها هو الموجود العارف ربه في مقام قاب قوسين او ادنى ، لم يخرج عن كونه عبدا عارفا وانما وصل الى قمة من العبودية والمعرفة ، فكيف إذا «انا هو وهو انا» وقد اندكت الإنية والأنانية ، وأصبح معرفيا أصغر مما كان وأفقر الى ربه المعروف والمعبود ، فيصبح كالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) اوّل العابدين (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ).

٢٥٤

وعلى اية حال فمحال ان يصبح العبد نفس ذات المعبود ، على اي تأويل في وحدة الوجود ، ام يصبح في قمة المعرفة غنيا متعاليا عن العبودية والافتقار الى المعبود ، وقد كان يقول أول العابدين «الفقر فخري» وكان إذا حزنه امر فرغ الى الصلاة.

وما ترك العبودية لله للعارف بالله إلّا كاسفل درك من الجحيم ، فكيف يؤمر به ام لا يؤمر بها؟.

فما هذه القيلات العليلات إلّا جهالات وظلمات بعضها فوق بعض ، ركامات من جحيم اللّامعقولات ، وعرفانيات لا تعرف مقام الربوبية ولا يعرفها العارفون بالرب ، غباوات وغشاوات وطنطنات لا تملك اية برهنة الا ادعاءات جوفاء خواء والله تعالى ورسوله والعارفون بالله منها براء.

وقد يقال ان المعني من اليقين هنا هو الحد المحال وهو الحيطة المعرفية بالله ، إذا فلا ترك للعبادة حتى الوصول الى تلك المعرفة المستحيلة في أية نشأة من النشآت.

وجوابه (حَتَّى يَأْتِيَكَ) دون «لو» وتلك كغاية للعبادة المتمكنة هي بطبيعة الحال ممكنة! او يقال «اليقين» هو الموت ، وحتى يأتيك هي غاية للعبودية المأمور بها ولا امر بعد الموت إذ لا تكليف؟ وقد مر تزييفه وهنا مزيد ان امر العبادة التي هي لزام المعرفة ، لا فكاك لها عن اية مرتبة من المعرفة في الدنيا أو الآخرة.

كلام حول المعرفة والعبودية :

لا ريب انهما المحوران الأصيلان لكافة الفضائل والفواضل ، وانهما لزام بعضهما البعض ، فهل هما متوازيان متساويان حيث هما الغايتان ، فالعبودية غاية الخلق والمعرفة غاية العبودية كما لكل آية؟.

٢٥٥

لكلّ من المعرفة والعبودية مراحل عدة ، فالمعرفة العقلية لأبسط مراحلها هي مقدمة ضرورية لأبسط مراتب العبودية ، فإذ لا معبود معروفا فأين العبادة ، فهنا المعرفة تتقدم على العبودية تقدمة ضرورية ، ثم هما فرقدان اثنان يكمّل بعضهما البعض ، كلما ازدادت العبودية عمقا ازدادت المعرفة وكلما ازدادت المعرفة ازدادت العبودية عدة وعدة ، بفارق ان العبودية لا سبيل لها أصلا وتكاملا إلّا المعرفة ولكنما المعرفة تتكامل بسائر الأدلة كما تتكامل بالعبودية وهذه أعمقها لعمق المعرفة.

فالأدلة الفطرية والعقلية والحسية اما هيه عساكر عدة لتكامل المعرفة ، ولكنها ما لم تكن عشيرة العبودية لا تتكامل كما يحق ، فلا بد لكمال المعرفة تناصر دليليها ، ومن ثم كمال العبودية ، فالأصل الأصيل بينهما هو العبودية حيث تضم الى نفسها المعرفة ، فلذلك (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) واما (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) فهو اليقين المعرفة الاطمئنان في العبودية وليست لها نهاية إذ ليس للمعروف المعبودية حد ولا نهاية.

وهنا نتبين ان آية البقرة الجاعلة العبودية الهدف الأقصى والاسمى الوحيدة من الخلقة ، لا تعارض آية الحجر القائلة (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) فان «حتى» لا تعني الغاية الذاتية لما قبلها ، بل هي الزمنية ، المترتبة على العبودية ، والى غير النهاية ، دون الغاية المنحصرة ، وأية منافاة بين أن تكون العبودية غاية المعرفة ، ثم هي تغيّى زمنيّا باليقين وهي أخص من مطلق المعرفة ، حيث يعني طمأنينة المعرفة غير المتناهية.

فمع ان معرفة الله هي من الأصول الاصيلة بل هي رأس الزاوية ، ولكنها لا تعنى بحد ذاتها ، اللهم الا تذرعا الى العبودية ، فحتى لو دار الأمر بين المعرفة والعبودية فالعبودية هي الفضلى دون المعرفة ، ولكنه لا يراد من المعرفة إلّا للعبودية ، كما وان العبودية تزيد في المعرفة.

٢٥٦

وحديث الكنز «كنت كنزا مخفيا فأحببت ان اعرف فخلقت الخلق لكي اعرف» وان كان يجعل اصل الخلق لمعرفة الله ، ولكنها لزام عبودية الله ، كما ان العبودية لزامها المعرفة ، والأصل الاوّل هو العبودية.

فمثل المعرفة والعبودية في التمازج والتمايز مثل العلم والعمل ، فلا علم إلّا بعمل ، كما لا عمل إلّا بعلم ، ولكن العلم ذريعة العمل الصالح وليس العمل ذريعة اللهم إلّا لمعرفة أكمل هي ايضا ذريعة العبودية ، وكما التزكية هي حجر الأساس والتعليم ذريعتها ، ثم كل يزيد الآخر فاعلية.

او يعني (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) الإبانة لرباط وثيق عريق بين العبودية واليقين ، فما دامت العبودية دام اليقين على ضوءها وقدرها ، وإذا وقفت العبودية او خفت وقف او خف اليقين ، فانه طمأنينة المعرفة ومعرفة الطمأنينة للقلوب : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)!

والعبودية هي غاية المعرفة كما المعرفة راية العبودية ف : (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

٢٥٧
٢٥٨

سورة النحل مكيّة

وآياتها ثمان وعشرون ومائة

٢٥٩
٢٦٠