الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

شذرات منها (١) حفاظا على كتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اللذان يجب ان تتبنّاها الوحدة ، فانها دونها هوّة ووهدة.

__________________

(١) الخليفة ابو بكر بين الكتاب والسنة : ومما ابتلي به غائلة فدك حيث اصدر فتوى سياسية قيادية حول حرمان ورثة الأنبياء من ميراثهم ناسبا لها الى رسول الهدى انه قال «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» ولو دلت على ما قصده الخليفة فهي خلاف نصوص الكتاب والسنة ، وقد حرم الصديقة الطاهرة فدكها بهذه الفتوى اللئيمة المصلحية.

ثم الخليفة عمر قد اكثر العثار وفي بعضها الاعتذار لحد تواتر عنه «لو لا علي لهلك عمر» في احكام كان يصدرها وعلي (عليه السلام) يردعه وفيما يلي شذر مما تلفت منها وتبقى :

من ذلك تحريمه أكل اللحم ان رجلا من الأنصار مر به وقد تعلق لحما فقال له عمر : ما هذا؟ قال : لحمة اهلي قال : حسن ، ثم مر بالرجل لليوم الثاني والثالث فعلى رأسه بالدرة ثم صعد المنبر فقال : إياكم والأحمرين اللحم والنبيذ فإنهما مفسدة للدين ومتلفة للمال (عن ميمون بن مهران ينقله عنه كنز العمال ٥ : ١٦١ ومنتخب الكنز بهامش مسند احمد ٣ : ٤٨٣).

ومن ذلك إمضاء الطلقات الثلاث فعن ابن عباس قال كان الطلاق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر ان الناس قد استعجلوا في امر كانت لهم اناة فلو أمضيناه عليهم (مسند احمد ١ : ٣١٤ ـ صحيح مسلم ١ : ٥٧٤ ـ سنن البيهقي ٧ : ٣٣٦ ـ مستدرك الحاكم ٢ : ١٩٦ ـ تفسير القرطبي ٣ : ١٣ وصححه ـ ارشاد الساري ٨ : ١٢٧ ـ الدر المنثور ١ : ٢٧٩ وفي معناه سنن أبي داود ١ : ٣٤٤ ـ احكام القرآن للجصاص ١ : ٤٥٩ وأخرجه الطحاوي) ، وهذا خلاف نص الكتاب وثابت السنة : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (٢ : ٢٢٩).

ومن ذلك فتوى له قومية في ميراث الأعاجم : روى الامام مالك عن الثقة عنده انه سمع سعيد بن المسيب يقول : ابى عمر بن الخطاب ان يورث أحدا من الأعاجم إلا احد ولد في العرب ، قال مالك وان جاءت امرأة من ارض العدو فوضعته في ارض العرب فهو ولدها يرثها ان ماتت وترثه إن مات ميراثها في كتاب الله (الموطأ ٢ : ١٢).

ومن ذلك تحريمه البكاء على الميت دون حجة الا عليه ، فعن ابن عباس قال لما ماتت ـ

٥٢١

__________________

ـ زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألحقوها بسلفها الخير عثمان بن مظعون فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده وقال : مهلا يا عمر دعهن يبكين واياكن ونعيق الشيطان ـ الى ان قال ـ وقعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على شفير القبر وفاطمة الى جنبه تبكي فجعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح عيني فاطمة بثوبه رحمة لها(مسند احمد ١ : ٢٣٧ و ٣٣٥ ـ مستدرك الحاكم ٣ : ١٩١ وصححه وقال الذهبي في تلخيص المستدرك سنده صالح ـ مسند أبي داود الطيالسي ٣٥١ ـ الاستيعاب في ترجمة عثمان بن مظعون ٢ : ٤٨٢ ـ مجمع الزوائد ٣ : ١٧).

هذا ولقد بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ابنه ابراهيم قائلا : العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول الا ما يرضي ربنا وانا بك يا ابراهيم لمحزونون (سنن أبي داود ٣ : ٥٣ ـ سنن ابن ماجه ١ : ٤٨٢) فلو استطاع عمر ان يضرب الرسول على بكائه لفعل! وانه يضرب الباكيات إلا عائشة تبكي على أبيها.

(أخرجه ابن راهويه وصححه السيوطي ـ راجع كنز العمال ٨ : ١١٩ ـ وذكره ابن حجر في الاصابة ٣ : ٦٠٦).

كما ويعلو بالدرة رجلين يمران به وهو يعرض ابل الصدقة فقال لهما من اين جئتما قالا من بيت المقدس فعلاهما بالدرة وقال : أحج كحج البيت؟ قالا : إنّا كنا مجتازين (أخرجه الازرقي كما في كنز العمال ٧ : ١٥٧) وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى (أخرجه جماعة غزيرة من ارباب السند والمسانيد يطول ذكرهم).

ويضرب ابنا له تكنى أبا عيسى ، وان المغيرة بن شعبة تكنى بابي عيسى فقال عمر : أما يكفيك ان تكنى بابي عبد الله فقال : رسول الله كناني أبا عيسى! فقال : ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وانا ما ندري ما يفعل بنا ويلك هل لعيسى أب ، اما تدري ما كنى العرب : ابو مرة ابو حنظلة .. (سنن أبي داود ٢ : ٣٠٩ ـ سنن البيهقي ٩ : ٣١٠ ـ الاستيعاب ١ : ٢٥٠ ـ تيسير الوصول ١ : ٣٩ ـ الكنى والأسماء للدولابي ١ : ٨٥ ـ زاد المعاد لابن القيم ١ : ٢٦٢ ـ نهاية ابن الأثير ١ : ١٩٨ ـ الاصابة ٣ : ٤١٣ ـ عمدة القارئ ـ

٥٢٢

__________________

ـ ٧ : ١٤٣ ـ شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ : ١٠٣).

ولم يعرف الخليفة المعنى من الذنب المغفور للرسول وانه لم يكن عصيانا وانما هو ذنب الرسالة المغفور بفتح مكة ، ثم يجهّل الرسول ان ليس لعيسى أب وعيسى لا يختص بالمسيح ، ولو كان ذنبا مغفورا فلما ذا لا يغفره الخليفة وقد غفره الله له؟!

ومن ذلك فتواه في حد البلوغ فعن أبي مليكة ان عمر كتب في غلام من اهل العراق سرق فكتب ان اشبروه فان وجدتموه ستة أشبار فاقطعوه فشبر فوجد ستة أشبار تنقص انملة فترك (أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق ومسدد وابن المنذر في الأوسط كما في كنز العمال).

ومن ذلك فتواه الشهيرة في المتعتين ، قال : قد علمت ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد فعل متعة الحج وأصحابه ولكني كرهت ان يظلوا معرسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤسهم (أخرجه مسلم في صحيحه ١ : ٤٧٢ وابن ماجة في سننه ٢ : ٢٢٩ واحمد في مسنده ١ : ٥٠ والبيهقي في سننه ٥ : ١٧ والنسائي في سننه ٥ : ١٥٣ وتيسير الوصول ١ : ٢٨٨ وشرح الموطأ للزرقاني).

وقد تواتر النقل ان عمر حرم متعة الحج بعد ما كرهها وقد نزل وجوبها في كتاب الله وعمل بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!

فعن أبي رجاء قال قال عمران بن حصين : نزلت آية المتعة في كتاب الله وأمرنا بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى مات قال رجل برأيه بعد ما شاء

(أخرجه مسلم في صحيحه ١ : ٤٧٤ والقرطبي في تفسيره ٢ : ٣٦٥ وصححه ، والبخاري كما في تفسير ابن كثير ١ : ٢٣٣ والقسطلاني في الإرشاد ٤ : ١٦٩ والنووي في شرح مسلم : ان عمر كان ينهى الناس عن التمتع ، واخرج ما في معناه في السنن الكبرى ٥ : ٢٠ و ٤ : ٣٤٤ والنسائي في سننه ٥ : ١٥٥ واحمد في مسنده ٤ : ٤٣٤ و ٤٣٦ وفتح الباري ٣ : ٣٣٨ والدارمي في سننه ٢ : ٣٥ والمالك في الموطأ ١ : ١٤٨ الشافعي في الام ٧ : ١٩٩ والنسائي في السنن ٥ : ٥٢ والترمذي في صحيحه ١ : ١٥٧ وصححه والجصاص في احكام القرآن ١ : ٣٣٥ وابن القيم في زاد المعاد ١ : ٨٤ والزرقاني في شرح المواهب ٨ : ١٥٣.

٥٢٣

__________________

ـ وعن سالم قال اني لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من اهل الشام فسأله عن التمتع بالعمرة الى الحج فقال ابن عمر : حسن جميل ، قال : فان أباك كان ينهى عنها فقال ويلك فان كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وامر به فبقول أبي آخذ ام بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قم عني (تفسير القرطبي ٢ : ٣٦٥ عن الدار قطني واخرج ما في معناه الترمذي ١ : ١٥٧ وزاد المعاد لابن القيم ١ : ١٩٤ والزرقاني في هامش شرح المواهب ٢ : ٣٥٢ والسنن الكبرى ٥ : ٢١ ومجمع الزوائد ١ : ١٨٥).

وقد نهاه أبي بن كعب فيمن نهاه عن هذه الفتوى قائلا : ليس ذلك لك قد نزل بها كتاب الله واعتمرنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزل عمر عن المنبر (أخرجه احمد ٥ : ١٤٣ والهيثمي ٣ : ٢٤٦ وقال رجاله رجال الصحيح ، والسيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه ٣ : ٣٣ والدر المنثور ١ : ٢١٦ نقلا عن مسند ابن راهويه واحمد ومن ذلك تحريمه متعة النساء كما عنه انه قال : ثلاث كن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا محرمهن ومعاقب عليهن : متعة الحج ومتعة النساء وحي على خير العمل في الأذان (أخرجه الطبري في المستبين والقوشجي في شرح التجريد وحكاه عن الطبري الشيخ علي البياضي في كتابه : الصراط المستقيم.

وانما نهى عن متعة النساء أواسط خلافته في شأن عمرو بن حريث إذ قدم الكوفة فاستمتع بمولاة فأتى بها عمر وهي حبلى فسأله فاعترف فذلك حين نهى عنه عمر (أخرجه الحافظ عبد الرزاق في مصنفة عن ابن جريح قال اخبرني ابو الزبير عن جابر ، وفتح الباري ٩ : ١٤١).

ولقد اخرج عنه وروى تحريم المتعتين نفر كبير من الحفاظ واصحاب الصحاح والسنن بألفاظ مختلفة في أربعين حديثا يجمعها اصل التحريم من عمر رغم أنهما كانتا محللتين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وممن أخرجه : مسلم ١ : ٣٩٥ ـ جامع الأصول لابن الأثير ـ تيسير الوصول لابن الربيع ٤ : ٢٦٢ ـ زاد المعاد ١ : ٤٤٤ ـ فتح الباري ٩ : ١٤١ ـ كنز العمال ٨ : ٢٩٤ ـ الموطأ ٢ : ٣٠ ـ الام ٧ : ٢١٩ ـ السنن الكبرى ٧ : ٢٠٦ تفسير الطبري ٥ : ٩ تفسير الثعلبي ـ تفسير الرازي ٣ : ٢٠ ـ تفسير أبي حيان ٣ : ٢١٨ تفسير النيسابوري ـ الدر المنثور ٢ : ١٤٠ ـ بداية المجتهد لابن رشد ٢ : ٥٨ ـ النهاية لابن الأثير ٢ : ٢٤٩ – الغريين ـ

٥٢٤

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ١١٩.

ضابطة عامة فيما وعد الله المغفرة والرحمة (لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) : (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦ : ٥٤) ولكن التوبة من قريب تقرّب المغفرة ، حيث تفرضها على الله بما كتب على نفسه : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً). (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ

__________________

ـ للهروي ـ الفائق للزمخشري ١ : ٣٣١ تفسير القرطبي ٢ : ١٤٠ ـ لسان العرب ٩ : ١٦٦ ـ تاج العروس ١٠ : ٢٠٠ ـ مسند احمد ٣ : ٣٥٦ و ٣٦٣ و ٣٨٠ ـ الجصاص ٢ : ١٧٨ ـ كنز العمال ٨ : ٢٩٣ ـ البيان والتبيين للجاحظ ٣ : ٣٢٣ السرخسي الحنفي في المبسوط ـ ضوء الشمس ٢ : ٩٤ ـ وعشرات أمثال هؤلاء وقد جمعهم العلامة المغفور له الاميني في الغدير ٦ : ٢٠٥ ـ ٣١٣) فراجع.

وهكذا يعارض جلالة الخليفة عمر حكم الكتاب والسنة الثابت الى يوم القيامة كما في صحيحة : سراقة قال قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطيبا فقال : الا ان العمرة قد دخلت في الحج الى يوم القيامة(مسند احمد ٤ : ١٧٥ ـ سنن ابن ماجة ٢ : ٢٢٩ ـ سنن البيهقي ٤ : ٥٥٢ سنن الدارمي ٢ : ٥١ صحيح الترمذي ١ : ١٧٥ ـ سنن ابن داود ١ : ٢٨٣ ـ سنن النسائي ٥ : ١٨١ ـ تفسير ابن كثير ١ : ٢٣ وقد رواه الخليفة نفسه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أخرجه البيهقي في سننه ٥ : ١٣ وقال رواه البخاري في الصحيح!

ولقد عارض الخليفة في هذه الفتوى المبتدعة نفر كبير من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسم) ذكرناهم بأسمائهم قرابة ٢٦ وتركنا الباقين في كتابنا علي والحاكمون ومن أراد تفصيل فتاوي الثلاثة خلافا للكتاب والسنة فليراجع هذا الكتاب.

٥٢٥

حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٤ : ١٨).

فالجهالة في عمل السوء هي المحور في وعد المغفرة ، محتومة ام جائزة ، وتقابل الجهالة بالتوبة المسوّفة الى الموت ، توسّع نطاقها مهما كان أقربها (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) فغير المعاند ، او المكابر والناكر ، ليست سيئته الا عن جهالة وغلبة الشقوة او الشهوة ، دونما معاندة للحق ، فمهما كانت السيئة كبيرة ومتواصلة ولكنها قابلة المغفرة ما دامت هي عن جهالة ، فالتوبة الصالحة قبل الموت وأشراطه ، وإصلاح ما أفسد حسب المستطاع ، هما مع الجهالة زوايا ثلاث لقاعدة الرحمة والمغفرة الموعودة ، مهما اختلفت درجاتها حسب مدارج الجهالة والتوبة والإصلاح مادة ومدة وإخلاصا.

فهنالك في عمل السوء جهل قاصر وجهل مقصر وجهالة بعلم وعلم خالص ، والله تعالى يقبل التوبة فيها ـ على مراحلها ـ إلا الأخيرة ، فانها ليست توبة ، فانه عمل سوء على عمد ومكابرة ثم لم يتب (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) فإنه إيمان عند رؤية البأس ، خاويا عن حقه وحقيقته ، فلو آمن عندها حقا وأصلح قدر المستطاع فليس الله ليحرمه عفوه وغفره كما في قوم يونس : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٠ : ٩٨) ، وإلا الجاهل القاصر فانه غير عاص فلا توبة له حتى تغفر.

فالتوبة التي كتبها الله على نفسه هي فقط للذين عملوا السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ، ام قبل الموت بأشراطه ، وهي التوبة الحقيقية رجوعا الى ايمان حال التوبة ، وان تابوا عند الموت دون قال التوبة مهما تابوا من قريب ، فالأصل في التوبة المقبولة إذا هي واقعها بإصلاح دون قالها ،

٥٢٦

ولم يستثن من الغفران إلا قالها ، المعلوم عندنا بتسويفها حتى إذا جاء الموت.

و «من بعدها» : التوبة ، دون «من بعدهما» باضافة الإصلاح ، دليل أنها الأصل والإصلاح يصلحها ، وصالح الإصلاح هو تحقيق قدره المستطاع ، ثم مادون ذلك هو دون ذلك الإصلاح.

والسوء هنا يعم سوء العقيدة والعمل كما تدل عليه آية النساء بقرنها (الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) ب (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) فالتوبة الحقيقية الصالحة تزيل كل سوء قبل الموت على أية حال.

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ١٢٠.

التعبير عن رجل واحد بأمة هو منقطع النظير في القرآن ، فإنّ «الأمة الرجل فما فوقه» (١).

أتراه يختص بوصف «امة» لأنه بوحدته كان يحمل ايمان أمة؟ والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحرى منه في هذا المعنى ولم ترد له وصفه بامة لا في كتاب ولا سنة!

ام لأنه كان الوحيد في بداية امره موحدا لله (٢) فكأنه ـ إذا ـ امة

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٣٤ ـ اخرج ابن مردويه عن انس بن مالك قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما من عبد يشهد له امة الا قبل الله شهادته والامة الرجل فما فوقه ان الله يقول : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً ...).

وفي نور الثقلين ٣ : ٩٣ عن الكافي بسند متصل عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول : والامة واحدة فصاعدا كما قال الله سبحانه : ....

(٢) المصدر في تفسير العياشي عن سماعة بن مهران قال سمعت عبدا صالحا يقول : لقد كانت الدنيا وما كان فيها الا واحد يعبد الله ولو كان معه غيره إذا لاضافة اليه ـ

٥٢٧

موحدة ، على ما كان له من صمود على توحيد الله في مختلف اجواء الشرك بالله ، منذ تربيته في حضن آزر عمه ، ثم في مواجهة نمرود الطاغية.

ام لأنه أول بان جاهر باهر متجاسر لقواعد التوحيد ، ولذلك يؤمر الموحدون بعده وهذا النبي (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؟

الأمة فعلة ، فهي مرّة من الأم : القصد والأصل ، فهي قصد واحد ومقصد واحد ، ولذلك تسمى كل جماعة تربطهم عقيدة واحدة او قصد واحد امة ، فإبراهيم ـ إذا ـ امة فاعلية ومفعولية ، فاعلية لأنه بوحدته كان موحدا ، ومفعولية حيث اؤتم به فأصبح إماما في شرعة التوحيد ، مهما فاقه بعض من اتبعه كهذا النبي والمعصومين من عترته معه.

«قانتا لله» : خاشعا خاضعا متطامنا في كل أقواله وأحواله وأفعاله «حنيفا» : معرضا عما يخالف الحق (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في أية دركة من دركاته بدركاتهم ، بل كان موحدا حق التوحيد في كافة درجاته.

نجد في هذه وثلاث أخرى بعدها عشرة كاملة من أوصاف إبراهيم الخليل (عليه السلام) أولاها (كانَ أُمَّةً) وأخراها (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) ـ ولأنه امام يقتدى به في ملة التوحيد ـ وقد حملت آية الأمة ثلاثا منها والسبع الأخرى :

(شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا

__________________

ـ حيث يقول : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فصبر بذلك ما شاء الله ثم ان الله آنسه بإسماعيل وإسحاق فصاروا ثلاثة ورواه مثله القمي عن أبي جعفر «عليه السلام» وذلك انه على دين لم يكن عليه احد غيره فكان امة واحدة ...

٥٢٨

حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ١٢٢ ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ١٢٣.

ف «شاكرا» هي حالته على أية حال ، و «لأنعمه» تعم كافة النعم الربانية ، فلذلك «اجتباه» على من سواه (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) نبوءة ورسالة ونبوّة وإمامة وخلة أمّا هيه من هدى ربانية.

ولماذا «لأنعمه» جمع قلّة دون «نعمه» : جمع كثرة؟ حيث الشاكر نعمة الله مهما بلغ من الشكر ذروته ليس ببالغ إلّا ذرته (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) فضلا عن شكرها ، ثم وادب العبودية الصالحة يعني معنى القلة ، استصغارا للشكر ، واستعظاما للنعم بنعمته ، وكما يقول أول الشاكرين والعابدين «ما عبدناك حق عبادتك».

فعلى الجملة (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا) حياة (حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) وهو الصلاح القمة كما هو للأئمة بين المرسلين كنوح وموسى والمسيح ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على درجاتهم.

وفي كونه من الصالحين تحقيق لدعوته (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (٢٦ : ٨٣) فالملحق اليه هو حقا الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله المعصومون ، فإنهم أئمته في كافة الدرجات مهما تأخروا عنه في الولادات وكما يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين».

«ثم» بعد هذه المراحل التسع لإبراهيم الخليل (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) حنيفا أنت كما هو وزيادة تناسب محتدك الرسالي (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

أترى رسول الهدى وهو في أعلى قمم العبودية والمعرفة الرسالية يتبع ملة ابراهيم ، وهو رسول اليه وولي عليه كما هو على سائر النبيين : (وَإِذْ

٥٢٩

(أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٣ : ٨١)؟!

النص يأمره باتباع ملة ابراهيم دون اتباعه نفسه ، وما هو إلا مشيه على صراط مستقيم في كونه حنيفا وما كان من المشركين وسائر المواصفات العشر وذلك رأس الزاوية فيها ، و : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٣ : ٦٨).

فلم يكن هذا النبي من متبعي ابراهيم ، بل هو اولى أولياءه ، السائر مسيره وإلى مصيره في ملته ، مهما كان اسبق منه في ذلك السباق ، حيث سبق كل الرفاق بين العالمين أجمعين.

وكيف يكون في ابراهيم شخصه أسوة لخاتم المرسلين و (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ... إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ...) (٦٠ : ٤) ـ والحال انه (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٣٣ : ٢١).

فإبراهيم الذي لا يؤتسى للمسلمين بهذا الخصوص ، كيف يؤتسى لرسول الهدى على وجه العموم ، اللهم الا أسوة ملته وهي شرعة التوحيد ، وهي أسوة في صراط الله.

وذلك تعريض عريض على الذين كانوا يظنونه يتبع ملة الهود أو النصارى وكما في مصارحة قبلها (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٦٧) (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً)(٩٥).

فكلما في الأمر هو اتباع ملته دون شخصه ، وملته هي ملة التوحيد

٥٣٠

الناصع الخالص ، ومتبعوها درجات قدر المتابعات ، دون فضل لسابق على لا حق الا في سباق الدرجات.

ذلك «ثم لا طريق للأكياس من المؤمنين أسلم من الاقتداء لأنه المنهج الأوضح ... فلو كان لدين الله تعالى سلك أقوم من الاقتداء لندب أولياءه وأنبياءه اليه» (١).

وفي مسرح الشرعتين : الإبراهيمية والإسلامية نرى توافقات جذرية واخرى فرعية لا نجدها بين أية شرعتين سلبيا وايجابيا ف :

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ١٢٤.

فليس حكم السبت أصلا سائرا بين الشرائع الإلهية لكي يكون له دور في الشرعة الاسلامية المشابهة للشرعة الابراهيمية.

وترى ما هي مادة اختلافهم في السبت حتى جعل عليهم السبت جزاء على اختلافهم فيه؟ فهل عرض عليهم كعطلة اسبوعية واختلفوا فيه فجزاهم كلهم بما جعل؟ وهم متفقون في عطلته مهما تخلف جماهير منهم عن أحكامه ، وجعل السبت في حكم الشرعة التوراتية ليس إلا بعد ما اختلفوا فيه ، ف (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ)!

ام اختلفوا فيه ردا للجمعة المعروضة عليهم ، فأعرضت ثلة وقبلت

__________________

(١) مصباح الشريعة عن الامام الصادق (عليه السلام) مستندا الى هذه الآية وفي نور الثقلين ٣ : ٩٤ في محاسن البرقي عن عباد بن زياد قال قال لي ابو عبد الله (عليه السلام) يا عباد ما على ملة ابراهيم احد غيركم ، وعن تفسير العياشي عن عمر بن أبي ميثم ، قال سمعت الحسين بن علي (عليهما السلام) يقول : ما احد على ملة ابراهيم الا نحن وشيعتنا وسائر الناس منها براء.

٥٣١

قلة فجعل عليهم عطلة عن العمل بديل الجمعة ، وحرم عليهم فيما حرم صيد الحيتان فاختلفوا فيه ايضا ، ولا عطلة في اية شرعة تحرم فيه الطيبات الا هذه جزاء ببغيهم واختلافهم؟

وقد يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يوم الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدا والنصارى بعد غد»(١).

وخماسية الآيات في سبتهم تندد بهم فيما فعلوا به وافتعلوا : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٢ : ٦٥) (كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) (٤ : ٤٧) (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (١٥٤) (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٧ : ١٦٦).

فقد اختلفوا في السبت رفضا لما عرضه الله واقتراحا لسبتهم فجعل عليهم ، ثم فسقوا واختلفوا فسبت عنهم في سبتهم صيد البحر فعتوا فاخذهم بعذاب بئيس.

إذا فليس السبت من الشرعة الابراهيمية حتى تستمر الى الشرعة

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٣٤ ـ أخرجه الشافعي في الام والبخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ...

٥٣٢

الاسلامية ، ف (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) حكما تأديبيا مؤقتا كما اقترحوا خلاف مرضات الله ، وكما فعلوا في البقرة فشدّ الله عليهم كما شدوا (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أصولا وفروعا ، عقائديا وعمليا.

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ١٢٥.

هنا القرآن يرسي قواعد الدعوة الى سبيل ربك ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، وحين تفشل الدعوة بصلابة المدعوين وصلاتتهم ، فلكي لا يتغلبوا على الحق فيضلوا أصحابه فبقاعدة واحدة (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وهذه الثلاث هي اركان الحوار مع الناس ـ المهتدين وسواهم ـ لا سواها.

فانما الجدال مع المنازع المكابر حتى يحيد عن كيده ولا يميد في غيه وإضلاله ، واما الذين هم على الفطرة السليمة ، المتحرين عن الحقيقة بدرجاته ، ام غير المناوئين للحق مهما لم يتحرّوا عنه ، فهم تكفيهم الحكمة عقلية او علمية او عملية ، او الموعظة الحسنة ، ام تكفيهم هذه المجموعة الأربع ، فلا يجادلون في الحق حتى يجادلوا.

كل ذلك ل (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) فلا يفيقه ويصده عن طيشه الا جداله بالتي هي احسن (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) فلا تهديهم الى سبيل ربك الا الحكمة والموعظة الحسنة

ثم الحسنة ليست صفة ـ فقط ـ للموعظة ، حيث الحكمة أحوج الى الحسنة من الموعظة التي هي بطبيعة الحال حسنة ، ومن حيث الضابطة الأدبية اللام الداخلة على الحسنة موصولة وتتحمل صلتها الإفراد والتثنية والجمع حسب القرائن الموجودة ، متصلة ومنفصلة ، ثم الحسنة مع غض

٥٣٣

النظر عن الموصول صفة على البدل ام جنس تشمل اكثر من واحدة ، ولو خصت الموعظة بالحسنة لتقدمت بوصفها على الحكمة ، فكما الموعظة في الدعوة مشروطة بالحسنة ، كذلك وبأحرى الحكمة ، فانها ان خلت عن الحسنة ما أثرت كما يرام ، فلتكن الحكمة على أية حال في زواياها الثلاث حسنة لينة ، كما الموعظة.

وانما يكتفي فيها بالحسنة ولا يكتفي في الجدال إلا التي هي أحسن ، لأنهما ليستا إلا وجاه الذين يهتدون فتكفيهم الحسنة وإن كانت الحسنى فبأحرى ، ولكن الجدال فهي وجاه المنازع المكابر ، فلا بد من كسره بالتي هي احسن حيث لا تبقي له رمقا وحيوية في الدعاية الباطلة.

فسبيل ربك هي السبيل القمة التي رباك ربك لها ، فأنت تدعو العالمين الى هذه السبيل التي تجتازها قبلهم الى الحق المرام.

فليست هذه الدعوة إليك فما أنت الا رسولا ، ولا الى ربك إذ لا يصل اليه احد ، ولا الى سبيل رب العالمين فان السبل الى الله بعدد أنفاس الخلائق ، وانما (إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) السبيل التي رباك فيها ربك وهداك إليها وهي القمة التربوية الرسالية ، فأنت السبيل الى ربك (١) فلتكن الدعوة بالقرآن وبالسنة الرسالية لرسول القرآن (٢) لأنها دعوة بالتي هي احسن.

__________________

(١) المصدر في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه : فأخبر انه تبارك وتعالى اوّل من دعا الى نفسه ودعى الى طاعته واتباع امره فبدء بنفسه وقال : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ثم ثنى برسوله فقال : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يعني بالقرآن أقول : بالقرآن متعلق بالحكمة والموعظة الحسنة كما بالتي هي احسن.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٩٥ عن تفسير القمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال والله نحن السبيل الذي أمركم الله باتباعه قوله (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال : بالقرآن.

٥٣٤

والحكمة هي هيئة خاصة من الحكم وهو الوصل بين منفصل ، الذي فصاله خلاف الحق والتربية الإلهية ، والحكمة الحسنة هي التي تحكّم عرى فطرية او عقلية او علمية او عملية منفصمة ، فترجعها الى حالة حكمية خارجة عن اي تفسخ وانفصام وعند ذلك تتجلى الحقيقة كما هيه.

ومن حسنة الحكمة رعاية أحوال المدعوين وظروفهم حتى لا تثقل عليهم الحكمة فتبوء بالخسار والفصال اكثر مما في الحال ، فعلى حسب القابليات تؤثر حكيمة الفاعليات فتسود الدعوات ، وإذا زادت او نقصت نقضت ، وإذا سادت انتفضت ، وليكن الداعية طبيبا دوارا بطبّه يضع الدواء حيث الحاجة اليه ، بعد معرفة الداء والدواء.

فمن الناس من تنقصه الحكمة العقلية فلا تفيده غيرها ، ام تنقصه الحكمة العلمية فلا تفيده العقلية ، وكما منهم من تحكمت حكمه كاملة عقلية وعلمية اما هيه ، ولكن تنقصه الموعظة الحسنة ، ام تحكمت عنده الموعظة ولكن تنقصه الحكمة.

فليكن الدّاعية بصيرا بمواضع الحاجة فيضع الدواء حيث الداء حتى تأتيه الشفاء.

فالحكمة الحسنة تأخذ بازمة القلوب المهتدية فهي لها شعار ، وقد تكفيها هدى إذا دخلت شغافها ، وقد لا تكفيها فهي ـ إذا ـ بحاجة الى دثار الموعظة الحسنة التي تدخل القلوب برفق ، وتتعمق المشاعر بلطف ، دون اي زجر وتأنيب ، ولا بفضح الأخطاء التي تحصل عن جهالة ، فان الموعظة الحسنة كثيرا ما تهدي القلوب الشاردة ، وتؤلف النافرة الماردة ، فهي بأحرى ان تلين القلوب المهتدية التي لا تطمئن ـ فقط ـ بالحكمة الحسنة ، لضعف العقلية او العلمية ام صلابة الطوية.

فمن القلوب ما تحتاج الى كلتا الحسنتين ، لأنها خاوية عن الحكمة ،

٥٣٥

خالية عن الموعظة ، فقد تتقدم لها الحكمة الحسنة ثم الموعظة ، ام تتقدم الموعظة الحسنة ثم الحكمة تربطها ، حسب اختلاف القلوب المهتدية في حاجياتها الدعائية.

فإذا كانت الحكمة او الموعظة سيئة انقلب الى أضل مما كانت ، وإذا كانت حسنى الموعظة والحكمة ، فهي قمة الدعوة ولكنها ليست ضرورية ، فبحسب الدعوة للمهتدين تكون الحكمة والموعظة الحسنة.

ثم إذا كان الحوار مع من ضل عن سبيل ربك ، متعنتا ضد الحق ، متفلتا عنه ، متلفتا الى الضلال والإضلال ، فلا الحكمة الحسنة تنجيه ، ولا الموعظة الحسنة تكفيه ، هنا يأتي دور الجدال بالتي هي احسن ، لا السيء ولا الحسن ، والجدال هي المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة وأصله من جدلت الحبل اي أحكمت فتله ، فكأن المتجادلين يفتل كل واحد مجادلة عن رأيه.

ام هي الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة.

ولا يسمح في الجدال على أية حال إلا إذا لزم الأمر ، ولم تؤثر الحكمة والموعظة الحسنة الأثر المرام ، ثم لا يسمح فيه إلّا بالتي هي أحسن ، وطبعا إذا أثرت الحسنى ، وإلا فحربا حربا : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ).

فليطامن الداعية أمام من ضل من حماسه واندفاعه ، فلا يتحامل عليه ولا يسيء إليه ، بل ويحسن كأحسن ما يرام حتى يطمئن إليه ، ويشعر ان ليس هدفه القضاء عليه ، فما هو ميدان مصارعة يصرع كلّ خصيمه بمختلف الحيل ، وإنما الهدف في الحوار كشف القناع عن الحق ، سواء أكان مع الداعية او المدعو ف (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

٥٣٦

فالنفس البشرية ـ ولا سيما الضالة المعتدية غير المهتدية ـ لها كبرياءها وعنادها ، فهي لا تتنازل عما ترتئيه إلا برفق ، كيلا تشعر في صراعه بهزيمة ، فانها ـ بطبيعة الحال ـ تعتبر التنازل عن الرأي تنازلا عن هيبتها وحرمتها وكيانها ، والجدال بالتي هي احسن تطامن من هذه الكبرياء والحساسية المرهفة ، وتشعر المجادل أن حرمته مصونة ، وقيمته كريمة محترمة وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة التي هي أحق منهما.

ولأقل تقدير فالجدال بالتي هي احسن تطامن من طيش المدعو فتخمد نار دعوته الضالة ، ودلالة أمام المهتدين ، فيصد عن شره وضره ، وان لم ينصد هو عن ضلاله في نفسه.

فقد يحاور الداعية ضالا صامدا معاندا ، فيزيد في عناده وعدائه بما يستعمل من طرق سيئة في حواره ، تجهيلا له ، وسبا لما يقدسه ، وتهوينا لرأيه ، وفي ذلك إماتة للحق وإحياء للباطل ، وتحريض لأهله ان يكرسوا طاقاتهم وإمكانياتهم ضد الحق وأهله ، وهذه جدال بالتي هي أسوء.

وقد يحاوره دون حسن ولا سوء فهي جدال بالسوء ، حيث لا تنفع وقد تضر ، وهي لأقل تقدير تبقي الضال على ما كان ، وذلك لغو وباطل من القول.

وقد يحاوره بحسن ليس ليصده عن الدعاية الباطلة ، وانما تخفّف عن طيشه ولا تجفف ، فهي حسنة لا تكفي صدا عن ضره وشره.

فلتكن الجدال بالتي هي أحسن ، فان تحقيق الحق وإزهاق الباطل واجب حسب المستطاع إذا ف (جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

وفي رجعة أخرى الى الآية ـ لنرى مدى الحسنة في الحكمة والموعظة ، والأحسن في الجدال ـ أحكام حكيمة في شرعة الدعوة والجدال ، مسرودة في آيات الدعوة والأمر والنهي والجدال.

٥٣٧

ومن حسن الحكمة ان يتصف بها الداعية ، ولأقل تقدير قدر الدعوة ، فليس لغير الحكيم ان يدعوا بالحكمة ، كما ومن حسن الموعظة اتعاظ الداعية قبل الدعوة ولأقل تقدير قدرها : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) : (٢ : ٤٤) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (٤٠ : ٣٥).

ومن الحسنى في الجدال ان يتذرع بالحق الجلي لإبطال الباطل او تحقيق الحق ، سواء أكان حقا واقعا ، ام إذا يرفضه محاورة ويفرض ما يعتقده ، ان يتبنى اعتقاده بصيغة التردد ، ان كان ما تقوله حقا فليكن ما أقوله حقا ، وان كان ما أقوله حقا فكذلك الأمر.

فتبنّي الباطل لابطال باطل آخر او تحقيق حق ، هو من الإغراء بالجهل ، سلوكا لسبيل وعرة شاغرة ، وهو من الجدال السيء ، وأسوء منه استعمال الخناء والسب في الجدال الى جانب تبني الباطل لإبطال باطل آخر او إحقاق حق.

وتبنّي حق يوجد أحق منه وأوضح حجة ، مع لين كلام هو من الجدال الحسن ، ولا يكتفى به في اجتثاث جذور الهجمات الباطلة وهمجاتها.

ثم تبنّي أحق الحق باوضحه حجة ، وألينه محجّة والطفه بيانا وتبيانا ، مع اتصاف المجادل بما يحتج به عقائديا وعلميا وعمليا ، هو أبلج المناهج في الجدال ، وهي المقصود بالتي هي احسن ، وحين لا يستطيع المجادل ان يجادل بالتي هي احسن فليتعلم ، او يأت بمن يعلم ، حيث (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) مطلق مطبق دون اختصاص بما يستطيعه المجادل ، اللهم إلا في عسر او حرج فلا عسر ـ إذا ـ ولا حرج ، ان يكتفي بما يستطيعه ، إلا إذا لم تؤثر جداله بغير الأحسن الأثر المرام ، او انقلب ضدّه ، فهنالك

٥٣٨

السكوت ، حيث القصد من الأحسن سدّ الثغرات وخفق النعرات والزمجرات ضد الحق.

فحين لا تفيد الحكمة والموعظة الحسنة فهنا دور الجدال بالتي هي احسن صدا لثغرة الباطل وسعاره ، بمضلّل شعاره ، لان الداعية حين لا يستطيع بحكمته وموعظته ان يهدي من ضل عن سبيل الله ، فليحاول بجداله سدا عن تضليله ، ليعرف كليله وعليله ، ولا يحسب له قوة قاهرة على الحق واهله.

ثم إذا لم تفد جداله بالحسنى ، وبدل الاهتداء او السكوت يعتدي على اهل الحق ، فهو داخل في الذين ظلوا : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا).

ظلما شخصيا على المجادل بالحسنى ، ام ظلما جماعيا على المسلمين ، فهنالك دور الضربة القاسية القاضية ، نفيا لمادة الفساد قدر الضرورة ولحد القتال إذا انحصر بها العلاج وانحسر المضلل عن الإضلال واللجاج

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ١٢٦.

فمعاقبة المجادل الظالم ، التي لم تنفعه بالحسنى ، فضلا عن الحكمة والموعظة الحسنة ، إنها ـ كضابطة مطردة ـ معاقبة بالمثل ، فهي مسموحة ككل ، إلا إذا كان في تركها خسار وبوار متواصل لا يصده إلا معاقبته فواجب ، ام غير مسموحة لو ان معاقبته تزيد في طيشه بضره وشره ، والصبر أمامه له منعة ـ ولا اقل ـ من تطاوله ، ام راجحة وهي في غير الواجب والمحرم (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ، والصبر على أية حال أم في الاكثرية المطلقة هو مفتاح الفرج فراجح (لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).

٥٣٩

فهذه طرق اربع يتطرقها الداعية في سبيل الدعوة وصد الضلالة ، قد تجتمع في بعض المدعوين ، وقد تنفرد ، فمن الناس من تكفيه الحكمة ، او الموعظة الحسنة ، أو الجدال بالتي هي احسن ، أو المعاقبة ، أو الأربع كلها ، أو اثنتان منها ، ام ثلاث ، وذلك حسب مقتضيات الظروف والمتطلبات في سياسة الدعوة لكل داعية ، فالأقسام تصبح اربعة عشر قسما ، فإنها أربع وحدات وجمع الأربع ، واربع ثلاثيات وخمسة اثنينات.

(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ١٢٧ إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) ١٢٨.

«واصبر» على كل حال ، أيها الداعية في دعوتك بالحكمة والموعظة الحسنة وجدالك بالتي هي احسن ، وفي معاقبتك لما عوقبت ، تفكرا في كل من هذه الأربع ، وتنقلا عن كل مرتبة في كل منها الى اخرى ، كما من كل الى الآخر ، صبرا في كل سلب وإيجاب ، في كل قال وحال وفعال (وَما صَبْرُكَ) في هذه العقبات ، والدوائر المتربصة بك (إِلَّا بِاللهِ) بحول الله وقوته وبغاية الحفاظ على شرعة الله والدفاع عنها ، وبأمر الله «فاصبر كما صبر اولوا العزم عن الرسل».

(وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) خائفا عن مكرهم (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) المحاظير ، واتقوه في سبيل الدعوة اليه (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) يصبرون فيما يحق لهم المعاقبة بمثل ما عوقبوا.

فالصبر على الظلم ، ألا يتخاذل المظلوم أمام الظالم ، ولا يغيّر من اهدافه القدسية ، ولا يدفعه الدفاع عن نفسه الى اعتداء اكثر مما اعتدي عليه ، والى اصل الدفاع ايضا علّ الظالم يندم عما فعل فيصلح ما أفسد ، ام لا يزيد ظلما ، ام يقف عن ظلمه ، فكل ذلك صبر وتقوى للمظلوم وجاه طغوى الظالم ، إلا إذا أنتج الصبر تطاول الظالم عليه وعلى الآخرين ،

٥٤٠