الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

فهم عبيدهم وهم عبيد الله ، ثم هم يسوون بينهم وبين الله «هل يستوون»؟

بل وهم يفضلونهم على الله في العبادة ام وسواها من شؤون الربوبية تفضيلا للمفضول على الفاضل ، وهم لا يرضون هذا او ذاك لأنفسهم ، و (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى)!

وقد تعني (مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ ..) فيما عنت ، مثل المؤمن ، فانه حسن الرزق منفقا له سرا وجهرا ، حرا في طاعة الله ، مقابل (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) مثلا للكافر فانه عبد للهوى ، مملوك للطغى ، لا يقدر على شيء من الإنفاق الخير على قدرته ، امتناعا بالاختيار ، «هل يستون»؟

وهل ان (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) تصف المماليك ككل ، انهم لا يقدرون تجاه مواليهم على اي شيء كما الميت بين يدي الغسال حتى يستفاد منها احكام المماليك في حدود تصرفاتهم؟ إذا ف «عبدا» تكفي عن كونه «مملوكا» كما انه كاف عن كونه «عبدا»! ثم وليس اي مملوك لا يقدر على شيء ، ولا واحد منهم ، حيث القدرة على شيء من مخلفات الحياة مهما كانت في أضعفها!

ثم المثل بيان من واقع ملموس لواقع غير ملموس ، ف (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) مثل لعبد بين العبيد هو ساقط القدرة لذلك الحد البئيس حتى يقاس بمن له القدرة على شيء كثير ، فيأتيان مثالا لله ومن يعبدونه من دون الله ، كما المثل التالي (أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) ليس ليستغرق كافة المماليك ، فان منهم من ينطق ، ومنهم من ينفق بسعيه وكدحه على مولاه ، فمولاه كل عليه ، وليس هو كلا عليه.

إذا ف (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) فيهما ، و (هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ

٤٢١

لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) في الثاني كما الأبكم فيه ، هذه وتلك ليست هي الصفات الكونية ولا الشرعية لكل المماليك حتى يستفاد منها أحكامهم ، فالروايات القائلة انها احكام المماليك هي من باب التطبيق لا التطويق.

اللهم إلا ان تكون «لا يقدر» صفة توضيحية والمقصود من «شيء» ليس كل شيء من اقوال وافعال وأحوال ، بل هو الشيء الذي لا يؤتى به إلا عن اذن أو ملكة مستقلة ، إذا فالضابطة المستفادة منها بالنسبة للماليك ان اختياراتهم ـ إلا ما خرج بدليل قاطع ـ محدودة ، وهذا هو الظاهر من الرويات (١) واللامح من نفس الآية ، واهل البيت أدرى بما في البيت ، هذا ، ولكن الأوصاف الاخرى في الآية التالية ليست كما هيه.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) لا سواه ، فكيف يحمد معه سواه ، ام يخص به سواه دونه ، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على هذه البراهين الساطعة على توحيد الله طردا لسواه ، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ما أنعم الموحدين إياه ، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ) لا سواه على اية حال (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فيشركون به ما ليس لهم به علم ، قصورا عن تقصير لمكان تقليدهم الأعمى ، ثم قليل منهم يعلمون ولا يصدقون (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا).

ام «هم» في «أكثرهم» كافة المكلفين ، ف «لا يعلمون» يعم الجهل والتجاهل ، وقليل يعلمون علم الايمان والتصديق.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٦٨ في الكافي بسند متصل عن ليث المرادي قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العبد هل يجوز طلاقه؟ فقال : ان كان أمتك فلا ان الله عز وجل يقول عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ، وان كانت امة قوم آخرين او حرة جاز طلاقه.

أقول وفي روايات اخرى نرى انهم عليهم السلام يستندون الى هذه الآية في محدودية المماليك كما حددت في الفقه.

٤٢٢

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ٧٦.

وهذا المثل الثاني تصوير للأبكم الذي لا يتكلم ، ثم لا يقدر على شيء صالح كلاما وغير كلام من سمع واعمال فكرية أم عضوية ، فلذلك (هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) في حاجياته الشخصية بدل ان يكلّ عليه مولاه في خدماته ، ف (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ) لحاجة (لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) ان لم يأت بشر.

(هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) بلسان طلق ذلق ، ومعرفة بالغة وسائر شروطات الأمر المجموعة في (وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)؟ (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وذلك مثل لعباد الله في كل شؤونهم ـ أيا كانوا ـ أمام الله ، من رزق رزقا حسنا ومن لم يرزق ، أنفق منه سرا وجهرا او ما أنفق ، فإنهم كلهم كلّ على الله ـ ان صح التعبير ـ لا يأتون بخير الا بالله ، فهل يستوون مع الله ، ولا سيما الأصنام التي هي عباد العباد لأنها من صنعهم (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٣٧ : ٩٦).

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ٧٧.

«ولله» لا سواه (غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلو كان له فيهما شركاء لكان هو اعلم بها من هؤلاء ، فإذ لا يعلم الله لنفسه شركاء فلا شركاء معه حضورا ام غيّبا : (أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (٤٩ : ١٦) ومن غيب السماوات والأرض امر الساعة حيث تستقبلهما ولا يعلم أيّان مرساها إلا هو (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) في سرعتها ، بالقدرة النافذة الماضية فيها «او اقرب» : بل هو

٤٢٣

اقرب ، وليس ذكر لمح البصر هنا إلا لأنه المعروف لدى العرف العام ، ولكنه اقرب من لمح البصر ، وعلّه واحد الحركة للمادة الام ، التي ليس ما دونها إلا السكون ففناء المادة ، فواحد الزمان يكفي لتنفيذ امر الساعة ، ولمح البصر امتداد لزمان حيث هو انتقال الطّرف من أعلى الحدقة الى أدناها ، والواحد الحقيقي لهذا الزمان لا يعلمه الا الله وهو اقرب من لمح البصر.

إذا ف (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) تنظير بنظير معروف مهما بان البون بينهما ، إذ لا نظير عندنا معروفا اقرب من لمح البصر ، في سرعة زمنية وسرعة نفاذ القدرة ، لذلك تراه في القمر (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٥٤ : ٥٠) وهنا «واحدة» تعني وحدة الارادة موصوفة لهذه الصفة ، دون تعدد فيها في اي أمر (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) واقرب من لمح البصر هو مشمول للقدرة المطلقة ، فما ليس مستحيلا ذاتيا تشمله القدرة ، الا إذا كان مستحيلا مصلحيا فلا تشمله القدرة لأنه خارج عن الحكمة الإلهية.

وترى (غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هو فقط علمه؟ ولم يذكر هنا العلم! والمذكور بعده غيب القدرة (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ ..) ثم تذييل لعموم القدرة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)! فأين العلم فقط؟.

ان (غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هو كما ترى يعم العلم والقدرة أما هيه من غيوب مطلقة لا تكشف ابدا ، ام تكشف يوم القيامة ، وذلك مثلث الغيب حالا وماضيا واستقبالا ، فله العلم والقدرة ـ قبل خلقهما وبعده وعند قيامتهما ـ لا سواه.

فمن غيبهما قبل الخلق انحصار القدرة والعلم بهما كيف ومتى يخلقهما وقد كان الله ولم يكن معه شيء؟ إذا فهما بحاضرهما وغائبهما كانتا غيبا ، مهما ظهرتا بغير غيبهما لغير الله ، كما شاء الله.

٤٢٤

ومن غيبهما بعد خلقهما ان بيده ملكوتهما علما وقدرة ، أما هيه من اختصاصات الربوبية ، «ألا له الخلق والأمر سبحانه وتعالى عما يشركون».

ومن غيبهما لقيامتهما ألا يعلم أو يقدر على قيامتهما الا الله ، ولا يعلم مرسى الساعة إلا الله (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وذلك الغيب المختص بساحة الربوبية في العلم والقدرة يعم آيات الرسالات فانها كلها لله ، وانما يظهرها على ايدي رسله باذنه تدليلا على رسالتهم وحتى بالنسبة لإمام المرسلين وخاتم النبيين وأفضل الخلق أجمعين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (١٠ : ٢٠) (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦ : ١٠٩).

بل وغيب الوحي الذي يظهر الله لرجالات الوحي ، هو كسائر الغيوب المطلقة (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (٧٢ : ٢٧)(١).

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ

__________________

(١) لقد بحثنا عن مختلف الغيب عند تفسير هذه الآية فراجع الفرقان (٢٩).

٤٢٥

وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ (٨٠) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (٨٥) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ وَإِذَا رَءَا لَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَآءَهُمْ قَالُوا

٤٢٦

رَبَّنَا هَـٰؤُلَآءِ شُرَكَآؤُنَا لَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِن دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ لْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَـٰذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى للَّهِ يَوْمَئِذٍ لسَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰؤُلَآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ لْكِتَـٰبَ تِبْيَـٰنًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩).

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ٧٨

آية ثانية في النحل بعد (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً)(٧٠) وهما الوحيدتان في القرآن كله ، تذكّر ان الإنسان حالته الجاهلة هنا (مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) وهناك ردا اليه كأرذل العمر ، فهل (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) تعم اي علم ام علمه كإنسان؟.

القدر المعلوم جهله حينذاك ، هو علمه كإنسان ، فانه يعلم الوجع

٤٢٧

حين يضغط عليه من وراء الرحم فيكمش نفسه ، وهذه اقل مراتب الحس في ادنى حيوان ، ومناسبة الحكم والموضوع في اللّايعلم بالنسبة للإنسان علمه كإنسان ، ف «شيئا» هنا يختص بشيء العلم الإنساني.

ثم لا يصح نفي العلم عن اي كائن حتى النبات والجماد : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (١٧ : ٤٤).

فكيف ينفى عن مشارف الانسانية وهي حالة الأجنة الحية ، ولا يصدق «لا يعلم شيئا» في اي شيء!

ثم (السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) وهي منافذ العلم وموارده انسانيا ، بعد (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) هو الآخر يدلنا على اختصاص العلم المنفي عن الأجنة بالإنساني فقط ، فالأذن والعين والقلب هي لسائر الحيوان ، ولكنما السمع والبصر والفؤاد لخصوص الإنسان (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله ربكم أن منحكم بهذه النعم الإنسانية وميّزكم عن سائر الحيوان والأنعام : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (٧ : ١٧٩).

فمرآة النفس الإنسانية خالية حين الولادة عن غير نفسها من العلوم الحصولية الإنسانية ، فهي عالمة بنفسها ـ لأقل تقدير ـ فتشعر الضغوط الواردة عليها حيوانيا ، ثم يعّلم سائر العلوم إلهيا وبشريا ، ومن الأول امتصاص الثدي تغذيا من اللبن :

وحالة (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) للإنسان حالة غريبة قد لا يستطيع ان يتصوره أي انسان ، مما قد تحسب غيبا قريبا ولكنه موغل بعيد ، رغم ان مولد كل انسان من المشهود القريب القريب.

ثم السمع والأبصار والافئدة هي جمعية مدارك الإنسان ، المتميز بها

٤٢٨

عن سائر الحيوان ، وهي مهابط غيب الوحي لإنسان الوحي (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

وهنا سؤال قد يكون من عضاله ، هو ان المعارف والعلوم الكسبية التي تحصل للإنسان بعد الولادة شيئا فشيئا هي بين بديهيات ونظريات ، فالنظريات لا بد وان تسبقها بديهيات ، وسبقها يستلزم كونه عالما بها ، وإلا فكيف (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً).

لكن البديهيات العقلية الانسانية ومن ثم نظرياتها التي تتبناها ، هي قضية (السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) المجعولة للإنسان بعد الولادة ، وهنا العقل وسيط بين هذه الثلاث رباطا وثيقا ، وهو يتبنى الفطرة الانسانية ، وهكذا تنحل هذه العويصة الشائكة الحالكة.

(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ٧٩.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ)

هنا القوة الجاذبية الارضية تجذب إليها الطير وسواها من كائناتها العائشة عليها ، والقريبة منها ، ما لم تصل الى جاذبية أقوى فانجذابا إليها ، ام متعادلة معها فوقوفا في جو السماء ، فكيف تطير الطير في جو السماء ـ ممسكة في طيرانها عن السقوط الى ارضها ـ لو لا ان الله ممسكها بما أمسكها؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله ، ام هم في طريق الإيمان بالله ، متحرين عن براهينه الساطعة. (١)

__________________

(١) راجع الفرقان ٢٩ : ٤٣ ـ ٤٥ تجد فيه تفصيل البحث حول الطير وإمساكها وسائر الطيران.

٤٢٩

فمن هذه الآيات التعبئة الداخلية في خلق الطير ـ كما في الأسماك ـ ومنها الأجنحة الخارجية ، وثالثة تعديلها مع الجاذبية الأرضية في الطاقة الممنوحة المختارة للطير ، حيث ترتفع بها أحيانا وتستوي اخرى وتنخفض ثالثة ، وتستكن رابعة اماهيه من حالات في طيرانها ، في صفيفها ودفيفها.

والطير هي أمثولة مخترعي الطائرات منذ زمن غير بعيد ، فكما لا يمسكهن هناك الا الله ، كذلك ما يمسك سائر الطائرات الا الله ، حيث الأصل مقتبس من الطير ، ثم العقل والعلم والتجربة كلها من صنائع الله ، كما الإنسان هو نفسه صنيع الله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)!

ثم وآية هي اكبر من الطير ومن الطائرات أرضنا التي نعيش عليها ، فانها طائرة في جو السماء (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَأَمْواتاً) (٧٧ : ٢٥) (١) ما يمسكها الا الرحمن كما الطير.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). فالقلب المؤمن هو الذي يشعر بدايع التكوين المتين ، وما فيها من روعة باهرة تهز المشاعر وتدفعه الى اليقين!

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) ٨٠

البيوت بوجه عام هي التي يبات فيها ويستراح ليلا ومن ضمنه نهارا ، وهي مربعة الأقسام ، منها ساكنة ثابتة ، ومنها متحولة متحركة ، وهي قد تكون لسكن الإنسان نفسه ، ام متاعه ، ف «من بيوتكم» وهي بعضها

__________________

(١) راجع الفرقان ٢٩ : ٣٤٠ ـ ٣٤٦ تجد فيه البحث عن حركات الأرض على ضوء «كفاتا».

٤٣٠

لمكان «من» تعم بيوت الأثاث وبيوت السكن ، وهما من الساكنة الثابتة ، إذا فهي سكن في بعدي أنفسها وساكنيها.

ثم (مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها) وهي البيوت المستخفة المتحولة ، فهي غير سكن في أنفسها ، وسكن لإنسانها وأثاثه (تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) وشخوصكم بأشخاصكم وأثاثكم ، والظعينة هي الهودج لأنها متنقلة (وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) بطيّات شخوصكم في الطرق ، ام في محال اقامتكم.

فلا عبء لكم فيها ظعنا واقامة لأنها بيوت مستخفة معمولة من جلود الانعام وهي الأنطاع.

(وَمِنْ أَصْوافِها) للضأن «وأوبارها» للإبل «وأشعارها» للمعز ، أما هيه من صاحبات الأصواف والأوبار والأشعار من مختلف الانعام ـ جعل من ذلك كله «أثاثا» لكم : طنافس وبسطا وثيابا وكسوة أما هيه من الأثاث «ومتاعا» آخر غير الأثاث ، تتمتعون به «الى حين» ارتحالكم الى الله.

هنا (مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) تعم كافة البيوت السكنيّة من اي الصنوف كانت وأيان ، والى هذا الزمان وما تستقبلنا من ايام تقدم العلوم والصناعات في عمارة مختلف البيوت.

ثم (مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ ...) هي بعض البيوت المتحركة الظاعنة ، كما هي البعض من كل البيوت ، لمكان «من» الصالحة لكلا البعضين ، فتشمل البيوت المتنقلة المتحضرة الحاضرة والمستقبلة ، برية وبحرية وجوية ، من جلود الانعام وغيرها من مختلف المواد وهي كلها من إنعام الله تعالى وأنعامه ، كما العقول والعلوم وكافة الوسائل المصطنعة والمخترعة هي كلها من نعم الله.

٤٣١

والسكن والطمأنينة في البيوت ، ساكنة ومتنقلة ، نعمة لا يقدرها حق قدرها إلا الشاردون الذين لا بيوت لهم لا ساكنة ولا متنقلة ، فالتذكير به يمس المشاعر الغافلة عن قيم هذه النعم.

ومن سكن البيوت المعنية هنا بإطلاق السكن السكينة النفسية والاطمئنان الشعوري ، اضافة الى السكن بدنيا ، وهكذا يريد الله من سكن البيوت ان تكون مريحا تطمئن إليه النفس وتأمن بكفاية بدنية ونفسية ، فردية لمن يعيش فردا ، وجماعية لمن يعيش مع أهله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣٠ : ٢١).

فليست البيوت امكنة الشقاق والخصام والنفاق ، وانما هي مأمن سلام لرفاق بكل وفاق ، فلا يسكن فيها إلا متلائمون ، ولا يدخلها داخل من غير أهلها إلا باستئذان وسلام ووئام ، دون تقحم فيها ، او تطلع عليها ، تجسسا على أهليها ، ام تحسسا عما يبتغى فيها ، فيروّع أمن ساكنيها ، ويخلّ بالسكن المطلق المطبق الذي يريده الله منها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٢٤ : ٢٧).

إذا فالجعل هنا في «جعل» يعم التكوين والتشريع ، بغية الأمن الشامل الكامل ، وبيتوتة الأرواح الى بيتوتة الأبدان.

ثم وذكر المتاع الى جانب الأثاث (مِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) فيه استعراض ما يلبّي الحاجيات الضرورية والأشواق ، حيث تشي بالتمتع والارتياح ، ومن الأثاث المتاع ومتاع الأثاث الفرش الصوفية ، يدوية ومكنيّة ، والملابس المصنوعة من كل من الثلاث.

ومن ثم يرق التعبير العبير في جو المسكن والطمأنينة : سكنا وأثاثا

٤٣٢

ومتاعا الى حين ، اشارة الى الظلال والأكنان في الجبال والى السرابيل الواقية وعن الحرّ واليأس :

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) ٨١.

هنا ننعطف الى ظل الظلال استرواحا في المسكن ، والأكفان طمأنينة ووسن ، والسرابيل تقية للبدن ، و «كذلك» البعيد المدى ، القريب الندى «يتم» ربكم (نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) لمرضات الله ، سلوكا في سبيل الله ، وانسلاكا الى حزب الله.

و «لعلكم» بذلك «تسلمون» أنفسكم عن الردى ، اهتداء الى الهدى ، و «تسلمون» أهليكم وسائر من إليكم (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً).

إسلاما في ذلك المثلث البارع الرائع ، فتكونوا في ظل الإسلام ظلالا عن كل حرّ ، وأكنانا عن كل شر ، وآمنين عن كل بأس وحرّ (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ).

وهنا في تعقيب البيوت السكن وما يتلوها ، بتلك الظلال والأكنان والسرابيل ، طمأنات أخرى تزيد الإنسان راحة عن كل عاهة ، إتماما للنعمة ، واستئصالا للنقمة (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ).

ثم (مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) تشمل كل ذي ظل ، من الآفاق الارضية الغائبة عن واجهة الشمس فظلال الليل ، ومن الجبال الشاهقة والجدران والسّقف والأشجار والسحاب المظلات خلقية وصناعية ، متحركة وثابتة ، وهي كلها ظلال عن النور والحر ، في الجو والبحر والبر.

فكما النور والحرارة من نعم الله ، كذلك ما تظل عنها من ظلال هي

٤٣٣

من نعم الله ، ولا سيما ظلال الليل ، وكل من الليل والنهار نعمة في موقعه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٢٨ : ٧٢).

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) خلقية كانت كالكهوف وسائر النقب فيها ، ام صناعية كالتونلات التي هي ممرات للسيارات والقطارات ، حيث تكنها من سقطات الأحجار ، وكذلك البيوت الآمنة الفارهة المتخذة فيها ، المنحوتة منها : (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) (١٥ : ٨٢) (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) (٢٦ : ١٤٩).

(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) والسرابيل هي الملابس فوقية ام تحتية ام شمولية ، وهي كلها لأهل الجحيم غير واقية (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (١٤ : ٥٠) مهما كانت لنا واقية ، فلا هي القمصان فقط ولا المآزر ، وإلا لكان أحدهما قضية البيان في القرآن.

ولماذا فقط (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) دون «والبرد» وذلك أحرى بكونه نعمة وأحوج في قارص البرد؟ علّه لأنها تعني شديد الحر حيث لا تقي بأسه الحارق المارق إلا ضخام السرابيل من جلود الانعام ، والمخاطبون الأول بداية البعثة هم اهل مكة والمدينة كمنطلق الدعوة ، والبرد في هذه المنطقة قليل مرغوب فيه لا يتقى عنه.

ثم السرابيل الضخام الواقية عن الحر ، هي بطبيعة الحال واقية عن البرد ، فلا تعني السرابيل هنا كل الألبسة حيث الرقاق لا تقي لا عن برد ولا عن حر إلا طفيفا خفيفا.

(وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) بأس الحروب كالدروع الحديدية أما هيه ،

٤٣٤

ام بأس الكروب كقسم من الأمراض التي تقي بأسها سرابيل خاصة طبية : (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)! فان أسلموا على ضوء هذه البراهين والتذكيرات بالنعم السابغة فهو المرام المرام.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ٨٢.

اجل (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٣ : ٢٠) (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ..) (٤٢ : ٤٨).

اجل (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٦ : ٨٢).

وانه بلاغ من الله بالغ مبين دون خفاء او إخفاء ، ام تجامل او تجاهل او تخاذل ، بل هو صراح مبين لكافة حقايق الوحي ، في مثلث الإبلاغ لفظيا بالكتاب والسنة ، وعمليا وتقريريا على غرارهما بكل إلفات ودون اي إفلات ، انه بلاغ الهداية الدلالية ، وليس عليه بلوغ مدلوليا ف (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٣ : ٢٧٢).

(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ). (١)

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٢٦ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد ان أعرابيا أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأله فقرأ عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ـ قال الاعرابي نعم ـ قال : وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها ـ قال الاعرابي : نعم ـ ثم قرأ عليه كل ذلك يقول : نعم حتى بلغ : كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ـ فولى الاعرابي فانزل الله (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ).

٤٣٥

آية وحيدة في صيغة التعبير ، فيها تنديد مديد من لدن لطيف خبير ، بهؤلاء الحماقي الأنكاد ، ورؤوس النكران والعناد ، من مشركين بالله ام ملحدين في الله انهم : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها ..) وترى كيف تجتمع المعرفة والنكران وهما متقابلان متضادان؟ ولكن «ثم» تراخي بينهما ، فالبداية هي معرفة نعمة الله ، كما هي قضية الحال فطريا وعقليا وحسيا ، ثم يتعامون عنها ويتجاهلون قضية الحرية في الشهوات والحيونات ، خروجا عن أسر الشكر والشكر بالأسر ، (ثُمَّ يُنْكِرُونَها) عمليا كفرانا في الأعمال ، أم وقوليا نكرانا في الأقوال ، ومن ثم عقيديا وهم عارفون (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (٢٧ : ١٤) وهم الذين (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(١٣) ثالوث النكران في دركاته الثلاث بعد العرفان.

فقد يجتمع العرفان والنكران لاختلاف المسارح ، ففي مسرح البرهان عرفان ، وفي مسرح العمل او الايمان نكران ، حيث المعرفة درجات كما العمل والايمان درجات ، ام وعرفان الايمان بعد البرهان ، ولكن لمّا يأت دور العمل فنكران عمليا ، مهما تقوّل بالايمان ، فانه خاو عن فاعليته ، فارغ عن قابليته.

فهؤلاء هم كلهم كافرون كفرا او كفرانا ولكن (أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) كفرا في عمقه وبكل حمقه.

فالنص «الكافرون» دون «كافرون» لتكون الاكثرية هي الكفر المعلوم اشراكا وإلحادا ، وكأنهم كل الكافرين ، لمحة من لام التعريف على الجمع مهما كانت موصولة هنا.

وأقلهم كافرون دون ذلك كفرانا ككافة العصاة ، ام بعض الكفر كالاكثرية الساحقة من اهل الكتاب غير المسلمين ، حيث هم موحدون مهما

٤٣٦

كان في توحيدهم خلل وعلل.

إذا فهم كلهم (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) بفصل فاصل بين العرفان والنكران ، ثم هم (أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) الغلاظ الشداد ، من أشداء الكفر والعناد حيث (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا).

ولا تخص نعمة الله هنا ـ ولا في اي مسرح ـ المادية المحسوسة منها فانها أدناها ، بل هي الروحية ايضا وباحرى ، من نعمة معرفة وجود الله وتوحيده ، ونعمة الرسالة عامة وخاصة ، ونعمة الولاية خاصة (١) وعامة (٢) ، وسائر النعم الروحية المعرفية والعقيدية ، يعرفونها ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٧٢ في اصول الكافي بسند متصل عن احمد بن عيسى قال حدثني جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (عليهم السلام) في الآية قال (عليه السلام) لما نزلت (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) اجتمع نفّر من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسجد المدينة فقال بعضهم لبعض : ما تقولون في هذه الآية؟ فقال بعضهم ان كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها وان آمنا فان هذا ذل حين يسلط علينا ابن أبي طالب فقالوا : قد علمنا أن محمدا صادق فيما يقول ولكنا نتولاه ولا نطيع عليّا فيما أمرنا ـ قال : فنزلت هذه الآية : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) يعني ولاية علي (عليه السلام) (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) بالولاية.

(٢) المصدر في تفسير علي بن ابراهيم قوله (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) قال : نعمة الله هم الأئمة والدليل على ان الأئمة نعمة الله قول الله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) قال الصادق (عليه السلام): نحن والله نعمة الله التي أنعم بها على عباده وبنا فاز من فاز.

أقول وهذا من قبيل الجري والتفسير بالمصاديق المختلف فيها بعد الاتفاق على نعمة الرسالة.

٤٣٧

وأهم هذه النعم بعد التوحيد هي نعمة القرآن ونبي القرآن (١) : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٢ : ١٤٦) ـ (... الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٧ : ٢٠) ـ (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢ : ٨٩).

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ٨٤.

«امة» هنا هي المجتمع الذي يؤم قصدا واحدا ويؤمّونه ، إذا فهي امة كل رسول من اولي العزم ، الا ان «شهيدا» قد يكون جنسا يشمل عدة شهود لكل امة ، في زمن واحد ام تلو بعض ، كما في الرسل الفروع والائمة المعصومين ، وقد دلت على منصب الشهادة لهم على هامش الرسول (صلى الله عليه وآله) : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢ : ١٤٣)(٢) ونزولا في خصوص علي (عليه السلام) : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (١٣ : ٤٣).

وهذه هي الشهادة على الأعمال يوم يقوم الاشهاد ، بما تلقوها عنهم

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٢٧ ـ اخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال : محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولفظ ابن أبي حاتم قال : هذا حديث أبي جهل والأخنس حين سأل الأخنس أبا جهل عن محمد فقال : هو نبيّ.

(٢) المصدر في كتاب المناقب لابن شهر آشوب ابو حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية قال : نحن الشهود على هذه الامة ، وفيه عن المجمع عن الصادق (عليه السلام) قال : لكل زمان وامة امام تبعث كل امة مع امامها.

٤٣٨

يوم الدنيا بما أشهدهم الله عليه منها «ثم» بعد بعث الشهداء (لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في اي كلام خلاف الشهادة والشهود ، ام اية محاولة لإخفاء شهادة أو نقضها أم تكذيبها ، فان (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٧٧ : ٣٦) حيث (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٣٦ : ٦٥) تصديقا واقعيا لواقع الشهادات ، فالجو هناك كله شهادات فويلات وويلات ولات حين مناص ، وقد مضى يوم الخلاص ف (لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) لا فحسب بل (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) حين يتطلبون زوال العتب عنهم ، بعذاب أجرد عن العتبى ، فضلا عما دون العذاب (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) (٤١ : ٢٤) (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٣٠ : ٥٧) (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٤٥ : ٣٥) اعتذارا واسترضاء قوليا ام عمليا وقد مضى وقته ، وقد فات أوان الاستعتاب وجاء أوان الحساب.

فيا لها من عتبى حين لا يؤذن لهم بكلام حتى الاستعتاب ، سلبيا ان تزال عنهم العتبى ، ام ايجابيا ان توجه إليهم العتبى استرضاء ام عتابا فان لله العتبى حتى يرضى دون سلب منهم او إيجاب لأنهم هناك خاسئون لا يحسبون بحساب الإنسان حتى يأتوا بخطب أو خطاب ، وقد «ذكر لنا ان نبي الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه»

فيضا لفائض دموعه على المذنبين من هذه الامة حيث يتلقى عليهم الشهادة ويشهد عليهم يوم القيامة مع سائر الاشهاد.

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ٨٥.

تعنى رؤية العذاب هنا البصرية قبل دخوله وهم على أشرافه بعد فصل القضاء ، (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ) تخفيف التطفيف فانه تخفيف ظالم عمن

٤٣٩

يستحق عدلا ، فما كان هنالك مجال للتخفيف فضلا وعدلا دون تجديف فيه بحق المظلومين ، فهو لا محالة كائن ، إذ سبقت رحمته غضبه ، وقد لا يكون إلا بحق الخارجين عن النار بأمد قريب أم غريب وهم أهل التوحيد كتابيين وسواهم ، وطبعا تخفيفا عما سوى ظلمهم بحق الناس.

(فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) تخفيفا ظالما بحق الآخرين (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) تأجيلا لعذابهم عن اجله المحتوم ، إذ فات زمن الإنظار في حياة التكليف بالتبشير والإنذار ، وأما اليوم فلات حين قرار ، لا عن أصل العذاب ولا عن حدّه او أمده بداية ونهاية فإنه قضية العدل.

وقد يقطع ذلك الصمت الى سمت آخر فيه إذن الكلام حوارا حائرا مائرا بين اهل النار لا تزيدهم الا حسرة وكسرة يوم التغابن الحسرة.

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ ، قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) ٨٦.

(الَّذِينَ أَشْرَكُوا) تعم عامة المشركين ، من عبدة الأصنام والطواغيت والملائكة والنبيين ، دون اختصاص بفريق دون آخرين ، ف «شركائهم» هم كل هؤلاء حيث يتراءون يوم الحساب لفصل الخطاب ، وهؤلاء الشركاء بين معذب معهم في النار كالطواغيت ، ام حصب معهم في النار كالأصنام (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (٢١ : ٩٨) إزراء بالمعبودين المصحوبين مع العابدين ، ام مكرمون يكذبونهم في اشراكهم إياهم بالله: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ).

وانما «شركائهم» دون «شركائي» لأنهم هم المختلقون ، فلا اشتراك لهم مع الله إلا حسب زعم عابديهم ، و «شركائي» تلمح الى شيء من واقعية الشركة ، كما قد تصرفها عنها فيما أتت «شركائي» قرينة قاطعة : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٢٨ : ٧٤).

٤٤٠