الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)(١٨)

هذه الآيات تحمل من ذكرى موسى بأيام الله طرفا نموذجيا هاما من أفراح وأتراح ، ففي إنجائهم من آل فرعون مجمع اليومين ، يوم نعمة بارزة لقوم موسى ونقمة لآل فرعون ، يوما حاضرا لهم يحملهما في عملية واحدة خارقة من الله ، ثم تذكيرا بأيام غابرة عابرة مرّ التاريخ ، ومن ثم أيام القيامة (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) ثم جمعا للذين كفروا عبر التاريخ في مثلث الزمان (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)!.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(٦).

(إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) تعطف إلى غرقهم دونهم وهو من ذكرى أيام الله في نعمة الله عليكم ونقمته على آل فرعون و «آل فرعون» هم

٢١

الفرعونيون ، نفسه كأصل وأتباعه كهوامشه ، والجمل الثلاث (يَسُومُونَكُمْ ... يُذَبِّحُونَ ... يَسْتَحْيُونَ) أحوال ثلاث لآل فرعون في فعلتهم بهم طوال عشرتهم في سلطتهم الجبارة.

والسّوم في الأصل ذهاب في ابتغاء شيء ، وآل فرعون كانوا يذهبون مذاهبهم في ابتغاء بني إسرائيل بغيا بكل صنوفه ومن أهمه تذبيح الأبناء واستحياء النساء لحد كأنهما هما سوء العذاب دون غير هما من عذاب وكما في البقرة والأعراف : «يسومونكم سوء العذاب يذبحون ـ يقتلون ـ أبناءكم ويستحيون نساءكم» (٤٩ و ١٤١) حيث يذكر ان ردفا بسوم العذاب دون عطف.

ثم وليس البلاء العظيم هنا ـ فقط ـ سوم العذاب وهو بلاء الشر ، بل والإنجاء من آل فرعون وهو بلاء الخير وهما في نجدي الخير والشر بلاء عظيم : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً).

وترى ذلك بلاء الخير «من ربكم» حيث أغرق آل فرعون ، فأين بلاءهم الشر : (سُوءَ الْعَذابِ) من ساحة الرب؟ نقول : كل بلاء خيرا أو شرا هو من الله ، فلو أن الله سدّ آل فرعون عن سوم العذاب فصد عن بني إسرائيل سوم العذاب كما أغرق آل فرعون ، لم يكن عليهم بلاء الشر والدنيا دار بلاء وابتلاء بخيرها وشرها ونفعها وضرها!.

فهنالك بلاء لامتحان الصبر دون امتهان الذل والتخاذل ، او احتمال العذاب بتضعضع وهزيمة روحية ، وانما استعدادا للوقوف في وجه الظلم والطغيان ، وتصبرا في الحفاظ على الإيمان والصمود في وجه الطغيان دون تلكع وتخضع.

ومن ثم بلاء بالنعمة والرخاء لامتحان الشكر بعد ما مستهم الضراء ، وما بلاء النعمة بأهون من بلاء النقمة ، بل وذلك أقوى ، فإنه أزل وأهوى ، حيث الزهوة والرعونة تأخذان من اهل النعماء مآخذهما الجبار :

٢٢

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (١١ : ١١).

ف «تدبروا احوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء؟! لم يكونوا أثقل الخلائق أعباء وأجهد العباد بلاء وأضيق اهل الدنيا حالا؟ اتخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب وجرعوهم المرار فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة لا يجدون حيلة في امتناع ولا سبيلا الى دفاع حتى إذا رأى الله جد الصبر منهم على الأذى في محبته والاحتمال للمكروه من خوفه جعل لهم من مضائق البلاء فرجا فأبدلهم العز مكان الذل والأمن مكان الخوف فصاروا ملوكا حكاما وأئمة اعلاما وبلغت الكرامة من الله لهم ما لم تذهب الآمال اليه بهم ..» (١).

ثم وتذبيح الأبناء وتقتيلهم هو من أسوم سوء العذاب وأسأمه ، فما هو دور استحياء النساء من سوم العذاب! وهنالك استحياء الرجال كما النساء حيث التذبيح يخص الأبناء ، وليس الإبقاء على حياة عذابا فضلا عن سوم العذاب؟.

إن استحياء النساء لا يعني ـ فقط ـ استبقاءهن أحياء ، بل واستخدامهن في محنة المهنة ومهانتها اثقالا عليهن بكل أثقال الأعمال بيتية وخارج البيتية ، ثم وإزالة حيائهن بممارسة الجنس ، حيث الاستحياء تشمل إيجاب : الإبقاء على حياة ، وسلب الإزالة للحياء ، ثم وفي استحياء الحياة لمن يقتل ابنها دون إبقاء حياة مزعجة مفلجة ، فأحلى للحامل أن تقتل مع حملها ولا تقبل حملها بعد حملها ، أفلا يستوجب ذلك البلاء

__________________

(١) قسم من الخطبة القاصعة عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام).

٢٣

الحسن بعد سيئه شكرا منهم متواصلا؟ : لذلك ففي استحياء النساء بمعناه الشامل بلاء دون الرجال إذ لم تكن فيهم ازالة الحياء بلواط وسواه!

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ)(٧)

آية التأذن هذه هي منقطعة النظير في القرآن كله ، فليست لتختص بذكريات موسى لقومه مهما شملتهم كأمة من الأمم المبشرة المنذرة ، ثم (وَقالَ مُوسى ..) قرينة لاحقة سابغة صابغة لها بصبغة العموم ، فلو كانت هي كسابقتها من تذكيرات موسى فلا موقع ل (وَقالَ مُوسى ..) مهما قالها موسى لقومه نقلا عما قال الله : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ..) وهو رب العالمين أجمعين طول الزمان وعرض المكان.

ولأن الأذان إعلام بإعلان ، فالتأذّن تأكد عام من الإعلام الإعلان ، فلا يخص أمة دون أخرى.

فذلك ـ إذا ـ تأذن عام في إذاعة قرآنية دائبة تضرب إلى أعمام الزمان كسنة جارية سارية المفعول للإنس والجان.

ومن لطيف التعبير هنا من اللطيف الخبير نسبة الزيادة للشاكر إلى نفسه تعالى تصريحا : «لأزيدنكم» ونسبتها للكافر إلى نفسه تلويحا : (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) وما الكفر هنا بردف الشكر إلّا ترك الشكران جهلا بالمنعم فكفرا ، أم تجاهلا فكفران ، والعذاب الشديد يعم الكفرين مهما اختلفت دركاته بدركاتهما ، عذابا في الروح وعذابا في الجسم ، عذابا في الأولى وآخر في الأخرى ، كل حسب الحكمة العالية من العدل الحكيم ، وكما الزيادة في الشكر يعم كل هذه وتلك في درجات حسب الدرجات وبركات فوق بركات ، كل حسب الرحمة المتعالية من الرؤوف الرحيم.

وهنا نقف أمام هذه الحقيقة بين الخوف والرجاء ، اطمئنانا بالوعد

٢٤

الصادق من اصدق الصادقين ، وشكر النعمة من اي منعم هو ردة فعل فطري لكل منعم عليه فضلا عن ارحم الراحمين ، واقله إظهارها في مقال ، وأدلّه هو في حال وفعال ، ان يرى المنعم استعمال نعمته فيما يرضاه ، علما واعترافا انه منه فلتستعمل له واليه ، فما الشكر ـ فقط ـ قالة : شكرا لله ، والحمد لله ، وأنت تستعمل نعمة الله في سخطه ، ام تهدرها فلا الى سخطه ولا رضاه ، فشكرها الأقرب هو المراقبة بها ، دون بطر ولا استعلاء على أحد ، ولا توسل بها الى سوء او ظلم وطغيان ، وانما استعمالها في خير لأنها خير من معطي الخير ، تجنيدا لكل الطاقات والإمكانيات في صرفها إلى خير ، والتصرف فيها إلى خير ، دون تبديل للنعمة نقمة ونعمة : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) (١٤ : ٢٩).

والكفر بنعمة الله يشمل الجهل او التجاهل بدرجاتها ام على البدل ، في قال او حال ام فعال ، فمن شاكر بلسانه كافر بسواه ، ام كافر بلسانه شاكر بسواه ، ومن شاكر بمثلث الشكر فأشكره ، او كافر بمثلث الكفر فأكفره ، ولكلّ درجات بما شكروا ، ام دركات بما كفروا وما ربك بظلام للعبيد.

والعذاب الشديد ليس إلّا على غرار الكفر بالنعمة ، فقد يكون بذهابها ـ فقط ـ ام بتبديلها نقمة ووبالا رغم كونها نعمة ، في الدنيا ام في الآخرة ، ام فيهما وهو أشد وأنكى ، وإن كلّ ذلك إلّا جزاء وفاقا.

وهذه الآية تطمئننا بأن «ما اعطي أحد الشكر فمنع الزيادة» (١) ف أيّما

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٧١ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما اعطى احد اربعة فمنع اربعة ما اعطى .. لان الله يقول (لَئِنْ شَكَرْتُمْ ..) وما اعطي احد الدعاء فمنع ـ

٢٥

عبد أنعم الله عليه بنعمة فعرفها بقلبه وحمد الله عليها بلسانه لم تنفد حتى يأمر الله له بالزيادة .. (١) بل «ان من عرف نعمة الله بقلبه استوجب المزيد من الله عز وجل قبل ان يظهر شكرها على لسانه» (٢).

ولكنه ليس فقط ذكرا باللسان ومعرفة بالجنان ، بل وعملا بالأركان وكما قال الله (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (٩٣ : ١١) ، تحديثا عن واقع النعمة وعن معرفتها بقال وفعال ، ففي ترك الجمع نفاق ، وفي ترك الجميع كفر ، وجمع الجمع ايمان ، فمن عرف وعمل بلا قول فنفاق ايمان ، ام عرف بقول دون عمل فدونه في الايمان ، ام ترك المعرفة والعمل الى قول فادنى الايمان ، ومن جمع بينهما فذروة الايمان ، والمزيد في النعمة ليس إلا على غرار المزيد من الشكر (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى)!

(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٨).

فانما الشكر مصلحة لحياة الشاكر دون المشكور له ، كما الكفر مفسدة

__________________

ـ الاجابة لان الله يقول : ادعوني استجب لكم وما اعطي احد الاستغفار فمنع المغفرة لان الله يقول : «استغفروا ربكم انه كان توابا». وما اعطى احد التوبة فمنع التقبل لان الله يقول : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ).

وفيه عن انس قال أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سائل فامر له بتمرة فلم يأخذها وأتاه آخر فأمر له بتمرة فقبلها وقال تمرة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال للجارية اذهبي إلى ام سلمة فأعطيه الأربعين درهما التي عندها.

(١) نور الثقلين ٢ : ٥٢٦ عن تفسير القمي قال ابو عبد الله (عليه السلام) أيما عبد ... وهو قوله (لَئِنْ شَكَرْتُمْ ..).

(٢) المصدر عن روضة الكافي بسنده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال : ان من عرق ...

٢٦

لها دونه ف (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ..) (٣٩ : ٧) والغايات في تكوين الله وتشريعه وشرعته منحصرة في خلقه منحسرة عن جناب قدسه ، فهو الغني في ذاته ، وأفعاله وصفاته ، والحميد بذاته مهما حمده الحامدون أم أنكره الناكرون ، فليس ليكسب كمالا وجمالا بشكرهم أو يحظو حظوة ، ام يخسر في جمال او كمال بكفرهم ف (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (١٤ : ١٨ ـ ٢٠) فلا تمنوا على الله بشكركم (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) ويقبل شكركم ، ويقبل بوجهه الكريم إليكم ، ولا تغتروا عليه بكفركم إذ لا غالب له وأنتم عبيده الفقراء.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)(٩).

متابعة لتذكير موسى قومه بأيام الله في بلائه السوء على الغابرين الذين خمدت نيرانهم وعفت آثارهم وأخبارهم ، وهنا موسى راوية يتوارى أمام الرسل والرسالات ليستمر في عرضها بأزمانها الخالية وفي كل مكان ، حيث يتلاشى فيها الزمان والمكان ، مؤشرا إلى أحداث الروايات الكبرى وكما النبأ هو خبر ذو فائدة عظيمة ، ثم يفسح المجال للأبطال يحدثون في حوار بين الحق والباطل ، حيث يتخطى أبعاد الزمان والمكان ، ويتخلص إلى إبعاد الباطل عن الرسالات الإلهية وحملتها ، وزجّ المعارضين إلى مكان سحيق محيق من باطلهم الزائف وكفرهم الحميق العميق.

هنالك نشهد مشاهد الرسل الكرام أمام الكفرة اللئام ، يواجهونهم بكل جاهلياتهم ، في تواري الأشخاص والشخصيات ، بمظاهر الحجاجات

٢٧

بين (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ..).

وهنالك النبأ يعم نبأ الرسالات الموجّهة إليهم ، ونبأ كفرهم بها ، ومن ثم نبأ استئصالهم بالعذاب ، تقديما لنبإ الحجاج في بعديها (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) آيات من الله بينات جليات لا خفاء فيها ، فالرسل هم بأنفسهم بينات ، يحملون آيات بينة على رسالاتهم ، ومن ثم البيان الرسالي ، فهم إذا في مثلث البينات ، فلا نجد رسولا دون بينة كأوضح حجة على المرسل إليهم ، ولكنهم :

(فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ).

آية منقطعة النظير في حجاج الرسل مع المناوئين وسواهم ، لا نجد لها مثيلا في سائر القرآن ، حيث تجمع بين مختلف الحوار الرسالي بين الرسل والمرسل إليهم في كلمة واحدة تحتمل معاني عدة بين صالحة على درجاتها ادبيا ومعنويا ، وبين سواها ، والقرآن حمال ذو وجوه فاحملوه إلى احسن الوجوه.

فقد ترجع الضمائر الثلاثة هنا الى مرجع واحد : رسلا؟ ١ او ٢ مرسلا إليهم؟ ام ٣ الاوّل للأولين والآخران للآخرين ، أم ٤ الاوّل للآخرين والآخران للأولين ٥ أم الأول والآخر للأولين؟ ٦ ام هما دونه للآخرين.

ثم ١ الايدي قد تعني الجارحة الظاهرة ام الحجج الباهرة ، و «في أفواههم» ظرفا مستقرا ل «ردوا» ام ٢ لغوا لمقدر ، و «في» نفسها قد تعني معناها ، ام «٣ الى او ٤ الباء» وهي ثمانية وأربعون احتمالا حسب متحملات لفظية ومعنوية.

ولأن الظاهر من «في» ظرفيتها دون تأويلها إلى الباء أو إلى ، وأن الظاهر

٢٨

استقرار الظرف هنا دون لغويته ، ف «في أفواههم» إذا ظرف ل «ردوا» لا سواه ولا سواها ، مهما كان للغوه مستقر من معنى (١).

فهل الرسل هم الذين ردوا أيدي أنفسهم في أفواههم أيديا وأياديا ، أن عضوا عليهم الأنامل من الغيظ كيف ينكرون بيناتهم ، ام سكتوا عن بيناتهم بعد ما لم يجدوا لها تصديقا من الناكرين؟

ام هم المرسل إليهم أن ردوا أيديهم الجارحة في أفواههم إذ عضّوا أناملهم تغيظا على رسلهم وحنقا عليهم وحنقا كما يفعل المتوعّد لغيره ، المبالغ في معاندته ومكايدته ، وهذه عادة معروفة مألوفة في المغيظ المحنق عض الأنامل وفرك الأصابع! ، او هزء بهم ـ كما يفعله المجان والسفهاء ـ وضعة منهم وإزراء عليهم؟ أم ردوا حججهم الداحضة في أفواههم إذ لم يقدروا ردا على رسلهم؟ ام سائر المحتملات من الاثنى عشر؟.

ولكنما الحجج باهضة وداحضة لا تسمى أيديا بل هي أيادي تؤيد حقا او باطلا ، فالمحتملات إذا ستة! وهي الأول على كون الأيدي هي الجوارح.

فقد رد المرسل أيدي أنفسهم إلى أفواههم تحسرا عليهم وتغيظا ، وكما رد المرسل إليهم هزء منهم وضعة ، وتاشيرا لهم أن اسكتوا مانعين لهم عن الكلام كما يفعل المسكت منا لصاحبه ، الراد لقوله ، وقد (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) إظهارا للتمنع من الاستماع والسماع ، ومن الكلام إلا تكذيبا لهم وكما (قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ..).

__________________

(١) فردوا أيديهم الكائنة في أفواههم الى ما كانت بطبيعة الحال ، حيث قضت بيناتهم على عجابهم إذ جعلوا أصابعهم في أيديهم عضا عليها.

٢٩

ام هم ردوا ايدي الرسل في أفواههم حيث صدوا عليهم منافذ الكلام ، وردوا حججهم من حيث جاءت؟ وكما الرسل ردوا ايدي هؤلاء في أفواههم بما واصلوا في دعواتهم ودعاياتهم ، فسكّتوهم عن حججهم الداحضة إلا ردهم (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ...).

فقد تعم الايدي هنا الايادي ، فهي الجارحة أحيانا ، والجانحة اخرى ، وقد حصل كل ذلك في ذلك الحوار المحتدم طول التاريخ الرسالي ، حجة باهضة من هؤلاء الأكارم ، وداحضة من أولاء اللئام.

فهنالك أفواه الرسل التي تفوح منها كل بيّنة رسالية دامغة ، وأيديهم واياديهم الباهضة الناهضة بكل حجة ، وهم يردون بأيديهم وأفواههم ايادي أئيمة في أفواه لئيمة دحضا لحججهم ، وخوضا في لججهم ، وهناك أفواه الناكرين التي تفوح منها كل نكرانة داحضة وأيديهم واياديهم في فيهم استئصالا لبينات الرسالات ، وكما هي في أفواه الرسل صدا عن أقوالهم ، ولا يأتون بشيء مهما أرعدوا وعربدوا ، وضجروا وزمجروا ، إلا فعلتهم عضا على أناملهم وهزء برسلهم ، وإلّا قولتهم (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) دونما شطر من حجة إلا تنمردا وتمردا.

وهنالك الايدي التي في أفواه المرسل إليهم هزء ترد الى ما كانت إذ لا يقدرون على شيء مما كسبوا ، وقد كانوا إذا بدأ عليهم الرسل بكلام سدوا بأيديهم اسماعهم دفعة ، وأفواههم دفعة ، إظهارا منهم لقلة الرغبة في سماع كلامهم وجواب مقالهم ليدلوهم بفعلتهم على انهم لا يصغون لهم الى مقال ولا يجيبونهم عن سؤال ولا يعتنون بشأنهم على أية حال ، إذ قد أبهموا طريقي السماع والجواب وهما الآذان والأفواه وكما عن قوم نوح (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) (٧١ : ٧). والتي في أفواههم عجبا من

٣٠

بينات الرسل ترد الى ما كانت لحالة اعتيادية تصديقا لهم وتسليما.

والتي في أفواه الرسل من الناكرين ترد إليهم فالجة خارجة عما هي فيه فان الباطل كان زهوقا.

والتي في أفواه الرسل من أنفسهم لمّا ييأسوا ترد إلى استدرار الدعوة فان للحق دولة وللباطل جولة ، «وغلب هنالك المبطلون».

فكل الايدي والايادي ، وكافة الأفواه فاشلة عاطلة امام أفواه الرسالات وأيديها واياديها مهما زمر الباطل ودمّر ، فانها سوف تزمجر وتدمّر ، فان الحق يملك كافة البينات مهما أنكرها الناكرون ، والباطل لا يملك الا دعايات زور وغرور (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً).

فردّ الأيدي قد يعني ردها إلى ما كانت ، وأخرى ترديدها في الأفواه مرارا وتكرارا حيث كانوا يكثرون جعلها في أفواههم عند كلام الرسل.

(فَرَدُّوا ... وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) ويكأنهم يكفرون بمادة الرسالة مع التصديق بأصلها ، فهنا (بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) دون «بالرسالة» وذلك تناقض بين ، ام وتشمل الرسالة باحتمال «ما» مصدريتها على هامش انها موصولة ، وضمير الغائب «به»برجوعه الى «ما» تؤصّل بموصوليتها نكران مادة الرسالة والجمع أجمل واشمل.

ومن ثم (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) شك مريب يورّط الشاك في ريبة حيث هناك في مادة الدعوة ما يريب ، رغم ان بينات الرسل لا تشكك فضلا عن ان تريب ، حيث الريبة ليست إلّا بما يضل او كاد ، والبينة ليست إلا لتهدي أو تكاد وعلّ الفصل بين الصفة «مريب» وموصوفها «شك» للتدليل على ان الريبة ليست إلّا من الدعوة ، حيث لحقت «مريب» الدعوة بمادتها (مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ).

٣١

فما جاءوا ـ إذا ـ الا بكل دعاية زور وغرور ومدعي الباطل يتفلت في كلامه دون تلفت ، فهو يبطل باطله بنفسه دون حاجة الى ابطال ، خاسرا في حاله ومقاله على أية حال.

والى جواب فالح كاسح عن اي شك وأية ريبة مما يدعو إليه الرسل ، كاملا شاملا يجتث كل خالجة على ساحة الربوبية :

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)(١٠).

ان دعوة الرسل تبدء بإثبات وجود الله وتتوسط كركيزة لها بتوحيد الله ، وتختم بصفاته الحسنى وقضيتها ضرورة الرسالة والمعاد ، والناكرون في الله بين ثلاث ، إلحادا فيه واشراكا به ونكرانا لأصلي الرسالة والمعاد بعد توحيده ام قبله ، فقيلة الناكرين من قبل (إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) تعم كل ما جاء به الرسل من هذه الثلاث ، وقد أسرفوا في الكفر بما جاءوا به (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) انهم هم الغرقى في شك مريب ، ولكن (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يزيح كل شك وريبة عن ساحة الدعوة الرسالية ويسد كل ثغرة ونافذة الى اي شك واية ريبة.

فأصل انفطار السماوات والأرض دليل على اصل وجود الفاطر ، والوحدة السائدة في المنفطرات في كل صغيرة وكبيرة ، بما يرى وما لا يرى دليل على وحدة الفاطر ، والرحمة السارية فيها لكل على حدها وحاجتها دليل على رحمته الخاصة بالخاصة منها والإنسان في هذا الميدان سابق على الكائنات بأسرها بسابغ الرحمة المتعالية في روحه وجسمه فانه في أحسن تقويم ، فقضية الرحمة السائدة من فاطر السماوات والأرض ان يختص نوع الإنسان وأضرابه بخاصة رحمته وخالصتها التي تخرجه من الظلمات الى

٣٢

النور ، ألا وهي رحمة الوحي والرسالة.

ولان الفطر هو الشقّ فالانفطار هو الإنشقاق إما في نفس الشيء وهو الإنشقاق عن كيانه (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) (٧٣ : ١٨) ام انشقاقا في غيره واشتقاقا عنه كما في خلق السماوات والأرض واين انفطار من انفطار؟ إذا فالسماوات والأرض منفطرتان منشقتان عن اصل سابق هو المادة الاولية للكون وكما في آية هود : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ..) (١١ : ٧) فقد فطر السماوات والأرض عما سماه ماء وهو المادة الاولى التي خلقها لا من شيء.

فمما لا يريبه شك لدى الأحزاب الثلاثة : الملحدين ـ المشركين والموحدين ـ ان السماوات والأرض هما منفطرتان عن اي كان ، والانفطار دليل الفاطر ، وانتظامه بملايين القوانين دليل علمه وقدرته وحكمته البارعة ، والوحدة السائدة فيه دليل وحدته ، ولا يملك اي مدلول ما يملكه فاطر السماوات والأرض من براهين قاطعة ساطعة فطرية وعقلية وكونية : آفاقية وانفسية ، وكل الى ذاك الجمال يشير!

ليس في الله شك فضلا عن شك مريب ، مهما شك فيه الشاكون وارتاب فيه المرتابون.

أفليس العقل والعلم يقولان وكل فطرة وفكرة تقول : كل حادث بحاجة ضرورية الى محدث ، وكل منفطر لزامه فاطر ، فعلى قدر الحكمة في الانفطار نستدل بحكمة الفاطر الجبار؟

أليس العقل يحيل حدوث شيء دون علة تعاصره وتناصره ما هو كائن كما كوّن؟

٣٣

أليس العلم لا يزال يفتش عن علل الحوادث الخفية (١).

(أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فمجرد الاشارة إليهما والإحالة عليهما يكفي ، حيث يرد الشارد المارد الى رشده سراعا ، فلم يزد الرسل على الإشارة حيث العاقل تكفيه الإشارة.

إن الانفطار الإنشقاق واقع معلوم ملموس لا مردّ له في كل كائن سوى الاوّل : المادة الفردة الأولى ، فإنها لم تنشقّ عن شيء قبلها ، وانما خلقت لا من شيء ، ثم فطرت سائر الأشياء كلها من المادة الأم ، بوسيط ام بوسائط ام دون وسيط ، حسب مختلف التراكيب الذرية والجزئية والعنصرية اما هي فوق الذرية وبعد العنصرية ، فانها كلها منفطرات ، وقد عبر عنها كلها في القرآن كله ب (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تعبيرا عن الكون المنفطر دون المادة الام.

ام انها ايضا تدخل ضمن الكل في نطاق الانفطار ، انشقاقا لا عن شيء إلّا الارادة الإلهية ـ ان صح التعبير ـ والانفطار هنا هو انفطار التعمير ، ومن ثم انفطار التدمير (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (٨٢ : ١) ولا نجد الانفطار في سائر القرآن إلّا تعميرا عن المادة الام ام تدميرا ، ولكن الخلق قد يعم إيجاد المادة الام وولائدها ككل : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١٣ : ١٦) والمادة الأم شيء بل هي اصل كل شيء ، مخلوقة قبل كل شيء.

فليس الخلق هو التقدير فقط ، إذ لا تقدير في الخلق الأول إلا بعد خلقه (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢٥ : ٢) (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٨٧ : ٣) وان كان (كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ

__________________

(١) راجع كتابنا «حوار بين الإلهيين والماديين».

٣٤

(٥٤ : ٤٩) فهناك قدر في العلم يسبق خلق كل شيء ، ثم قدر بعد الخلق يلحقه ، ولان الإنفطار ولادة وتبدل ، فهو حركة في ماهيات الأشياء ، دائبة في المادة والماديات على أية حال.

والحركة لزامها التغير والزمان ، وهذه الثلاث لزامها التركب في اصل المادة وفرعها ، وقد يعم الانفطار هذه الأربع بحذافيرها ، فآية الفاطر هي من البراهين القاطعة الشاملة لحدوث العالم.

ثم العلم المحيط والقدرة المطلقة والحكمة العالية بارزة في كل منفطر في الكون (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (٦٧ : ٤).

ف (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) دليل اوّل يزيح كل شك وريبة في الله ، ثم (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) دعوة اولى بضمان الايمان ومن ثم دعوات أخرى على ضوء الايمان بشروطه غفرا لسائر الذنوب ، دعوة مربحة مريحة ، ليست لان الفاطر بحاجة في دعوته الى منفطر ، بل غفرا عن ذنوب هي لزام البعد عن الله.

فمن غفر لا يخرج المغفور له الى توبة وسببه الايمان : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (٨ : ٣٨) وهذه دعوة اولى فيها غفر لبعض الذنوب وهي السابقة على الايمان وطبعا من غير حقوق الناس ، و (ما قَدْ سَلَفَ) هي (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ثم السالف الخاص بحقوق الله ، بعض من بعض.

ومن ثم الايمان قيد الفتك لاحقا بضمان الجهاد فغفرا لكافة الذنوب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا

٣٥

الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٦١ : ١٢).

فقد وعد المؤمنون المجاهدون بغفر ذنوبهم كلها ، والكافرون بغفر البعض إن آمنوا وهكذا نرى فيما خوطب به الكافرون كما هنا وفي سواها : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ...) (٤٦ : ٣١) (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ. يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ..) (٧١ : ٤).

ومن ثم الذين آمنوا وأصلحوا وجاهدوا يغفر لهم ذنوبهم بتوبة او ترك كبائر السيآت او فعل كبائر الحسنات كما هنا ، وبالشفاعة في الاخرى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٨ : ٢٩) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ...) (٣٣ : ٧١).

فالقول ان «من» هناك زائدة زائدة من القول ، بل هي قاصدة ما قصدت من تبعيض.

وقد تعني (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فيما تعني تأخيرا لأجل هم بالغوه تكملة للغفران بكمال الإيمان ، كما تعني تأجيلا عن عاجل العذاب ان لم يؤمنوا ، فسحة لمجال التفكير حتى يؤمنوا ، فيغفر لهم ما قد سلف ومن ثم سائر الذنب على شرطه.

ترى وما هو «اجل مسمى»؟ انه المحتوم المسمّى في ام الكتاب وهو لا يؤخر مهما قدّم معلقا وهو الأجل المعلق : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) (٧١ : ٤) فأصل الأجل هو المؤجل لمسماه وقد يعجل قبل مسماه لسبب غير مسمى او مسمى كعذاب الاستئصال ، فمن التأخير الى اجل مسمى الإمهال إليه دون عذاب ،

٣٦

ولكن الذين كفروا وكذبوا بآيات الله وظلموا قد يستعجل لهم العذاب قبل الأجل المسمى.

فالآجال المعلقة قد تعلق بسيئات العقائد والأعمال فعذاب الاستئصال ، او اللامبالات في الحفاظ على الحياة من صاحب الأجل او الآخرين ، او التعمد في هدر الحياة منه او الآخرين ، ثم الحسنات ـ بإذن الله ـ قد تحول دون تحقق الآجال المعلقة كما في نار ابراهيم الخليل ، وقد لا تحول كما في سائر المضطهدين من اولياء الله ، لطفا خفيا بهم ، وكما يجلو أحيانا لآخرين.

او ما كان جواب الناكرين عن هذه الحجج البالغة؟ انه التعلق بمنعة المماثلة في البشرية عن اختصاصهم بالرسالة : (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ..) وهي تتضمن تصديق الحجة السابقة إلّا في مصداقها الرسالي ، فالمماثلة في البشرية حاضرة ماثلة ، فأنتم بشر كما نحن ، فلنكن وإياكم على سواء فيما أنتم ، فإذ لا نجد في أنفسنا وحيا ولا رسالة ـ ونحن أحرى بما نملك من اموال وبنين ـ فبأحرى ألّا تجدوا أنتم في أنفسكم وحيا ولا رسالة حتى بالنسبة لأنفسكم فضلا عمن سواكم ، فليكن حامل رسالة الوحي غير بشر.

فما أنتم الّا صادين عن سبيلنا (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) فهل نترك ما تعودناه وعهدناه من آباءنا القدامى بدعوى خاوية خالية عن سلطان ، فما تزيدوننا غير تخسير حين تتفضلون علينا بادعاء جوفاء (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) (٢٣ : ٢٤).

ولو انكم مفضّلون علينا بوحي ، ام أنتم على حق مما تصدون (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أنكم بحق وعلى وحي ، وكيف نترك ما يعبد آباءنا دون سلطان مبين ، ونحن في ذلك على سلطان الآباء.

٣٧

وترى أن السلطان المتقاضى هو آية الرسالة البنية؟ و (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ ...) (٥٧ : ٢٦) فما من رسول إلا أرسل بآية لرسالته بينة منذ دعوته فكيف يتطلبون سلطان الآية على رسالاتهم؟!.

انهم كانوا يتطلبون منهم آيات كما يشتهون غضّا عما أتوا به من آيات فيها الحجة البينة ، آيات هي سلطان على عقولهم كما يهوون ، ام هي سلطان على نفوسهم لو انهم رسل الله (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ..) (٨ : ٣٢).

فالسلطان ـ أيا كان ـ هو السلطة عقلية او نفسية على طالبه ، غلبا على عقله حتى يصدّق ، ام غلبا على حياته إذ ليس ليصدّق ، وهو على أية حال آية غالبة ، ولا سيما المبين حيث يبين الحق عن الباطل ، ولذلك تمتاز عن سائر الآيات كما ويفرد بعدها بالذكر : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) (١١ : ٩٦) وهنا الجواب حازما حاسما بين تصديق لصادق الحجة وتكذيب لكاذب الدعوى :

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١١).

ف (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) تصديق للماثلة ، ثم «ولكن ..» إخراج عنها ، فإنما المماثلة في البشرية الظاهرة بمتطلباتها ومشاركاتها ، ثم الخروج عن قضيتها المتعودة بما (يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).

فكما أن المماثلة في أصل البشرية في سائر البشر لا تقتضي المساواة في العلم والعقل من الأمور المعنوية ، وبل ولا في الجمال والمال والأولاد وسائر الميّزات الظاهرة من غير المعنوية ، كذلك ـ وبأحرى ـ بالنسبة لخارقة معنوية كالوحي والرسالة.

٣٨

ولئن رجعوا قائلين ان هذه الميزات من حصائل المساعي على قدر سعي الساعي ، ولكنما الوحي ليس يحصل بالسعي ، فالجواب (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).

فكما بالإمكان الواقع تفاضل البشر ـ على مماثلتهم ـ في بعض الفواضل والفضائل بما يعملون (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) كذلك الإمكان في التفاضل بما قد يأملون على ضوء ما يعملون ، قضية الضرورة القاطعة من هدى الله ، دون فوضى جزاف فيمن يهدي به الله وحيا (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ام ودون عمل كما في الجمال وأمثاله.

فهل من صاد يصد عن رحمة الله ومنّه على من يشاء من عباده ليشملهم كلهم برحمته؟ وكل الرحمات هي من الله لا سواه (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٤٣ : ٣٢).

فإذ يمن الله على بعض في بعض النعم بما سعى ، فمنه على بعض ومنّه على العالمين اولى وأحرى ، منة ضخمة لا على اشخاص الرسل وحدهم ، ولكن على البشرية التي تشرف بانتخاب افراد منها لهذه المهنة العظمى ، تلقيا بالقلب من الملاء الأعلى ، وإلقاء على سائر المكلفين بكل سلطان مبين ، رسالة واحدة هي ضرورية لهدى الحائرين الضالين ، فسلبها كليا سلب لرحمة كتبها الله على نفسه ، وإيجابها لكل احد هدر للوحي حين يلقى الى قلوب مقلوبة ، وتسوية ظالمة بينها وبين قلوب طاهرة ، وتسيير لغير الصالحين الى صلاح الوحي وصالحه ، وسلب للامتحان ، فليختص بمن صنع نفسه مؤمنا كأعلى القمم الممكنة ، ثم يصنعه الله كما هيأه من ذي قبل ، صناعة مثلثة الزوايا ، والأخيرة منها هي رأسها حيث يسده الله تعالى عن كل خطأ ، ولكنها ليست فوضى جزاف ، وانما بما سعى وقدر ما سعى ، وان كان الله يساعده في المبدء والمنتهى ، فالمأثوم عمدا وسواه لا

٣٩

يصلح ان يصبح معصوما ، وانما الذي يصنعه الله على عينه ويرعاه برعايته وهو يعمل بعين الله كما يجب وكما قال الرسول (ص): «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت».

ولكن السلطان ـ أيا كان ـ ليس هو من فعلنا وتحت قدراتنا ، ف (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) كما نقول وتقولون (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) لأنه ـ فقط ـ فعل الله دون تحويل لسواه او تخويل ، (وَعَلَى اللهِ) لا سواه (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فنحن نتوكل عليه في رسالاتنا ودعواتنا وعلى سائر المؤمنين امن يفتش عن ايمان ان يتوكل عليه في سلطان وسواه ، دون توكل على الرسل فإنهم بشر كما أنتم (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ..).

(وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(١٢).

وهذه تتمة من صامدة الحجة الرسالية تقطع آمال الناكرين المعارضين حين يسمعون المرسلين مطمئنين الى مواقفهم ، (وَما لَنا) في رسالتنا (أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) الذي أرسلنا (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) شخصيا ورساليا ، فعلينا المضيّ في سبيلنا تصبرا على كل أذى من الأعداء وكل لظى : (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) صبر الصمود على الدعوة ، وعدم التفلّت عنها ام تلفّت إليهم قيد شعرة (وَعَلَى اللهِ) لا سواه (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) حيث التوكل في صعاب الأمور مما لا بد منه ، والتوكل على من سوى الله خسار وبوار ، إذ لا يغني احد من الله شيئا ، فكما علينا نحن المرسلين ان نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ، كذلك على المؤمنين إذ قد هداهم سبلهم.

فالقلب الذي يحس ندى الرحمة المتواصلة غير المحدودة من خالق الرحمة ، وانها تقود خطاه ويسده عن خطاه وتهديه السبيل ، إنه قلب

٤٠